في أول لقاء رسمي له منذ توليه السلطة، زار الرئيس السوري أحمد الشرع، العاصمة الروسية موسكو، حيث التقى نظيره الروسي فلاديمير بوتين. وتأتي هذه الزيارة في ظل حالة من عدم اليقين، التي تُحيط بمستقبل العلاقات السورية-الروسية بعد سقوط نظام الأسد، وتأتي كذلك استكمالًا لسلسلة من اللقاءات التي عقدها الطرفان خلال الأشهر الماضية، لتقييم آفاق التعاون الثنائي. وفي سبتمبر الماضي، زار نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك دمشق، لمناقشة آليات استمرار التعاون في مجالات الطاقة وإعادة الإعمار والدعم الإنساني. وتُشير التطورات الأخيرة إلى رغبة مشتركة لدى الطرفين في بناء شراكة أكثر استقرارًا، قائمة على ضمانات متبادلة، تُعزز المصالح الإستراتيجية لكليهما.
وبالنسبة لروسيا، فإن الحفاظ على قواعدها العسكرية في «حميميم وطرطوس» يُعد أمرًا بالغ الأهمية. كما أن وجودها في مطار القامشلي شمال شرق سوريا ضروري؛ إذ تُمثل هذه المنشآت نقاط الارتكاز الوحيدة لروسيا في المنطقة، وتُعد ضرورية للحفاظ على نفوذها الإقليمي دون استنزاف مواردها، خاصةً في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا. وقد وسّعت موسكو من حضورها العسكري في منطقة الساحل الإفريقي، عبر شركات أمنية خاصة، وشراكات إستراتيجية، ليس فقط لمواجهة النفوذ الغربي، بل أيضًا لربط عملياتها المُتنامية في إفريقيا (بما في ذلك قواعدها في ليبيا) وتعزيز نفوذها عبر المتوسط. لذا، فإن الوجود الروسي في سوريا يُشكل محورًا إستراتيجيًا، لتمكين روسيا من استعراض قوتها في بيئة جيوسياسية متغيرة.
وقد ركزت المحادثات الأخيرة بين البلدين، على إعادة بناء البنية التحتية الحيوية في سوريا، بما يشمل قطاعات الطاقة، والسكك الحديدية، والنقل، وهي قطاعات تضررت بشدة جراء سنوات الحرب. ويمكن لروسيا أن تُرسّخ نفوذها في سوريا، إذا ما توصلت إلى تفاهُم تكتيكي مع النظام الجديد، بما يضمن استمرارية عملياتها الإقليمية على المدى الطويل. وتُبدي الشركات الروسية اهتمامًا مُتزايدًا بتوسيع عملياتها في قطاع النفط السوري، بما في ذلك حقول جديدة؛ مما يعكس التزامًا طويل الأمد بمشاريع الطاقة. ويأتي هذا الانخراط الروسي مدفوعًا برغبة في تعزيز النفوذ الإستراتيجي، وتكامل الحضور العسكري، بالإضافة إلى اغتنام فُرص تجاوز العقوبات، عبر الاستثمار في بيئة أقل تنظيمًا.
أما من الجانب السوري، فالحفاظ على العلاقات مع روسيا يخضع لحسابات دقيقة. فسوريا ما تزال تعتمد على روسيا في تأمين الغذاء والطاقة والدفاع، الأمر الذي يخلق حالة من عدم التوازن الهيكلي في العلاقة. كما أن القوات المسلحة السورية تعتمد بشكل كبير على منظومات الأسلحة الروسية، وهي تبعية يصعب تجاوزها في ظل ضعف البنية الدفاعية المحلية، والضغوط الاقتصادية، وندرة البدائل الواقعية.
ويُعاني قطاع الطاقة السوري من هشاشة واضحة؛ إذ يحد ضعف الإنتاج المحلي، وتضرر البنية التحتية من القدرة على التصدير. وفي هذا السياق، يُصبح الدعم الخارجي ضرورة لتثبيت العمليات، وتحقيق التعافي التدريجي، وهو ما تستطيع روسيا المساهمة فيه. وتُشير التقارير إلى أن موسكو زادت من شُحنات النفط الروسي إلى سوريا، حيث أرسلت نحو 2.6 مليون برميل هذا العام، لدعم المصافي السورية؛ مما ساعد دمشق على تعويض توقف الإمدادات الإيرانية، التي كانت قد عطلت عمليات التكرير مؤقتًا. ويُعد الدعم الروسي في إعادة بناء البنية التحتية للطاقة أمرًا محوريًا، في ظل سعي الحكومة السورية لاستعادة القدرة الإنتاجية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وإعادة تموضعها في أسواق الطاقة الإقليمية.
كما تُدرك الحكومة السورية أهمية الدعم الدبلوماسي الروسي في هذه المرحلة، خاصةً وأنها تسعى لاستعادة شرعيتها الدولية. فالدعم الروسي مهم، كونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، تملك حق النقض «الفيتو»، الذي يمكن أن يُستخدم لعرقلة أي قرارات ضد سوريا. لذلك، فإن ضمان حياد موسكو أو موافقتها، يُعد هدفًا إستراتيجيًا لدمشق. وقد أكد الشرع لبوتين، رغبة سوريا في إعادة تعريف العلاقات الثنائية، على أساس احترام السيادة ووحدة الأراضي. وتتجاوز الحسابات السورية حدود الدبلوماسية الشكلية، لتشمل تقليص مساحة الشك، وتجنب سوء الفهم أو التصعيد غير المحسوب، بما في ذلك الحصول على ضمانات واضحة من روسيا، بعدم إعادة تسليح بقايا قوات الأسد، وهي خطوة ضرورية لترسيخ السيطرة الحكومية، ومنع أي اضطرابات محتملة.
وتعكس سياسة دمشق تجاه موسكو اعتبارات واقعية، إذ امتنعت حتى الآن عن استفزاز روسيا، أو استخدام خطاب معادٍ لها. ورغم أن الحكومة السورية أثارت ملف تسليم «الأسد»، إلا أنها لم تتعامل معه كـ «أولوية قصوى»، بل اعتبرته أحد الملفات ضمن حزمة أوسع. وفي مقابلة حديثة، أكد الشرع أنه سيستخدم الوسائل القانونية لمحاسبة الأسد، لكنه شدد على أن الدخول في صِراع مع روسيا في الوقت الراهن سيكون مكلفًا للغاية. ويبدو أن دمشق تتعامل مع قضية الأسد كـ «ورقة تفاوضية»، لا كعقبة تهدد مصالحها الإستراتيجية الأوسع.
وتبقى العوامل الجيوسياسية الإقليمية من أبرز مُحددات السياسة الخارجية السورية في هذا السياق؛ إذ تواجه سوريا تحديات متزايدة، أبرزها التصعيد الإسرائيلي الذي تجاوز الخطوط الحمراء، ما أدى إلى تقويض القانون الدولي وزيادة التوترات. وقد أسهمت زيادة الهجمات الإسرائيلية في سوريا، خلال الأشهر الأخيرة في قلق الحكومة السورية. ولأن الأمن الداخلي يُعد أولوية قصوى، ومع إدراك دمشق أن الولايات المتحدة وحدها تملك القُدرة على التأثير في السلوك الإسرائيلي، فإنها مُطالبة بموازنة علاقاتها مع واشنطن وموسكو؛ لإدارة التهديدات الإقليمية. يأتي هذا في حين لا تزال التحفظات الأمريكية قائمة بشأن طبيعة العلاقة بين سوريا وروسيا؛ إذ يخشى المسؤولون الأمريكيون من عودة سوريا إلى الفلك الروسي. وهذا يضع ضغطًا على واشنطن لتسريع عملية رفع العقوبات بشكل كامل، للحفاظ على نفوذها الإستراتيجي في دمشق.
وفي هذا السياق، تُدرك سوريا أن استعادة استقلالية القرار تتطلب مُناورة تكتيكية، تستفيد من التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا، لفتح المجال أمام دبلوماسية مرنة. وتعكس هذه المقاربة حرصًا سوريًا على تنويع الشراكات، بما يتماشى مع توجه إقليمي أوسع نحو الانخراط البراغماتي القائم على المصالح. لكن سوريا تواجه تحديًا كبيرًا؛ فهي تفتقر إلى شركاء بديلين في قطاعات حيوية، الأمر الذي يجعل علاقتها بكل من روسيا والغرب ذات أهمية مضاعفة. كما أن عملية إعادة الإعمار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتعزيز الأمن وجذب الاستثمارات. وحتى الآن، توجد نقاط تقاطع عديدة بين دمشق وموسكو، ولكن استمرارية هذه الشراكة على المدى الطويل ستعتمد على تقليص مساحة الشك، وإدارة التحديات الإقليمية المتقلبة.