حين يتقاطع الضمير الشعبي مع الحكمة الدبلوماسية .. السعودية وصناعة الاعتراف الأوروبي بفلسطين

https://rasanah-iiis.org/?p=38152

بواسطةوجن الشيباني

لم يعد الرأي العام مجرد تعبير جماهيري عابر عن اتجاهات الناس ومواقفهم حول مختلف القضايا، بل تحوّل إلى قوة ضاغطة تؤثر على السياسات العامة وصناعة القرار، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وفي سياق الاعتراف الأوروبي المتزايد بدولة فلسطين، يبرز الدور المركزي للرأي العام الغربي، الذي شكّل بيئة ضاغطة على قادة بريطانيا وفرنسا، ودفعهم إلى مراجعة مواقفهم إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة، والاقتراب من تبني حلّ الدولتين.

لكن هذه التحولات لم تكن منعزلة عن جهود دبلوماسية منهجية نشطة، تقودها المملكة العربية السعودية، التي وظّفت أشكالًا متعددة من الدبلوماسية الحديثة – من دبلوماسية القمة إلى دبلوماسية الأزمات والمنظمات الدولية – لتثبيت وإعادة ترميم شرعية الاعتراف الدولي بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة. ومن هنا، يصبح تلاقي الرأي العام الغربي والدبلوماسية السعودية نقطة انعطاف في مسار القضية الفلسطينية، تعيد طرحها على العالم باعتبارها قضية أخلاقية وقانونية قبل أن تكون سياسية.

  تعود الجذور المباشرة لاعتراف بريطانيا بدولة فلسطين إلى ضغوط داخلية سياسية وحزبية. فبحسب شهادات مراقبين، شكلت مشاهد الدمار في غزة نقطة تحول في المزاج الشعبي؛ مما اضطر رئيس الوزراء البريطاني إلى اتخاذ موقف واضح، استجابةً للتيار اليساري داخل حزب العمال، الذي لطالما حمل تعاطفًا مع القضية الفلسطينية، وحركته مشاهد الدمار في غزة. هنا لعب الرأي العام، بصفته ضميرًا شعبيًا جمعيًا، دورًا ضاغطًا حفّز القيادة السياسية على اتخاذ موقف يبدو أخلاقيًا في مظهره، لكنه سياسي في جوهره، مرتبط بالحفاظ على موقعه القيادي داخل الحزب والساحة السياسية الأوسع. إنّ التأثير الشعبي لم يقتصر على الكمّ، بل ارتبط بالكيف، حيث كان لصوت الجماعات المؤثرة والتيارات الفكرية الملتزمة بالقضية الفلسطينية أثرٌ يتجاوز مجرد الأرقام الانتخابية.

  أما فرنسا، التي اتخذت مواقفها مسارًا متعرجًا تجاه القضية الفلسطينية، فقد شهدت تحوّلًا ملحوظًا في خطابها السياسي تجاه الصراع. فمنذ اندلاع حرب غزة، تبنّى الرئيس إيمانويل ماكرون خطابًا داعمًا لإسرائيل، وصل إلى حد المطالبة بتحالف دولي ضد «حماس» على غرار التحالف ضد «داعش». لكن هذا الدعم لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما وجدت الحكومة الفرنسية نفسها تحت موجة انتقادات داخلية، أبرزها من الساسة والنواب المعارضين، الذين اتهموا ماكرون بالانحراف عن النهج التاريخي الفرنسي القائم على التوسّط. وهنا عاد الرأي العام الفرنسي ليضغط من جديد، عبر تظاهرات شعبية واسعة، دعمت فلسطين رغم القيود الأمنية الصارمة، مما أسهم في تغيير موقف القيادة السياسية على تصحيح المسار والاعتراف بدولة فلسطين، كمحاولة لاستعادة التوازن السياسي والشرعية الأخلاقية.

ولا شك أن هذه التحولات لم تكن محض صدفة. ففي أوروبا الغربية، حيث تقوم الأنظمة السياسية على شرعية الانتخاب، يصبح الرأي العام حجر أساس في بقاء الحكومات وتجديد ولاياتها. فالسياسيون، بحكم طبيعة النظام الديمقراطي، لا يستطيعون إغفال اتجاهات الناخبين، وإلا فقدوا مقاعدهم وفرص إعادة انتخابهم. وبذلك يتحوّل الرأي العام إلى قوة موجِّهة، ليس فقط للسياسات الداخلية، بل أيضًا للسياسات الخارجية، بما في ذلك الاعتراف بدولة فلسطين.

لقد أدركت الرياض أن كسب الرأي العام الغربي لم يعد ترفًا دبلوماسيًا، بل شرطًا لنجاح أي مبادرة عربية، وأن الرأي العام لا يتحرك في فراغ، وهو ما جعلها توظف أدواتها الناعمة والإعلامية والدبلوماسية لاستثمار هذا التحوّل في المزاج الغربي لصالح القضية الفلسطينية. فمنذ إطلاق مبادرة السلام العربية عام 2002م على يد الملك عبد الله – رحمه الله – وضعت المملكة القضية الفلسطينية في صلب أجندتها الإقليمية والدولية. ومع تفاقم الأحداث في غزة مؤخرًا، أعادت السعودية تفعيل هذا الدور عبر «التحالف العالمي لتفعيل حل الدولتين»، الذي أطلقته بالشراكة مع النرويج عام 2024م. ومن خلال مؤتمرات دولية وبيانات مشتركة، دفعت الرياض باتجاه خلق كتلة دولية داعمة للاعتراف بفلسطين، وهو ما انعكس في «إعلان نيويورك» الذي وقّعته دول عربية وأوروبية معًا، في مشهد أعاد إلى الأذهان روح مبادرة 2002م.

  لقد استخدمت السعودية أدوات الدبلوماسية الحديثة بمهارة، ففي دبلوماسية القمم، استثمرت مكانتها السياسية والدينية لعقد لقاءات مباشرة بين قادة العالم، مدركة أن حضور القادة أنفسهم يسرّع الوصول إلى قرارات حاسمة؛ وفي دبلوماسية الأزمات، تعاملت مع الحرب في غزة باعتبارها لحظة اختبار للمجتمع الدولي، ساعية إلى تهدئة التوتر ومنع انزلاق المنطقة إلى صراع أوسع، وفي الوقت نفسه استثمار الأزمة لإعادة طرح القضية الفلسطينية على جدول أعمال العالم. أما في دبلوماسية المنظمات الدولية، فقد لعبت السعودية دورًا محوريًا داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن في الدفع نحو قرارات تؤكد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وتعيد تعريف الصراع بصفته قضية عدالة لا نزاع حدود.

ويتقاطع مسار الجهود الدبلوماسية السعودية مع التحولات في الرأي العام الغربي والدولي، الذي بدأ ينظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها قضية عدالة إنسانية تشبه -في وجدان الشعوب- تجربة جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري. ورغم وجود قنوات إعلامية كبرى تحاول إعادة تشكيل المزاج الجماهيري، فإن الأفراد عبر ما يُعرف بـ«الإدراك الانتقائي» أصبحوا ينتقون ما ينسجم مع معتقداتهم ويتجاهلون ما يخالفها، مما مكّنهم من الإفلات من السيطرة الإعلامية التقليدية، وتجسيد وعي سياسي مستقل يدفع باتجاه دعم القضية الفلسطينية. وهكذا، تحوّل الإدراك الانتقائي إلى أداة بيد الجماهير لاختيار سرديتهم الخاصة، وأسهم في مراكمة الضغوط على الحكومات الغربية.

  في المحصلة، يمكن القول إن الاعتراف البريطاني والفرنسي بدولة فلسطين ليس إلا نتاج التقاء مسارين: داخلي، تقوده ضغوط الرأي العام، الذي بات يرى في فلسطين قضية أخلاقية وإنسانية. وخارجي، تمثله الدبلوماسية السعودية النشطة، التي أحسنت استثمار لحظة الأزمة، وتحوّل المزاج الدولي لصالح الفلسطينيين. وهذا التلاقي بين الداخل الأوروبي والجهد السعودي، يضع القضية الفلسطينية على أعتاب مرحلة جديدة؛ حيث لم يعد الاعتراف مجرد قرار سياسي، بل شرعية نابعة من توافق عالمي بين الشعوب والحكومات. ومن هنا، يصبح المستقبل مرهونًا بقدرة هذه الجهود على الاستمرار والتوسع، بما يجعل من إقامة الدولة الفلسطينية واقعًا سياسيًا لا مفرَّ منه، مدعومًا بقوة الرأي العام الدولي، وحنكة الدبلوماسية السعودية.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

وجن الشيباني
وجن الشيباني
باحثة متدربة