عُقِدت مؤخَّرًا القمَّة الــ17 لمنظَّمة التعاون الاقتصادي (ECO)، في مدينة خانكندي بأذربيجان، تحت شعار «رؤية جديدة لمنظَّمة التعاون الاقتصادي، نحو مستقبلٍ مُستدام وقادر على التكيُّف مع التغيُّرات المناخية». وقد ركّزت القمَّة هذا العام على تعزيز التعاون الإقليمي والتنمية المُستدامة، في ظلِّ تزايُد التهديدات غير التقليدية للأمن، كالفيضانات وموجات الحرائق والحرّ الشديد، في جنوب آسيا وآسيا الوسطى ومنطقة جنوب القوقاز؛ ما يفرض الحاجة المُلِّحَة إلى استجابات منسَّقة. وفي خِضَمّ التحوُّلات الجيوسياسية غير المسبوقة، باتت االمنظَّمات مثل «منظَّمة التعاون الاقتصادي» تُستخدَم على نحوٍ متزايد، كأدوات نفوذ من قِبَل دول كأذربيجان وتركيا وباكستان وإيران.
ترأَّس القمَّة الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، حيث شدَّد في كلمته على أهمِّية صياغة رؤية جديدة للتكامل الإقليمي، تقوم على أهداف التنمية المُستدامة. وأكَّد البيان الختامي التزام الدول الأعضاء بإقرار رؤية «منظَّمة التعاون الاقتصادي» للفترة 2026-2035م، والتي تركِّز على المرونة المناخية، والطاقة النظيفة، وإدارة الموارد المائية، والبنية التحتية الرقمية. كما اعتُبِرت قضايا الربط الإقليمي والنقل، من الدعائم الرئيسة لهذه الرؤية، مع الدعوة إلى تعزيز الممرّات العابرة، وإنشاء منصَّة رقمية موحَّدة، لتيسير لوجستيات «الممرّ الأوسط». وتهدُف المنظَّمة وفقًا للبيان، إلى مضاعفة التجارة البينية بحلول عام 2035م، عبر تحرير الأسواق، وإزالة الحواجز الجمركية، وتفعيل أدوات تمويلية، كـ «بنك التجارة والتنمية» التابع لمنظَّمة التعاون الاقتصادي.
وشهِدَت القمَّة هذا العام عقْد منتدى النساء الأول لمنظَّمة التعاون الاقتصادي، في مدينة لاتشين، الذي ركَّز على دور المرأة الحيوي في بناء مستقبل مُستدام وصامد، في وجه التغيُّرات المناخية. كما عُقِد في شوشا المنتدى السادس للأعمال، بمشاركةٍ واسعة من الشركات والقيادات الاقتصادية في الدول الأعضاء؛ لبحث سُبُل تعزيز التعاون التجاري، ودعْم التكامل الاقتصادي.
مثَّلت القمَّة منصَّة مهمَّة لاستثمار جهود باكو، في بناء توافقات بشأن ملفات حسّاسة وشائكة. وقد جاء عقدها في خانكندي، كخطوةٍ استراتيجية لتأكيد اندماج إقليم ناغورنو كاراباخ ضمن الدولة الأذربيجانية، خاصَّةً بعد العملية العسكرية، التي نفَّذتها باكو عام 2023م، وأعادت من خلالها السيطرة الكاملة على الإقليم. وعلى الرغم من تاريخ النزاع الطويل، فإنَّ أذربيجان وأرمينيا تواصلان السير نحو السلام، حيث عُقِدت جولات تفاوضية بين وزيري خارجية البلدين، بوساطة أمريكية في واشنطن، وأخرى في الإمارات، وسط التزامٍ مُتبادَل بالحوار والدبلوماسية.
في الوقت نفسه، تعمل دول المنظَّمة على تنويع علاقاتها الدولية، وتعزيز ربطها الإقليمي. وقد أدَّت العقوبات المفروضة على روسيا، إلى تحوُّل بعض طُرُق التجارة من «الممرّ الشمالي» نحو «الممرّ الأوسط»؛ ما زاد من أهمِّية هذا الأخير في الربط بين آسيا وأوروبا. واستغلَّت أذربيجان القمَّة لدفع مشروع ممرّ زنغزور، الذي يربط بين أراضيها الرئيسة وإقليم ناخيتشيفان وتركيا. وقد اكتسب هذا الممرّ أهمِّية إضافية، في ظل التحوُّلات الإقليمية، بما يعزِّز التكامل الإقليمي، ويدعم الدور اللوجستي لكُلِّ من أذربيجان وتركيا. ومع ذلك، تُعارض إيران هذا المشروع بشدَّة، وتعتبره تهديدًا جيوسياسيًا قد يُضعِف نفوذها، ويُعزِّز طموحات أنقرة وباكو. وبدلًا من ذلك، تدعو طهران إلى مسارات بديلة تحفظ سيادة أرمينيا، وتُبقي على دور إيران في منظومة الربط الإقليمي. وكان مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي قد أعلن مؤخَّرًا، أنَّ إيران نجحت في «إجهاض» المشروع، محذِّرًا من مخاطره الإستراتيجية الواسعة.
وسعت أذربيجان في القمَّة إلى تهدئة التوتُّرات مع إيران، لا سيّما بعد حرب إسرائيل وإيران، التي عبَّرت خلالها طهران عن شكوكها بشأن دعْم باكو لعمليات إسرائيلية، واستخدام أراضيها كنقطة انطلاق. وقد نفت أذربيجان هذه المزاعم بشدَّة، داعيةً إيران إلى الامتناع عن إطلاق مثل هذه الاتّهامات، ومؤكِّدة تبنِّيها موقفًا محايدًا، دون إدانة مباشرة للهجمات على إيران. وتصاعدت التوتُّرات عقِبَ اتّهامات وجَّهها رجل دين إيراني للرئيس علييف بالتواطؤ مع إسرائيل؛ ما دفَعَ باكو إلى الردِّ الحاد، وتقديم احتجاجٍ دبلوماسي رسمي، على المحتوى التحريضي في وسائل الإعلام الإيرانية. وعلى الرغم من هذا السجال، تُبدي الدولتان توجُّهًا نحو المصالحة، ويتّضِح ذلك من اللقاءات الثنائية الأخيرة، إضافة إلى المناورة العسكرية المشتركة «آراس 2025»، التي جرت في إقليم كاراباخ.
وعلى هامش القمَّة، عقَدَ القادة سلسلة اجتماعات ثنائية، بحثًا عن آفاق جديدة للتعاون. الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضياييف التقى علييف، وناقش معه تعزيز الشراكة في مجالات التجارة والطاقة والربط الإقليمي. أمّا وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي فاجتمع بنظيره الباكستاني، حيث ناقشا قضايا ثنائية، وأكَّدا التزامهما بأهداف المنظَّمة. كما التقى رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف الرئيس الأذربيجاني، ووقّع معه اتفاقًا بقيمة ملياري دولار في عدَّة قطاعات داخل الاقتصاد الباكستاني. واجتمع شريف كذلك بقادة تركيا وإيران وأوزبكستان، لبحث التعاون في مجالات التجارة والدفاع والطاقة، إلى جانب مشروعات كـ«السكك الحديدية العابرة لأفغانستان». وشاركت أفغانستان في القمَّة لأول مرَّة منذ أربع سنوات، بوفدٍ من حركة «طالبان»، برئاسة نائب رئيس الوزراء عبد الغني برادر، الذي دعا دول «منظَّمة التعاون الاقتصادي» إلى الانخراط الرسمي مع كابول، مؤكِّدًا على الدور المحوري لأفغانستان في الاستقرار الإقليمي والربط التجاري، ومشيدًا باعتراف روسيا الأخير كخطوة نحو الشرعية الدولية. كما التقى برادر رئيس الوزراء الأذربيجاني علي أسدوف؛ لبحث التعاون في مجالات التجارة والنقل والمساعدات الإنسانية.
ومن جانبها، دعمت تركيا مشاركة «جمهورية شمال قبرص التركية» في القمَّة، مستثمرة المنظَّمة كمنبرٍ سياسي لتعزيز مصالحها، ومن المتوقَّع أن تواصل أنقرة الدفع باتجاه الاعتراف بالجمهورية القبرصية الشمالية، من خلال آليات إقليمية مشابهة.
وعلى الرغم من التقاطعات المتزايدة والمصالح المشتركة، لا تزال طموحات «منظَّمة التعاون الاقتصادي» الإستراتيجية تواجه تحدِّيات، أبرزها الخلافات بين الأعضاء، وضعف الآليات المؤسسية. كما أنَّ التقلُّبات الجيوسياسية، وإعادة التموضُع الإقليمي، أوجدت صراعات شدّ وجذب متباينة؛ إذ ترتبط الدول الأعضاء بعلاقات مختلفة -وأحيانًا متعارضة- مع قُوى كُبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة. وتضطلع الصين بدورٍ اقتصادي محوري، من خلال مبادرة «الحزام والطريق»، بفضل استثماراتها القوية في البنية التحتية عبر آسيا الوسطى وباكستان وإيران. أمّا روسيا، وعلى الرغم من تداعيات حربها في أوكرانيا، فلا تزال تسعى إلى الحفاظ على نفوذها الإستراتيجي والأمني في آسيا الوسطى، من خلال «منظَّمة معاهدة الأمن الجماعي | CSTIO»، والشراكات في الطاقة، و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي | EAEU»، لكنَّها باتت تواجه صعوبات متزايدة، خاصَّةً مع أذربيجان منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية. ومن جهتها، عمَّقت إيران شراكاتها مع روسيا والصين، في حين تحاول تركيا التوفيق بين عضويتها في حلف الناتو، وتعاونها الاقتصادي والإستراتيجي مع كلٍّ من موسكو وبكين.
وتُشير التقارير التجارية، إلى أنَّ أبرز صادرات دول منظَّمة التعاون الاقتصادي، تشمل الطاقة والمعادن والمنتجات الزراعية والمنسوجات والآلات، وتتصدَّر الصين قائمة المستوردين، تليها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ ما يعكس اعتمادًا كبيرًا على الموارد في هيكل الصادرات. وتسعى دول آسيا الوسطى، في هذا السياق، إلى تنويع صادراتها، كما هو حال كازاخستان، التي تنتهج سياسة خارجية متعدِّدة التوجُّهات، لتوسيع علاقاتها الاقتصادية مع القُوى العالمية والإقليمية. وتسير دول أخرى في المنظَّمة على النهج ذاته، من خلال توسيع قاعدة صادراتها، وتطوير البنية التحتية، وجذْب الاستثمارات الأجنبية.
ومع إدراك الدول الأعضاء للتحدِّيات المشتركة والفرص الجيوإستراتيجية الفريدة، التي تجمعها، فإَّنها تواصل العمل على تعزيز موقع المنطقة كمركز عبور حيوي. وقد تُرجِم هذا التوجُّه خلال السنوات الأخيرة إلى استثمارات ثنائية ومشتركة في مشاريع الربط والنقل، بما يشمل التعاون عبر منظَّمات إقليمية أخرى، كـ«منظَّمة الدول التركية». وفي ظل تصاعُد التوتُّرات بين موسكو وواشنطن، وغموض السياسات الأمريكية تجاه المنطقة، أصبحت الحاجة مُلِّحَة إلى اعتماد مقاربة منسَّقة ومرِنة بين دول منظَّمة التعاون الاقتصادي؛ ما يجعلها تحافظ على أهمِّيتها ومكانتها، على الرغم من التحدِّيات الداخلية، وتفاوُت القدرات الاقتصادية، وتزايُد التنافس بين الأعضاء.