دلالات فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك

https://rasanah-iiis.org/?p=38324

نجح زهران ممداني في الفوز بمنصب عمدة مدينة نيويورك بعد حملة انتخابية جذبت الأنظار بشدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وكان من ثمرتها مشاركة انتخابية هي الأعلى في المدينة منذ نهاية ستينيات القرن الماضي. يعود هذا الاهتمام بالأساس إلى سمات ممداني الشخصية وما طرحه من أفكار جريئة حرّكت الشارع الأمريكي وليس ناخبي نيويورك وحدهم، حتى بات الرجل مصدر قلق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بل مصدر قلق لإسرائيل، على الرغم من منصبه المحلي، لكن مصدر القلق ليس من الشخص بقدر ما هو قلق من موجة صعود سياسي قد تلقي بظلالها على المشهد السياسي الداخلي، بل ربما موجة تغيير مضادة لموجة صعود اليمين عالميًا.

بداية يعتبر ممداني ابن الأربعة والثلاثين عامًا صوت الشباب الأمريكي والجيل الجديد، الذي ظهر تأثيره خلال المرحلة الأخيرة، والذي أظهر اهتمامًا متزايدًا بالسياسة، وطرح أفكارًا متجددة حول تحسين الأجور والخدمات ودور الدولة في رعاية المجتمع، بمعنى أنه يمثل صعودًا متجددًا لأفكار اليسار. وقد يكون هذا الفوز بداية ملهمة لعديد من الوجوه الشابة، التي قد تتشجع لدخول ماراثون الانتخابات بمختلف مستوياتها، ومواجهة الرموز التقليدية من النخبة وذوي النفوذ المادي والسياسي والحزبي، وقد تكون الظاهرة بداية تغيير كبير في مواقع السلطة بما يسمح بعملية تجديد سياسي واسع النطاق.

من جهة ثانية يحمل فوز ممداني دلالات أعمق حول توجهات الناخب الأمريكي، الذي يبدو أنه محبط بشدة من النخبة الحاكمة في الحزبين، وأنه مؤيد بشدة لعملية تغيير لا تطال القيادات التقليدية وحسب، بل إنه مؤيد أيضًا لأفكار من خارج دولاب السياسة الأمريكي الجمهوري أو الديمقراطي. بمعنى آخر يعتبر ممداني ظاهرة معبرة عن حركة تمرد جديدة على الواقع الأمريكي والانقسام الحزبي الذي بدا أبعد ما يكون عن أولويات الأمريكيين وتطلعاتهم، وذلك بعدما أصبح تداول السلطة إلى حد ما محصورًا في النخبة والعائلات ذات التاريخ السياسي العريق، وتمحور النفوذ مع وصول ترامب في رموز المال والأعمال، وعكست السياسة مصالح الطبقة الأغنى التي باتت تهيمن على صنع القرار لخدمة أطماعها على حساب قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى والدنيا.

بالإضافة إلى ذلك يمثل فوز ممداني تعبيرًا عن توجه عقلاني وواقعي يرفض التوجهات الفوضوية الراهنة التي تحمل نزعة عنصرية يقودها اليمين الجمهوري بقيادة ترامب، باعتباره أول عمدة مسلم غير أبيض من أبناء المهاجرين، ولا تقل دلالة ذلك عن انتخاب باراك أوباما في عام 2008 كأول رئيس أمريكي من أصل إفريقي للولايات المتحدة. وبالتالي هذا الانتخاب يشير إلى حيوية الديمقراطية الأمريكية، التي تتجاوز الأعراق والأديان بصرف النظر عن نزعة الرئيس الحالي وأفكار تياره المتمحورة حول تفوق الرجل الأبيض. ولا شك أن عديدًا من الجهات والمؤسسات ستقابل هذا الفوز بقدر من التفاؤل، بما في ذلك الجامعات التي يحاول ترامب إسكات صوتها، والمؤسسات التي يعمل على إصلاحها وفقًا لرؤيته، والقطاعات المهمشة والمهاجرين والعمال والطبقات الدنيا والوسطى، التي ينتمي إليهم ممداني أو يمثل مصالحهم، حيث يبشرهم هذا الصعود بالتغيير المنتظر.

إلى جانب ذلك قلب نجاح ممداني الحسابات السياسية للجمهوريين، إذ يمثل فوزه مؤشرًا على تراجع شعبيتهم بين الناخبين، لا سيما إذا ما قُرئَ ضمن نتائج انتخاب حكام ولايتي فرجينيا ونيوجيرسي وانتخابات محلية أخرى فاز بها مرشحون ديمقراطيون، بل إنه مؤشر على تراجع شعبية ترامب نفسه، الذي ألقى بثقله في هذه الانتخابات باعتبار أن نتائجها بمثابة قراءة مبكرة لنتائج انتخابات التجديد النصفي، التي كان يرغب ترامب في ضمان تفوق جمهوري بها لتأمين أغلبية في الكونجرس تمكنه من متابعة سياساته دون عراقيل. لكن على ما يبدو أن المزاج العام الأمريكي بصدد عملية مراجعة لسياسة ترامب والجمهوريين عبر صناديق الاقتراع. ومن المفارقات خسارة كوري بومان، الأخ غير الشقيق لنائب الرئيس جيه دي فانس، أمام الديمقراطي أفتاب بوريفال في انتخابات رئاسة بلدية سينسيناتي.

ولا يحمل فوز ممداني ورفاقه دلالات تخص الجمهوريين وحسب، بل إن هذا النجاح يعكس عملية تحول أيديولوجي وجيلي داخل الحزب الديمقراطي، إذ إن ممداني دخل السباق دون دعم من المؤسسة التقليدية في الحزب، ودون دعم من رجال الأعمال المنتمين إلى الحزب، بل إنه يحمل مشروعًا وأفكارًا تهدد نفوذهم ومصالحهم الحزبية وغير الحزبية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يحمل فوز ممداني بداية لعملية تغيير جوهرية داخل الحزب، إذ إنه قد يفتح الباب إلى تغيير ليس على مستوى الحراك الحزبي، ولكن على مستوى الأفكار، فالحزب بات مطالبًا بأن يستجيب لموجة اليسار المتصاعدة بين الشباب الأمريكي، والاستجابة لمطالب الشارع ومشكلات المواطنين العاديين، خصوصًا بعد تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أظهرت جمود وشيخوخة الحزب وحاجته إلى روح تجديدية تعيد صلة الحزب بالناخبين وتربطه بمطالب القطاعات العريضة لتعويض خسائره والعودة للسلطة.

قد يعني هذا أن تيار اليسار الشاب داخل الحزب سوف يحصل على مزيد من الزخم على حساب التيار التقليدي داخله، وربما يمثل ذلك إعادة تشكيل جوهرية للحزب الديمقراطي وتوجهاته، بل إعادة تشكيل للمشهد السياسي الأمريكي ككل، الذي قد يكون التنافس مستقبلًا محصورًا بين اليمين المهيمن على الحزب الجمهوري، والذي يعطي الأولوية لقضايا واهتمامات محافظة وتقليدية ويدعم كبار رجال المال، وذلك في مواجهة تيار معبّر عن القطاعات الدنيا ويدعم أجندة تتمحور حول العدالة الاجتماعية والتغيير السياسي والاجتماعي لخلق توازن في العلاقة بين الطبقات وتوزيع الثروة.

علاوة على ذلك لا تتوقف ظاهرة ممداني على الداخل الأمريكي، بل تمتد إلى خارجه، إذ إن ممداني اعتمد في حملته على مواقفه الرافضة لسلوك إسرائيل ولموقف الولايات المتحدة من الحرب على غزة كأحد دعائم حملته. وبالتالي يشير هذا الفوز إلى أن ناخبيه أولًا في نيويورك، وهي واحدة من أهم الولايات الأمريكية وعاصمتها لها رمزيتها بوصفها تضم هيئة الأمم المتحدة ومركز الاقتصاد العالمي ومراكز التأثير الإعلامي، يشاطرونه الموقف من إسرائيل، وربما يشاطره موقفه قطاعات أخرى في مختلف الولايات، من هؤلاء الذين كانوا يحتجون على مدار أشهر اعتراضًا على سلوك إسرائيل ونهج إدارتي ترامب وقبله بايدن تجاه حرب الإبادة في غزة.

على هذا الأساس فإن فوز ممداني سيترتب عليه مزيد من الزخم المناهض لإسرائيل، ليس على مستوى الرأي العام وحسب، ولكن بين الأجيال الجديدة والنخبة الجديدة، وهو في الحقيقة زخم لا تخفيه استطلاعات الرأي التي تشير إلى تراجع الرأي العام الأمريكي عن تأييد إسرائيل سواء بين الديمقراطيين أو الجمهوريين، لكنه سيزداد مع صعود ممداني ومن على دربه الذين بات يُسمع صوتهم في الحزبين وبين أروقة مجلسي النواب والشيوخ.

وقد يستقبل عديد من العواصم هذا التغيير بالترحيب، ليس من جانب خصوم واشنطن وحسب، بل من حلفائها أنفسهم، لا سيما تلك التي تواجه تحديات وصعوبات في ظل سياسة ترامب القسرية والإكراه الذي يمارسه عبر فرض العقوبات والتعريفات الجمركية، التي لم تميز بين حليف وخصم.

في الأخير يمكن القول إن نجاح ممداني يحمل دلالات سياسية وقيمية مهمة، إذ أقلق هذا الصعود لشاب صغير من خارج السياق السياسي النخبةَ القديمة في الحزب الديمقراطي، قبل أن يمثل فوزه صدمة للرئيس ترامب نفسه، لأن ممداني والذين فازوا معه في ولايات أخرى يحطمون الصورة التي يحاول الرئيس أن يرسمها لنفسه في الأوساط الأمريكية بأنه يتمتع بتأييد لا يتزعزع وشعبية لا تتراجع، كما يزاحمونه في تصدر المشهد وجذب الانتباه، وكذلك يحبطون خططه نحو استكمال هيمنته على المشهد السياسي الأمريكي، ويوقفون التفوق الكاسح للجمهوريين منذ انتخابات الرئاسة والكونجرس منذ العام الماضي. ليس هذا وحسب، بل إنهم قد يمثلون نواة لقلب المشهد الداخلي وعكس سياسة اليمين، وليس من المستبعد أن تقلب هذه النتائج الجمهوريين على ترامب ويُراجَع التأييد المطلق لسياساته بعدما أصبح عبئًا على الحزب. وربما يساور إسرائيل قلق مماثل، لأن تيارًا عريضًا يمثله ممداني قد ينتقل من ساحات المعارضة والاحتجاج إلى مقاعد السلطة، مع ما قد ينطوي عليه ذلك من سياسات وتغيير في اتجاه التأييد الأعمى الذي استمر عقودًا لإسرائيل، على حساب المواطن الأمريكي، الذي يعد أكبر الرابحين من هذا الصعود لممداني ورفاقه.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية