مع وصول ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، تبين بوضوح أن الزيارة تتجاوز مجرد العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، على غِرار جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخليجية السابقة، التي أثمرت عن شراكات بمليارات الدولارات. وفي الواقع، تُشير نتائج زيارة ولي العهد إلى إعادة صِياغة كُبرى في مَسار العلاقات الإستراتيجية؛ إذ تمهد الرياض وواشنطن من خلالها الطريق لتشكيل المرحلة المقبلة من هذه الشراكة، بكل ما تحمله من انعكاسات محتملة ومهمة على المنطقة بأسرها.
لم يعد النفط وحده محور هذه العلاقة؛ فتماشيًا مع برامج الإصلاح الطموحة، تعمل المملكة العربية السعودية على ترسيخ موقعها كمركز رئيس في الاقتصاد التكنولوجي العالمي، حيث تستثمر مليارات الدولارات في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وتطوير قدرات أشباه الموصلات، وتعزيز الاقتصاد الرقمي. وفي هذا الإطار، أبرمت الدولتان «إطارًا إستراتيجيًا للتعاون»، بهدف تعزيز سلاسل التوريد لليورانيوم والمعادن الحيوية، مدعومًا باستثمارات مُتبادلة، ويأتي هذا ضمن أجندة أمريكية أوسع، لتقليل الاعتماد على الصين في ظِل الاضطرابات المستمرة في إمدادات العناصر الأرضية النادرة. كما أنهت الرياض وواشنطن مفاوضات طويلة بشأن اتفاق لتبادل التكنولوجيا النووية، مما يُمهد الطريق لإبرام اتفاق رسمي للتعاون في مجال الطاقة النووية المدنية.
ويؤسس الاتفاق النووي الجديد لشراكة طويلة الأمد، حيث تصبح الشركات الأمريكية الشريك المفضل لبرنامج السعودية النووي المدني، مستفيدةً من الاحتياطات الوفيرة للمملكة من اليورانيوم. وقد تتحول السعودية مستقبلًا إلى مورد رئيس للصناعة النووية الأمريكية، في ظل سعي واشنطن لبناء سلاسل توريد يورانيوم أكثر متانة. وسيُحال الاتفاق إلى الكونغرس للمراجعة وتقييم أبعاده الإستراتيجية والأمنية، وفقًا للبند 123. والجدير بالذكر، أن الطاقة النووية تُعد ركيزة استراتيجية بالنسبة للمملكة، ضمن سياق تنويع مصادر الطاقة، وتأمين إمدادات كهرباء مستقرة لعدد سُكاني مُتزايد، إضافةً إلى تحرير كميات أكبر من النفط للتصدير، بما يُعزز قوة الاقتصاد، ويدعم جهود التحلية، ويخدم أهداف المملكة المناخية.
وفي خطوة تعكس عُمق الشراكة، أبدت المملكة العربية السعودية استعدادها للاستثمار، بما يصل إلى تريليون دولار في الصناعات الأمريكية، بدءًا من المعادن الحيوية وصولًا إلى قطاعات الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي. وبالنسبة لإدارة ترامب، لا يمثّل هذا الإعلان مجرد إنجاز سياسي للاستهلاك المحلي، بل يُعد خطوة كبرى لتوسيع حضورها التكنولوجي الأمريكي في منطقة الخليج العربي، وترسيخ موقع الولايات المتحدة كشريك مفضل في هذا القطاع، الذي بات محوريًا في الاقتصاد العالمي.
على مدى العقد الماضي، تحوّلت «رؤية السعودية 2030» من مجرد إطار إصلاح داخلي إلى أداة جيوسياسية فعالة، منحت الرياض نفوذًا كبيرًا في المنطقة. يكتسب هذا التحول أهمية خاصة في سياق العلاقات السعودية-الأمريكية؛ إذ ترى واشنطن في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية ميدان التنافس الأكثر تأثيرًا بين القوى الكبرى. ويرى الجانبان أن التكنولوجيا تُمثل البُعد الجديد لتوطيد علاقتهما، وتُشكل حصانة إستراتيجية أمتن بكثير من معادلة «النفط مقابل الأمن» التي سادت لعقود. وفي حين تبقى الولايات المتحدة الشريك الطبيعي والأفضل للسعودية في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد، فقد وسّعت الرياض في السنوات الأخيرة شبكة علاقاتها الخارجية لتعزيز استقلاليتها الإستراتيجية.
وفي وقتٍ تشهد فيه المنطقة تحولات أمنية متسارعة، بقيت قضايا الدفاع والأمن على قمة أولويات هذه الزيارة، فقد هيمنت هذه الملفات على رأس جدول الأعمال، في ظل مشهد إقليمي شديد الاضطراب، حيث إن العمليات الإسرائيلية الأخيرة رفعت منسوب التوتر، ودَفعت دول المنطقة إلى إعادة صياغة مواقفها الدفاعية، وسط بيئة جيوسياسية شديدة التنافس. وفي هذا الإطار، جاء قرار واشنطن تصنيف المملكة العربية السعودية «حليفًا رئيسًا من خارج الناتو»، والموافقة على بيع مقاتلات F-35 من دون قيود تقنية، وإبرام اتفاقية دفاعية جديدة؛ ليؤكد عمق الروابط الأمنية المتواصلة بين البلدين. وسيشكّل حصول السعودية على مقاتلة من الجيل الخامس تحولًا نوعيًا؛ إذ ستصبح الدولة الوحيدة بعد إسرائيل التي تمتلك هذا المستوى من القدرات المتقدمة. ومن منظور الرياض، تُوفر هذه الطائرات أدوات ردع متقدمة في مواجهة التحديات الأمنية المتطورة. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن تمكين شركاء موثوقين في المنطقة يُعد أمرًا حيويًا لتعزيز نفوذها دون زيادة انخراطها العسكري المباشر، لاسيما في ظل توجهها المتنامي نحو تقليص وجودها الإقليمي.
