تباعَدَ الموقف الأوروبيّ عن الموقف الأمريكيّ في ما يتعلق بالاتِّفاق النووي الإيرانيّ، فمنذ الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكيّ ترامب تعلن أوروبا (دولًا واتِّحادًا)، تَمسُّكها بالاتِّفاق النووي المبرم مع إيران، وترفض كل المطالب الأمريكيَّة بتعديله، وعلى الرغم من إبداء الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة مخاوف منطقية بشأنه تتعلق بمرحلة ما بعد انتهاء الـ15 سنة (مُدَّة الاتِّفاق)، ورفع القيود المفروضة على تخصيب اليورانيوم في إيران، وإعادة تشغيل مفاعلاتها سواء تلك التي تعمل بالماء الثقيل وغيرها، فهل يمكن تَقبُّل إيران كدولة نووية، مع امتلاكها ترسانة من الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، ذات مدى بعيد يُغطِّي معظم العواصم الأوروبيَّة، فضلًا عن الدول العربية؟ وهل تَخلَّت أوروبا عن مخاوفها من إيران، وهي التي بدأت أول كشف عن البرنامج النووي الإيرانيّ، عندما أعلنت فرنسا عام 2002م عن وجود منشأتين سرِّيَّتين لتخصيب اليورانيوم في نطنز الإيرانيَّة؟
الوصول إلى طريق مسدود.. وتغييب لروح الاتِّفاق:
لقد تَولَّت القيادة الأوروبيَّة، متمثلةً ببريطانيا وفرنسا وألمانيا، التفاوض مع إيران نيابة عن المجتمع الدولي حتى عام 2006م، إذ أعلنت أن المفاوضات مع إيران وصلت إلى طريق مسدود، واتفقت تلك القيادة الأوروبيَّة حينها على ضرورة إحالة الملفّ إلى مجلس الأمن تمهيدًا لفرض عقوبات على إيران، وبالفعل عُقد الاتِّفاق النووي بمشاركة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، إلا أن الدول الأوروبيَّة وعلى رأسها فرنسا لا تزال رغم ذلك متفقةً مع الولايات المتَّحدة في مخاوف ما بعد انتهاء مُدَّة الاتِّفاق النووي، مُقِرةً بأن الصواريخ الإيرانيَّة تمثِّل تهديدًا لأمن واستقرار المنطقة، بل ودَعَت فرنسا إيران إلى عقد تسوية لا تقبل المساومة في ما يتعلق بالبرنامج الصاروخي، وهو ما قوبل بالرفض القاطع من إيران. إن أوروبا تحاول دومًا تأكيد أن تَمَسُّكها بالاتِّفاق النووي نابع من التمسُّك بالشرعية القانونية لنَصّ الاتِّفاق فقط، لتغيّب بذلك روح الاتِّفاق الذي كان يهدف إلى إدماج إيران مع المجتمع الدولي وتحويلها إلى دولة طبيعية، وهو ما انتهكته إيران بالطبع، لتتحول إلى دولة توسُّعية تنشر قواتها وميليشياتها في أربع دول عربية، فهذا هو الانتهاك الحقيقي للاتِّفاق لا الالتزام بعمليات التفتيش على المنشآت النووية من عدمه.
مستقبل الطاقة عامل أساسي في تغيير المواقف
لا شكّ أن هذا التغيُّر في الموقف الأوروبيّ من الاتِّفاق النووي الإيرانيّ، راجع إلى الرؤية الأوروبيَّة لمستقبل الطاقة على مستوى العالَم، ومستجَدَّات العلاقات الأوروبيَّة-الأمريكيَّة في عهد ترامب، فإذا تَخيَّلنا وضع خريطة الدول المنتجة للنِّفْط والغاز على مستوى العالَم في عام 2026م فسنجد أن أوروبا وَفْقًا لحسابات الاحتياطي والإنتاج الحالي سيكون النِّفْط قد نضب فيها تمامًا بانتهاء احتياطي بريطانيا والنرويج، وستتبعها الصين والمكسيك، بمدة لا تزيد على 3 سنوات، ولن يكفي الاحتياطي الروسي إلا عشر سنوات تالية. كل هذه التغيُّرات في خريطة الطاقة العالَمية سوف تحدث تِباعًا خلال مُدَّة لا تتجاوز عشرين عامًا، حينها سيرتفع سعر النِّفْط الأمر الذي سيؤثر بلا شكّ على معدَّلات التنمية في أوروبا، وسيغطي النقص عن طريق النِّفْط الصخري الأمريكيّ المرتفعة تكلفة استخراجه، أو الدول الأخرى التي لا يزال حجم إنتاجها لا يتناسب مع ضخامة الاحتياطي لديها سواء في النِّفْط أو الغاز. إن إيران هي ثاني دولة في العالَم لا يتناسب حجم إنتاجها مع ضخامة احتياطياتها من النِّفْط والغاز بعد فنزويلا، بمعنى ضخامة الاحتياطي مع محدودية الإنتاج، إذ يبلغ الاحتياطي النِّفْطي الإيرانيّ 157 مليار برميل، وحجم الإنتاج اليومي 4 ملايين برميل، مِمَّا يضمن استمرار استخراج النِّفْط الإيرانيّ لمدة 112 سنة، وفي قطاع الغاز يبلغ الاحتياطي الإيرانيّ 34 تريليون متر مكعَّب من الغاز، وحجم إنتاج لا يتجاوز 111 مليار متر مكعَّب يوميًّا، أي إن الاحتياطي يكفي الاستهلاك على نفس المعدَّل لمدة 306 أعوام. هذه الإحصائيات تشير إلى أنه في حالة عودة العقوبات على إيران، ومنع الشركات الأجنبية الكبرى من الاستثمار في قطاع النِّفْط والغاز الإيرانيّ، ستتحول إيران إلى دولة مستوردة للغاز، إذا لم تتمكن من زيادة حجم إنتاجها قبل حلول عام 2026م، لأن الاستهلاك المحلي من النِّفْط والغاز في إيران سيصل في عام 2026م إلى 7.5 مليون برميل نفط مكافئ، وبهذا تُحرَم السوق النِّفْطية من حصة إيران السوقية، وتبقى الاحتياطيات الضخمة من النِّفْط والغاز الإيرانيّ دون استغلال، مِمَّا يرفع أسعار الطاقة بشدة، وهو ما يصيب الاقتصاد الأوروبيّ بضربة قاصمة، ويزيد القدرات الاقتصادية الأمريكيَّة لأنها ستزيد استغلالها للنِّفْط الصخري الذي ظهرت تقديرات حديثة لاحتياطي الولايات المتَّحدة منه بـ264 مليار برميل ينتظر معظمها ارتفاع أسعار النِّفْط لتغطي تكلفة استخراجها العالية.
إيران.. ملاذ أوروبا المليء بالمخاوف
السؤال الأهمّ: هل يمكن أن تضحي أوروبا بأمنها على المستوى البعيد في ظلّ وجود بدائل متعلقة بالطاقة -وإن كانت محدودة- مقارنةً مع خيار النِّفْط والغاز الإيرانيّ؟ لا شكّ أن الدبلوماسية الإيرانيَّة قد لعبت دورًا كبيرًا في طمأنة دول الاتِّحاد الأوروبيّ من مخاطر البرنامجين الإيرانيّين النووي والصاروخي، خصوصًا في ظلّ المغريات المتعلقة بخطط مستقبل الطاقة والعقود السخية التي نالتها الشركات الأوروبيَّة وعلى رأسها توتال الفرنسية، لتهميش ضغوط ترامب على الاتِّحاد الأوروبيّ ودعوته إلى المشاركة في تكاليف الدفاع، وإعادة توزيع أعباء ميزانية حلف الناتو، في ظلّ كلّ ذلك تَضخَّمَت المخاوف الأوروبيَّة من جرَّاء التصريحات الأمريكيَّة، وظهرت حاجة أوروبيَّة إلى تَبنِّي سياسات تختلف عن المسار الأمريكيّ يتحدّد خَطّ انحرافها عن المسار الأمريكيّ وجدولها الزمني وَفْق مجريات الأحداث نوعا ما، فقد تفاوض أوروبا الولايات المتَّحدة بتمسُّكها بالاتِّفاق النووي ومواصلة الاستثمار في قطاع الطاقة الإيرانيّ لتدفعها إلى الاستمرار في تَحَمُّل ميزانية حلف الناتو واستمرار اتِّفاقية الشراكة عبر الأطلسي، وتعديل نمط السياسة الخارجية الأمريكيَّة عمومًا من الاتِّحاد الأوروبيّ، لكن يظلّ الخوف من مستقبل الطاقة يسيطر على العقل الأوروبيّ ويرى في إيران ملاذًا من التحكُّم الأمريكيّ في مصيرها، خصوصًا في العشرين عامًا المقبلة عندما ينضب النِّفْط الأوروبيّ الضئيل ومن بعده النِّفْط والغاز الرُّوسي ونفط وغاز عدد آخر من المصدِّرين الكبار.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز