أسباب تعيين لاريجاني أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي في ظل التحديات الأمنية الإيرانية

https://rasanah-iiis.org/?p=38048

بواسطةنديم أحمد مونكال

يعكس قرار تعيين علي لاريجاني أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، خاصةً وأنه اتُخذ في ظِل الضغوط السياسية الداخلية المتصاعدة، والتحديات الجيوسياسية المتنامية، والهشاشة الاقتصادية، مساعيَ طهران للتعامل مع التحديات الملحّة التي تواجهها الآن. وتأتي هذه التغييرات الأخيرة، التي شملت تعيينات جديدة وتأسيس بنى تحتية دفاعية إضافية، في سِياق الجدل الداخلي الدائر بين «المتشددين» و «المعتدلين» حول تداعيات الحرب مع إسرائيل وخيارات إيران المستقبلية.

في أغسطس الماضي، أنشأ المجلس الأعلى للأمن القومي مجلسًا للدفاع يخضع لسلطة الرئيس المباشرة، ويضم رؤساء السلطات الثلاث والوزراء وكبار القادة العسكريين؛ ويُعدّ المجلس الأعلى للأمن القومي أعلى سلطة في رسم السياسات الأمنية في إيران، ويعمل تحت إشراف مُباشر من المرشد الأعلى الذي يُعيّن أمينه وأبرز أعضائه، ليضمن السيطرة على قراراته. وتشمل مهامه وضع السياسات الدفاعية والأمنية، وضمان التنسيق بين المجالات الاستخبارية والسياسية والاقتصادية، وحشد الموارد لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية. ويرى «المعتدلون» و«الإصلاحيون» أن تعيين لاريجاني في هذا المنصب مؤشرٌ لاحتمال إبداء مرونة، في وقت تواجه فيه طهران معضلات وخيارات صعبة على مستوى سياساتها الإقليمية والخارجية.

يمتدُ المسار السياسي لعلي لاريجاني لأربعة عقود، عكست خلالها مسيرتهُ قدرته على التكيّف في أوقات حرجة، مع الحفاظ على ولائه ثابتًا للمرشد الأعلى علي خامنئي. وقد وُلد في النجف عام 1958م لأسرة دينية بارزة، حيث شكّلت الروابط العائلية والأيديولوجية مشواره بعمق. وعزّز زواجُه من ابنة آية الله مرتضى مطهري، أحد أبرز منظّري «الجمهورية الإسلامية» وقادتها، قربهُ من النُخبة الدينية-السياسية في إيران، وفتح أمامه أبواب دوائر النفوذ. كما شغل أشقاؤه مناصب مؤثرة في القضاء والبرلمان والدبلوماسية، ما يعكسُ عمق نفوذ العائلة داخل المنظومة. وكان من أبرز مناصبه المبكرة تعيينه وزيرًا للثقافة ورئيسًا لهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية. وبين عامي 2005م -2007م، تولى منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي للمرة الأولى خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد، حيث أشرف على مفاوضات نووية حساسة وخطط دفاعية، محاولًا الموازنة بين إصرار إيران على طموحاتها النووية والحفاظ على علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وروسيا. استقال لاريجاني عام 2007م بسبب خلافات حادة مع الرئيس نجاد. وفي مفاوضات 2015م النووية، دعمَ «خطة العمل الشاملة المشتركة | JCPOA» داخل البرلمان رغم معارضة بعض «المحافظين» و»المتشددين«. ورغم قُربه من المرشد الأعلى، واجه تهميشًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إذ استبعدهُ مجلس صيانة الدستور لأسباب قانونية.

وقد عمل لاريجاني مع «المتشددين» و«الإصلاحيين» على السواء، ما جعلَ مسيرته تعكس براغماتيةً ميّزتها القدرةُ على التوفيق بين اعتبارات الواقعية السياسية ورؤية خامنئي الأيديولوجية والاستراتيجية. وهو يحمل عقودًا من الخبرة في التنقل بين دهاليز السياسة الداخلية، ومعادلات القوة الإقليمية، والدبلوماسية الدولية. وعودته تعكسُ أولويات النظام الإيراني في تثبيت آليات اتخاذ القرار، وإدارة مسار المفاوضات النووية المقبلة، ومحاولة إنعاش النفوذ الإقليمي لإيران.

للتغييرات الأخيرة تداعياتٌ محليةٌ وإقليميةٌ بارزة. داخليًا، تهدف إلى تعزيز التوافق، ومواءمة الأولويات الأمنية مع السياسات العامة، والاستعداد لمواجهة تحديات، مثل إعادة فرض العقوبات الأُممية عبر «آلية الزناد» أو ما يُعرف أيضًا بـــ «آلية السناب باك» من جانب الدول الأوروبية الثلاث. وسيضطلع لاريجاني بمهمةٍ شديدةِ الحساسية في صياغة أيّ مفاوضات محتملة، خصوصًا مع الترويكا الأوروبية أو أطراف دولية أخرى، دون أن يمسّ بالموقف الأيديولوجي لخامنئي، الذي يرفض باستمرار أيَّ انفتاحٍ جادٍ على الولايات المتحدة في السياق الحالي.

وفي مقابلة حديثة، انتقد لاريجاني قيادة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» واعتبرها تفتقدُ للمصداقية بعدما فشلت في إدانة الهجمات على المنشآت النووية الإيرانية، ويراها انحازت عمليًا إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. وأكدَّ أنَّ إيران، رغم التزامها بمعاهدة حظر الانتشار النووي واستعدادها للتفاوض، يحب أن تتبع نهجًا قائمًا على القوة والحذر، بحيث لا تقدم تنازلات في المفاوضات. ومن المرجح أن يسعى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى تحقيق توازن بين الخطاب الأيديولوجي للنظام الحاكم والضرورات العملية، عبر دفع المفاوضات قدمًا لتقليل مخاطر العقوبات أو التصعيد العسكري، مع المحافظة على مظهر الاتساق الأيديولوجي والوحدة الوطنية.

إقليميًا، تعكس تحركات لاريجاني الأخيرة في لبنان والعراق سعيَ طهران لتأمين نفوذها في ساحات حيوية. فقد وقَّـعت إيران والعراق مذكرة تفاهم حول أمن الحدود تهدف إلى منع أي زعزعة من أطراف ثالثة. ورغم أن الحكومة العراقية قلّلت من أهميتها ووصفتها بأنها «اتفاق روتيني»، عارضتها الولايات المتحدة معتبرةً إياها «تهديدًا» للسيادة العراقية. أما في لبنان، فقد جاءت الزيارة وسط ضغوط متصاعدة على «حزب الله» من الحكومة اللبنانية لنزع سلاحه، وهو مسارٌ تعتبرهُ بيروت أساسيًا لاستقرارها الداخلي وللحصول على دعم إقليمي وغربي. ومن خلال الانخراط المباشر مع القيادات اللبنانية، يسعى لاريجاني لضمان بقاء النفوذ الإيراني متماسكًا. وبالمثل، تعكس تحركاته في العراق حرصَ إيران على ترسيخ تحالفاتها الاستراتيجية مع بغداد.

وأكثر من أي وقت مضى، تحتاج إيران إلى تنسيق أوثق مع روسيا والصين. وتؤكد تحركات لاريجاني الخارجية أهميةَ الاستفادة من هذه الروابط. ولقاؤه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يُبرز مكانةَ الدعم الروسي والصيني لإيران في الظروف الراهنة، رغم إدراك طهران أن أيًا منهما لن يدافع عنها عسكريًا في حال اندلاع حروب أو صراعات إقليمية. لذا، يتعينُ على إيران أن تُدير عزلتها بحذر، مستخدمةً شبكاتها الدبلوماسية لتأمين هوامش حركة سياسية دون الاعتماد على تدخل خارجي مباشر. وتسعى المؤسسة الإيرانية إلى استثمار خبرة لاريجاني الطويلة وعلاقاته المتينة ومصداقيته لدى موسكو وبكين؛ لتعظيم قنوات النفوذ.

اكتسبت التغييرات الأخيرة أهميةً خاصة بعدما كشفت الحرب مع إسرائيل عن ثغرات في قدرات إيران الدفاعية والاستخبارية. فقد أظهرت المواجهةُ حجم هشاشة بنية الدفاع والاستخبارات الإيرانية، وأتاحت الأنشطةُ التجسسيةُ لإسرائيل استهدافَ قادة عسكريين وعلماء نوويين، ما دفع طهران إلى اعتقال مئات المشتبه بتورطهم. ومن هنا، سيمتد دور لاريجاني إلى تعزيز الأمن الداخلي، واستعادة الثقة في أجهزة الاستخبارات ومكافحة التجسس، وضمان تحويل دروس الحرب الأخيرة إلى خطط دفاعية عملية، كما أكدَّ في تصريحاته الأخيرة. ومن الضروري للنظام الإيراني، وهو الآن في أضعف حالاته، إعادة بناء قوة ردع ذات مصداقية. غير أن كيفية تحقيق ذلك تبقى غير واضحة، خاصةً في ظل غياب أي ردع فعلي للهجمات الأمريكية والإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية وعمليات الاغتيال التي طالت قادةً بارزين وعلماء، وهذا ما شكّل سابقةً خطيرة تهدد الأمن القومي الإيراني واستقرار المؤسسة.

وتؤكد عودة لاريجاني سعيَ طهران نحو الاستقرار والاتساق الاستراتيجي، غير أن مواطن الضعف العميقة تبقى دون معالجة. فرغم أن خبراته وبراغماتيته قد تفتح مسارات لإعادة ضبط السياسة الأمنية والدبلوماسية، لا تزال الاختلالات البنيوية، والعزلة الدولية، وصعوبة تثبيت قوة ردع فعّالة تكبّل خيارات إيران. وقد تُساهم المجالس الجديدة ومركزية السلطة في تسريع اتخاذ القرار، لكنها لن تُعوّض الكلفة الاستراتيجية للخسائر العسكرية والاستخبارية والدبلوماسية. وفي النهاية، يبقى غير مؤكد ما إذا كان تعيين لاريجاني سيُحدث تحوّلًا جوهريًا في مسار إيران، أم سيقتصرُ على إدارة أزماتها مؤقتًا.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

نديم أحمد مونكال
نديم أحمد مونكال
باحث في معهد الدولي للدراسات الإيرانية «رصانة»