وتولي الولايات المتحدة أهميةً كبرى لحلفائها الإقليميين لحماية مصالحها الإستراتيجية، لاسيما أنها تُعيد الآن رسم حضورها في الشرق الأوسط، مُعتمدةً على شركائها للحفاظ على الاستقرار. فرغم أن إيران تعيش الآن أضعف حالاتها، فإنها لا تزال تتمتع بنفوذٍ إقليميٍ واسع، ويتضح ذلك في ردود الجماعات الموالية لها في لبنان، حيث يواجه «حزب الله» ضغوطًا كبيرةً لنزع سلاحه، وفي العراق، حيث تنامت التجاذبات السياسية بعد الانتخابات. وقد أسهم اتفاق التهدئة السعودي-الإيراني عام 2023م في خفض التوترات، وشهدت العلاقات الثنائية تطورات لافتة منذ ذلك الحين. وقد أثارت رسالة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الأخيرة إلى الرياض اهتمامًا واسعًا، خصوصًا في ظل تصريحات ولي العهد والرئيس ترامب، حول احتمال تجديد الاتفاق النووي.
أعادت هذه المؤشرات فتح باب التكهنات حول دور سعودي مُحتمل في الدبلوماسية الإقليمية، على الرغم من غياب خطوات ملموسة في هذا المسعى ونفي المسؤولين الإيرانيين لوجود مثل هذه الاتصالات. ويعكس هذا النقاش اتساع النفوذ الدبلوماسي للمملكة وقدرتها على صياغة الأُطر التي قد يتحرك ضمنها أي انخراط أمريكي-إيراني مستقبلي. كما أن أي اتفاق نووي مُحتمل لن يتجاهل هواجس الحلفاء الإقليميين لواشنطن، ما يجعل موقف الرياض عاملًا موجهًا لمسار الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيران، والنقاش الأوسع حول دور طهران الإقليمي. هذا الثقل الدبلوماسي المتنامي يجعل من السعودية فاعلًا محوريًا في إدارة أزمات المنطقة، من اليمن إلى لبنان والعراق. وخلال هذه الزيارة، طلب ولي العهد من الرئيس ترامب اتخاذ خطوات حازمة لوقف انزلاق السودان نحو الانهيار، مؤكدًا ضرورة ضغط الولايات المتحدة لإنهاء هذه الحرب الأهلية.
وشهدت الزيارة مناقشة تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل، ولو بزخم أقل مقارنة بالمرات الماضية. وقد أوضحت المملكة العربية السعودية موقفها بلا لبس: «لا تطبيع من دون مسار واضح نحو إقامة دولة فلسطينية». وفي مناخ إقليمي مشحون بالغضب الشعبي تجاه السياسات الإسرائيلية، ومع حساسية سياسية مرتفعة في العالم العربي، من المستبعد أن تتراجع الرياض عن هذا الموقف الثابت.
ما يُميز هذه الزيارة عن سابقاتها هو الإدراك العميق للرياض لطبيعة السياسة الداخلية الأمريكية وانعكاساتها على السياسة الخارجية. فقد صاغت المملكة دبلوماسيتها بما يتوافق مع سياسة «الصفقة» أو ما تُسمى بـ «الدبلوماسية المعاملاتية» لدى إدارة ترامب، مدركةً أن المكاسب الاقتصادية الظاهرة (من تعهدات استثمارية واتفاقات تصنيع وشراكات تكنولوجية عالية القيمة) تحظى بثقل سياسي كبير في واشنطن. وبتعزيز علاقاتها مع السعودية وإعادة تأكيد متانة التحالف بينهما، تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على نفوذها في منطقة باتت تُنوّع شراكاتها مع قوى عالمية أخرى.
في المقابل، تطلب المملكة العربية السعودية التزامات بعيدة المدى، تشمل ضمانات أمنية، وتوسيع حصولها على التكنولوجيا، ودورًا محوريًا في الإستراتيجية الأمريكية بالمنطقة. كما تعكس المقاربة الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط، توجهًا نحو ممارسة نفوذ غير مباشر عبر تمكين شركاء مثل السعودية من إدارة بؤر عدم الاستقرار، انطلاقًا من إدراك مُتزايد بأن قوى الخليج لم تعد مُعتمدةً أمنيًا على غيرها، بل أصبحت فاعلًا رئيسًا في تشكيل النظام الإقليمي.
في المحصلة، تُمثل هذه الزيارة أكثر من مجرد إعادة ضبط للعلاقات؛ إنها تؤسس لعقد إستراتيجي جديد بين واشنطن والرياض. تُدرك السعودية أن السياسة الخارجية الأمريكية ستتغير مع كل دورة انتخابية، لذا فهي تبحث عن التزامات مؤسساتية مستقرة بدلًا من الاعتماد على إدارات قد تتبدل أولوياتها. وسيظل الشرق الأوسط منطقة محورية؛ نظرًا لدوره المركزي في الطاقة العالمية والربط الاقتصادي، ولأن أي أزمة فيه تتجاوز آثارها حدود الإقليم. وقد برزت السعودية قوةً قادرة على صياغة المشهد الإقليمي، والتأثير في الديناميات العالمية الأوسع. وفي هذا السياق، تؤكد الزيارة الأخيرة للأمير محمد بن سلمان حقيقة واضحة: أن السعودية والولايات المتحدة أصبحتا أكثر حاجة لبعضهما، ليس فقط لإدارة شؤون الشرق الأوسط، بل للتعامل مع ملامح النظام الدولي الآخذ في التشكُل.