كان الحشد الذي تَجمَّع أمام مقبرة كوروش في باسارغاد كبيرًا بالفعل، إذ تُظهِر الصُّوَر ومقاطع الفيديو أنّ آلاف الأشخاص وصلوا إلى هذا المكان ليشاركوا في حفل تكريم رسمي عنوانه “كوروش”، وأداء التحية لمؤسس الإمبراطورية الأخمينية. لو أُقيمَ تَجمُّع مقبرة كوروش في مكان آخَر من البلاد أو لأسباب أخرى لربما أثار الاهتمام بشكل أكبر، ولکن التجمُّع فی باسارغاد جرى تجاهُلُه ولم يحتلّ عناوين الصحف ووسائل الإعلام. ويُعَدّ عدم الاهتمام هذا مثيرًا للدهشة بالفعل، بالنظر إلى تجمُّعٍ عفْوِيٍ لعشرات آلاف الأشخاص، ونحن نعلم أن التجمُّعات غير الحكومية التي تُنَظَّم في إيران تكون محور اهتمامٍ بسرعة كبيرة.
تكشف دلالات رموز الشعارات التي رُفعَت وتصرُّفات المشاركين في التجمُّع أمام مقبرة كوروش عن عدة حقائق:
أولًا، كل المشاركين في التجمُّع يبحثون عن هُوِيّتهم الوطنية التي شُوّهت بشِدّة في الأعوام التي تلَت قيام الثورة. كان استبدال كلمة “الأمة الإسلامية” بدلًا من لفظ “الشعب”، أُولَى ثمرات انتصار “الجمهورية الإسلامية”، ويمثّل قطعًا إجباريًّا لصلة الإيرانيين بإرثهم التاريخي الوطني، ولكن الشباب الذين يشعرون حاليًّا بالإحباط واليأس من هذا النموذج الإسلامي، وجدوا ضالّتهم في العودة إلى الهُوِيَّة الوطنية التي تمثِّل لهم طريقًا للإنقاذ.
ثانيًا، نحن نعيش في عالم يسوده الخوف من الإسلام المتطرِّف، لذلك لا يثير الدهشة أن تعلن مجموعة من الإيرانيين نفسها منفصلة وبعيدة عن كلّ ما له صلة بالإسلام والثقافة العربية، وتعلن تبرُّأها من صورة الإسلام في العالَم.
ثالثًا، العودة إلى ما يشبه الهُوِيَّة الوطنية، وفي الوقت الذي تعني فيه هذه الهُوِيَّة الوطنية الإذعان للخرافات والأساطير، لكنها توفّر نوعًا من الأمن النفسي، بخاصة أن بعض الرموز التاريخية في إيران القديمة على غرار كوروش يُعرف في العالم على أنه شخصيات قيادية تتميز بالحكمة، ويختلف الانطباع الموجود عنه بشكل أساسي عن الانطباع الرائج عن الإسلام، الأمر الذي يتيح للإيرانيين أن يشعروا بالفخر والتباهي بشأن هُوِيَّتهم بدلًا من أن يخجلوا منها، ويشكّل بعضُ المعتقدات، التي تثير الجدل بشكل كبير على غرار العرق الآري، مِحوَرَ هذه العودة إلى الهُوِيَّة التاريخية، ليُرسَمَ بذلك الحَدُّ الفاصل بين الإيرانيين والعرب. حدٌّ أكثر وضوحًا بمرَّاتٍ من الاختلافات الثقافية واللُّغَويَّة.
يُعرف الإسلام اليوم لدى شريحة واسعة من الرأي العامّ العالمي متزامنًا مع الاغتيالات والعنف وجرائم “داعش”، هل يجعل سببٌ أكثرُ وضوحًا من هذا فئةً من الإيرانيين تلجأ إلى الهُوِيَّة الوطنية وتنكر انتماءها إلى الثقافة الإسلامية؟ شعار “العرب سبب جميع مصائبنا” الذي رُفع في تجمع باسارغاد، مصدره هذا التوجه المناهض المتزامن مع هذه الصورة العنيفة المقدَّمة عن الإسلام.
نواجه الآن ثنائية في الأقطاب، أحدهما مفهوم الهُوِيَّة الإسلامية، ويمتدّ إلى سوريا والعراق و”الدفاع عن الحرم” تحت اسم “أُمَّة واحدة”، وعلى الجهة الأخرى القوميون الذين أصحبت مقبرة كوروش قِبلَتهم، ولجؤوا إلى السجود أمام هذه المقبرة كأداة للتعبير عن أنفسهم وهُوِيَّتهم، ووصلت بهم الأمور إلى توقُّع الشفاء للمريض الذي يسكن بالقرب من هذه المقبرة، وبهذا تجاوزت النزعة القومية الفارسية التي بلغت هذا المستوى كونَها أداة للتعبير عن الهُوِيَّة، واتّخذت أبعادًا دينية وما ورائية.
الأغرب من ذلك، أن النظام الحاكم الذي لا يؤيّد هذه الرموز والشعارات التي تعبّر عن الهُوِيَّة القومية الفارسية، غير أنه تجاهل ذلك، فقد خلال السنوات الأخيرة على الأقل، في نُمُوّ النزعة القومية الفارسية المتطرفة بسبب خلافاته السياسية، وبات يروّج لفكرة معاداة العرب، لذلك بتنا نسمع ألحان موسيقى غير متناغمة لا يُسمع منها سوى صوت العنصرية. بالطبع لا يمكن اتّهام كلّ زائري مقبرة كوروش بالعنصرية، ولكن يجب سماع الأصوات المناهضة للعرب بين الحشود، وهذا ناقوس خطر بدأ يدقّ، وله صدى مثير للقلق.
مادة مترجمة عن موقع “زيتون”
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز