يعيش السودان واحدة من أكثر المراحل تعقيدًا في تاريخه الحديث، حيث تتقاطع الصراعات السياسية بالتزامن مع الانهيار الإنساني، إذ يتفكك كيان الدولة وسط انتشار السلاح وتآكل مؤسساتها. ومن بين المدن التي دفعت «الثمن الأفدح» هي مدينة الفاشر في شمال دارفور، التي تجسد أبشع صور المأساة الإنسانية والأخلاقية الناجمة عن الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. كانت الفاشر يومًا مركزًا إداريًّا وثقافيًّا مهمًّا في غرب السودان، لكنها منذ اندلاع الحرب (2023م) تحولت إلى رمز لانهيار الدولة والمجتمع معًا، فكل يوم يمرّ على الفاشر يُميط اللثام عن فصل جديد من الكارثة الإنسانية، التي تجاوزت حدود الجغرافيا والسياسة، وأعادت طرح أسئلة مؤلمة حول جذور الأزمة، ودور المجتمع الدولي، ومآل السودان وسط هذا النزيف الذي لا يتوقف.
لا يمكن فهم مأساة الفاشر بمعزل عن السياق العامّ الذي سبقها، فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023م دخل السودان مرحلة من التفكك المؤسسي العميق، حيث لم تعُد هناك سلطةٌ مركزيةٌ فاعلة أو مؤسساتٌ قادرةٌ على إدارة البلاد. وكانت دارفور، بتكوينها العرقي والسياسي المعقد، المنطقة الأكثر هشاشة في مواجهة هذا الانهيار، لا سيما أنها عانت لعقود من التهميش وغياب التنمية، مما جعلها عرضة لموجاتٍ متكررةٍ من العنف. وفي ظل هذا الفراغ، تبنّت قوات الدعم السريع مشروعًا توسعيًّا للسيطرة على دارفور وممراتها الحدودية من أجل تأمين مواردها ومساراتها التجارية ومناطقها الغنية بالذهب.
ولتحقيق هذه الغاية، لجأت قوات الدعم السريع إلى استخدام القوة المفرطة وفرض سياسة الحصار، إذ طوقت المدن الكبرى، وعلى رأسها الفاشر، لإخضاعها بالقوة. في المقابل، واجه الجيش السوداني انقساماتٍ داخليةً ونقصًا في الإمدادات وتراجعًا في المعنويات بسبب القتال على جبهات مُتعددة وخسارة مساحات واسعة من الأرض. ومع مرور الوقت، أصبحت الفاشر آخر معاقل الجيش في دارفور وهدفًا إستراتيجيًّا لقوات الدعم السريع. وفي ظل غياب الدولة، وانتشار الميليشيات، وتداخل المصالح القبلية، تفاقم الوضع بحلول خريف 2025م مما جعل المدينة على شفا انفجار، والمدنيين محاصَرين بين فكَّي الحرب.
ما يجري في الفاشر اليوم هو انهيار شامل للوضع الإنساني، فقد فرضت قوات الدعم السريع حصارًا خانقًا، أغلقت خلاله الطرق ومنعت دخول الغذاء والماء والدواء، مما أدى إلى تعطل المستشفيات ونفاد الوقود واختفاء السلع الأساسية. وتقدّر الأمم المتحدة أن عشرات الآلاف من المدنيين يواجهون خطر الموت جوعًا أو مرضًا، في إطار ما وصفته بأنه من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخ السودان الحديث. لكن المأساة لا تتوقف عند حدود الجوع، إذ وثقت تقارير حقوقية وإنسانية انتهاكات واسعة ومنهجية ضد المدنيين، شملت: إعدامات ميدانية، واغتصابات جماعية، ونهبًا شاملًا للممتلكات العامة والخاصة، إضافة إلى اقتحام قوات الدعم السريع المستشفيات وسرقة مُعَدّاتها، وتعرُّض الأطباء للتهديد والمنع من العمل. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فقد استولت قوات الدعم السريع على آخر مستشفى عامل في الفاشر، لتترك الجرحى والمرضى لمصيرهم. وقد ذكر الناجون روايات عن مجازر في مخيمات النزوح، وجثث تُترك في الشوارع، وأطفال يموتون جوعًا أو تحت القصف العشوائي.
وصف تقرير أممي المدينة بأنها «سجن موت في الهواء الطلق»، في تصوير دقيق لواقع خسر فيه الناس أبسط حقوقهم، وهي الحق في الحياة والكرامة. هذه الانتهاكات الموثقة ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كونها استهدفت المدنيين عمدًا وبأسلوب ممنهج، خارج أي منطق عسكري أو قانوني مشروع. ويرى محللون أن هذه الأفعال ليست مجرد حوادث معزولة، بل هي جزء من حملةٍ منسقةٍ للعنف الجماعي تهدف إلى إعادة تشكيل التركيبة السكانية للمدينة بالقوة. في الفاشر، أصبح العنف أسلوب حكم، والرعب أداة للسيطرة. ما يحدث لم يعُد حربًا، بل جريمة جماعية تُرتكب في وضح النهار وأمام مرأى ومسمع العالم.
أمام هذا الانهيار الإنساني، بدا المجتمع الدولي عاجزًا ومترددًا، واقتصر دور الأمم المتحدة في سبتمبر وأكتوبر 2025م على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات إنسانية، دون اتخاذ أي خطوات عملية. لم تُرسَل بعثات تحقيق، ولم تُفرَض عقوبات، ولم تُنشأ ممرات آمنة للمدنيين. تحولت الإدانات إلى طقس دبلوماسي فارغ، في الوقت الذي تُقصف فيه المدينة يوميًّا وتُمحى أحياؤها واحدًا تلو الآخر. هذا الصمت العالمي لا يمكن تبريره بالحياد، بل يمثل فشلًا أخلاقيًّا فادحًا في الوفاء بالالتزامات القانونية والإنسانية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف. الفاشر اليوم تمثل اختبارًا أخلاقيًّا للنظام الدولي: هل يسمح العالم بتكرار مآسي رواندا وسربرنيتسا في إفريقيا مجددًا، وبالإفلات من العقاب؟ لقد غدت دارفور مرآة قاسية تعكس ضميرًا عالميًّا متجمدًا أمام هذا البؤس الإنساني.
تداعيات معركة الفاشر تتجاوز حدود المدينة، فسقوطها أو اكتمال حصارها يعني انهيار سُلطة الدولة في دارفور، وتحويل الإقليم إلى فسيفساء من الكيانات المسلحة التي يحكمها السلاح لا القانون، مما سيفضي إلى فراغ أمني جديد، وتفكك إداري، وعودة النزاعات القبلية، وأزمة نزوح غير مسبوقة. اقتصاديًّا، ستتقطع طرق التجارة بين غرب السودان وبقية مناطقه، الأمر الذي يُفاقِم انهيار العملة الوطنية وارتفاع أسعار الغذاء والوقود. اجتماعيًّا، سيترك حجم العنف والانتهاكات ندوبًا عميقة في النسيج الاجتماعي، مما يجعل المصالحة وإعادة الإعمار مهمة شاقة تستلزم سنوات طويلة.
إنّ مأساة الفاشر ليست مجرد كارثة محلية، بل نذير يُهدد مستقبل السودان بأسره، فإنّ استمرار الانهيار الإنساني والسياسي في دارفور يهدد بتفكيك ما تبقّى من الدولة، وترسيخ واقع جديد من الفوضى والتفتُّت. الفاشر اليوم تختصر مأساة السودان كلها: مدينة أنهكتها الحروب وحاصرتها المجاعة، وتُركت لمصيرها وسط صمت العالم. ما يحدث هناك ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل انهيارٌ شامل للقيم الإنسانية والقانونية، وكشف لحقيقة حدود القوة وضمير العالم الصامت.
إنّ مسؤولية إنقاذ الفاشر، وبالتالي إنقاذ السودان، لا تقع على عاتق طرف واحد، بل هي تمثل واجبًا أخلاقيًّا وقانونيًّا مشتركًا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. لِتكُن البداية بوقف نزيف الدم، واستعادة الأمن، وإرساء العدالة والمساءلة أساسًا لأي تسويةٍ سياسيةٍ مقبلة، فلا سلام حقيقيًّا ولا استقرار دائمًا إلا بتحقيق العدالة للضحايا ووضع الإنسانية فوق المصالح السياسية. ورغم جراحها الغائرة، تبقى الفاشر نداءً مفتوحًا إلى ضمير العالم، بأن حماية الإنسان هي جوهر السياسة، وأن إعادة بناء السودان لا تبدأ إلا من صون حياة أبنائه.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد