استغلال الانقسامات.. الحسابات الإستراتيجية الإسرائيلية في ظل التوترات الداخلية السورية

https://rasanah-iiis.org/?p=37930

شهد الوضع الأمني في سوريا توترات كبيرة خلال الأشهر الأخيرة، أدى آخرها الى اندلاع صراع مسلح بين الأقلية الدرزية وعشائر البدو في مدينة السويداء حيث بدأت الاشتباكات وسرعان ما تحوّلت إلى عنف طائفي أدى إلى مقتل أكثر من 300 شخص. وبعد أيام من الاشتباكات الدامية تدخّلت خلالها إسرائيل عسكريًا عبر غارات جوية استهدفت وزارة الدفاع السورية، بعدها تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وكانت إسرائيل قد تذرّعت بحماية الطائفة الدرزية في تدخلها، إلا أن تلك الخطوة تأتي في إطار إستراتيجية أوسع تهدف إلى استغلال الانقسامات الداخلية في سوريا وتعزيز مصالحها الأمنية في المنطقة.

وأُعلن عن وقف إطلاق النار بوساطة أمريكية، وبدعم من تركيا والأردن ودول مجاورة أخرى. وأعقب وقف الصراع اجتماع بين مسؤولين إسرائيليين وسوريين في باريس برعاية المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توم باراك، بهدف بحث سبل خفض التصعيد. وقد مثّل إسرائيل في الاجتماع وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ومثّل الجانب السوري وزير الخارجية أسعد الشيباني. وخلال الأزمة الأخيرة، تباينت مواقف الزعامات الدرزية، ففي إسرائيل مثلًا، دعا الزعيم الروحي للطائفة الدرزية الإسرائيلي موفق طريف، إسرائيل إلى التدخل، مشبهًا الأحداث بهجمات 07 أكتوبر 2023م. وفي سوريا دعا القيادي الدرزي في قوات «رجال الكرامة» ليث البلعوس، إلى وقف العنف وطرد الجماعات المسلحة المتمردة. أما حكمت الهجري، أحد أبرز المرجعيات الدينية الدرزية، فطالب بالحماية الدولية للطائفة.

وفي لبنان، رفضت قيادات درزية بارزة مثل وليد جنبلاط، وطلال أرسلان، والشيخ سامي أبي المنى، أي تدخل خارجي في سوريا، لا سيما من جانب إسرائيل. فيما اتخذ رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، موقفًا تصعيدًا، إذ دعا إلى تسليح الدروز، وهدد الرئيس السوري أحمد الشرع، مما أدى إلى ملاحقته قضائيًا بتهمة التحريض الطائفي وتهديد الأمن القومي.

من الواضح أن التدخل الإسرائيلي في الأزمة الأخيرة يأتي في إطار استراتيجيتها المُعلنة لتوسيع نفوذها العسكري، مستغلًة حالة عدم الاستقرار في سوريا. فبعد سقوط نظام الأسد، سارعت إسرائيل إلى تنفيذ ما يزيد عن 400 غارة خلال 48 ساعة، دمّرت خلالها ما بين 70 إلى 80% من البنية العسكرية الاستراتيجية السورية، واحتلت نحو 400 كيلومتر مربع من الأراضي السورية. وركزت في استهدافاتها على مستودعات الصواريخ والقطع البحرية ومنظومات الدفاع الجوي ومواقع تصنيع الأسلحة. كما تقدمت كثيرًا نحو الجولان السوري المحتل، ضمن توسع تدريجي تتذرع فيه بالأمن والاستقرار. إذ استغلت سقوط الأسد والفوضى الناتجة عنه ووسعت موطئ قدمها في سوريا إلى ما هو أبعد من حدود اتفاق عام 1974م، في انتهاك صريح للقانون الدولي، وضمن خطوات مدروسة لتغيير النظام الأمني في المنطقة لصالحها. وُيبرر المسؤولون الإسرائيليون التدخل بحماية الطائفة الدرزية، حيث دعا وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، علنًا إلى اغتيال الرئيس الشرع، متُهمًا الحكومة السورية بارتكاب جرائم ضد الدروز. فيما قال سياسيون آخرون مثل بيني غانتس، وأفيغدور ليبرمان، إن «واجبًا أخلاقيًا واستراتيجيًا يُحتم على إسرائيل الدفاع عن القرى الدرزية قرب الحدود الإسرائيلية. ويحقق التدخل الإسرائيلي في سوريا عددًا من الأهداف الاستراتيجية، إذ صرحت حكومة نتنياهو، بأن «التدخل جاء استجابًة لضغوط من الطائفة الدرزية في إسرائيل، وأنه «واجب أخلاقي تفرضهُ العلاقات الدينية والتاريخية المشتركة معهم». وتشكل الطائفة الدرزية جزءًا كبيرًا من المجتمع الإسرائيلي، ويشغل بعضهم مناصب حساسة في الجيش والحكومة. وتُشير تقارير إلى أن عددًا من الجنود الدروز الإسرائيليين شاركوا في العمليات العسكرية الأخيرة في غزة ولبنان، مما يعزّز الرواية المتعلقة بوجود «تحالف الدم» أو «ميثاق الدم» بين اليهود والدروز. ومع ذلك، فإن هذه التبريرات تُخفي ورائها طموحات جيوسياسية أكبر، إذ ترمي إسرائيل إلى توسيع منطقتها العازلة الأمنية في جنوب سوريا، لا سيما المواقع الإستراتيجية مثل جبل الشيخ. وهذا ما اتضح في تصريحات نتنياهو، حول العمل على إقامة منطقة منزوعة السلاح تمتد من الجولان إلى جبل الدروز. واتضح هذا أيضًا في الجلسة الخاصة التي عقدها مؤخرًا رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زمير، والتي خلصت إلى أن جميع حدود إسرائيل يجب أن تتضمن مناطق عازلة. وتُشير هذه التصريحات إلى تحوّل في العقيدة العسكرية الإسرائيلية نحو الهجوم الاستباقي، أي استهداف قدرات العدو قبل أن تتطور، لا سيما في سوريا، من خلال إبعاد الجيش السوري عن الحدود والتدخل حسب الضرورة. وبالتالي فإن التذرع بحماية الدروز يمكّن إسرائيل من تكثيف جهودها الرامية إلى إعادة رسم حدودها وتوطيد نفوذها في مناطق حدودية رئيسة. وباتت إسرائيل ترفض وجود سوريا موحدة وقوية على حدودها، وتفضل تفككها وضعفها على أن تُشكل تهديدًا قريبًا منها.

وقد حظيت الحكومة الجديدة في دمشق بقيادة الشرع بتأييد كبير من الأطراف الغربية والإقليمية على السواء، بما فيها تركيا، مما أثار مخاوف إسرائيل من تنامي النفوذ التركي قرب حدودها وفرضه عقبات أمام مصالحها الأمنية في المنطقة. ورغم التوافق الظاهري بين تل أبيب وواشنطن، إلا أن التباين بينهما -ولا سيما بشأن الملف السوري- بات واضحًا. إذ يخشى المسؤولون في واشنطن من أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية في سوريا إلى تقويض سلطة الرئيس الشرع الوليدة التي تحظى بدعمهم، فقد أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن تأييده لوجود حكومة مركزية سورية، ويقال إنه أبدى انزعاجه من هجمات نتنياهو الأخيرة.

وبالرغم من أن إسرائيل تضع تدخلاتها في سوريا في إطار الرد على تهديدات أمنية، وليس في إطار السعي إلى مواجهة مباشرة، إلا أن سلوكها المنهجي المنتهك للقانون الدولي دون عواقب فعلية وسعيها لتحقيق مكاسب بالقوة، يعكس رغبة في فرض هيمنة إقليمية. كما أن نهج حكومة نتنياهو يقوم على تبرير سياساتها الأكبر من حجم الأحداث بالضرورية والتواصل الولايات المتحدة. وعادةً ما تتراجع إسرائيل وتعمد إلى خفض التصعيد بعد أن تضمن تحقيق أهدافها الأساسية باستخدام القوة العسكرية، حتى وإن لم تحقق كامل الأهداف. كما تُدرك إسرائيل وجود مخاوف عند كِلا الحزبيْن الأمريكييْن (الجمهوري-الديمقراطي) من رفع العقوبات عن سوريا، وتخشى من أي تقارب دولي معها، ولذا تستغل الضغوط الدبلوماسية والهجمات الانتقائية وجماعات الضغط في سبيل عرقلة التطبيع الدولي مع دمشق، والحفاظ على نفوذها في سوريا.       

وتعكس تطورات السويداء الأخيرة هشاشًة كبيرًة في الوضع الأمني السوري، والنقاط التي تستغلها إسرائيل للتدخل في المشهد السوري. وفي هذا السياق، فإن استقرار سوريا يتوقف على قُدرة واشنطن والمجتمع الدولي على كبح جماح إسرائيل والحفاظ على سيادة دمشق، لأن أي تصعيد جديد قد يُقوّض جهود التعافي والاستقرار. ورغم أن الانفتاح الأمريكي والعربي على دمشق قد يمنح حكومة الشرع فرصًة للمُضي نحو إعادة الإعمار، إلا أن استقرار سوريا بعيد الأمد مرهون بقدرة الحكومة على إحكام قبضتها في الداخل. ويدرك الشرع أن تجدد أحداث العنف يُشكل خطرًا حقيقًا على رئاسته وعلى البلاد عمومًا. ويبدو عازمًا على منع وقوع مزيد من الاضطرابات. ومع ذلك، فإن تِركة الأسد لا تزال تُلقي بظلالها على استقرار البلاد ومسارها نحو التعافي، ويتجلى ذلك في العنف والتهميش والتمييز وغياب المساءلة وانعدام الثقة بين الطوائف السورية. وحاليًا إن لم تُحل هذه التوترات، فإنها ستجعل سوريا عُرضة لتدخل أطراف خارجية -مثل إسرائيل- تستغل الانقسامات بين المكونات السورية في إثارة الفوضى وخدمة اجندتها. وفي الوضع الحالي، فإن الترتيبات لإصلاح المؤسسة العسكرية وتوحيد الأجهزة الأمنية خطوات صعبة ولكنها ضرورية لأي سلام مُستدام. إذ أن خطر انفجار الصراع من جديد في سوريا قائم في أي لحظة مع وجود قوى وجماعات متعددة تتولى حماية نفسها بنفسها، إضافة إلى غياب الثقة والمحاسبة منذ سنوات. وتعوّل الحكومة السورية الجديدة حاليًا على اتفاقات وقف إطلاق النار، لكن سيتعين عليها في المرحلة القادمة فرض قوة ردع حقيقية، واتخاذ خطوات جادة نحو الوحِدة الوطنية للحفاظ على شرعيتها.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير