من المعهود في تجارب الحكم على مدى الأزمنة التاريخية الممتدة منذ نشأة الدولة الوستفالية، أن تلجأ الأنظمة السياسية المدركة لحجم التحولات الداخلية أو الخارجية، وتداعياتها على مستقبلها في وحدة دولية ما، إلى «إحداث تغيير إستراتيجي» سواء في منطق الحكم السائد، أو في توجهاتها الداخلية والخارجية، عن طريق تبنّي حزمة إصلاحات للتأقلم مع المستجدات، والتموضع بشكل ملائم في التحولات الجديدة، طالما لم يضيف المنطق التقليدي للحكم إلى سلة المصالح الوطنية للدولة، وقوتها الشاملة، وأمنها القومي، وقوة جبهتها الداخلية، ومكانتها الخارجية، وشبكة تحالفاتها.
يزخر التاريخ بعشرات الأمثلة على تغيير العديد من الأنظمة لمنطق حكمها؛ لأجل تحقيق الأهداف العليا للدولة، التي تضيف لمعدل قوتها الشاملة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، تبني النظام الصيني في عهد الرئيس/ دينج شياو بينج، التغيير لتفادي مخاطر إستراتيجية، وقد تم أخذ هذا المثال اليوم باعتبار أن إيران تمرُّ بظروف سبق وأن مرّت بها حليفتها الإستراتيجية، جمهورية الصين، ومن الأحرى بإيران استنساخ تجربة نهضت بالصين إلى مقدمة دول العالم. فلو نظرنا إلى الصين أثناء المرحلة الماوية، خلال الفترة من نهاية أربعينيات القرن الفائت حتى منتصف سبعينياته، مقارنة بالمرحلة ما بعد الماوية، نجد أن نظام الحكم الشيوعي تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني أدرك – آنذاك-حجم المخاطر، وتداعيات تكلفة استمرارية ماوتسي تونج في الانغلاق الفكري، والاحتكام للبعد الأيديولوجي في السياسة الخارجية، لذلك بمجرد رحيل ماو عام 1976م، والانتقال إلى بداية عهد جديد، غير النظام الشيوعي نمط حكم انتقالي كالتالي:
أولًا- الانتقال من نموذج الحكم المغلق/الأيديولوجي: الذي ساد خلال المرحلة الماوية، التي دامت لـ 25 عامًا، وكان ماو يعطي الأولوية –كما يصنع النظام الإيراني طيلة فترة عمره البالغ 46 عامًا-للبعد الأيديولوجي في السياستين الداخلية والخارجية، وبالتالي اعتمدت الصين على الاقتصاد الموجة، وتفضيل الاقتصار على إقامة علاقات خارجية بشكل أكبر مع الأنظمة الاشتراكية، وهنا تأتي عبارة ماو الشهيرة: «من الأفضل أن نبقى فقراء في ظل الاشتراكية على أن نغتني في ظل الرأسمالية»، ولذلك تحولت الصين إلى دولة ترزح في الفقر، وتعاني من أزمات معقدة وممتدة ومستعصية على الحل، مثل الفساد والبطالة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، ودولة معزولة وحبيسة حدودها، إلى مرحلة دخول النظام لمرحلة «العجز والشلل التام» عن القدرة على تأدية وظائفه الرئيسة حتى نهاية حكم ماوتسي تونج، وهو الحال الذي تشهده إيران حاليًا.
ثانيًا- التحول إلى نموذج الحكم المنفتح/ البراغماتي:الذييسود منذ انتهاء الحقبة الماوية حتى الوقت الراهن (تقريبًا نصف قرن من الزمان)، فبعد رحيل ماو دخلت الصين عهدًا جديدًا، رغم النفوذ القوي لـ «عصابة الأربعة»: زوجة ماو جيانج كينج، والمقربين منها من السلطة ياو ون يوان، وتشانج تشون تشياو، ووانج هونج ون، على أجهزة السلطة ومفاصل الدولة، حيث تصدر المشهد السياسي لمنظر ومهندس التجربة التنموية الصينية، دينج شياو بينج “Deng Xiaoping”، واتخاذه قرارات جريئة نحو التغيير والإصلاح الحتمي بعد «مرحلة تهيئة المناخ للتغير»، لإنقاذ البلاد من السقوط، وحدوث الفوضى بفعل سياسات ماو، لذلك أرسى دينج دعائم نظام اقتصادي جديد، يقوم على «الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق» ضمن ثورة تحديث هائلة بمنطق حكم جديد، يقوم على «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، وهي عبارة عن نظام اقتصادي يجمع بين مفهوم الصين للاشتراكية والمفهوم الغربي للرأسمالية، وبعد ترتيب البيت الصيني في الداخل، تبنّت الصين سياسة الإنتاج من أجل التصدير، وألغت المحدد الإيديولوجي في سياستها الخارجية، وتبنت سياسة حسن الجوار الإقليمي، والانفتاح على الدول الغربية.
فهل حجم المكاسب بالنسبة لقوة الدولة الشاملة، التي جناها النظام الصيني من التغيير كانت تستحق المغامرة والمخاطرة؟ وهل كانت دون تحديات معقدة عند اتخاذ قرار التغيير؟ بالطبع كانت هناك تحديات كادت أن تودي بحياة دينج شياو بينج ذاته، من قبل عصابة الأربعة ومراكز السلطة والتأثير، التي كان من صالحها استمرارية نمط الحكم الماوي، لكن هنا تأتي حكمة وعقلانية دينج في قدرته على «تهيئة المناخ والبيئة للتغيير» كمتطلب رئيس للأنظمة، عند اتخاذ قرار التغيير، وقوله «لا حياة للاشتراكية إن ظلت فقيرة»، مع بثّه رسائل تطمينية للخارج. وبالنسبة للمكاسب، ألم يستحق نهوض التنين وتسطيره قصة نجاح «الصين الجديدة»، وتحويلها إلى أحد أكبر الأقطاب الاقتصادية ذات النمو المتسارع، وأحد أهم المراكز التجارية والسياسية المؤثرة في مجريات الشؤون الدولية، وتبوؤها مرتبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، وانضمام عملتها لسلة العملات الدولية الرئيسة، وتحولها إلى مصنع العالم برمته، وأكبر المصدرين ضمن سلاسل التوريد العالمية، ليصفها العديد من كبار المنظرين والمحللين الاقتصاديين بـ«المعجزة»، ألم تستحق المخاطرة ولو بالأرواح؟
لم يستفد النظام الإيراني من تجارب التغيير، رغم مضيه في الحكم مدة تقترب من الضعف تقريبًا لمدة الحكم الماوي، حيث لا زال يتبني ثنائية: الانغلاق الفكري والأدلجة، التي لم تجنِ منها الصين سوى الانحدار والانكماش والعزلة، وطيلة عمر النظام الــ(46) عامًا وقف النظام في كافة مراحل انحداره وانكماشه جامدًا متصلبًا، أمام المنحدرات والمخاطر المتزايدة دون تدارك مخاطرها على مستقبله، ولم تجنِ منها إيران سوى العقوبات والحصار والعزلة المستمرة على مدى عقود، ويمكن وصف مراحل متعددة مرَّ بها النظام الإيراني وصولًا إلى الوضع الحالي:
مرحلة الجمود الفكري الأولى: وهي أطول مرحلة عاشها النظام الإيراني، منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى مرحلة ما قبل انفجار الصراع في غزة؛ حيث وقف النظام خلال تلك المرحلة الطويلة جامدًا أمام مشهد تحول البلاد إلى دولة منهكة اقتصاديًا ومعيشيًا، هبطت فيها كافة مؤشرات الاقتصاد الكلي، بما فيها قيمة العملة إلى أدنى مستوياتها، وانتقل خلالها الفقر إلى الفقر المدقع، وتفاقمت معدلات البطالة، ما أدى إلى تفاقم معدلات الجولات الاحتجاجية الشعبية والفئوية، نتيجة تفاقم معدلات الاحتقان والسخط الشعبي من مستويات المعيشة، والأخطر تحولت إيران إلى ساحة مفتوحة للاختراقات الأمنية والاستخباراتية، راح ضحيتها العديد من العقول النووية، كما لم تتمكن إيران قبل «الوعد الصادق 1 و2 و3» من تحديث أسطولها ودفاعاتها الجوية؛ مما جعلها مكشوفة أمنيًا واستخباراتيًا.
مرحلة الجمود الفكري الثانية: مرحلة ما بعد انفجار الصراع في غزة، والتي جرت خلالها الجولتين الأوليين من «الوعد الصادق»، وخلالها تفاقم الخطر أمام النظام مقارنة بمخاطر المرحلة الأولى، بتعرض البلاد لهزائم جيوسياسية تاريخية وغير مسبوقة، على خلفية تلقي ما يسمى بـ«محور المقاومة»، الذي يمثل رافعة للمشروع الجيوسياسي الإيراني، ضربات إسرائيلية قوية أدت إلى إنهاكة؛ حيث أجهزت تل أبيب على قيادات «حزب الله» في لبنان، ودمرت قدراته وأخرجته من المعادلة حتى الآن، وبالتبعية خرجت سوريا عن خدمة المشروع الإيراني؛ نتيجة ضعف الجبهة اللبنانية، ودفعت الولايات المتحدة «الحوثيين» للقبول بالانفصال عن جبهة غزة، بعد هجمات عسكرية متتالية للمواقع الحوثية الإستراتيجية، ورسمت إسرائيل معادلة ردع شرق أوسطية جديدة، تمكنت خلالها من خوض وكسب «حرب متعددة الجبهات»، وترك إيران في حالة دفاعية، بعدما ظلت لفترات طويلة في حالة دفاع متقدم، وخلال تلك المرحلة استمرت أيضًا أزمات إيران الداخلية التي ظلت طيلة المرحلة الأولى، ورغم ذلك لم يتخذ صانع القرار الإيراني أية خطوات نحو التغيير وقراءة المشهد، وطرح مقاربات تحمي الدولة وتنقذ النظام.
مرحلة الجمود الفكري الثالثة: وهي المرحلة الراهنة منذ بداية عمليات «الأسد الصاعد والوعد الصادق3»، وتأتي امتدادًا لسوء الإدراك الإيراني الممتد على مدى المرحلتين السابقتين، وخلالها تلقت إيران خسائر إستراتيجية، وليست تكتيكية في المواجهات المسلحة مع إسرائيل بحسب المعايير الإستراتيجية، حيث نجحت إسرائيل بدعم عسكري أمريكي خلال 12 يومًا من المواجهات، في توجيه ضربات لمركز القيادة والسيطرة الإيرانية، ومراكز ثقل النظام، بهدف إرباكه تمهيدًا لإسقاطه، كما يصرّح المسؤولون الإسرائيليون، وذلك من خلال عدة مؤشرات:
- فرض السيادة الجوية الشاملة، لدرجة تحويل الأجواء الإيرانية إلى ساحة مستباحة لسلاح الجو الإسرائيلي، دون أي عناء، ما أدى إلى انكشاف الدفاع الجوي الإيراني، وعامل الحسم في معادلة المواجهات الإسرائيلية-الإيرانية يكون في صالح الطرف الذي يمتلك التفوق الجوي، وعند المقارنة كانت إسرائيل الطرف الذي فرض السيادة الجوية في سماء إيران.
- تصفية كبار قيادات الصف الأول من العسكريين المقربين من المرشد على خامنئي، والمؤثرين في المشهد الإيراني، والقائمين على حماية مبادئ وتوجهات وسياسات النظام الداخلية والخارجية، واللاعبين البارزين في صناعة القرارات، سواء المتعلقة بالتسليح الإيراني، أو في العمليات الدفاعية والهجومية في المواجهات مع إسرائيل.
- تدمير نسبة كبيرة من منصات إطلاق ومستودعات تخزين ومصانع تصنيع الصواريخ الباليستية، والمسيرات الهجومية والانتحارية، حيث تعد الصواريخ والمسيرات نقطتي القوة الإيرانيتين في المواجهات مع إسرائيل، وأحدثتا خسائر تكتيكية في إسرائيل.
- استهداف العديد من كبار العقول النووية الرائدة والبارزة في البرنامج النووي الإيراني، ضمن إستراتيجية إسرائيلية تهدف إلى إزالة التهديد النووي والباليستي الإيرانيين.
- إعلان الرئيس الأمريكي نجاح مهمة مطرقة منتصف الليل، في الهجوم على أبرز ثلاثة أصول نووية إيرانية: فوردو ونطنز وأصفهان، بقوله: «انتزعنا القنبلة النووية من أيدي الإيرانيين».
- الانكشاف الاستخباراتي والأمني غير المسبوق، والذي يعد نقطة الضعف الإيرانية الأبرز والأخطر، حتى ربما من ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية.
- توجيه ضربات تستهدف النظام السياسي مباشرة، مثل استهداف سجن ايفين، الذي يضم معارضين للنظام، بالتزامن مع استهدف مقرات قوات التعبئة الشعبية «قوات الباسيج» المعنية بسيطرة النظام على المجتمع.
أمام تداعيات المراحل الثلاثة متصاعدة الخطورة على مستقبل النظام، إلا أن النظام لم يطرح أو يقبل بأية مقاربات إصلاحية تهدف إلى التغير، ولو في منطق الحكم كما فعل النظام الصيني، ولا نقول تغيير النظام السياسي ذاته، فالطبيعة الفكرية والعقدية للنظام عنيدة وعصية على التغيير، وفي ذلك مكمن الخطر، فالنظام الصيني لم يتغير بعد ماو، وإنما ما تغير: منطق الحكم للحفاظ على النظام ذاته، وكانت نقطة البداية في مجابهة التحديات: «استيعاب نقطة الانطلاق في التغيير بتوفير المناخ اللازم»، واليوم صارت الصين توصف بـ«المعجزة الاقتصادية».
وختامًا، يقف النظام الإيراني أمام لحظة فارقة من عمره، لكونه أمام اختبار جديد لقدرته على التغيير الإستراتيجي، وإنتاج فكر ومقاربات جديدة تحمي الدولة وتنقذ النظام، لا سيما أن التجارب التاريخية تفيد بأن معضلة القدرة على التغيير والإصلاح تسببت في فناء العديد من الأنظمة في نهاية مطاف مراحل الجمود الفكري، وذلك بالقدر نفسه الذي تسببت فيه قدرة الأنظمة على التغيير في تحقيق المكاسب التاريخية، ودوام حكم الأنظمة والدولة معًا، رغم جسامة التحديات عند لحظات التغيير، بل ونقلها إلى مصاف الدول المستقرة الطبيعية القادرة على اجتياز معايير نظرية الإنجاز، فالتغيير بات مطلبًا رئيسًا أمام النظام الإيراني قبل فوات الأوان، بل والأجدر المضي نحو مرحلة تهيئة المناخ السائد في البلاد للتغيير الإستراتيجي الإيجابي البناء. فهل نشهد دينج شياو بينج في إيران، أم أنه لا يزال هناك قاع أعمق ينحدر إليه الفكر الإيراني.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد