منذ بداية ترشُّح إسحاق جهانغيري، النائب الأول للرئيس الإيراني، لرئاسة الجمهورية، أعلن أنه دخل إلى ساحة المنافسات الانتخابية بوصفه مرشَّحًا بديلًا فقط لدعم الرئيس حسن روحاني، وكان واضحًا أنه سينسحب في النهاية، لكن مع انسحابه وانسحاب محمد باقر قاليبف من المنافسات الانتخابية، تحولت أجواء الانتخابات في إيران، شئنا أم أبينا، إلى أجواء القطبية الثنائية مع حضور اثنين من كبار المرشَّحين كل منهم يمثّل أحد الأقطاب.
في الحقيقة مع الوضع في الحسبان ظروف ترشُّح جهانغيري، فإن انسحابه لم يكُن مؤثِّرًا كثيرًا في المسيرة الانتخابية للرئيس روحاني، وفقط من الممكن أن يمنع تشتُّت أصوات الإصلاحيين المتشددين الذين كان من الممكن أن يصوِّتوا لجهانغيري لاستعراض القوة.
بعد انسحاب جهانغيري فإن قطاعًا ملحوظًا من الإصلاحيين المتشددين غير مستعدين أو مضطرّون إلى التصويت لصالح روحاني، أو سيستمرون في إرغام أنفسهم على الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
إذا تجولتم في مدينة طهران، بخاصة في الليل، فسترون بوضوح أن من منطقة “هفت تير” في شمال طهران يشكل مؤيدو الرئيس حسن روحاني فيها الأغلبية، ويدعون إليه بالسيارات الفارهة، ومن منطقة هفت تير باتجاه جنوب طهران يشكِّل مؤيدو المرشَّح إبراهيم رئيسي الأغلبية ويدعون إليه بسيارات متوسطة الحال أو باستخدام الدراجات النارية.
هذا المشهد من المكن يستحضر مشهدًا آخَر، وهو أنه لا يوجد فيهذه الأيام فقط نزاع بين قطبين سياسيين في المجتمع الإيراني، بل يوجد قطبان ثقافيان في المجتمع في حالة نزاع.
الجدل السياسي للتيَّارين الأساسيين للسلطة في إيران المعروفين في الوقت الراهن باسم “التيَّار الإصلاحي” و”التيَّار الأصولي”، يعود إلى بدايات الثورة الإيرانية حينما كان الإصلاحيون هم أنفسهم اليساريين والأصوليون هم اليمينيين، وربما لا يعرف كثيرون ممّن يدعمون الرئيس روحاني اليوم ويدعون إليه في الشوارع بسياراتهم الفارهة أن هؤلاء أنفسهم من كانوا يسعون للحياة البسيطة وإيجاد مجتمع اشتراكي، وأن أغلب الذين هجموا على السفارة الأمريكية في طهران وتسببوا في قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية هم أنفسهم اليساريون الذين أُطلِقَ عليهم بعد ذلك “الإصلاحيون”، وفي المقابل فالأصوليون كانوا طبقة التجار، ويمثلهم اليوم المرشَّح مصطفى مير سليم فقط بوصفه ممثل حزب المؤتلفة في الانتخابات، وكانوا يسعون إلى فضاء مفتوح وإقرار علاقة مع العالَم وإيجاد معاملات تجارية مع الخارج، وكان يقود هذا التيَّار المرشد الحالي لإيران علي خامنئي، والسياسي البارز والرئيس الأسبق لإيران الراحل هاشمي رفسنجاني.
الرئيس روحاني أيضًا كان ذات يوم جزءًا من الأصوليين، وحينما كان نائبًا في البرلمان كان عضو لجنة الأصوليين فيه. لكن على أي حال منذ ذلك الزمان حتى الآن دارت التفاحات السياسية عدة مرات وتَغيَّر اليوم فضاء المجتمع السياسي كاملًا. الشيء الوحيد المتبقي منذ بداية الثورة حتى الآن هو حرب السلطة بين التيَّارين الأساسيين في إيران.
في الانتخابات السابقة رأينا أن التيَّارين الأساسيَّين يدخل كل منهما المنافسات الانتخابية بعدة مرشَّحين، وكانوا ينتظرون ليروا في النهاية أي مرشَّح يستطيع أن يكسب أصواتًا أكثر، لكن الإصلاحيين خلال عدة انتخابات سابقة تَوَصَّلوا إلى أنهم يحتاجون للفوز إلى تركيز كل قوتهم خلف أحد المرشَّحين الكبار ليفوز في الانتخابات ولو لم يحقِّق هذا المرشَّح جميع رغباتهم ومطالبهم.
يبدو أن الأصوليين هذه المرة أيضًا تَوَصَّلوا إلى هذه النتيجة، بوضع جميع إمكانياتهم خلف أحد المرشَّحين الكبار ليصل إلى السلطة، وتُعتبر تجربة تشتُّت أصواتهم في الانتخابات السابقة درسًا معلِّمًا لهم.
على هذا النحو، نشاهد اليوم منافسة انتخابية محدودة في إيران بين اثنين من المرشَّحين الكبار، إبراهيم رئيسي وحسن روحاني، وعلى الرغم من الأرقام والإحصائيات المنشورة التي جزء كبير منها مصطنع من وجهة نظر الكاتب، فالمنافسة بين هذين المرشَّحين قريبة للغاية، والحرب على واحد أو اثنين في المئة من الأصوات ليس إلّا.
وَفْقًا لتصريحات وزير الداخلية الإيراني رحماني فضلي، فإنه يتوقع أن يشارك نحو 70-72% ممن لهم حق التصويت في الانتخابات، وأتوقّع زيادة هذه النسبة المئوية بسبب تزامن هذه الانتخابات مع انتخابات مجالس البلديات.
وطبقًا لهذه الإحصائيات والأرقام التي كان أقربها إلى الواقع يشير إلى أن روحاني لديه ما بين 30% و35% من الأصوات، وقاليباف ما يقرب من 28-30%، ورئيسي ما يقرب من 26-28%، فيجب الالتفات بالطبع إلى أن كثيرًا من هذه الاستطلاعات لم يحدّد حدوده الجغرافية، وليس له مجتمع إحصائي محدَّد، وغالبيتها تم في نطاق مدينة طهران والمدن الكبرى، الأماكن التي يشكِّل فيها أنصار روحاني وقاليباف الغالبية، في الوقت الذي يتركز فيه القطاع الأعظم من أنصار رئيسي في المراكز، في حين يشكِّل أكثر من نصف المجتمع الإحصائي أصواتًا رمادية.
ولكن حتى إذا فضّلنا نفس هذه الإحصائيات والأرقام، فمع تحالف قاليباف ورئيسي يجب أن يتجه أكثر من 50% من الأصوات إلى رئيسي، لكن يجب الالتفات إلى أن غالبية الأصوات الموالية لقاليباف تأتي من الأصوات الرمادية التي ليس معلومًا هل ستصوّت لرئيسي أم لا.
القضية التي من الممكن الاطمئنان إليها هي أن مجتمع الإحصائيات هذا يشير إلى أن ما يقرب من 35-40% كانوا موالين لاستمرار حكومة روحاني، وما يقرب من 60-65% معارضين لاستمرارها، وكل هذه الإحصائيات والأرقام تنتهي إلى نفس الـ70% الذين من المقرَّر أن يُدلُوا بأصواتهم، أي إن 30% من المصوّتين الذين من المقرَّر أن لا يدلوا بأصواتهم، والذين من الممكن أن يحسموا الانتخابات، ليس معلومًا ماذا سيفعلون.
تركَّزَت جهود روحاني كافَّةً خلال الأسبوعين الأخيرين على تلك الـ30%، لأنه يعرف أن تمركزه على الطبقة التي تعارض استمرار حكومته غير مثمر، لأنهم سيصوتون إما لصالح رئيسي، وإما لأحد المرشَّحين الآخرين الذين من الممكن أن يظلوا في سباق الانتخابات، وإما سيُلقُون في صناديق الاقتراع ورقة بيضاء كما شاهدنا في انتخابات 2013 حينما صوّت كثير من الموالين لأحمدي نجاد بورقة بيضاء اعتراضًا على عدم تأييد أهلية إسفنديار رحيم مشائي، أو صوّتوا لصالح محمد غرضي.
وفي ظلّ هذه الأوضاع، إذا تمكن روحاني من اجتذاب جزء من الـ30% الباقية تجاهه، وفي المقابل إذا لم يكُن جزء من الأصوات الرمادية التي كان من المقرَّر أن تصوّت لصالح قاليباف مستعدًّا للتصويت لصالح رئيسي، فمن الممكن القول عمليًّا إن المرشَّحين سيتنافسان كتفًا بكتف، وسيتعلق كل شيء على اللحظة الأخيرة.
المصدر: وكالة “سبوتنيك” الروسية بالفارسي
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز