جمود وتصعيد.. التداعيات الإستراتيجية للحملة الجوية الروسية في أوكرانيا

https://rasanah-iiis.org/?p=38107

دخلت الحرب الروسية-الأوكرانية مرحلةً جديدةً وأكثر خطورة بعدما شنّت موسكو مؤخرًا ضربات جوية هي الأضخم منذ اندلاع الصراع، شملت نحو 810 طائرات مسيّرة. وللمرة الأولى، استهدفت هذه الطائرات مبنى حكوميًا في كييف، مما يُشير إلى تحوّل في إستراتيجية الاستهداف الروسية، لذا يُثير هذا التصعيد تساؤلات حول تطورات الميدان وآفاق التفاوض ومسار الحرب في المدى المنظور.

ميدانيًا، كانت موسكو تأمل في تحقيق تفوق صيف هذا العام بمحافظة دونيتسك، وتحديدًا في مدينة باكروفسك التي تُعد مركزًا لوجستيًا حيويًا لأوكرانيا، لكن محاولة التقدم نحو كراماتورسك وسلافيانسك باءت بالفشل، حيث أبدت القوات الأوكرانية مقاومة شرسة حالت دون بلوغ روسيا أهدافها الإستراتيجية. وقد كبّدت هذه المعارك روسيا خسائر بشرية ومادية دون نتائج ملموسة، مما يُفسّر اعتمادها المتزايد على الهجمات الجوية واسعة النطاق لإلحاق أضرار بالبنية التحتية، وإضعاف الروح المعنوية، وإنهاك الدفاعات الأوكرانية. ومع كل ضربة جديدة، كسرت روسيا أرقامًا قياسية في حجمها وكثافتها، مما يكشف عن إصرارها على التعويض عن الجمود الميداني بتوسيع دائرة الهجمات الجوية.

ومع هذا التصعيد الروسي، لم تقف أوكرانيا مكتوفة الأيدي؛ فقد نجحت في الدفاع عن باكروفسك ومحيطها، وكبّدت القوات الروسية خسائر فادحة. وفي الوقت ذاته، برزت قدرتها المتنامية على شنّ ضربات دقيقة بعيدة المدى، لا سيما باستخدام صاروخ «كروز» الجديد FP-5 «فلامينغو» بمدى يصل إلى ثلاثة آلاف كيلومتر. وبهذا الصاروخ، شنت أوكرانيا هجومًا على موقع لجهاز الاستخبارات الروسي (FSB) في شمال القرم وألحقت به أضرارًا جسيمة، إذ أفادت تقارير بأنها دمرت ستة زوارق برمائية. يعكس هذا الابتكار ميزة أوكرانيا الجوهرية: القدرة على التكيّف السريع وتطوير أدوات غير مُتماثلة لمواجهة التفوق العددي الروسي، وتوسيع ساحة القتال إلى عمق الأراضي الروسية.  

ومع اقتراب الشتاء، ستغدو الهجمات البرية واسعة النطاق أكثر صعوبة للجانبين؛ فالأحوال الجوية القاسية تحدّ من حركة القوات الروسية، فيما تُعاني أوكرانيا من نقص في القوى البشرية وتراجُع في وتيرة الإمدادات الغربية. وفي ظل هذه المعطيات، ستتصدّر المسيّرات والصواريخ المشهد، مما يدفع كل طرف لاستنزاف الآخر عن بُعد.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، تبدو الآفاق قاتمة؛ فقد تراجعت حدة تهديدات واشنطن بفرض عقوبات إضافية على موسكو، خصوصًا بعد قمة ألاسكا التي لم تفضِ إلى نتائج ملموسة. وفي أوروبا، ما زالت المقترحات بشأن منح أوكرانيا ضمانات أمنية –تصل حد نشر قوات أجنبية-محل خلاف واسع وتبدو غير واقعية، لأنها لم تحظَ بتأييد جماعي، كما أنها مشروطة بوقف إطلاق النار، وهو ما يجعلها شبه مستحيلة التحقيق. أما موسكو فتعتبر التنازل عن المناطق الأربع التي أعلنت ضمها خطًا أحمر لا يمكن التفاوض عليه، فيما ترى كييف أن التخلي عنها خيانة للسيادة وتهديد لوجودها الوطني، مما يجعل المفاوضات أقرب إلى الشكلية منها إلى مسار جاد للتسوية.

عدة عوامل ستُحدد مسار تطورات الأشهر المقبلة؛ فمن المرجح أن تُكثّف روسيا هجماتها بالطائرات المسيّرة والصواريخ، موسّعة نطاق أهدافها ليشمل منشآت مدنية ومؤسسات حكومية، وربما حتى مراكز لوجستية غربية. وفي المقابل، ستظل الابتكارات الأوكرانية في مجال التكنولوجيا العسكرية عنصرًا حاسمًا، حيث يمثل صاروخ «فلامينغو» نموذجًا على قدرتها على إعادة تشكيل قواعد اللعبة، كما ستظل استمرارية الدعم الغربي، وخاصة الأمريكي، محدّدًا رئيسيًا لقدرة أوكرانيا على الصمود. ومع تراجع مظاهر الدعم الأمريكي، يقع على عاتق أوروبا ملء الفراغ، حتى وإن كانت قدراتها السياسية والاقتصادية غير كافية لتغطية ذلك على نطاق واسع. وبدون تطورات ملموسة في ساحة المعركة، ستبقى المبادرات الدبلوماسية عالقة، لاسيما أنه يبدو أن أيًا من الجانبين مستعد للتنازل عن أهدافه الأساسية، مما يجعل التوصل إلى تسوية قريبة أمرًا مستبعدًا.

ولم يكن هجوم الطائرات المسيرة على مبنى حكومة كييف مجرد ضربة تكتيكية، بل تصعيدًا رمزيًا؛ فهو يؤكد استعداد روسيا لتوسيع حملتها الجوية في محاولة لتعويض إخفاقاتها في ساحة المعركة. وفي المقابل، يعكس الرد الأوكراني، بدفاعها المتواصل وابتكارها التكنولوجي، تصميمها على المقاومة رغم الضغوط المتزايدة. ومع حلول الشتاء، ستدخل الحرب مرحلة مطولة تتسم بضربات بعيدة المدى وتكتيكات استنزافية، فيما تستمر المفاوضات في جمودها. ولا يزال كلا الجانبين ملتزمًا بالنصر وفقًا لشروطه الخاصة، ولا يبدو أي منهما مستعدًا للتنازل. بالنسبة لأوكرانيا، تعتمد قدرتها على الاستمرار في الحرب على حفاظها على الدعم الغربي وتوسيع آفاق الابتكار، أما بالنسبة لروسيا، فيبقى التصعيد هو السبيل الوحيد لإظهار تفوقها.

وأخيرًا، يبدو أن الحرب مرشحة للاستمرار إلى أجل غير مسمى، دموية ومكلفة بصورة متزايدة. تدار بالمسيّرات والصواريخ بدلًا من أن تُحسم بنجاحات ميدانية كبرى. لذلك، يجب على المجتمع الدولي أن يواجه الحقيقة: هذه الحرب لا تقترب من نهايتها، بل تنزلق إلى صراع مُمتد ستُحدد نتائجه مستقبل البنية الأمنية الأوروبية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير