حصل مجمع تشخيص مصلحة النِّظام بعد خمسة أشهُر على رئيس جديد، وجلس هاشمي شاهرودي على كرسي رئاسته بدلًا من هاشمي رفسنجاني، لكن الفرق بين هاشمي هذا وهاشمي ذاك كالفرق بين الأرض والسماء، فهاشمي شاهرودي المزدوج الجنسية والمولود في كربلاء هو “نَزيلُ” السياسة الإيرانيَّة، قَدِم إلى إيران بعد الثورة، وأصبح رئيس المجلس الأعلى للثورة في العراق، وبدأ نضاله ضدّ صدام من طهران، وأصبح رئيسًا للسُّلْطة القضائيَّة لدورتين، وهو من الكائنات القليلة التي وصلت إلى مناصب في كلتا الجنسيتين.
لم يترك هاشمي شاهرودي تصريحًا جديرًا بالذكر سوى أنه قال عندما ورِثَ السُّلْطة القضائيَّة عن محمد يزدي، إن السُّلْطة القضائيَّة “خرابة” لا غير، وقيل إنه كان ينوي عزل سعيد مرتضوي في أوائل حضوره في هذا المنصب، لكنّ مرتضوي كان على علاقة وثيقة ببيت القائد، في حين أنّ جميع ما يملكه شاهرودي هو من النِّظام الإيرانيّ، وسرعان ما تَحوَّل إلى بومة عمياء في هذه السُّلْطة، إلى أن أزف وقت رحيله، فرحل ولا يزال مرتضوي مكانه.
ومرة أخرى أصبح هاشمي بقرار من خامنئي رئيسًا لهيئة حلّ النزاعات بين السلطات الثلاث، وبالطبع لم يكُن أحد يأبه لما يقول، فعندما يكون رئيس الجمهورية هو أحمدي نجاد، فلن يصغي أحد لشاهرودي، والآن وفي مثل هذا العمر والوضع الصحي والمرض والضعف، يبدو أن خامنئي عطف على شاهرودي، ووهب له رئاسة مجمع تشخيص مصلحة النِّظام، والجميع راضون، فهاشمي شاهرودي لن يفعل شيئًا ولن يَحُول دون فعل شيء، وهذه العطالة تُسمَّى في النِّظام الإيرانيّ “الاعتدال”.
إن مجمع تشخيص مصلحة النِّظام الذي ارتبط اسمه باسم هاشمي رفسنجاني، هو إحدى المؤسَّسات العجيبة في السياسة الإيرانيَّة، وهو مؤشّر على مأزق تعيشه الحكومة الفقهية، ففقهاء مجلس صيانة الدستور كانوا منذ البداية ممثلين عن الطبقة التقليدية في الحوزة، وليس لديهم معرفة بالعالَم المعاصر ولا هم متنوّرون في فهم الدين، بل كانوا مجرد آلة لنقل الروايات والأحاديث مع تعصب جاهلي، ويكفي أن نستدل هنا بأن شيخ أبو القاسم الخزعلي كان يحفظ نهج البلاغة، لكنه لم يكُن يؤمن أبدًا بحقوق الناس وحقهم في تحديد المصير، وفضلًا عن هذا التخدير العقلي في مجلس صيانة الدستور، فإن هؤلاء السّادة لم يكونوا يدركون مصالح النِّظام والسُّلْطة، مما أدَّى إلى نشوب الشّجار المعروف بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور في أواسط ثمانينيات القرن الماضي حول قانون العمل، وتسبب توسُّع النّزاع بين الفقهاء المدافعين عن قضية الدّين والبرلمان المدافع عن القانون إلى أن استخدم مجلس صيانة الدستور حقّ “النّقض” الذي منحه إياه الدستور، ووضع التّشريع في مأزق.
ومن حيث أن الأمور في إيران تجري وفق معادلة “حكمة أقلّ وقوة أكثر”، جرى تأسيس مجمع تشخيص مصلحة النِّظام، ونشأ بعد التعديل الدستوري في عام 1989، وافتتح مكاتبه، عسى أن يعالج عقل فقهاء مجلس صيانة الدستور الناقص.
إن مهمَّة المجمع الأساسية هي الوساطة بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، كما أنّ ظاهر وطريقة اختيار أعضاء هذا المجمع أشبه بمجالس السيناتورات في الأنظمة الملكية، حيث يختار الملك، وفي إيران ولي الفقيه، مجموعة من الأشخاص طبق رغباتهم. بالطبع لا يتدخّل ولي الفقيه في تعيين بعض الأعضاء الاعتباريين مثل رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، ولو تأملنا قليلًا لرأينا أن هذا المجمع المعيّن من قِبل ولي الفقيه ما هو إلا صورة عن تلك الحكومة “الإسلامية” التي لا مكان فيها لأصوات الناس، والتي مصيرها هو مجلس للعجزة الجالسين حول المرشد يترأسه رئيس للوزراء لا يملك سوى صلاحيات رئيس مكتب المرشد، بالطبع لم نصل إلى هذه المرحلة بعد.
مع مرور الزمان وشيخوخة وعجز سياسيي “الجمهورية الإسلامية”، تحول مجمع تشخيص مصلحة النِّظام إلى مقرّ للمتقاعدين من السياسة والذين لا يزال المرشد يثق بهم، وقد قاوم رفسنجاني كثيرًا من أجل البقاء على آخر كرسيّ للسُّلْطة هو كرسي رئاسة هذا المجمع، وقد احتفظ بهذا الكرسي، على الرغم من سقوطه من مقامات أخرى، لأن هذا المجمع هو بوَّابة الخروج من النِّظام، أما المرشد فقد احتفظ بصديقه القديم في هذا المنصب الذي لا قيمة له، بسبب الموانع التي كانت تواجهه، ولم يتمكن بسببها من اجتثاث رفسنجاني من جذوره.
لقد كان مجمع تشخيص مصلحة النِّظام يضجّ في عهد رفسنجاني بالأشخاص الذين كانوا جميعًا في يوم من الأيام تحت عباءته، وكان يشبه ذكرى باهتة للزمن الذي كان فيه رفسنجاني يملك سلطانًا، وقد كان هاشمي يسعى لتحويل هذا المجمع إلى “غرفة تفكير” للنظام، حيث يجري إعداد وتدوين استراتيجيات وسياسات النِّظام العامَّة، وبعد ذلك تُبلّغ إلى المسؤولين الأدنى درجة ومنهم رئيس الجمهورية.
طبق الدستور، الذي يُعتبر أعجوبة من حيث التناقض، يجب على المرشد أن يستشير المجمع بخصوص تحديد سياسات النِّظام، لكن هذه الاستشارة ليست إلا مجاملة، فهي ليست ملزمة بحيث يحدث ما يحدث في حال لم يستشر المرشد، وفي نفس الوقت لا يمكن سماع سوى أصوات التمجيد والتحميد من هذا المجلس الذي صنعه المرشد بيديه، لكن ما الذي يمكن فعله؟ فما كان يُبقِي رفسنجاني على قيد الحياة هو هذه الأمنية والحُلم، أما مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للمجمع فهو على الرغم من تدخُّل بعض المخالفين فيه، وتقديمهم دراسات مفصَّلة حول السياسة الخارجية والداخلية للنظام، والنتائج الغريبة التي كان يتوصل إليها بعض هذه الدراسات، فإنه كان إنجاز هاشمي في أثناء عزلته في المجمع، ومن المؤكّد أن إرث هاشمي هذا أيضًا سيُزال مع الرئاسة الجديدة والتركيبة الجديدة للمجمع.
لقد تَمَكَّن المرشد بعد موت رفسنجاني المشكوك في بركة السباحة، من مدّ يده ومصادرة جميع ممتلكات رفسنجاني الحكومية، وكانت الأولوية في هذا المجال لـ”الجامعة الحرَّة”، فلم يمضِ على وفاة رفسنجاني أربعون يومًا وإذا بمجلس الأمناء قد تَغيَّر فيها، والنهاية كانت فرض فرهاد رهبر رئيسًا له، علامة على انتصار بيت القائد، أما في مجمع تشخيص مصلحة النِّظام فلم يكُن للاستعجال أي داع، فلا أعمال هنا ستتعطّل، ولا أحد يملك الجرأة فيه لمخالفة رأي ولي الفقيه، فقد خلت هذه الساحة الخلفية للنظام منذ مدة طويلة من الرّجال.
والآن يمكن القول إن المجمع أصبح له مهمَّة أخرى، وإن تركيبته تشير إلى ذائقة وليّ الفقيه وأسلوبه، فهو يسعى لإحضار كل الذين يُهزمون في الانتخابات ومن يفقدون شعبيتهم إلى هذه “الديوانية”، وقد دعا إليه اليوم المرشَّحين الأصوليين المهزومين الثلاثة الذين قوبلوا بـ”لا” حاسمة من الناس، أي إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قاليباف ومير سليم.
ومن الإنصاف القول إن هاشمي طبا، المرشَّح الآخر المقرب من الإصلاحيين، لو كان ينفع في شيء لكان ذاك الشيء هو تقديم الاستشارة والعمل في هذا المجمع، ويبدو أن كفاءته في هذا المجال كانت السبب في رفض خامنئي تعيينه، أما الزمرة التي يرى خامنئي أنها قريبة من فكره فهم يبعدون كثيرًا عن المجتمع الإيرانيّ، حتى الإصلاحيَّيْن اللَّذَيْن عيّنهما خامنئي في المجمع، عارف ومجيد أنصاري، فهم من أهل التماهي مع الآخر.
جدير بالاهتمام أن حسن روحاني الحائز على 24 مليون صوت، هو عضو اعتباري في المجمع، وبعد أربع سنوات ستنتهي عضويته فيه بشكل تلقائي، في حين أن أحمد جنتي عضو اعتباري وحقيقي في نفس الوقت، كأن خامنئي يخاف أن لا يوجَد هذا التمثال الحجري حتى للحظة واحدة وفي أي مجلس.
يمكن لأعضاء مجمع تشخيص مصلحة النِّظام الذين حَظُوا بعناية خامنئي أن يطمئنوا إلى أن لديهم حصانة ضدّ أي ملاحقة قانونية أو محاكمة، فقاليباف الآن مطمئنّ أنه لن يُعاقَب على السنوات الـ12 التي امتلأت بالفساد خلال رئاسته لبلدية طهران، والسبب هو الثقة التي وضعها فيه خامنئي بتعيينه عضوًا في المجمع، حتى إن بإمكان أحمدي نجاد أن يبتسم ابتسامة ساخرة، لأنه سيبقى -على الرّغم من تمرُّده- عالة على النِّظام حتى إشعار آخر، وسيبقى من خدّامه كما تقتضي مصلحة النِّظام وخامنئي، التي يمكن مشاهدتها في تشكيلة المجمع، لكن ما لا يمكن مشاهدته هنا هو مصلحة إيران والإيرانيّين.
مادة مترجمة عن موقع زيتون
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز