أصدر الدبلوماسي المصري ووزير خارجية مصر الأسبق والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، السيد عمرو موسى، مذكراته الشخصية بعنوان: «كتابيه»، منذ أسابيع معدودة، وقد تحدث في جزء كبير منها عن العَلاقات المصرية-الإيرانية وكيف كان ينظر صانع القرار المصري إلى سياسات إيران في المنطقة، وكيف كانت تُدار سياسة مصر الخارجية في مطبخ السياسة المصرية تجاه إيران في الحقبة التي تولاها عمرو موسى كوزير للخارجية لأكثر من عشر سنوات. وتكمن أهمية هذه المذكرات في أنها تقدم شهادة عن قرب من داخل أروقة ودهاليز الحكم، ومِن ثَمّ قد تساعد في معرفة أدق محدّدات الموقف المصري تجاه إيران.
وفي هذه الدراسة نحاول قراءة أهمّ ما ورد في المذكرات بخصوص العَلاقات الإيرانية-المصرية والإيرانية-العربية، وكيف نظر صانع القرار المصري في ذلك الوقت إلى تغلغل إيران في المنطقة، ودعمها للجماعات المتطرفة في مصر وغيرها، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ومدى ثبات وديمومة ذات النهج الذي اتبعته الأجهزة المصرية المتعاقبة منذ التسعينيات وحتى اليوم، ناهيك بموقف المؤسسات المختلفة المعنية بصياغة سياسة مصر الخارجية من العَلاقة مع إيران.
أوّلًا: العوامل المؤثرة على العَلاقات المصرية-الإيرانية
1- الجغرافيا.. مفتاح السياسة:
لا شكّ أن الجغرافيا من أهمّ المؤثرات في العَلاقات الدولية، فيرى بعض الباحثين أنّ نقاط الخلاف تزداد بين الدول المتجاورة، التي تصبح بالتالي أعداء طبيعيين، ويرى هذا الفريق أنّ كُلّ دولة عدوّ محتمل لجيرانها وحليف محتمل لجيران جيرانها، في حين يرى فريق آخر أنّ التقارب الجغرافي بين دولتين يُنشئ أنماطًا تعاونية من المعاملات، ويزيد فرص تسوية الصراعات بينهم[1]. لكن المؤكد «أن التجاور الجغرافي يخلق أشكالًا محتملة للصراع بين الدول، وقد تنشأ تلك الأشكال نتيجة الاختلاف على تخطيط الحدود، أو ظهور ثروة طبيعية في مناطق الحدود، بينما لا تثار مثل هذه المشكلات بين الدول غير المتجاورة جغرافيًّا»[2].
فالعَلاقة بين دول الجوار إمّا أن تقوم على الصراع إن كانتا قوتين متشابهتين في أدوات القوة العسكرية والاقتصادية والجغرافية، وتنبني على الخضوع من وحدة لأخرى إن كان الميزان يميل بقوة لصالح إحداهما، وإما على الصراع المتبادل حتى مع وجود فارق في ميزان القوى، في حالة استقواء الوحدة الأصغر بوحدات دولية أكبر، على الوحدة المجاورة جغرافيًّا.
ويحاول عمرو موسى التدليل على رؤيته الدبلوماسية تجاه طهران بحكم جوارها الجغرافي للمحيط العربي، فيقول: «الطريق إلى فهم السياسة يبدأ بالنظر إلى الخريطة»، ويخلص من نظرة سريعة على خريطة العالم العربي إلى أنّ هناك قوى إقليمية كبيرة ترابض إلى جواره الجغرافي تتمثل بالدرجة الأولى في إيران وتركيا، من الشرق والشمال على الترتيب، واللتين تكوِّنان مع العالم العربي ما يُعرف في الأدبيات الجيو-سياسية الغربية بإقليم «الشرق الأوسط»[3]. وعن أهمية الجغرافيا الإيرانية بالنسبة إلى المنطقة والإقليم يقول عمرو موسى: «حقائق الجغرافيا وتشكيل الهُوِيّة اللذان تحدثنا عنهما توًّا يفرضان كلمتَيهما في العَلاقة بين العالم العربي وإيران وتركيا عبر التاريخ، فبموجبهما صارت المنطقة العربية محطًّا لأطماع الدولتين الجارتين -العثمانية والفارسية- باعتبارها الامتداد الجغرافي الذي يمثل اختراقه والهيمنة عليه تعبيرًا وترجمة لقوة أي منهما في اللحظات التاريخية المختلفة، مع الأخذ في الاعتبار أن العرب قد أخضعوا هاتين الجارتين في بدايات بزوغ عصر الحضارة الإسلامية في القرن الأول الهجري، والقرون القليلة التالية له، والآن أصبحت تركيا وإيران مع العالم العربي في قلب العالم الإسلامي، رغم كل الخلافات. وهما في كل الأحوال جزء من الشرق الأوسط وسيكون لهما دور في النظام الإقليمي القادم»[4]. ومِن ثَمّ فهو يرى محورية الدولة الإيرانية جغرافيًّا في المنطقة، ولذا ينبغي التعامل معها بما يخدم مصالحنا ويجنّب المنطقة أضرارها، حسب رؤيته. لكن الجغرافيا رغم أهميتها لا تكفي وحدها لتحديد هُوِيّة المنطقة التي اصطلح على تسميتها بالشرق الأوسط على اتساعها[5]. ولذا يجب الأخذ في الاعتبار العناصر الأخرى التي تؤثر في تلك العَلاقة، وتوجّه مؤشراتها.
2- الحرب العراقية-الإيرانية:
تركت الحرب العراقية-الإيرانية نتوءات في الجسد العربي عامّة وفي الذاكرة المصرية خاصّة، تجاه إيران، ذلك أنّ الجيش العراقي كان من أكبر جيوش المنطقة وتمّ إضعافه وتشتيته في الحرب الإيرانية، ومن مصلحة مصر الاستراتيجية وجود جيوش عربية قوية، كي لا تتحمل مصر وحدها تبعات حماية الأمن القومي العربي، علاوة على أنّ تلك الحرب أوضحت النيات الإيرانية في المنطقة، وعدم ترددها في عقد صفقات سلاح مع الأمريكان والإسرائيليين -إيران كونترا- لتهديد الدول العربية والعراق الذي يمثل البوابة الشرقية للعالم العربي.
أكد عمرو موسى أن الحرب العراقية-الإيرانية والدعم المصري للعراق أسهم في ديمومة القطيعة بين مصر وإيران. وفي هذا الصدد يقول: «خلال ثمانينيات القرن الماضي شُكّلت السياسة المصرية تجاه الحرب العراقية-الإيرانية [1980-1989م]، التي تمثلت في المساندة الصريحة للعراق العربي وتقديم الدعم المادي والعسكري له، مما كان له أثره في مسار الحرب. وكان بمثابة أحد المحدّدات الرئيسية للعَلاقة بين القاهرة وطهران في هذه الفترة وما بعدها، بل إنها أوجدت مرارات أسهمت في استمرار القطيعة بين البلدين»[6].
فالعقل الجمعي العربي والمصري أصابته الهواجس تجاه إيران ما بعد الثورة، إذ بعد نجاح الثورة مباشرة دخلت طهران في حرب مباشرة مع واحد من أقوى الجيوش العربية في ذلك الوقت، مما أعطى انطباعًا لدى صانعي القرار العربي أنّ نشر الفوضى وتهديد الأمن العربي من أولويات الثورة الإيرانية.
3- أمن الخليج العربي:
ظلت مسألة أمن الخليج العربي بالنسبة إلى مصر من النقاط المُهِمّة، ذلك أنّه بعد توطيد العَلاقات المصرية-الخليجية في عهد مبارك أيقنت مصر ممثلة في مؤسسة الرئاسة أنّ الخليج هو أمن قوميّ لمصر، وأيقن الخليج أنّ مصر أمن قوميّ خليجيّ، فكلاهما عمق للآخر، وحتى على المستوى التاريخي وقبل نشوء الدولة الوطنية فإنّ ما كان يحدث في مصر كانت تنسحب هزّاته وارتداداته إلى منطقة الخليج، والعكس بالعكس. ولكن الواضح أنّه في عهد مبارك وإن توطدت العَلاقات بين الجانبين إلا أنها كانت في شقّها الأكبر قائمة على عَلاقات شخصية وودّ متبادل بين الزعماء، وكانت قناعات مبارك الشخصية أنّ أمن الخليج العربي خطّ أحمر بالنسبة إلى مصر، بناءً على تلك العَلاقات الشخصية، لكن لم تنسحب تلك العَلاقات بين مصر ودول الخليج لتأخذ طابع المؤسسية، أي توطيد العَلاقات بين المؤسسات الثقافية والتعليمية والأمنية والاقتصادية، مما جعلها رهينة في كثير من الأحيان إلى هزات تكاد تعصف بها كلّ مدة، بيد أنّ الأمن القومي لكليهما يفرض عليهما الاستمرار في البحث عن نقاط التقاطع، فينبغي أن تخرج العَلاقات من مرحلة العواطف وحتميات الجوار والمجاملات أو حتى المعونات الاقتصادية، إلى مرحلة العقيدة السياسية والاستراتيجية في مختلف المجالات والقطاعات، وهذه تحتاج إلى خُطط ورؤى ومشاريع لإحداث هذه النقلة المتوارثة تاريخيًّا[7].
ومن المآخذ التي تؤخذ جديًّا هنا على صانع القرار المصري أنّ مقولة «أمن دول الخليج العربي» لم تخرج من الإطار الدبلوماسي إلى دوائر التفكير الاستراتيجي أو اتخاذه منحى الفعل، ولذا اقترح البعض إدراج مفاهيم الدفاع عن أمن الخليج العربي ضمن دوائر أولويات الجيش المصري[8]. ولم يكن هذا المأخذ موجودًا في عهد الرئيس مبارك بصورته الراهنة، نظرًا لاشتراك مصر في حرب تحرير الكويت، ونظرًا للاستقرار المصري وقتئذ على المستويين الاقتصادي والسياسي، والروابط القوية التي ربطت مبارك بزعماء وقادة الخليج. لكن وبعد ثورة يناير وتفكك الأجهزة المصرية وانشغالها بالداخلي عن الخارجي، واستغلال إيران لحالة السيولة التي مرت بها دول الربيع العربي، ظهرت على السطح هشاشة التفكير الاستراتيجي المصري تجاه أمن الخليج، وترسخت هذه الصورة عندما زار الرئيس محمد مرسي إيران، وتلويح أنظمة ما بعد الثورة ببناء عَلاقات مع إيران، كجزء من الضغط السياسي لنَيل معونات اقتصادية في ظلّ حالة الترهل التي تشهدها مصر ما بعد ثورة يناير، علاوة على التناغم المصري-السوري على خلاف منظومة الأمن الخليجي والعربي، وكذلك التلكؤ المصري في بدايات حرب اليمن، مما يؤكد فكرة حتمية تحول العَلاقات المصرية-الخليجية من مرحلة الشخصانية إلى عقيدة سياسية واستراتيجية، وفتح مسارات دمج وانصهار وتبادل خُطط واستراتيجيات بين مؤسسات سيادية وثقافية بين الجانبين الخليجي والمصري.
وفي سياق الأمن الخليجي وخطورته بالنسبة إلى مصر، يقول عمرو موسى: «في هذا السياق أيضًا لا يمكن إغفال قضية أمن الخليج العربي وحساسيات دول مجلس التعاون الخليجي التي تربطها بمصر عَلاقات استراتيجية وروابط خاصة، إزاء الجار الفارسي الذي يحب أن يعتبر نفسه صاحب النفوذ الحصري في هذه المنطقة، ذات الأغلبية العربية، ولذلك بات أمن الخليج ودعم استقرار دوله من المحدّدات المهمّة والرئيسية التي تحكم الحركة المصرية في التعاطي مع إيران. كل هذا مع أهمية التأكيد على أن شيعية إيران وسنّية مصر لم تكونا قط جزءًا من التفكير السياسي المصري[9]. كانت الخلافات استراتيجية، وللتبسيط يمكن القول إن الخلافات كانت ذات لون فارسيّ/ عربيّ وليست ذات جوهر شيعيّ/ سنّي»[10].
ويمكن القول إنه ربما نظرت الدبلوماسية المصرية في ذلك الوقت -في عهد عمرو موسى- إلى إيران كقوة إقليمية بعيدة عن الحدود المصرية، ومِن ثَمّ فتهديدها للأمن القومي المصري صعب للغاية وفق المعطيات، فقد كان حزب الله وقتئذ يعمل داخل الحدود اللبنانية ومنهمكًا في حرب استنزاف مع إسرائيل، ولم تكن إيران قد رتبت أوراقها بعد إنهاكها في الحرب العراقية، لكن حزب الله في ما بعد صار حزبًا عابرًا للحدود في سوريا واليمن والبحرين والكويت والعراق، وصارت إيران تهدد جسم الإقليم العربي ككلّ وليس أمن الخليج فقط، عبر تثوير الجماعات الأدنى في الدول العربية وتوظيفها كجماعات ضغط سياسيّ، مستغلة تسييس المذهب، بل إنّ الجهاز الأمني المصري فكك عددًا من خلايا حزب الله في سيناء المصرية، واعتقل أحد قيادات الحزب قبل ثورة يناير 2011م، وهرب من السجن في أثناء الثورة، ومِن ثَمّ فكان الملف الإيراني تتملكه رؤيتان: رؤية أمنية ورؤية دبلوماسية.
ثانيًا: الخلاف بين مؤسسات الحكم تجاه التعامل مع إيران
من بدهيات العمل السياسي تباين وجهات النظر داخل مؤسسات صُنع القرار، وبديهيّ أيضًا أن كلّ مؤسسة تعمل وفق معطياتها وقواعدها المعلوماتية وأهدافها الاستراتيجية، فالأجهزة الأمنية تنظر من رؤية الحفاظ على النسيج الوطني، والعمل للحيلولة دون تشكل جماعات أدنى تدين بالولاء لإيران، وتمثل عامل تجاذب طائفيّ مع المكونات السنّية الداخلية الأخرى. لكن الجهاز الدبلوماسي غالبًا ما ينظر من رؤية فتح قنوات الحوار والتواصل لإيجاد حلول وسط بين الأطراف المتصارعة، وكانت تلك الأجهزة على اختلاف رؤيتها ومهامّها ووظيفتها تقدّم التقارير لمؤسسة الرئاسة التي تمتلك اتخاذ القرار النهائي حصرًا.
1- إيران بين مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية:
يذكر عمرو موسى أن العَلاقة مع إيران وتركيا كانت محور أحاديث طويلة بينه وبين الرئيس مبارك، وقت أن كان وزيرًا للخارجية. وكان يعرض عليه مقترحات للتعامل معهما، وكان يرى أنه لا ينبغي أن يوصد كل الأبواب مع إيران، «ويجب أن نتحدث مع قادتها في القضايا التي تمثل حساسيات لدينا، لا سيّما في ما يتعلق بأمن أشقائنا في الخليج ومسألة الجزر الإماراتية، التي تستولي عليها [طنب الصغرى والكبرى وأبو موسى]، ودعم طهران للجماعات الإرهابية في مصر، وإطلاق اسم قاتل الرئيس السادات، خالد الإسلامبولي، على واحد من شوارع طهران»[11].
لكن الرئيس مبارك لم يقبل فتح قنوات تواصل مع إيران، في حين قبلها مع تركيا، باعتبار أنها في نهاية المطاف حليف للولايات المتحدة الأمريكية، وعضو في حلف الناتو، وليس بينها وبين دول الخليج مشكلات. أما في ما يتعلق بإيران فلم يكن يريد أن يتحمل أي مخاطرة، فهو بحسب عمرو موسى كان راسخ اليقين أن الرئيس السادات أخذ مخاطرة ضخمة بالصلح مع إسرائيل والإفراج عن الجماعات الإسلامية، فقُتل بسببها، وعبد الناصر أخذ مخاطرة بتحدي الغرب فهُزم[12]. وكان يتحسب من موقف الأشقاء في الخليج من هذه الخطوة، وفي أكثر من مرة يفكر بصوت عالٍ: «افترض أننا فتحنا عَلاقات مع إيران، فماذا سنستفيد؟ لن نستفيد شيئًا سوى غضب إخواننا في السعودية والإمارات والكويت، وكذلك الأمريكان[13]، دعك من هذا الموضوع»[14]. وهنا يذكر الرئيس مبارك المحدّدات الرئيسية الفعلية لموانع التطبيع، وهي:
– أمن الخليج العربي.
– وثاقة العَلاقات المصرية-الأمريكية.
وهذان المحدّدان رئيسيان في خلفية مؤسسة الرئاسة المصرية منذ زمن بعيد وحتى اليوم. ويُضاف إليهما بعض المحدّدات الأخرى، لا سيّما إذا كانت النظرة من بعض الأجهزة السيادية المصرية كالمخابرات العامة والحربية وجهاز أمن الدولة نظرة تشكيكية في نموذج الدولة الإيراني ما بعد ثورة الخميني، إذ إنّ إيران الشاه لم يكن لديها مشاريع تبشيرية في المنطقة، لكن إيران الخميني لا تأبه بالدولة الوطنية ولديها مشاريع تبشيرية ضخمة في المنطقة وفي مصر خاصة، حيث المراقد والمزارات القديمة لمؤسسي الدولة الفاطمية وعدد من رجال آل البيت. هذه النظرة الأمنية كانت هاجسًا لدى المصريين وإنْ لم تنسحب على الخطاب الإعلامي والدبلوماسي الذي اكتفى بالمحدّدات غير الآيديولوجية.
وعمل عمرو موسى على إقناع مبارك أنه لن يفرط قيد أنملة في حق الخليج والعرب، إذا ما فتح قنوات تواصل مع الإيرانيين، لكن مبارك رفض وأغلق الباب تمامًا. فيقول: «كانت قناعاتي الراسخة أنه على الرغم من كل هذه الألغام فإنّ إحداث تقارب مصريّ-إيرانيّ ليس مستحيلًا، لاعتقادي بأنّ ذلك من شأنه حفظ المصالح العربية في الخليج، وعدم ترك الأمور كلها تحت تصرّف القوى العظمى وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية. وبجانب ذلك فإنني من المؤمنين بأن إيران ليست إسرائيل، فهي دولة إسلامية وقوة إقليمية كبيرة تشارك العرب في التاريخ والحضارة، ومن المهم التفاهم معها، بما لا يخلّ بالمصالح العربية وبالذات الخليجية، بل يحافظ عليها في آن واحد»[15].
ويبدو جليًّا أن القرار النهائي كان لمؤسسة الرئاسة المصرية وليس لوزارة الخارجية، ذلك أن مؤسسة الرئاسة تتلقى تقريرات من مختلف الأجهزة السيادية ومنها تقريرات وزارة الخارجية نفسها، لكن وزارة الخارجية تبني السياسات وفق رؤيتها الدبلوماسية التي قد لا تكون محلّ قبول في النهاية من الأطراف الفاعلة في الدولة، والتي تملك معلومات لا تتوافر لمؤسسات مدنية. ففي 15 مايو 1992م التقى عمرو موسى علي أكبر ولاياتي[16] على هامش مؤتمر لحركة عدم الانحياز في جاكرتا. واتفق عمرو موسى مع ولايتي على التحضير لتفعيل دور بعثتَي رعاية المصالح بين البلدين وربما رفع درجة رئيسها إلى مرتبة سفير بصرف النظر عن وجود العَلاقات الرسمية، مع التقليل من الاعتماد على الرعاية السويسرية للمصالح المصرية في طهران وكذلك في القاهرة، وفتح الأبواب للحديث المباشر من دون وساطة. لكن مؤسسة الرئاسة المصرية عندما تلقت تقرير الخارجية عن هذا اللقاء، وقال عمرو موسى للرئيس مبارك إنه «آن الأوان لبحث العَلاقات مع طهران»، عارض مبارك الأمر بشدة[17].
وبعد مرور سنوات من هذا اللقاء بين عمرو موسى وولايتي، كان الدكتور مصطفى الفقي سفيرًا لمصر في فيينا [1995-1999م] ودعاه الدكتور علي الدين هلال عميد كلية العلوم السياسية وقتئذ لإلقاء محاضرة في ندوة بالكلية، وتعرّض الفقي للعَلاقات المتوترة مع السودان وإيران والعراق في ذلك الوقت، وقال إننا يجب أن نحافظ على جسور من العَلاقات مع هذه الدول. فتدخّلت مؤسسة الرئاسة واتصل الرئيس مبارك بعمرو موسى، وقال له إنّ مصطفى الفقي ينتقد سياستنا الخارجية، فهو إما أن يقطع إجازته ويعود إلى فيينا، وإما أن يترك منصبه إذا كانت سياستنا لا تعجبه[18].
وهذا التدخل الصارم والحاسم من الرئاسة المصرية وقتئذ بيّن أن الخلاف مع إيران استراتيجيّ وليس قابلًا للانكسار تحت وطأة انتقاد السياسيين أو حتى رؤية وزارة الخارجية المغايرة. ويؤكد أن مثل هذه الملفات الحساسة لم تكن تُدار أو تُترك فقط للأجهزة المدنية أو الدبلوماسية، بل كان هناك فاعلون خلف ستار، هؤلاء الفاعلون ينظرون إلى الملف المصري-الإيراني من منظور شامل، فبالإضافة إلى الأمن الخليجي والعَلاقات الأمريكية، واتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، هناك الجماعات الجهادية المصرية العنيفة التي كانت تتلقى دعمًا من إيران في ذلك الوقت، والتي هددت أمن واستقرار الدولة المصرية، والدولة المصرية بتاريخها الطويل وأحشائها العميقة ابتلعت كل حركات التمرد ولم تتفاوض مع متمردين عليها طيلة التاريخ، فكان القرار المصري بفتح عَلاقات مع إيران يُعَدّ رضوخًا للضغوط الإيرانية الممثلة في دعم الحركات الإرهابية التي قتلت الرئيس السادات واغتالت كُتابًا ومفكرين[19]، وأسالت دماء أفواج من السيّاح، بالإضافة إلى بنية الثورة الخمينية وأخذها على عاتقها تصدير الثورة ونصرة المستضعفين، ونحو ذلك من معتقدات تهدد أمن المنطقة. علاوة على معلم مهمّ آخر تتخوف منه الأجهزة السيادية المصرية، وهو أنّ النسيج المصري سنّي خالص، ولم تشهد مصر أي تجاذبات طائفية في تاريخها، والسماح بعَلاقات طبيعية وقوية مع إيران يؤدي إلى فتح الباب أمام عشرات الألوف من السياح الإيرانيين لزيارة عشرات المراقد والمزارات في مصر، مما يؤدي إلى نشر عادات التشيع وسط عموم المصريين، وهو ما يمكن أن يُحدث ثقوبًا في خريطة العادات والتقاليد المصرية المستقرة[20]، أو يُدخل الدولة المصرية في صراعات طائفية ودينية لم تعهدها في تاريخها كله، والأهم من ذلك التخوف من تشكيل بؤر وجماعات ضغط سياسيّ ودينيّ تدين بالولاء لإيران ونظام ولاية الفقيه وتهدد النظام السياسي المصري.
وعلى الرغم من معارضة مؤسسة الرئاسة المصرية لأي تقدم في العَلاقات المصرية-الإيرانية، استطاع عمرو موسى أن يرفع درجة بعثة رعاية المصالح إلى وزير مفوض، مع زيادة أعضاء البعثة، وهذا من سلطة وزير الخارجية، إذ لا يقدم رئيس مثل هذه البعثة أوراق اعتماد، ولا يعدّ ممثلًا لرئيس الجمهورية، وليست ثمة ضرورة لقرار من رئيس الجمهورية. وأبلغ عمرو موسى مبارك بذلك الإجراء من منطلق تخفيف دور السفارة السويسرية في طهران في العَلاقات المصرية-الإيرانية، ولم يعترض. وأصدر عمرو موسى تعليمات للبعثة الجديدة: «أكثروا من الاتصالات المباشرة وأرسلوا إليّ بكلّ ما تستطيعون من المعلومات عن إيران وأوضاعها وسياستها، كونوا موجودين في المجتمع الإيراني بقدر إمكانكم»[21].
وفي 25 سبتمبر سنة 1996م تجدّد لقاء عمرو موسى مع علي أكبر ولايتي على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في الجناح الخاص برئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وفي 6 مايو 1997م تمت أول زيارة لوزير خارجية إيرانيّ إلى القاهرة، فنقل ولايتي إلى الرئيس مبارك رسالة من الرئيس الإيراني رفسنجاني، تضمنت دعوة مصر لحضور القمة الإسلامية في طهران. وفي الفترة من 9 إلى 11 ديسمبر من نفس العام ترأس عمرو موسى وفد مصر في هذه القمة، تلبية للدعوة، وكانت هذه أول زيارة لوزير خارجية مصريّ إلى طهران منذ قطع العَلاقات سنة 1979م.
والخلاصة أنّ تعامل وزارة الخارجية مختلف تمامًا عن تعامل أجهزة الدولة المصرية الأخرى، لطبيعة وبنية ومهام تلك المؤسسات المختلفة تمامًا عن بنية وزارة الخارجية التي يدخل الخطاب الدبلوماسي كجزء أصيل في مهامها.
2- خلاف في أروقة الحكم.. وجهات نظر متباينة:
إذًا كطبيعة المسائل السياسية دائمًا ما توجد وجهات نظر مختلفة للتعامل مع القضايا المتشابكة والمعقدة، وفي الحالة المصرية-الإيرانية كانت هناك وجهتا نظر للتعامل مع السلوك الإيراني وفي التطبيع من عدمه، وهاتان الوجهتان المتعارضتان ما زالتا حتى اليوم.
وجهة النظر الأولى: التقارب مع إيران بما يحفظ المصالح المصرية والخليجية والعربية. ويمثل هذه النظرة عمرو موسى وبعض الدبلوماسيين المصريين مثل مصطفى الفقي وعليّ الدين هلال وغيرهم، بل إنّ أسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية أعلن في يناير 1998م أن «مصر لا تمانع في عودة العَلاقات مع إيران شرط عدم التدخل في شؤون مصر والدول العربية»، مما جعله في مرمى الانتقادات والاتهامات من الخارجية الإيرانية، التي على ما يبدو تريد تطبيع العَلاقات دون أي شروط.
وما زالت وجهة النظر هذه لها أنصار من الكتّاب والمفكرين، فإذا كان أسامة الباز مستشار مبارك من أنصارها فإنّ واحدًا مثل محمد حسنين هيكل الذي كان مقربًا من رئاسة الجمهورية، كان من أنصار وجهة النظر تلك[22]، وما زال الدبلوماسي المصري مصطفى الفقي يدعمها[23] وهؤلاء لا شكّ يشكّلون جماعة ضغط فكريّ دومًا على صانع القرار. ولكن الملاحظ أيضًا أن عددًا كبيرًا منهم غيّر قناعاته بعد أحداث الثورة السورية والتدخل الإيراني الخشن فيها، فبان الوجه القبيح لإيران في تلك الحرب، فنجد كُتابًا كبارًا من أمثال محمد السعيد إدريس وفهمي هويدي وآخرين تخلَّوا عن طرح التقارب مع إيران، أو شنّوا انتقادات واسعة ضد الممارسات الإيرانية في سوريا واليمن والإقليم.
وجهة النظر الثانية: كانت ترفض تمامًا أي تطبيع للعَلاقات المصرية-الإيرانية، وتريد الاكتفاء بالحد الأدنى من العَلاقات الدبلوماسية. ويمثل هذا التيار الأجهزة السيادية، ورئاسة الجمهورية ممثلة في شخص الرئيس والعدد الأكبر من مستشاريه والمقربين منه، في ذلك الوقت.
هذا الخلاف بين تيارين في أروقة الحكم أشار إليه عمرو موسى بقوله: «بهذا الموقف العلني [يقصد تصريحات أسامة الباز] المفاجئ الذي تمّ دون تمهيد، يشير إلى تردد في الموقف المصري من هذا الموضوع، وربما إلى اختلاف بين تيارين داخل الحكم»[24]. وعندما أراد عمرو موسى أن يبحث المسألة المصرية الإيرانية قال للرئيس مبارك: «أنا أقول فقط نبحث، والبحث سيتضمن وجهات النظر المؤيدة والمعارضة للمعنيين في أجهزة الدولة المصرية»[25].
ولكن هذا الخلاف لم يصل إلى درجة التصادم بين تلك المؤسسات ولم يؤدِّ إلى حدوث استقالات أو إقالات، بل هي مجرد وجهات نظر، لأنّ صناعة القرار في النهاية وتطبيقه من صلب السلطة التنفيذية وليست للمستشارين أو الخبراء. فيبقى القرار النهائي منوطًا برئاسة الجمهورية التي ترجح تقارير الأجهزة الأمنية والسيادية على التقارير الدبلوماسية، لا سيّما في القضايا الحساسة والساخنة والتي يدخل فيها عدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين. فلم تكن المسألة بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية ذات بُعد مصلحيّ اقتصاديّ فقط يتمثل في العَلاقات القوية مع دول الخليج ووجود مئات الألوف من العمالة المصرية في الخليج، بل تتضمن أيضًا مسارًا ربما لم يُعلن عنه أو يُلتفت إليه في أغلب الأوقات، وهو التخوف الحقيقي من الآيديولوجيا الإيرانية ومبدأ تصدير الثورة التي تضعه على عاتقها وتحمل لواءه، خصوصًا أنّ التجرِبة الإيرانية الخمينية كانت مصدر إلهام لبعض الجماعات الإسلامية والجهادية العنيفة في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين في مصر والعالم العربي[26]. وكان للرئيس مبارك بالإضافة إلى تلك الهواجس الأمنية حرص شديد على «العَلاقات المصرية مع دول الخليج، ذلك أن تلك الدول تعدّ أيّ تقارب مصري-إيراني تهديدًا مباشرًا لمصالحها، بجانب ذلك كان الرئيس يضع في حساباته رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من أي اقتراب من إيران»[27].
وظلّ مبارك متمسكًا بهذا النهج طيلة فتراته الرئاسية، حتى عندما أبدى النظام الإيراني انفتاحًا على العالم والعَلاقات الدولية في عهد محمد خاتمي. واتصل مبارك بخاتمي لتهنئته بقبول طلب إيران الانضمام إلى مجموعة دول الـ15 للتعاون الاقتصادي في الدول النامية، ثم التقى الرئيسان مبارك وخاتمي في 10 أكتوبر 2003م على هامش قمة المعلومات التي عقدت في جنيف، وهو أول لقاء بعد 25 عامًا من القطيعة بين الدولتين، مما أعطى انطباعًا وقتها بإمكانية تحسن العَلاقات بين الدولتين، ولكن بقيت القضايا والملفات الشائكة بين الجانبين دون أي حلول، وبقيت الهواجس المصرية تجاه السياسة الإيرانية في المنطقة لم تتغير، وبقي الرئيس مبارك قادرًا على التعامل مع الملف بهدوء أعصاب كعادته، إذ يؤْثِر راحة البال في مثل تلك القضايا الساخنة، ويُغلِق الباب تمامًا أمام أي مخاطر، «فكانت سياسته وشخصيته ضد أخذ المبادرات وتحمّل المخاطر، وهذا كان جوهر الاختلاف في منطلقات تشكيل الرأي والموقف المصري، بين الخارجية ومؤسسة الرئاسة»[28]. لكن وبعد انتهاء فترة خاتمي التي تحسنت فيها إلى حدٍّ ما العَلاقات المصرية-الإيرانية، ازدادت الهوّة بين مصر وإيران أكثر مما كان متوقعًا، «فلم تتحسن العَلاقات بين الدولتين، بل اتسعت حدّة الخلاف بينهما»[29]. والخلاصة أن رؤية مبارك تجاه إيران سيطر عليها المنظور الأمني، متماهيًا مع رؤية الأجهزة السيادية للدولة المصرية[30].
ولكن يبقى السؤال: هل تغيرت مفردات السياسة المصرية تجاه طهران ممثلة في مؤسسة الرئاسة عمّا كانت عليه في عهد مبارك؟ بنظرة بسيطة للتقاطعات المصرية-الخليجية وخصوصية تلك العَلاقات في مواقع كثيرة، وإن لم تأخذ طابع العقيدة السياسية والاستراتيجية بعد، يدرك صانع القرار أنها أنفع وأدوَم للدولة المصرية، ولم تصل بعدُ فوائد التطبيع مع إيران إلى تعادل، فضلًا عن أن تفوق الدول الخليجية، هذا لو نظرنا من الناحية الاقتصادية البحتة. ومن الناحية السياسية فإنّ الدولة المصرية لا تتحمل هزات عنيفة في العَلاقات المصرية-الخليجية جرّاء التطبيع مع إيران، وكذلك لوجود تحفّظات أمريكية جادة وحقيقية تجاه ذلك التطبيع[31]، مما يؤكد استمرارية القطيعة المصرية-الإيرانية على المديين القريب والمتوسط، ولا توجد مخارج استراتيجية سوى ذلك إذا لم تحدث تغييرات دراماتيكية في المشهد الإقليمي، حتى ولو استُعملت ورقة التقارب مع إيران كورقة ضغط مصرية وكنوع من المزايدة السياسية والاقتصادية في بعض المراحل، أو كنوع من رغبة دفينة عند صانع القرار بالتقرب من طهران حسب ما يُفهم مما ذكره حسنين هيكل، إلا أنّ الصورة الكاملة خليجيًّا وإقليميًّا ودوليًّا -خصوصًا أمريكيًّا- تحتم على صانع القرار المصري أن يرجّح الاستمرار في نفس التوجه المتوارث منذ عهد مبارك تجاه طهران -حتى لو استبعدنا العامل الخليجي من المشهد- مفضلًا أن تبقى مسألة تطبيع العَلاقات معها ورقة ضغط كلما أراد توظيفها اقتصاديًّا وسياسيًّا، لكن المؤكد أنها لن تتعدى إلى واقع وفعل على الأرض.
ثالثًا: رابطة الجوار العربي.. مقاربة لتسوية الخلاف
حاول عمرو موسى أن يؤطر لتسوية النزاع والتوتر القائم مع طهران عبر توسيع دائرة الإقليم العربي ليضمّ إليها ما سماه «رابطة الجوار العربي»، ويقصد بها تلك الدول الرئيسية التي تجاور العالم العربي، وارتأى أن أنجح السبل لتخفيف التوتر معها هي فتح قنوات تواصل ومسارات حوار معها، ويرى أنّ توطيد العَلاقات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية من شأنه أن يجبر تلك الدول للحفاظ على مصالحها وتمتين عَلاقاتها مع الجوار العربي، والعمل على ترسيخ السلم العام خوفًا على مصالحها. وفي نفس الوقت لم تسعَ الدبلوماسية المصرية إلى أن يصل هذا الترشيد في العَلاقات لدرجة التطبيع. فيقول: «ويمكنني القول إنّ إدارتي للسياسة الخارجية المصرية تجاه هاتين القوتين -تركيا وإيران- الإقليميتين كانت تستهدف تضييق مساحات الاختلاف، والتقارب مع تركيا ومحاولة ترشيد العَلاقة مع إيران في إطار المحدّدات التي سبقت الإشارة إليها»[32]. وفي أثناء توليه منصب أمين عام الجامعة العربية طرح عمرو موسى مبادرة سنة 2010م في قمّة سرت لتأسيس «رابطة الجوار العربي»، واقترح أن تضم تركيا وإيران مع دول إفريقية ومتوسطية عديدة.
وقد طرح نفس المبادرة عندما كان وزيرًا للخارجية المصرية في حديث له مع «الأهرام ويكلي» منشور في 22 أكتوبر 1998م، وفي أكثر من مناسبة أخرى في تسعينيات القرن الماضي. ويقول: «من يقارن بين ما طرحته في هذا الصدد سواء في سنة 1998م أو في 2010م سيكتشف أن سياسة التقارب مع دول الجوار العربي ومنها إيران وتركيا ومعهما إثيوبيا هي سياسة ثابتة لديّ، وفق معطيات واضحة أساسها الحفاظ على الحقوق والمصالح العربية، لاعتقادي أنه بإمكانها احتواء أي توتر في الإقليم. فما دام العرب سيتحدثون حديث المصلحة المشتركة بما تعنيه من استثمار وسياحة وتجارة… إلخ، بالإضافة إلى الجوار الهادئ وفي إطار سياسة نشطة وذكية وجديدة، فلا قدرة لطهران أو أنقرة بل لا حاجة لهما إلى اتباع سياسات الهيمنة على المنطقة أو محاولة فرض إملاءات عليها»[33].
رابعًا: تحوّلات السياسة الإيرانية.. السياسة التدميرية
ورغم أنّ الخارجية المصرية كانت في ذلك الوقت من المتحمسين لفتح عَلاقات متكافئة ومتوازنة مع إيران، فإنها كانت تدرك أيضًا السياسة التدميرية لإيران في المنطقة، ورصد عمرو موسى هذه السياسة التدميرية في النقاط التالية:
1- استخدام المذهبية في محاولة تحقيق السيطرة والاستئثار داخل بعض المجتمعات العربية، وهو ما تكون له ردود أفعال مساوية لها في المقدار.
2- محاولة خلق ولاءات تتعدى الوطن والمواطنة «ولاية الفقيه لا ولاية السلطة الشرعية في البلاد»[34].
3- تطلعات السيطرة الإقليمية التي تعمل على إقامة مجال حيويّ إقليميّ ورد الفعل الرافض لذلك، ومحاولة خلق ما يمكن أن يطلق عليه «الهلال الشيعي»[35]، مثلما ذكر الملك عبد الله ملك الأردن، ورد الفعل الطبيعي لدى السنّة لمواجهته[36].
وهذه النقاط التي رصدها عمرو موسى وتخوّف منها ما زالت تصبغ السياسة الخارجية الإيرانية حتى اليوم، بل تجذرت واتسعت عما كانت عليه في التسعينيات من القرن الماضي.
فالخارجية المصرية كانت تدرك تطلعات إيران التوسعية والتدميرية في المنطقة، ولكنها في نفس الوقت كانت تأمل في فتح قنوات تواصل وحوار معها من أجل تخفيف حدّة العداء ونبرته، وربما كانت هذه الرغبة ممثلة في رأس وزارة الخارجية في ذلك الوقت السيد عمرو موسى كما هو واضح من عباراته، وتلك الرغبة في الحوار ربما سببها غير المكونات النفسية والانتماءات السياسية للسيد عمرو موسى أن العَلاقات لم تُقطع في ولايته لحقبة الخارجية، بل قُطعت منذ عهد الرئيس السادات، فظنّ عمرو موسى أنّ قطع العَلاقات هو السبب الرئيسي في استعداء إيران للقاهرة، لكن الواقع أنه حتى الدول التي فتحت سفاراتها في طهران، ورحبت بالحوار معها، لم تسلم من التدخلات الإيرانية، ولا من تأسيس ميليشيات مرتبطة بها داخل تلك الدول، والسعي لتأميم القرار السياسي لصالحها على حساب استقلالية وسيادة الدول، وصار هذا واقعًا في السياسة الخارجية الإيرانية حتى اليوم، ولم تتخلَّ إيران عنه، ولا توجد أيّ بوادر حُسن نية للتخلي عنه.
خاتمة: القرار الاستراتيجي المصري.. ديمومة النهج
والخلاصة أنه يمكن القول إنّ مؤسسة الرئاسة المصرية كانت هي التي تمتلك المخرج النهائي للقرار السياسي، لطبيعة النظام السياسي المصري ومركزيته، وإنّ تأثير تقارير مؤسسات الأمن القومي والأجهزة السيادية تحدّد أولويات مؤسسة الرئاسة أكثر من تقارير وزارة الخارجية ومنظمات المجتمع المدني. وحكمت عدّة محدّدات القرار المصري بعدم تطبيع العَلاقات مع إيران، من أهمّها مسألة أمن الخليج، والعَلاقات المصرية-الأمريكية، وموقع مصر في المحيط والإقليم بعد اتفاقية كامب ديفيد، بالإضافة إلى تخوّف عميق ومتجذر من عمليات تبشير إيرانية واستغلال إيران لبعض الجماعات والتيارات داخل الدولة المصرية، مما يُسبب -لو تم التهاون معها- إلى تغيير عميق في بنيوية النسيج الاجتماعي المصري، ويؤدي بمرور الزمن إلى دخول مصر إلى مربّع التجاذب الطائفي، الذي لم تعهده الدولة المصرية طَوال تاريخها. ولذا فإنّ الباحث يتوقع ديمومة النهج المصري المتمثل في القطيعة تجاه الدولة الإيرانية، لا سيما في ظلّ التقلبات والعواصف الراهنة التي تمر بها المنطقة والتي تجبر الجميع على الحفاظ على التحالفات التقليدية العميقة والموروثة من نهايات القرن الماضي.
وفي المقابل كان هناك إصرار إيرانيّ ورغبة جامحة في تقريب المسافات مع القاهرة، ولكن في نفس الوقت دون التنازل عن أيّ من مشاريعها التوسعية والتدميرية في المنطقة، ودعمها المطلق لجماعات العنف العابر للحدود، وكذلك جاءت تلك الرغبة الإيرانية دون وضع شروط أو إملاءات على القاهرة بقطع العَلاقات مع إسرائيل أو إلغاء اتفاقية كامب ديفيد التي كانت من أسباب قطع العَلاقات بين الدولتين، مما يثير هواجس عن نية النظام الإيراني من وراء تلك الرغبة الملحّة في عودة العَلاقات بين البلدين.