أهمية اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان ولعبة النفوذ الكبرى الناشئة في جنوب القوقاز

https://rasanah-iiis.org/?p=38057

نجحت الولايات المتحدة في رعاية اتفاق سلام تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان في البيت الأبيض، يهدف إلى إنهاء صراع استمر لأكثر من أربعة عقود. وقد تعهّد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، باحترام وحدة الأراضي وتطبيع العلاقات. ويقوم الاتفاق في جوهره على ممرّ نقل بطول 43 كيلومترًا يخضع لسيطرة أمريكية، أُطلق عليه اسم «طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي| TRIPP»، يربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان وتركيا. يُتوقَّع لهذه التطورات أن تُعيد رسم الجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز، وتُعزز النفوذ الأمريكي في المنطقة، خاصةً على خلفية العلاقات المتوترة لكلٍ من أرمينيا وأذربيجان مع روسيا.

يُعدّ هذا الاتفاق إنفراجةً جاءت بعد سلسلة من اللقاءات الثنائية بين قادة البلدين في الأشهر الأخيرة. ففي يوليو 2025م، التقى باشينيان وعلييف في أبوظبي لإجراء محادثات سلام ركزت على ترسيم الحدود وتطبيع العلاقات لكن دون نتائج. كانت أرمينيا قد عارضت في البداية إنشاء هذا الممر، لكنها وافقت لاحقًا بعد تدخل أمريكي مكثف. فمنذ مارس، قام المبعوثان الأمريكيان ستيف ويتكوف وآريه لايتستون بعدة جولات تفاوضية، قدّما خلالها الممر بوصفه فرصةً لأرمينيا لتعزيز علاقاتها مع واشنطن والحصول على ضمانة ضد التهديدات الأذربيجانية.

يحمل الاتفاق أهمية استراتيجية لأذربيجان، كونها منتجًا رئيسيًا للنفط والغاز، إذ يضمن لها طريقًا مباشرًا نحو تركيا ومن ثم إلى أوروبا. كما يمنحها مرونةً أكبر عبر رفع قيود دفاعية أمريكية سابقة، ما يفتح الباب أمام تعاون أمني ثنائي أعمق. بالنسبة لأرمينيا، قد يُنهي الاتفاق عزلتها الاقتصادية ويدمجها في شبكات التجارة الغربية، كما تحصل أرمينيا على ضمانات أمنية أمريكية بديلة عن الحماية الروسية المتداعية، لمواجهة تهديدات الوحدة القومية التركية (توحيد الدول التي تتحدث التركية).

وبموجب الاتفاق، ستسيطر الولايات المتحدة على الممر لمدة 99 عامًا، ما يمنح واشنطن موطئًا استراتيجيًا طويل الأمد في المنطقة، مع إشراف على مشروعات بنى تحتية رئيسية تشمل السكك الحديدية والطرق وخطوط أنابيب الطاقة والألياف البصرية، ويفتح المجال أمام الشركات الأمريكية للاستثمار. وقد وقعت عدة شركات نفط أمريكية، من بينها «إيكسون موبيل | ExxonMobil»، اتفاقيات مع شركة النفط الوطنية الأذربيجانية، ما يعكس مصالح واشنطن الحيوية في المنطقة. ويستمد الاتفاق زخمه من حماية المصالح الاقتصادية الأمريكية، إذ يُتوقّع أن تتولى الولايات المتحدة دورًا أمنيًا، فيما لن تُغامر الدول الإقليمية بتحدي إدارة ترامب نظرًا لسياستها الخارجية غير المتوقعة واحتمالات تداعياتها.

يثبط الاتفاق النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة، ويعيد توجيه مسارات التجارة والطاقة. ومن خلال رعايتها للاتفاق، رسّخت الولايات المتحدة نفسها وسيطًا محوريًا في النزاعات الإقليمية، ما يًعزز أوراقها الدبلوماسية، إذ أعرب كل من الزعيمين الأرميني والأذربيجاني عن دعمهما لترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام، بما يُعزز صورته كصانع سلام عالمي.

أما إيران، فتنظر إلى الممر باعتباره تهديدًا قد يُغيّر الحدود، ويعزز النفوذ التركي، ويدخل الوجود الأمريكي المباشر إلى جبهتها الشمالية. تتجاوز المخاوف الإيرانية الشق الأمني لتشمل خطر استبعادها من طرق التجارة الناشئة. لطالما اعتمدت أرمينيا وإقليم ناخيتشيفان على إيران في التجارة والنقل، لكن مع بدء تشغيل «طريق ترامب للسلام والازدهار» ستتمكن أرمينيا وأذربيجان من تقليص اعتمادهما على اللوجستيات الإيرانية، وبالتالي تقليص نفوذ طهران.

