الآخر في فلسفة الولي الفقيه.. قمع المرجعية وتأميم المذهب
في دولة يكون فيها الفقيهُ على رأس السُّلْطة وقمة الهرم السياسيّ، من الطبيعي أنْ تُثار أسئلة عن موقع وموضع الفقهاء الآخرين في السُّلْطة، وكيف ينظر النِّظام السياسيّ إلى اجتهاداتهم الفقهية بوصفهم فقهاء ومجتهدين، وماذا لو خالفَت اجتهاداتهم اجتهادَ الوليّ الفقيه الذي يمسك بزمام السُّلْطة؟
إنّ الطبيعة القيادية والكاريزمية والنفسية لشخص الخمينيّ جعلته يتعقب المعارضين له ولقراءته الفقهية -البشرية- ولم يؤمن بمبدأ التفاوض والحلول الوسطى. وكان المعارضون للخمينيّ من داخل المرجعية -وهم الأكثرية وقتئذ- يرون الحفاظ على استقلال المرجعية الدينيَّة، لكن الخمينيّ رأى انصهار وتذويب المرجعية في نظام ولاية الفقيه، بحيث تصير المرجعية أداة من أدوات النِّظام السياسيّ[1]، وبحيث تفقد الحوزة استقلالها عن النِّظام الذي كان مكفولا لها تاريخيًّا حتى في ظلّ الحكم الشاهنشاهي. وحسب أحد أكبر المقربين للخميني في ذلك الوقت فإنه كان لا يقبل الرأي الآخر ولا المناقشة[2]، ومن ثمّ أثّر مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي على خريطة المرجعية وموقفه من المراجع المعارضين والمخالفين له في القراءة الفقهية.
في هذه الورقة نرصد موقف النِّظام الإيراني ما بعد الثورة، من المراجع المخالفين لفلسفته وقراءته وسياسته وبرامجه، كيف تعامل معهم النِّظام بصفته نظامًا دينيًّا وبصفتهم رجال دين، وهل نجح النِّظام في ترسيخ العناصر الأخلاقية في أحشاء النِّظام السياسيّ، أم قُدّم أهل الثقة على أهل الكفاءة[3].
من ثمّ يمكن في النهاية الخروج بنتائج وإجابات عن ماهية السؤال الأخلاقي في الدولة الإيرانيَّة، وهل هي بالفعل دولة دينيَّة تتحاكم إلى الفلسفة الأخلاقية في المذهب الشيعي والدين الإسلامي، وهل يمكن ديمومة الدولة وبقاؤها مع تناحر المرجعيات وإقصاء قطاع عريض من رجال الدين الفاعلين في الداخل الإيراني ممن لهم مقبولية جماهيرية وقطاعات شعبية واسعة. لذا تُعَدّ هذه الورقة مفتاحًا مهمًّا لفهم الخارطة الدينيَّة والحوزوية في إيران، وطبيعة عَلاقة رجال الدين بمؤسَّسة الوليّ الفقيه، مِمَّا يُسهِم في معرفة وإدراك الظواهر السياسيَّة في إيران وتأسيسيات الحكم وصناعة القرار هناك، وموقع المرشد الأعلى في الخارطة الفقهية والعلمية، وكيف غاب مبدأ الأعلميَّة [أعلميه الفقيه] ليحلّ محله مبدأ السُّلْطة النافذة، وسياسة الأمر الواقع.
***
التعامل مع مراجع قم
قبل الثورة الإيرانيَّة لم يكُن الخمينيّ الأول في التراتُبية الهرمية للحوزة الشيعية [في قم والنجف]، بل كان يأتي في مرحلة تالية في قم بعد آية الله كلبايكاني وآية الله شريعتمداري وآية الله مرعشي نجفي، وبالنسبة إلى الشيعة عمومًا كان السيد محسن الحكيم في النجف هو المرجعية العُلْيَا المتصدرة، يليه الثلاثةُ المذكورون آنفًا، ثم يأتي الخمينيّ رجلَ دين عاديًّا من مئات رجال الدين داخل الحوزة[4]، واشتهر بكونه قائدًا سياسيًّا أكثر منه فقيهًا دينيًّا[5]، فكثير من الناس اتبعوه سياسيًّا، لكنهم لم يقلّدوه فقهيًّا، فكانت مدينة أصفهان -على سبيل المثال- من أشدّ المدن تأييدًا للثورة، لكن أهلها كانوا في مجملهم مقلّدين لمرجعية الخوئي في النجف[6]. وحتى اليوم فإنّ أكثر الشعب الإيراني يُقلّد مرجعية السيستاني في العراق[7]، مِمَّا يدلّ على أن الشعب يفرِّق بين الزعيم السياسيّ والزعيم الدينيّ. وإدراك تلك التراتُبية مهم جدًّا لمعرفة مدى التحوُّل الذي طرأ على الميراث الحوزوي الشيعي، والدرس الفقهي المستقرّ، وسلاسل الأسانيد والمراجع المعتمَدين.
وقد أنهى الخمينيّ ثنائية “الفقيه والسلطان” المتوارَثة منذ عهد الكركي، وصارت الصيغة الجديدة “الفقيه السلطان والسلطان الفقيه”، بما يعني أنّ الدين دخل في أحشاء السُّلْطة، فلا وجه لمعارضة رجل الدين للسُّلْطة السياسيَّة على الوجه الذي كان معروفًا في عهد الشاه لأنها صارت متحدثة باسم الإمام الغائب أيضًا، بل إنّ رأي السُّلْطة صار مُلزِمًا -في القراءة الخُمينيَّة- لغيرها من الفقهاء. لكن قبل الخمينيّ كانت السُّلْطة لا تزعم الولاية المطلقة والنيابة عن الإمام الغائب، فكان رأيها غير مُلزِم للفقهاء، بل كان الفقهاء يعتبرون أنفسهم قيِّمين على الشاه، فتَحوَّل الأمر في عهد الخمينيّ لأنه من داخل الحوزة لا من خارجها، بالإضافة إلى استيفائه شروط الاجتهاد والأعلميَّة. فلم يكُن هناك سوى سيناريوهين: الأول أن يتمسَّك رجال الدين الآخرون باختياراتهم الفقهية والاجتهادية ويعلنوا معارضتهم للقراءة الخُمينيَّة، والثاني أن يتماهوا مع القراءة الخُمينيَّة، وهو الإشكال الذي واجهته المؤسَّسة الدينيَّة.
بعد نجاح الثورة التي شارك فيها كلُّ مراجع قم، وعلى رأسهم الثلاثة الكبار [كلبايكاني وشريعتمداري ومرعشي نجفي]، كان من المفترض أن تكون لهم الكلمة العُلْيا في الشأن الفقهي السياسيّ، باعتبار الأعلميَّة والتراتُبية المعروفة في العرف الحوزوي والفقه الشيعي، لكن الذي حصل أنّ الخمينيّ بدأ يتخلص من نفوذهم واحدًا تلو آخَر، فسارع الخميني إلى القضاء على مراكز القوى داخل المرجعية الدينيَّة في قم، ممن يُتوقع أن يتسببوا في قلاقل تُهدِّد طموحه الشخصي ومشروعه السياسيّ. جدير بالذِّكر أن حكومة الشاه نفسه -بل الدولتين القاجارية والبهلوية بتاريخهما الطويل والراسخ في حكم الدولة الإيرانيَّة- لم تلجأ قَطّ إلى إعدام رجال الدين أو تضييق الخناق عليهم بالصورة التي فعلها الخميني، بل إنّ القوانينَ الإيرانيَّة آنذاك كانت تُعطِي حصانة لمراجع التقليد ولا تسمح بمحاكمتهم وإعدامهم[8].
إن الفقهاء الذين رجَّحوا السيناريو الأول -وهو محاولة الحفاظ على المسافة الفاصلة بين الحوزة والنِّظام، باعتبار نظام ما بعد الثورة نظامًا سياسيًّا بالدرجة الأولى ولو كان على رأسه فقيه مجتهد، فهو بحاجة إلى كوابح خارجية تتمثل في الحوزة العلمية المستقلة- كانت لديهم مبرِّراتهم القوية لهذا الطرح، أهَمُّها الموروث العملي والتطبيقي للحوزة العلمية تجاه الأنظمة السياسيَّة، في حين أنّ النِّظام الجديد ارتأى أنّ عصر استقلال الحوزة عن النِّظام السياسيّ ووجود مسافات فاصلة بين النِّظام والحوزة قد انتهى، إمَّا لأنّ النِّظام الجديد رأى أنه ممثِّل للحوزة وخارج من أحشائها، وإمَّا لأنه أدرك خطورة وجود المسافة الفاصلة بين الحوزة والنِّظام مستفيدًا مِمَّا حصل مع الشاه، وإمَّا لأنّ النِّظام رأى الحوزة أداة سلبية “تقليدية كلاسيكية” وأنها لم تبذل الجهد الكافي لإزاحة نظام الشاه في حين أن العبء الأكبر كان على الفقهاء الحركيين، لكن يُقلِّل من صِحَّة هذا الاحتمال أنّ الإقصاء لم يشمل الفقهاء التقليديين فقط، بل أيضًا الحركيين المعارضين للقراءة الفقهية والفلسفية للنظام [القراءة الخُمينيَّة]. فنحن إذًا أمام قناعتين مختلفتين بالكلية، مِمَّا يعني حتمية الصِّدام المباشر، فاستخدم الخمينيّ أدوات السُّلْطة والدستور والمؤسَّسات ليحسم المعركة، في حين تَجرَّد الآخرون من وسائل السُّلْطة ولو كانت قواعدهم الشعبية [المقلّدون] أكبر وأكثر انتشارًا في ذلك الوقت، مِمَّا أدَّى إلى خسارتهم المعركة حول القراءة الفقهية لولاية الفقيه أولًا، وخسارة تَمسُّكهم بالعرف الحوزوي المستقر تاريخيًّا ثانيًا. وسنتناول ذلك بالتفصيل في النقاط التالية:
1- آية الله شريعتمداري
تتلمذ آية الله محمد كاظم شريعتمداري [1905-1986م] على يد عبد الكريم الحائري والنائيني وأبو الحسن الأصفهاني وغيرهم، وبعد رحيل البروجردي تَصدَّر آية الله شريعتمداري في قم، وتَصدَّر آية الله محسن الحكيم في النجف، ثم تَفرَّد شريعتمداري بالتصدُّر في العالَم بعد وفاة محسن الحكيم. يقول آية الله مهدي الحائري اليزدي في مذكراته: “كان شريعتمداري في عداد زعماء المرجعية الشيعية، وكان في عداد الحكيم، وبعد الحكيم يمكن القول إن شريعتمداري كان الأول، وإن مقلّديه كانوا أكثر من مقلّدي سائر المراجع”[9].
وتَفرَّد شريعتمداري بالمرجعية الشيعية من حيث عد الأتباع والمقلّدين ودافعي الخُمْس، ومن حيث التلاميذ الكبار، وكان من مشاهير تلامذته السيد موسى الصدر “المفقود”، وأخوه رضا الصدر الذي وصَّى شريعتمداري بأن يصلِّي عليه بعد موته، لكن السلطات لم تنفذ الوصية، واعتقلت رضا الصدر.
ومما يدلّ على موقع ونفوذ آية الله مداري في الحوزة في ذلك الوقت أن بعض قادة حزب الدعوة المقيمين في إيران في عهد الشاه، كانوا يتعاونون مع مرجعية كاظم شريعتمداري، لا سيما الشيخ علي التسخيري، والشيخ سعيد النعماني، والشيخ قاسم الحائري، ومحمد هادي الغروي، وغيرهم. وكانوا يصدرون مجلة الهادي باللغة العربية التي تمثل مرجعية شريعتمداري وتروّج لنشاطاته[10].
إذًا كان آية الله محمد كاظم شريعتمداري الأستاذ الأول في حوزة قم قُبيل قيام الثورة الإيرانيَّة، وكان من رفاق الخمينيّ، وأسهم في خروج الخميني من المعتقل في عهد الشاه وإلغاء الحكم عليه بالإعدام، ذلك أن المراجع [آيات الله] كان القانون الإيراني في عهد الشاه يمنع إعدامهم، فمنح شريعتمداري الخمينيّ لقب آية الله، لإنقاذه من حكم الإعدام[11].
موقفه من ولاية الفقيه ومركزية الأمَّة
كان آية الله شريعتمداري معارضًا لنظرية ولاية الفقيه بقراءتها الخُمينيَّة، وكان يؤمن بالدولة الدستورية البرلمانية تبعًا لأستاذه النائيني، وكان قائدًا حقيقيًّا للثورة ومتحدثًا باسم المعارضة، وقد بايعه كريم سنجابي [وهو قائد الجبهة الوطنية] مِمَّا جعل المعارضة تحت زعامة آية الله شريعتمداري[12].
وكان آية الله شريعتمداري أول من جهر بمعارضته لولاية الفقيه، وقال إنه يؤيد ولاية الفقهاء من خلال لجنة إشراف على القوانين، وكان هذا هو التيَّار السائد في الحوزة، وقد عبَّر عنه شريعتمداري بكلّ جرأة، وتَملَّكه القلق من تغيير المسار الفقهي والإرث الاستنباطي للحوزة[13]. وأجرى شريعتمداري حوارًا مع صحيفة “كيهان” اقترح فيه ابتعاد الفقهاء عن المناصب السياسيَّة والحكومية، وأن يكتفوا بالدور الإشرافي والتوجيهي، حتى تستمر هيبتهم عند الناس[14]. ومن أقواله: “إنّ حكومة الشعب هي السُّلْطة التي يُقِرّ بها الإسلام، والديكتاتورية تعيد البلد إلى عهد النِّظام الطاغوتي السابق. وإنّ أصل المادة 110 في الدستور -أصل ولاية الفقيه- يسلب الناس صلاحيتهم واختياراتهم ويناقض الأصول التي تعطي للناس حقّ الانتخاب، لذلك لا بد من إصلاحه ورفع هذا الإشكال”[15].
وطالب شريعتمداري بالعودة إلى دستور 1906م، الذي لا يعطي الفقهاء إلا دور الإشراف على عمل مجلس الشُّورَى[16]، الذي انبثق عن الحركة الدستورية، ومُنظّرها الميرزا النائيني، مِمَّا يؤكّد انتماء شريعتمداري إلى خطّ النائينيّ الفقهي والإصلاحي السياسيّ، الذي يؤمن بحق الأمَّة في اختيار وانتخاب الحاكم دون فرض وصاية دينيَّة أو فقهية على الناس.
التخلُّص من نفوذه
كانت شعبية آية الله شريعتمداري في قم -بوصفه المرجع الأكثر أتباعًا وقتئذ وانفتاحه على كلّ الأطياف والمذاهب[17]- عائقًا أمام الطموح الشخصي للخمينيّ، مِمَّا جعله يسعى للتخلُّص منه لأوهى الأسباب، فالخلاف “وإن كان فقهيًّا إلا أن العنصر الشخصي ليس غائبًا تمامًا عن الموقف”[18].
ففي سنة 1982م اعتُقل صادق قطب زادة بتهمة التخطيط للانقلاب على الخمينيّ واغتياله، واعترف بأنّ آية الله شريعتمداري متورّط معه في التخطيط للانقلاب، فاعتُقل شريعتمداري، وأُظهِر حاسر الرأس في وسائل الإعلام، ووُضع تحت الإقامة الجبرية، وأُنهِيَت كل علائقه بالحوزة والدرس الفقهي، وأحرقوا مكتبته الضخمة التي جمعها في سنوات عديدة، مِمَّا يُعَدّ استهانة بالعلم والفقهاء. ثمّ مرض وهو في طور الإقامة الجبرية، ولما توُفّي دفنته الأجهزة الأمنية ليلًا في مقبرة مهجورة بجانب المراحيض، ومنعت تلامذته ورفاقه من حضور جنازته[19]. لذا كان مؤيدو الخميني يسمُّونه استهزاءً وسخريةً “آية الله شريعة مجاري”[20]!
ثمّ اندثرت كتبه وعلومه ورسالته في الوسط الحوزوي بعد تأميم الحوزة لصالح النِّظام الجديد، وصار يُتعامل معه تاريخيًّا على أنه متمرد على نظام ولاية الفقيه، ولا يستحقّ أيّ لقب، وجُرّد من أعلميته الفقهية.
2- آية الله حسين منتظري
آية الله حسين علي منتظري [1922-2009م] رجل دين، ومُنظّر من مُنظّري الثورة، ونائب الخمينيّ الذي كان مرشَّحًا لخلافته. وكان زاهدًا في المنصب السياسيّ، ومتقشفًا في معيشته الخاصَّة، واستمرّ في الدرس الحوزوي في قم، وكان يَلقَى احترامًا من العلماء والفقهاء كافَّةً، وإن اعترض البعضُ على ترشيحه سنة 1985م خليفةً للخمينيّ، لوجود الفقهاء الكبار والمرجعيات العتيقة في قم. وكان من تلامذة الخميني، ووصفه الخمينيّ بـ”ثمرة حياتي”، وتَوَلَّى إمامة الجمعة في طهران بعد الثورة. ومرّ آية الله منتظري بتحوُّلات فقهية وفكرية وتطبيقية كبيرة في حياته، فبدأ حياته ثانيَ رجلٍ في النِّظام الإيراني بعد الخمينيّ، وكان من صقور المحافظين في البداية، فدعا إلى إعدام المعارضين لإقالة الرئيس بني صدر وعدم التهاون أو الرأفة معهم[21]. وأُعدِمَ أكثر من 1600 شخص في الفترة التي تلت إقالة بني صدر[22]، وأغلق حسين منتظري نفسه صحف حزب “توده” اليساري، وأنذر الموظفين المعارضين بالفصل من الوظائف الحكومية[23]. وكان من أركان نظرية تصدير الثورة الإيرانيَّة، ويتابع سير عمل معسكرات التدريب في إيران المخوَّل إليها تصدير الثورة[24]. لكنه في المرحلة التالية من حياته تَحوَّل إلى معارض شرس لولاية الفقيه بتطبيقها الخمينيّ، ليعود فينتصر لحقوق الإنسان، ويعتذر عن جرائم عهد الخمينيّ[25].
من الناحية التنظيرية كان آية الله حسين منتظري مُنظِّرًا لولاية الفقيه لكنه في الوقت نفسه يعترف بالحكم الدستوري ودور الأُمَّة في صناعة القرار وتقرير المصير، فيقول: “إنّ الهدف من نظرية ولاية الفقيه هو تنفيذ القوانين والأحكام الإسلامية وإدارة المجتمع على أسس الموازين الإسلامية، إما عن طريق تصدي الفقيه لذلك، أو بتأييده وإشرافه على السُّلْطة التنفيذية المنتخبة من قبل الشعب”[26]، فهو -وإن كان في بدايته من حاشية الخمينيّ المقربين، بل كان نائبه الشخصي- كان بينه وبين الخمينيّ ثمة مساحة فكرية وفلسفية، فكانت تأسيسياته لولاية الفقيه مخالفة للأسس والمرتكزات التي بنى عليها الخمينيّ نظريته، فكان منتظري يدعو إلى انتخاب الإمام/الولي الفقيه من قبل الشعب، ولم يؤمن بوجود النصّ الشخصي عليهم من الإمام المهدي، وجمع بين نظرية “النيابة العامَّة” وحقّ الأمة في الانتخاب[27].
ويرفض آية الله منتظري تصدِّي الفقيه لكلّ شيء بنفسه، فلا بد من الاعتماد على أهل الاختصاص والخبرة، كلٌّ في مجاله، فيقول: “ليس معنى ولاية الفقيه تَصَدِّيه لجميع الأمور بنفسه، بل يُفوِّض كل أمر إلى أهله من الأشخاص والمؤسَّسات مع رعاية القوة والتخصص والأمانة فيهم، ويكون مشرفًا عليهم هاديًا لهم، مراقبًا لهم بعيونه وأياديه، ويشاور في كل شعبة من الحوادث والأمور الواقعة المهمَّة الخواصَّ المطَّلِعين فيها، حيث إن الأمر لا يرتبط بشخص خاصّ، حتى يكون الاشتباه فيه قابلا للإغماض عنه، بل يرتبط بشؤون الإسلام والمسلمين جميعًا، وقد قال الله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم»، وإذا كان عقل الكل وخاتم الرسل خوطب بقوله: «وَشَاوِرْهُم»، فتكليف غيره واضح، وإن تَفَوَّق ونبغ”[28]. فمبدأ الشُّورَى هو أساسٌ للحكم عند آية الله منتظري، ولا يجوز للفقيه أن يتفرد بالحكم والنفوذ دون مشورة أهل التخصُّص[29].
وتعيين الولي الفقيه في فلسفة منتظري يكون عن طريق رضا الناس واختيارهم، فهو يكون إما بالتنصيب [أي التعيين بالأمر المباشر] مِن قِبَل الإمام، وإمَّا بالانتخاب مِن قِبَل الشعب[30]. فإذا استحال التعيين مِن قِبَل الإمام لكونه غائبًا، فإنه يجب انتخابه مِن قِبَل الشعب[31]. والحكومة تستمدّ شرعيتها من الشعب، ويراها ميثاقًا بين طرفين كالعقد، أي بين الحاكم والشعب، وبإشراف من الشارع الحكيم/الله عز وجل. ويُمكن للأمة فسخ هذا العقد إذا ما تَخَلَّى الوالي عمَّا شُرط عليه وتَعهَّده[32].
يقول آية الله منتظري: “في عصر الغيبة إن ثبت نَصْب الأئمة للفقهاء الواجدين للشرائط بالنصب العامّ بعنوان الولاية الفعلية فهو، وإلاّ وجب على الأمة تشخيص الفقيه الواجد للشرائط وترشيحه وانتخابه، إما بمرحلة واحدة، أو بمرحلتين: بأن ينتخب أهل كل صقع وناحية بعض أهل الخبرة [برلمان] ثم يجتمع أهل الخبرة وينتخبون الفقيه الواجد للشرائط واليًا على المسلمين، والظاهر كون الثاني أحكم وأتقن، وأقرب إلى الحقّ”[33].
والخلاصة أنّ آية الله حسين منتظري عارضَ ولاية الفقيه المُطلقة، وجعلها من الشرك[34]، ويدعو لتكون محدودة بالإرادة الشعبية منعًا لعودة الاستبداد والديكتاتورية باسم الدين. فمنهجه عدم نَوْط السُّلْطة السياسيَّة بشخص واحد “لأن احتمالات ظهور خطر الاستبداد في شخص واحد أكبر”[35].
مركزية الشعب عند منتظري
يقول آية الله منتظري: “إن بنية نظرية ولاية الفقيه كما طرحتُها، لا تتعارض مع الديمقراطية بمعنى حكم الشعب، بل إنني أعتقد أن نظرية الحكومة الإسلامية صِيغَت بشكل متطابق تمامًا مع نموذج الحكومة الديمقراطية الشعبية، وأن السُّلْطة في هذه النظرية تتقوم بنيتها وتترسخ عمليًّا بآراء الشعب وبيعته للحاكم”[36]. ويقول: “بالتأكيد للشعب كل الحقّ في ذلك، بيده أن ينصب أعلى سلطة في الدولة، أو عزلها في حال الإخلال بالشروط اللازمة للمنصب”[37].
فنلاحظ أن نظرية آية الله منتظري لم تُطَبَّق كاملةً في إيران، وأنّ الخمينيّ وإن اعتمد على منتظري مُنظِّرًا للنظرية فإنه تجاهل دعوته إلى مركزية الشعب في السُّلْطة، وجعَل ولاية الفقيه نيابة مباشرة عن الله، لا يجوز فيها عزل الوليّ الفقيه ولا محاسبته ولا مساءلته، وصارت بقراءتها الخُمينيَّة واليزدية [نسبة إلى مصباح اليزدي] هي القراءة المعتمدة للنظام الإيراني ومؤسَّساته.
ورفض آية الله منتظري الرأي القائل بانتقال سيادة الله وحاكميته من النبيّ والأئمة الاثنَي عشر إلى الفقهاء في عصر الغيبة، دون أي مشاركة شعبية ودون مقبولية المؤمنين، وذهب إلى أن الأمَّة نفسها هي صاحبة السيادة، ومصدر السلطات، وقال إن للأُمَّة حقّ الانتخاب، لا مُطلَقًا بل لمن وجد الشرائط والمواصفات المعتبرة[38].
التحوُّلات الفكرية لآية الله منتظري
تراجع آية الله منتظري سنة 2008م في كتابه “الحكومة الدينيَّة وحقوق الإنسان”، عن معظم آرائه السابقة، وتَبَنَّى خيارات أكثر ليبرالية في بنية السُّلْطة والنِّظام السياسيّ، وعمل على دَمَقْرَطَة السُّلْطة السياسيَّة الشيعية، على نحو ما نراه عند تلميذه محسن كديور اليوم، بِمَا يعني أنّ منتظري استقرّ به الحال في نهاية المطاف قريبًا من خطّ الدستوريين الإصلاحي [النائيني وشريعتمداري وموسى الصدر وبازركان]. فبعد أن كان يقرِّر نظرية “الولاية” للفقيه بالضوابط والشروط، صار يقرِّر نظرية “الإشراف” فقط، وهي نفس طرح النائيني والدستوريين[39]. ويذهب إلى مركزية الشعب، وتوزيع السُّلْطة وعدم تمركزها في يد الفقيه، عبر الفصل بين السلطات، ولا حاجة إلى أن يتبوأ الفقيه موقع الصدارة، ليس ذلك فحسب بل ذهب إلى أنّ الفقيه ليس له ولاية على تشكيل الحكومة وإدارتها، وأن دوره يقتصر على الإشراف على حسن تطبيق الشريعة إذا طلب الشعب منه ذلك! أيّ إنه ناط العملية السياسيَّة برُمَّتها بمقبولية الجماهير[40].
الإقالة من النِّظام السياسيّ
واتسعت هوة الخلاف الفلسفية والفكرية بين آية الله منتظري والخميني، فاستقال أو أُقيل -في مارس 1989م- من منصب القائم مقامية في قم، حيث معقل الحوزة العلمية، ومِن ثَمَّ سُحبت منه جميع الصلاحيات والمناصب والمسؤوليات التي أهَّلَته في ما سبق ليكون وريث الخمينيّ[41]. ثمّ حُدّدَت إقامته جبريًّا، وذلك بالتوازي مع حملة دعائية ضخمة لتشويه صورته، واتهامه بأنّه وهابيّ يتلقَّى الدعم من المملكة العربية السعوديَّة[42]، بل وحدَّد أحد الخطباء في قم رقم بئر النِّفْط السعوديَّة المخصَّصة لتمويل منتظري[43]، وكتب أحمد الخميني نجل زعيم الثورة كتاب “رسالة العذاب”، وكتب محمد ريشهري وزير الاستخبارات كتاب “المذكرات السياسيَّة”، وكلاهما في تشويه صورة آية الله منتظري[44].
ولم يكُن منتظري حالة فريدة، بل مدرسة فكرية لها امتداداتها الفكرية والفلسفية حتى اليوم، فمن أبرز تلامذته المفكّر ورجل الدين الشيعي محسن كديور الذي لا تزال أقواله وأطروحاته تُحْدِث حراكًا علميًّا وثراءً معارفيًّا في إيران والوسط الشيعي الحوزوي عمومًا. وكان المرجع الشيعي الحالي آية الله علي السيستاني صديقًا شخصيًّا لآية الله منتظري، وتأثر به في الفقه السياسيّ، فالولاية عند السيستاني لا تتحقق إلا بالمقبولية لدى المؤمنين وبالانتخاب، وهو عين ما قرَّره منتظري[45]
3- آية الله طالقاني
كان آيةُ الله محمود أبو الحسن الطالقاني [1910-1979م] من علماء الحوزة الكبار، وتَحصّل على درجة الاجتهاد من الشيخ عبد الكريم الحائري، وكان من قادة العمل الثوري الأوائل، وكان يقود الجماهير ضدّ الشاه عندما كان الخمينيّ في منفاه، وهو الذي استقبل الخمينيّ في المطار بعد رجوعه من فرنسا، وأمّن له الرجوع في ظلّ اضطراب الحالة السياسيَّة والأمنية في الدولة الإيرانيَّة وقتئذ. وبعد الثورة كان الرجل الثاني بعد الخمينيّ مباشرة[46]، وكان يُلَقَّب بـ”أبي ذر الثورة”[47].
ويختلفُ الطالقاني عن غيره من رجال الدين بأنّه من أوَّل يوم ليس فقيهًا تقليديًّا، وكان مُتَّسِقًا مع نفسه ولم تحدث له تحوُّلات فكرية كبيرة، فهو أول من نشر رسالة آية الله النائيني “تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة”، وقدّم طبعتها، وأحياها من جديد بعد اندثارها برهة من الزمن. ومن ثمّ فقد كان متأثرًا بالنائيني وحاملًا لنفس الطرح الذي طرحه الدستوريون من مركزية الشعب في السُّلْطة، وإلزامية الشُّورَى، وعدم تَصدُّر رجال الدين إلا في حدود الإشراف والمراقبة على القوانين [ما يُشبه المحكمة الدستورية العُلْيا] ومدى مطابقتها للشريعة، وتَبَنَّى دَمَقْرَطَة الإسلام ومدنية الدولة[48]، وهو الطرح الذي تبناه آية الله منتظري في آخر حياته. ورأى طالقاني أن الثورة لو طبّقت طرح النائيني لخرجت الجمهورية الإيرانيَّة من الطريق المسدود نحو النهضة والحضارة. يقول: “ولو طُبّقَت آراء المؤلف عليه الرحمة لبقي الجمهور كما كان في أوائل النهضة، متوقِّد الحماس ومستعدًّا لإعانة الحكومة في حل مشكلاتها”[49]، وطالب بتحقيقها كاملة في الواقع السياسيّ.
وانفتح طالقاني على كل القوى السياسيَّة حتى تلك المخالفة له فكريًّا وآيديولوجيًّا كاليساريين والعلمانيين ومجاهدي خلق، في الوقت الذي كان يصفهم فيه إعلام الخمينيّ بـ”المنافقين”[50]. وانفتح على أعضاء حزب “توده” الشيوعي، الذي أسهم إسهامًا فعَّالًا في ثورة 1979م، ثم انقلب عليه الخميني في ما بعد[51].
وقيل إنّ السيد طالقاني أوصى بازركان بعدم قبول مسؤولية إدارة الدولة عندما قرَّر الخمينيّ وَكْلَها إليه[52]، وإنْ صحّ هذا القول فإنّ طالقاني كان مُدرِكًا لمخطَّطات الخمينيّ في الانفراد بالسُّلْطة ومتخوفًا من خُططه ومشروعاته ورؤيته للدولة والحكم.
لم يرَ طالقاني أن الفقهاء يمثلون طبقة متمايزة ومختلفة عن باقي جمهور المؤمنين بشكل يسمح بالتمتع بأي حقوق أو مزايا خاصَّة، فهاجم وضع الفقهاء بعد الثورة، ولم يتَّفق مع الخميني في الدور الذي يجب أن يُعطَى للفقهاء[53].
وكانت هناك عناصر شخصانية ونفسية من الخمينيّ تجاه طالقاني، فالخمينيّ وإن وظّف الجميع في بادئ الثورة فقد تَخلَّص من جميع المخالفين له في ما بعد، وكان يرى في مشروع طالقاني وجذوره التي ترجع إلى مدرسة النائينيّ خطرًا يُهدِّد مشروعه وقراءته للدولة، وزعامته الشخصيَّة، سيّما وأنّ النائينيّ ومدرسته يُتَلقَّى بالقبول من المرجعية الدينيَّة ورجال الدين التقليديين والإصلاحيين على السواء [كان النائيني فقيهًا وأصوليًّا وله إسهامات أصولية متينة قبل كونه إصلاحيًا]، بالإضافة إلى رسوخها وانتشارها وسط قيادات دينيَّة وثورية في ذلك الوقت مثل شريعتمداري وموسى الصدر وبازركان وتلامذة علي شريعتي. وتلك المدرسة [مدرسة النائيني] هي الوحيدة القادرة بصفتها وخلفيتها الفقهية -والأصولية والدينيَّة- على منافسة الخُمينيَّة بما تملكه من جذور واجتهادات، ومقبولية لدى النخبة الدينيَّة الشيعية. هذه كلها عوامل أدّت ربما إلى تصفية الخمينيّ جيوبَ هذه المدرسة باكرًا، بدءًا بشريعتمداري وطالقاني وبازركان والسيد رضا الصدر وغيرهم. كذلك تَجَلَّت الخلافات العميقة والموروثة منذ عهد الثورة الدستورية بين الشيخ عبد الله نوري ورافضي الحركة الدستورية من جهة، والنائيني ومؤيدي الدستورية من جهة أخرى. تَجَلَّت تلك الخلافات وامتدّت بين تلاميذهم في ما بعد، بين الخمينيّ الذي يمثِّل خطّ الشيخ عبد الله نوري وتأثر به في شبابه[54]، وطالقاني الذي يمثل خطّ النائيني. وبعد نجاح الثورة تَمَسَّك طالقاني بموقفه مؤيِّدًا الشورى والديمقراطية، ومعارضًا الاهتمام الذي أولاه النِّظام الجديد لمبدأ ولاية الفقيه بالقراءة الخُمينيَّة. إذًا فقد كان خلافٌ آيديولوجيٌّ عميقٌّ ومتجذرٌّ بين تيَّار طالقاني ومعه مجموعة من المفكرين الذين أسَّسوا “نهضت آزادي إيران” [حركة تحرير إيران]، وكان أبرزهم طالقاني ومهدي بازركان ويد الله سحابي، الذين تدرجوا في العمل السياسيّ من خلال الجبهة الوطنية بزعامة رئيس الوزراء محمد مصدَّق، واهتمّ هذا التيَّار منذ بداياته بمصالحة الإسلام مع الحداثة[55] من ناحية، وتيَّار الخميني من ناحة أخرى. وفي حين كان طالقاني منفتحًا على الجميع، كانت مدرسة الخمينيّ تقليدية فقهيًّا وإقصائية سياسيًّا، فكان لا بدّ من التصادم والمواجهة. فاعتقل الخميني أبناء طالقاني، فخرج أنصار طالقاني متظاهرين حتى أغلقوا شوارع طهران، مِمَّا اضطَرَّ الخميني إلى تهدئة الأمور مع طالقاني سياسةً حتى تحين الفرصة المناسبة. وبعد إقرار الدستور في الثالث من ديسمبر 1979 عقب الاستفتاء الشعبي وإعلان الخميني في اليوم التالي مرشدًا أعلى للجمهورية الإيرانيَّة، انتقد آية الله طالقاني الدستور، قبل أن يُعثَر عليه مسمومًا بعد مدة قصيرة[56]. مات آية الله طالقاني فجأة في ظروف غامضة، بعد أشهُر قليلة من نجاح الثورة، ومن ثمّ لم يتمكن من تطوير موقف مضادّ لفكرة ولاية الفقيه[57].
4- محمد مهدي الشيرازي
يثعتبر محمد الشيرازي [1928-2001م] من أكبر فقهاء الشيعة، وإليه تنتسب فرقة الشيرازية، وهو أول من استقبل الخمينيّ ورحَّب به في النجف عندما نفاه الشاه، ولَمَّا نشِبَت الثورة الإيرانيَّة عاد إلى إيران وساعد في إنجاح الثورة، وشاركت جماعته [الشيرازية] في المحاكمات الثورية وتأسيس الحرس الثوري، والتغلغل في مفاصل الدولة وقتئذ بديلًا للجهاز البيروقراطي للشاه. وعندما اعتُقل آية الله شريعتمداري وخرج في الإعلام حاسر الرأس كان ذلك قطيعةً مع آية الله الشيرازي لمكانة آية الله شريعتمداري في الدولة والثورة والحوزة، ففُرِضَت الإقامة الجبرية على آية الله الشيرازي لمعارضته ما حدث مع شريعتمداري، ضمن من عوقِبُوا بسبب تعاطفهم مع شريعتمداري مثل آية الله رستكاري [الذي اعتُقِل بسبب إقامته مجلس عزاء على روح شريعتمداري]، والسيد رضا الصدر [الذي اعتُقل بسبب ذهابه إلى العزاء] وغيرهما. ثم ضُيِّق عليه كُلِّيًّا فلم يُسمَحْ لأحد بزيارته، واعتقلت محكمة رجال الدين السيد عارف الحسيني المعارض العراقي بتهمة زيارة السيد الشيرازي في بيته[58]. يُضاف إلى هذا السبب عامل آخر، هو أن السيد محمد مهدي الشيرازي كان له طموح كبير وفلسفة خاصَّة في مسألة ولاية الفقيه، فكان يدعو إلى نظرية “شورى الفقهاء” أو “ولاية الفقهاء”، لا إلى ولاية الفقيه بقراءتها الخُمينيَّة[59]. ويدعو إلى انتخاب الوليّ الفقيه، وتنصيبه وعزله، ودعا إلى إلزامية الشُّورَى، ومحدودية الولاية، ومشاركة المراجع المعتبرين كافَّةً في الحكم[60]. مِمَّا جعله في مواجهة وصدام مباشر مع الخمينيّ الذي يؤمن بالاستئثار التامّ للوليّ الفقيه، ويؤمن بعدم محدودية الولاية، بل تمتدّ لتشمل جميع المؤمنين في أي بقعة في العالَم كي يصل إلى “الهدف الأكبر، وهو الدولة العالَمية، دولة العدل المهدوية”[61].
• خامنئي.. ديمومة النهج
وبعد وفاة الخميني وقدوم خامنئي استمرّ نفس النهج تجاه أي فقيه أو مرجع يغرِّد خارج السرب ويجهر بقراءة فقهية مخالفة للقراءة المعتمدة لدى النِّظام الإيراني “القراءة الخُمينيَّة”. ورسخ النِّظام بصورة دراماتيكية لسياسة التشويه الإعلامي حتى لأركان نظامه وداعميه ممّن يستشعر بوادر مخالفتهم ولو في هوامش لا تمسّ الأمن القومي للدولة. وشملت مرحلة التشويه الإعلامي التشكيك في الأعلميَّة والأهلية للاجتهاد. وهي بالنسبة إلى رجل الدين تُعتبر بمثابة نزع القداسة الدينيَّة والعلمية [العمامة] عنه، ومن ثمّ الانفراد به بعيدًا عن القواعد الشعبية والجماهيرية/المقلّدين. وقد ترسخت فكرة تشويه رجال الدين ورموز سياسيَّة -في عهد الخمينيّ وما بعده- ممن يخالفون خطّ الإمام أو يظهر منهم بوادر اجتهادية ومواقف سياسيَّة جريئة، وذلك بهدف اغتيالهم معنويًّا، ونزع قاعدتهم الشعبية. ومن هؤلاء الذين تَعرَّضوا للتشويه ومحاولة نزع أعلميتهم في عهد الخامنئي:
1- آية الله صانعي
بعد وفاة آية الله منتظري توجهت الأنظار إلى آية الله يوسف صانعي [1937-…][62] كخليفة لمنتظري، ورغم أنه من المؤسَّسين الأوائل للنظام الإيرانيّ، وحمل أكثر من 30 بيانًا من بيانات الثورة ضدّ الشاه توقيعه، وهو ممن تتلمذوا كذلك على يد آية الله البروجردي، والأراكي، والخمينيّ، فإنه ممن أبدوا اعتراضات أو ملحوظات على السلوك السياسيّ للدولة. فآية الله يوسف صانعي شغل منصب عضو مجلس الخبراء، ومنصب النائب العامّ، وكان من أشَدّ المؤيدين والمدافعين عن ولاية الفقيه، واعتبر أن “أساس الدستور هو ولاية الفقيه”[63]. ثم تَحوَّل إلى مُعارِض للنظرية فقال: “ولاية الفقيه بالكامل مسألة غير سماوية، وإنما وضعية”[64]. ودعم آية الله صانعي مير حسين موسوي في أحداث الثورة الخضراء، وانتقد الاعتقالات العشوائية، وانتقد قمع المتظاهرين، فاغتالته الصحف المقربة من المرشد معنويًّا، واتهمته في مرجعيته، وشككت في أعلميته، وتوقف مكتبه في جرجان، وتَعرَّض مكتبه في طهران للتخريب[65]. وشكَّكَت جمعية مدرِّسي الحوزة الدينيَّة المحافظة في أهليته ومرجعيته[66]. ومِن قَبْلُ حدث مثلُ هذا التشويه الإعلامي مع آية الله منتظري، مِمَّا يوحي بأن النِّظام الإيراني متمترس خلف تلك السياسة ومتمرِّس عليها.
وعبَّر صانعي عن قلق من “الاستغلال المفرط للدين في تبرير السُّلْطة ويدعو إلى قصر الدور السياسيّ للروحانيين على مراقبة التزامِ الحكومةِ القِيَمَ الدينيَّةَ، والدفاعَ عن حقوق الشعب مقابل طغيان الدولة. ويجادل في أن السمة الدينيَّة للدولة لا تستدعي بالضرورة أن يكون الحكم بأيدي الروحانيين، ويدعو إلى الفصل بين مشروعية الفعل وسلطة الفاعل، لأن كلًّا منهما يقوم على مبرِّرات مختلفة عن الأخرى، ويرى أنّ هذه القاعدة قابلة للتطبيق حتى في الأعمال التي تُعتبر مشروعيتها من المسلَّمات، مثل إمامة صلاة الجماعة فضلًا عن القيادة السياسيَّة”[67].
2- محسن كديور
آية الله محسن كديور [1959م-…] هو رجل دين إصلاحي، تتلمذ في حوزة قم، ومن تلامذة آية الله منتظري المقربين، وله آراء فقهية واجتماعية وسياسيَّة جريئة، خرج بها عن المألوف الشيعي، التقليدي والكلاسيكي والراديكالي، وهو الآن من كبار الإصلاحيين في إيران، بيد أنّ النِّظام الإيراني يُضيِّق عليه بتهمة أنّه غير ملتزم عمليًّا بولاية الفقيه، وهذه تهمة تقترب من تهمة الخيانة في الدول الأخرى، إذ إن رجل الدين كي يتمتع بالمقبولية والأعلميَّة يجب أن يكون ملتزمًا بولاية الفقيه عمليًّا وتنظيريًّا، وإلا كان خارجًا على الدولة ودستورها وقوانينها، ومارقًا عن بَدَهِيَّات القراءة المذهبية المعتمدة لدى النِّظام السياسيّ.
كان كديور مردِّدًا لأطروحات أستاذه آية الله منتظري حول ولاية الفقيه، وأنّها يجب أن تَلقَى قبولًا جماهيريًّا وشعبيًّا، ويجب أن يكون الفقيه تحت إرادة الناس لا فوقهم، وتحت الدساتير والقوانين لا فوقها، ويحصر عمل الفقيه في الدور الرقابي والإشرافي لا في التدخُّل والتسلُّط في كلّ شؤون الدولة والمجتمع. ثمّ صار أكثر إصلاحية من شيخه فتَبَنَّى نموذج الحكومة الديمقراطية العلمانية، “إنني في النهاية أدافع عن الحكومة الديمقراطية العلمانية”[68].
ويرى كديور أن نظام ولاية الفقيه يقوم على منح الأولوية المطلقة “لِمَا يراه الحاكم من المصالح العامَّة، وتقديمه على الرأي العامّ والإرادة الوطنية. ويُعتبر الحاكم في الحكومة الولائية هو الوليّ الشرعي على الناس، ويكون الناسُ “مُوَلًّى عليهم”. وإنّ من اللوازم الثابتة للحكومة الولائية الحجر على الناس في الدائرة العامَّة. ويرى أنّ الحكومة الولائية هي من أنواع الحكم الأوتوقراطي الدينيّ، وهو يختلف في مضمونه ومفهومه عن الحكم الديمقراطي، فالحكومة الولائية هي النسخة الشيعية لحكومة آباء الكنيسة في القرون الوسطى[69].
ويؤسِّس كديور لمقبولية المجتمع المدني بقوله: “إذا لم نقبل بالمجتمع المدني فإما أن نقبل بنظام الحزب الواحد أو النِّظام التوتاليتاري، أو نخضع للاستبداد الفردي، وبعبارة أخرى فإنّ رفض المجتمع المدني بعنوان منهج في حركة الحياة الاجتماعية والسياسيَّة يؤدي حتمًا إلى نوع من التسلُّط الفردي والحزبي والطائفي”[70]. وينتقد كديور وصف المرشد الأعلى بلقب “وليّ أمر المسلمين”، ووصفه بأنه “محض كذب وادِّعاء”[71].
واستمدّ كديور قوّته وحراكه العلمي الذي أحدثه في الداخل الإيراني من عدَّة عوامل:
العامل الأول: انتماء كديور إلى المرجعية الدينيَّة، وحصوله على درجة الاجتهاد في الحوزة سنة 1997م. كذلك فهو مِن أنجب وأقرب تلامذة آية الله حسين منتظري.
العامل الثاني: انتماؤه إلى فريق الإصلاحيين الذي يتضمن تيَّارات معارضة للنظام الإيرانيّ، مِمَّا جعله يَبرُز مُنظِّرًا لهذا التيَّار.
العامل الثالث: ردّ فعل النِّظام الإيراني تجاه كديور، فكلما انتقد كديور ولاية الفقيه عمل النِّظام على تشويهه عبر منابره الإعلامية الرسميَّة، والتشكيك في أعلميته وأهليته للاجتهاد، وحرمانه أحيانًا من التدريس بالحوزة وغيرها من تضييقات. ثمّ عمدت الحكومة إلى اعتقاله تعسُّفيًّا من محكمة رجال الدين سنة 1998م، عقب اشتراكه مع مجموعة من الإصلاحيين في مؤتمر انعقد بألمانيا لمناقشة التطوُّرات السياسيَّة في إيران، ودخل السجن لمدة ثمانية عشر شهرًا [من 1998م حتى 2000م]، رغم أنه لم يعترف بشرعية المحكمة[72]، وربما كان اعتقاله لتقليم أظافر آية الله منتظري ونكاية فيه[73]. ثمّ هاجر إلى الولايات المتَّحدة سنة 2008م ليدرّس في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة فيرجينيا، ولا يزال هناك حتى اليوم.
3- عبد الكريم سروش
هو رجل دين وفيلسوف إيراني معاصر، وُلد سنة 1945م في طهران، وبعد الثورة كان مناصرًا للخمينيّ، وتَوَلَّى مناصب قيادية، فأصبح عضوًا في لجنة الثورة الثقافية بكلية المعلمين، ثمّ عيَّنه الخمينيّ في مجلس الثورة الثقافية الذي كُلّف إعادة النظر في المناهج الدراسية وطواقم التدريس لتحقيق التوافق بينهما وبين توجه النِّظام الجديد. وارتبط بهذا المجلس سمعة سيئة بسبب عمليات تطهير واسعة مارسها بين صفوف المدرسين غير المتديّنين، تحت مزاعم معاداتهم للأفكار الإسلامية[74]. وكان سروش من أهمّ منظّري النِّظام الإيراني طوال فترة الثمانينيات[75].
لكن مع موجة الانفتاح في إيران في آخر عهد رفسنجاني وطوال عهد خاتمي، بدأ سروش في إلقاء المحاضرات والكتابة في الدوريات مثيرًا أسئلة جريئة وحسَّاسة عن العَلاقة بين الدين والسياسة، وتَبَنَّى فيها الخيار الديمقراطي العلماني، وقد أكسبته تلك المحاضرات شهرة واسعة في الداخل والخارج وجذبت إليه الشباب الإصلاحي والليبرالي ممن سئموا تضييقات الراديكاليين. تركز مشروع سروش الفكري على رفض أدلجة الدين وتوظيفه سياسيًّا، وشنّ هجومه على الحكومة الدينيَّة بناءً على أسس ثلاثة: الشرعية والعدالة والقانون. فمن حيث الشرعية فإنّ الحكومة الدينيَّة تزعم أنها إلهيَّة المصدر والتكليف، ومن حيث العدالة فإنّ تكييف مفهوم العدالة -الغامض أصلًا- فقهيًّا فقط، يعرِّض فكرة حقوق الإنسان للخطر، لأن كثيرًا من الحقوق يجب معرفته من خارج الوعاء الدينيّ. ورأى سروش أنه لا تناقض مبدئيًّا بين الديمقراطية ووجود عالِم أو فقيه على رأس أي حكومة، بشرط أن تتوافر فيه ثلاثة مؤشِّرات: قدرة الأفراد على اختيار الحكومة، وقدرتهم على انتقادها، وقدرتهم على تغييرها. ولكن الأزمة تكمن في فرض المرجعية الدينيَّة الممثلة في ولاية الفقيه لتعريف وحيد ورسميّ للدين وشكل الدولة يتوافق مع قراءتها الفقهية ومصالحها الذاتية، مِمَّا أدَّى إلى تخليق جماعات ومراكز ضغط مؤدلجة، تستفيد من الوضع الراهن وتضع نفسها فوق القانون والدستور[76].
وبدأ النِّظام في التضيق عليه منذ منتصف التسعينيات، فهجم عدد من طلاب حزب الله الإيراني على محاضرات سروش، وهاجموه بشكل شخصي، ونزعوا عمامته، وتَلَقَّى تهديدات بالقتل، مِمَّا دعاه إلى كتابة خطاب إلى الرئيس رفسنجاني يشكو من التهديدات التي تَلَقَّاها، وتَعجَّب من ضيق أفق النِّظام الذي لا يتحمَّل نقدًا من مثقف لا يملك غير “قلم للكتابة ويخشى على حياته”، واستمرّ التضييق عليه حتى اليوم، والملاحَظ أنّ سروش لم يُتعامل معه على مستوى الأفكار والسرديات، بل على المستوى الأمني فقط[77]، فلا زال يُمنع ويُخوَّف من حضور مؤتمرات وندوات ولو كانت ذات صبغة فلسفية محضة[78].
4- فقهاء على نفس الخَطّ
ومن الفقهاء المعارضين لولاية الفقيه الذين شُوّهت صورتهم واضطهدوا أيضًا: الشيخ محمد طاهر آل شبير خان، والشيخ حسن القمي، والشيخ محمد صادق الروحاني الذي سُجن في بيته في قم لسنوات عديدة، والشيخ صادق الشيرازيّ الذي سُجن مع ابنه وابنَي أخيه محمد رضا ومرتضى لسنين عديدة، والشيخ محمد علي الأبطحي الذي دُفن سِرًّا بعد منتصف الليل[79]. وقد اعتقل النِّظام آية الله العظمى محمد حسن طباطبائي قمي لمعارضته ولاية الفقيه، وظلّ رهن الإقامة الجبرية في منزله 17 عامًا حتى ألغى الرئيس خاتمي الإقامة الجبرية عنه سنة 1997م[80].
هذا المستوى من القمع والعنف في حقّ رجال الدين لم يحدث في عهد الشاه نفسه، فقد نتج عن ثورة 1979م صلاحيات للخميني وسلطة “جديرة بالزعيم الإيطالي موسوليني”[81].
5- تأميم الحوزة وتجفيفها
لا نجد الآن صوتًا مسموعًا للمراجع المخالفين لولاية الفقيه، فتحت الضغط المتواصل والإقصاء -السياسيّ والحوزوي- المستمرّ اختفوا من الساحة الفقهية الحوزوية، فهم إن كانوا موجودين في الحقل العلمي والفلسفي، مثل صانعي وكديفر وسروش، فإنهم منبوذون من الحوزة الرسميَّة في قم. وقد استطاع نظام الوليّ الفقيه تأميم الحوزة في قم لصالح خياراته وقراءته للدين والمذهب والسياسة، فقبل مجيء الخمينيّ كان رؤوس الحوزة في قم [شريعتمداري وكلبايكاني ومرعشي نجفي] تابعين جميعًا للمدرسة التقليدية والدستورية، ولم يكُن أيّ منهم مؤمنًا بالقراءة الخُمينيَّة، بيد أنّ الخمينيّ استطاع حسم المعركة بحكم استيلائه على السُّلْطة، وتأميمّ الحوزة، وتَصدَّر هو وتلاميذه في الحوزة، وانصهرت قم مع الخيار الفقهي الخمينيّ، والقراءة الجديدة الدخيلة على المذهب برُمَّته.
وبعد أن كان لرجال الدين في إيران صوت مسموع ما قبل الخمينيّ وكانت الحوزة تمثل جماعة ضغط دينيّ وسياسيّ على النِّظام الإيرانيّ، صارت الحوزة اليوم تابعة للنظام السياسيّ وصار من حقّ النِّظام السياسيّ أن يمنع الفقيه من التدريس في الحوزة، وصارت الحوزة تلتزم الصمت تجاه رجال الدين المعتقَلين أو المفروض عليهم إقامة جبرية، بخلاف ما كان من نهجها في عهد الشاه نفسه.
فالسُّلْطة كانت هي العامل الرئيسي لفرض ومأسسة الخُمينيَّة الجديدة كحالة فكرية وثقافية وكطرح معتبَر نافذ. هذه السياسة فرضت أمرًا واقعًا جديدًا قفز على التنظيرات الفقهية للمراجع، ولم تدَعْ مجالًا للأخذ والرَّدّ، والاختيار بين الولاية المطلقة والولاية المقيَّدة، لقد حُسم الأمر للخمينيّ ورفاقه لأنه أصبح في السُّلْطة وسُدَّة الحكم، لقد أصبح على رأس السُّلْطة، والآخَرون الممانعون خارج السُّلْطة. وبمضيّ الوقت تَعمَّق الخلاف الفقهي وتَحوَّل إلى خصومة، وصُنّف الممانعون في مربَّع أعداء الثورة، بل على رأس الأعداء، حتى بات أشهر هتاف يردده الإيرانيّون في صلاة الجمعة والمحافل والتجمعات: “مرك بر ضدّ ولاية فقيه”، أي “الموت لمعارضي ولاية الفقيه”[82].
وبعد أن كانت بين رجل الدين والسلطان مساحة، صار الفقيه هو السلطان والسلطان هو الفقيه، وتَحوَّلَت الحوزة إلى متحدث رسميّ باسم النِّظام الإيرانيّ، وصار هو المتحكم في كل مساجد إيران عن طريق تعيين خطباء الجمعة فيها، وكذلك في شؤون المرجعية عن طريق تعيين مدرسي الحوزة العلمية، ومنع بعضهم من التدريس. واستهدف المحافظون/خطُّ الإمام، رجالَ الدين الإصلاحيين وقواعدهم الشعبية والصحافية والفكرية، ومحاولة تحجيم انعكاساتهم الفكرية والحركية ومحاصرتها في أضيق الحدود الممكنة، واتخذت هذه المقاومة أشكالًا شَتَّى من الاعتداءات الجسدية على الأشخاص والتجمُّعات الإصلاحية شملت محاولة اغتيال رموز التيَّار الإصلاحي عمومًا في بداية الأمر، واستمرَّت من خلال الاستعمال المتعسف للقانون والمحاكم [مثل المحكمة الدينيَّة المسلطة على رقاب رجال الدين المعارضين]. وبعد عام 1997م تَعرَّض عشرات من الإصلاحيين -ويعتبرهم النِّظام بمثابة الجناح السياسيّ للمراجع المعارضين- للاعتقال وأُغلِقَت صحفهم ومؤسَّساتهم الثقافية[83]. وكان نتيجة هذا القمع العام ضدّ رجال الدين وروافدهم الفكرية وقواعدهم الإصلاحية من مفكرين وصحافيين وفلاسفة أن صارت الأرض الإيرانيَّة خالصةً للمحافظين من دون الإصلاحيين، وصارت أرضًا جرداء فكريًّا وسياسيًّا، وضعف الاجتهاد في الفقه السياسيّ الشيعي النابع من حوزة قم ومشهد، مِمَّا أضعف الحوزة والمرجعية، وارتدَّت آثار ذلك على الدرس الفقهي والفلسفي وكذلك على الأسماء المتصدرة كمرجعيات للتقليد الفقهي، وارتدّ كذلك على الشباب الذي اتجه صوب التمرد على ثوابت دينيَّة ومذهبية كرَدّ فعل طبيعي على توغُّل وتغوُّل سلطة المؤسَّسة السياسيَّة الدينيَّة. وهذه اللمحة المهمَّة التفت إليها المفكر الإيراني الإصلاحي سعيد حجاريان، فيقول: “إن إدماج المؤسَّسة الفقهية في مؤسَّسة الدولة، خصوصًا بالنظر إلى هيمنة الفكرة التي تطابق بين الدين والسياسة، أدَّى إلى فرض المؤسَّسة السياسيَّة متطلباتها وطرق عملها على المنظومة الدينيَّة. الدولة هي أقوى أدوات العلمنة، فإذا اندمجت المؤسَّسة الفقهية في جهاز الدولة سوف ينتقل هذا المنهج لا محالة إلى الفقه”[84].
خاتمة: الخُمينيَّة مدرسةً فكريَّةً
حاول الخمينيّ تكريس أطروحاته ظاهرةً ومدرسةً تطبع الحياة كلها في إيران ما بعد الثورة، بدءًا من تأميم المؤسَّسات والأفراد والحوزة لشخصه كنائب عن المعصوم، ومن ثمّ فإن المعصومية تشمله، فإنّ “من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرَّب، ولا نبي مُرسَل، ولقد كانوا قبل هذا العالَم أنوارًا محدقين بعرش الله” [85]، ومن ثمّ فهو نائب عمّن هو أفضل من الأنبياء والملائكة المقربين! لذا فلا غرو أن “يجلس تحت قدميه كبار رجال الدولة، ابتداءً من رئيس الجمهورية وانتهاءً بالمقربين ومرورًا بقادة الجيش وهم حفاة حقًّا”[86]. وهذه العَلاقة بين الفقيه وغيره لم تكُن موجودة طوال التاريخ الإيراني والشيعي عمومًا، فكان الفقهاء جزءًا من الشعب، لا فرق بينهم وبين عموم الناس، بيد أن هذا التحوُّل اعتبر الفقهاء طائفة خاصَّة، فوق عموم الناس. فهذه الممارسة عزَّزَت من صعود الخُمينيَّة كمدرسة فكرية، حلّت محلّ مدارس الفقه التقليدي الشيعي في قم، بشقيه الكلاسيكي [البروجردي]، والدستوري [خطّ النائيني]، وصارت الخُمينيَّة نظرية مغايرة لأيّ طرح سابق في تاريخ الدرس الفقهي والفلسفي الشيعي كلّه.
هناك ملحظٌ مهمّ آخَر، هو أنّ كلّ رفاق وتلامذة الخمينيّ الكبار كانوا ضدّ ولاية الفقيه بقراءتها الخُمينيَّة، وكلّ مُنظّري الثورة كانوا ضدّها أيضًا، ونقصد هنا رفاق الخمينيّ الكبار، من الطبقة الأولى، لا تلامذته من الطبقة الثانية في ما بعد كمصباح يزدي وجواد الآملي وخامنئي، بل الطبقة الأولى مثل مرتضى مطهري[87] وطالقاني ومنتظري وغيرهم ممن كانت لهم اليد الطُّولَى في الحوزة والثورة[88]. مع ذلك استطاع الخمينيّ فرض نظرية ولاية الفقيه بقراءته وفهمه هو عبر سياسة الأمر الواقع، ومأسستها في الدستور والقوانين والمؤسَّسات، وإلغاء كلّ ما عداها واعتبارها خطرًا يُهدِّد الثورة والأمن القومي الإيرانيّ، بل ربما يُهدِّد الإسلام ومنهج العترة، في توظيفٍ سياسيّ معتاد للدين والمذهب.
ويمكن الخروج بأهم النتائج في النقاط التالية:
1- لموقع وموضع الحوزة داخل النِّظام السياسيّ الإيراني قراءتان مختلفتان، ففي حين أراد المراجع المعاصرون للخمينيّ إبقاء الحوزة في خطِّها التاريخي المستقر والمتعارَف عليه، وبقاء مساحة فاصلة بين الحوزة والنِّظام السياسيّ، أراد الخمينيّ إزالة المساحة الفاصلة بين الحوزة والنِّظام السياسيّ باعتبار أن تلك المساحة كانت نتيجة حتمية للتعامل مع حكومات غير مشروعة وليست ممثلة للإمام الغائب، في حين أن نظام ما بعد الثورة هو نظام شرعي وخارج من رحم الحوزة، ويمثِّل الإمام الغائب، أي إن الخمينيّ ارتأى في إلغاء تلك الاستقلالية التاريخية لازمًا من لوازم شرعية النِّظام الجديد. ولكن هذه السياسة مثَّلَت انقلابًا وتحوُّلًا جذرًّيا في المؤسَّسة الدينيَّة الشيعية، وكان لهذه السياسة نتائجها على الدرس الفقهي وبنية الحوزة العلمية.
2- استطاع النِّظام الإيراني القضاء شبه التامّ على مدرسة النائيني الفقهية والإصلاحية لصالح القراءة الخُمينيَّة، على الأقلّ في المؤسَّسات الرسميَّة للدولة الإيرانيَّة، وبقيت المدرسة الإصلاحية الدستورية تبحث عن بدائل غير الحوزة العلمية لبَثّ فكرها، بعد حرمانها من التدريس الحوزوي.
3- كان الخمينيّ مرحليًّا في القضاء على مراكز القوى وجماعات الضغط داخل المرجعية الشيعية، فلم يواجه الجميع دفعة واحدة، بل أخذ كلًّا على حِدَة، متَّبِعًا سياسة تفتيت وتفريق الكيانات الموحَّدة.
4- قامت المؤسَّسة الدينيَّة لدى الشيعية منذ البداية -حسب مرتضى مطهري- على أساس التضادّ والمعارضة مع السُّلْطة، والتحمت اجتماعيًّا مع الناس[89]. وإذا صحّت هذه القراءة لمطهري فهي تؤكّد ذلك التحوُّل الذي أحدثه الخمينيّ في الحوزة والمرجعية بتأميمها وتحويلها إلى جزء من كيان الدولة وأداة من أدوات النِّظام السياسيّ، ففقدت الحوزة استقلالها التامّ أو جزءًا كبيرًا منه على الوجه المستقرّ تاريخيًّا.
5- بروز الشخصانية وعوامل المزاج النفسي وتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة في النِّظام الإيرانيّ، أدَّى إلى غياب مفاهيم القواعد الحاكمة، والاستفادة من الثراء العلمي والمعارفي للمخالفين سياسيًّا واجتهاديًّا للنظام، وأدَّى إلى تحكُّم الاستقطابات الآيديولوجية والهُوِيَّاتية.
6- بين القراءة الخُمينيَّة وقراءة بقية المراجع، على اختلاف مدارسهم، خلافات تأسيسية، فالقراءة الخُمينيَّة لا تأبه بمركزية الشعب في اختيار الحاكم، لأن الفقيه يستمدّ شرعيته من الله لا من الشعب، وكذلك مسألة محدودية ولاية الفقيه، فالقراءة الخُمينيَّة لا تعترف بمحدودية ولاية الفقيه داخل بلده، بل تمتدّ لتشمل المقلّدين والفقهاء كافَّةً في العالَم.
7- يرى الباحث أنه تحت الإقصاء السياسيّ والحوزوي المستمر لرجال الدين الإصلاحيين وتغييبهم عن الساحة ومجابهتهم بالعنصر الأمني والسلطوي -لا بالفكر والحوار والحِجَاج- ستزيد قواعدهم الشعبية من الفئات الشبابية والنسائية والمطالبين بحقوق مدنية عادلة، ويُسهِم ذلك في تشويه صورة النِّظام الراهن، وقد يؤدِّي على المدى البعيد إلى حلحلة الوضع السياسيّ الوحدوي، إن لم يؤدِّ إلى إزالته بالكُليَّة، علاوة على أن أطروحات رجال الدين المعارضين لخطّ الدولة هي إصلاحية ومتوائمة مع الحداثة والدولة الحديثة إلى حدّ كبير، في حين أنّ الخطاب الدينيّ التابع لمؤسَّسة الوليّ الفقيه خطاب راديكالي فقهيًّا وسياسيًّا، مِمَّا يؤدِّي إلى نبذ القواعد الشعبية له، وحتى إن لم تُترجم إلى إزاحة تامة للنظام فقد تؤدِّي إلى تعديل سلوكه وتطوير فلسفته وأفكاره جذريًّا ليتلاءم مع العصر، أو سيؤدي على المدى البعيد إلى حلحلة تقود إلى سيناريوهات دراماتيكية لا يمكن التنبُّؤ بتبعاتها على الدولة والإقليم، بخاصَّة مع زيادة العبء الأخلاقيّ على النِّظام السياسيّ بحكم تخليه عن المفردات الأخلاقية السياسيَّة التي صُدّرت في بداية الثورة، أو كانت حتى سببًا رئيسيًّا في نشوب الثورة والتفاف الشعب الإيراني خلفها.
8- وأخيرًا فإنّ الحوزة وإن أُمِّمَت لصالح مؤسَّسة الولي الفقيه، فإن قوة رجال الدين الإصلاحيين لا تزالت موجودة في أحشاء المجتمع الإيرانيّ، لأنها هي المنسجمة مع الطبيعة والسيكولوجية والمكونات النفسية للشعب والجمهور الإيرانيّ، فحتى لو غابت عن الدوائر الرسميَّة والإعلامية للنظام -هرم السُّلْطة- فإنها موجودة في قاعدة الهرم، وبقوة، وهذا كفيل بإحداث التوزان الاجتماعي المطلوب، وكفيل بديمومة جماعات الضغط الإصلاحية لتعديل مسارات النِّظام.