وبالنسبة لتركيا، فترى في اتفاق السلام أهمية اقتصادية وإستراتيجية على حد سواء؛ فقد رحبت به أنقرة باعتباره «فرصة تاريخية» لتعزيز السلام الإقليمي وتوطيد علاقاتها مع أذربيجان عبر الممر. وإلى جانب تعزيز دورها كمحور عبور رئيسي بين أوروبا وآسيا، يُحيي الاتفاق آمال التطبيع المتعثر مع أرمينيا، بما في ذلك إعادة فتح الحدود المغلقة منذ عام 1993م. وتواجه أنقرة تحدي التعامل مع المخاوف الإيرانية من أن الممر يُهمش مصالحها، لكنها ترى فيه في نهاية المطاف وسيلة لتوسيع نفوذها في جنوب القوقاز.

ورغم هذا التقدم، لا تزال عدة قضايا أساسية عالقة. أبرزها مطالبة باكو لأرمينيا بتعديل دستورها للتخلي عن أي مطالب بإقليم ناغورنو-كاراباخ، الذي استعادته أذربيجان في 2023م. وقد أكد باشينيان أن بلاده تعمل على دستور جديد، لكنه لم يفصح عن توقيت الاستفتاء، مصرًا على أن الأمر شأنٌ داخليٌ رغم ارتباطه المباشر بالمفاوضات. في المقابل، يصوّر معارضوه هذه التعديلات أنها خضوغٌ للضغوط الأذربيجانية، ويعبّئون الشارع لمقاومتها. ما يُبرز هشاشة المشهد السياسي المحيط بخطوات أرمينيا نحو التسوية النهائية. وقد أعاد باشينيان التأكيد مؤخرًا على أن أرمينيا يجب أن تتخلى عن حركة كاراباخ، واصفًا طيّ صفحتها بأنه «شرطٌ لتحقيق السلام والتنمية الوطنية».

كما لا تزال هناك إشكالات تقنية وتنظيمية للممر الجديد لم تتضح بعد. وغاب باشينيان عن القمة الأخيرة لـــ «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي |EAEU»، وهو غياب لافت، خاصةً أن النفوذ الأمريكي على الممر قد يتعارض مع مبادئ الاتحاد الخاصة بحرية حركة السلع والخدمات. وتدفع روسيا، بصفتها القوة المهيمنة داخل الاتحاد، باتجاه إشراف الاتحاد على الجمارك والأمن لضمان عدم فرض أرمينيا قيودًا أحادية، ما يعزز نفوذ موسكو على التجارة الإقليمية.

ورحبت موسكو بالاتفاق لكنها حذّرت من أن التدخل الخارجي قد يُعقّد استقرار جنوب القوقاز، مؤكدةً أنَّ الحلول المستدامة يجب أن يُتفق عليها إقليميًا بدعم من الجيران مثل روسيا وإيران وتركيا، لا من خلال تقسيمات جديدة. وقد زار كبار المسؤولين الروس، بمن فيهم نائب رئيس الوزراء أليكسي أوفرشوك ونائب وزير الخارجية ميخائيل غالوزين، أرمينيا مؤخرًا لتوضيح توقعات موسكو، ملمحين إلى قلقهم من أن يحد الممر من النفوذ الروسي في النقل والأمن الإقليمي. وتبقى موسكو متوجسة من الوجود الأمريكي في أرمينيا ومن تداعيات الممر على موازين القوى في جنوب القوقاز، معتبرةً أن الانخراط الأمريكي قد يكون مصدرًا للتوتر وتحديًا لنفوذها التقليدي.

وقد تلجأ موسكو إلى ممارسة ضغوط على يريفان ضمن إطار تدابير جماعية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي. وبما أن «طريق ترامب» لن يكون جاهزًا للتشغيل في القريب العاجل، يُتوقع أن تواصل أرمينيا الالتزام بقواعد الاتحاد في المدى القصير لتجنب المواجهة، متجنبةً بذلك استبعادها من الاتحاد.

عمومًا، تواجه أرمينيا تحديَ الموازنة بين أولويات التكامل والأمن طويلة الأمد والضغوط الاقتصادية والسياسية المباشرة، فيما تراقب موسكو الوضع عن كثب للحفاظ على نفوذها. وقد شهدت التجارة الخارجية لأرمينيا مع روسيا تراجعًا حادًا مطلع 2025م، إذ انخفض حجمها الإجمالي بنسبة 53% ليبلغ 6.3 مليارات دولار في الأشهر الأربعة الأولى مقارنة بالعام 2024م. وزادت حدة التوتر بعدما منعت روسيا مؤخرًا مرورَ شحنات زراعية وإنشائية، في إشارة إلى استخدامها التجارة كأداة ضغط سياسي في ظل محاولات أرمينيا تنويع شراكاتها.

في النهاية؛ يمثل اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان تحولًا إستراتيجيًا في جنوب القوقاز، يُعزز النفوذ الأمريكي ويحد من نفوذ روسيا وإيران. وإذا استتب الأمن في هذه المنطقة، ستعُيد مسارات التجارة التي تخضع للسيطرة الأمريكية تشكيل تدفقات العبور والطاقة، بما يرسّخ دور واشنطن كوسيط رئيسي. كما أن التطورات الأخيرة تُكمل جهود أوروبا لتعزيز أمنها الطاقي عبر تنويع وارداتها في ظل التراجع الحاد في الإمدادات الروسية بسبب الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير