في خطوة تصعيدية وسط التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والهند، فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رسومًا جمركية بنسبة 50% على الصادرات الهندية إلى السوق الأمريكية، مبررًا ذلك باستمرار نيودلهي في شراء النفط من روسيا، حيث تُعد الهند ثاني أكبر مشترٍ للنفط الروسي بعد الصين. كما حثّ ترامب مؤخرًا الاتحاد الأوروبي على فرض رسوم تصل إلى 100% على صادرات الصين والهند. وجاءت هذه التطورات في ظل تصاعد القلق بشأن مستقبل العلاقات التجارية بين واشنطن ونيودلهي، وما قد يترتب على هذه التطورات من انعكاسات على الشراكة الإستراتيجية بين الجانبين.
بدأت حدة التوتر ترتفع بعد تأكيدات ترامب المتكررة أن الولايات المتحدة لعبت دور الوسيط للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الهند وباكستان، وهو ما رفضته الحكومة الهندية رفضًا قاطعًا، متمسكةً بسياستها الراسخة الرافضة لأي وساطة خارجية في نزاعاتها مع إسلام آباد. وكانت إدارة ترامب قد انتقدت في السابق علاقات الهند بروسيا، لكن المسؤولون الهنود دافعوا عن استيراد النفط الروسي باعتباره ضرورة لأمنهم الطاقي واقتصادهم المتنامي. وفي هذا السياق، اعتبر وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار، أن المعايير التي فُرضت على بلاده لم تُطبَّق على الصين أو الاتحاد الأوروبي، وكلاهما يواصل شراء النفط من موسكو. في المقابل، رد كبار مسؤولي إدارة ترامب، قائلين إنَّ نيودلهي تستفيد من خصومات النفط الروسي عبر تكريره وإعادة تصديره؛ فقد صعّد مستشار البيت الأبيض للتجارة بيتر نافارو، من لهجته مشككًا في استعداد الهند لإعادة تشكيل شراكاتها في الطاقة، ومُحذرًا من أن انحيازها إلى روسيا والصين «لن ينتهي بخير». وترددت تقارير عن إلغاء الهند زيارة كان من المقرر أن يقوم بها وزير الدفاع راجناث سينغ إلى واشنطن وتعليق محادثات بشأن صفقات تسليح كبرى، لكن وزارة الدفاع الهندية نفت ذلك، ووصفت التقارير بأنها «كاذبة ومفبركة»، مؤكدةً أنَّ إجراءات التعاقدات تسير وفق المسار المعتاد.
ويمثل استهداف واردات الهند النفطية من روسيا تحديًا كبيرًا لنيودلهي، يختلف عن قرارها السريع بوقف استيراد النفط الإيراني في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات عام 2018م. لأن الهند لم تُبدِ أي نوايا لإيقاف استيرادها من النفط الروسي، وهذا لأنها لا ترى في روسيا مصدر طاقة حيوي فحسب، بل أيضًا شريكًا إستراتيجيًا ودفاعيًا طويل الأمد، ما يجعل التخلي عنها معقدًا للغاية. كما أن قطاع التكرير الهندي يُشكل ركيزةً مهمةً لاقتصاد البلاد، إذ يُسهم بما يقارب 15 إلى 20% من إجمالي الصادرات. ففي عام 2023م، بلغت صادرات الهند من المنتجات النفطية المكررة نحو 86.28 مليار دولار، لتصبح ثاني أكبر مصدر عالمي، حيث تُعد أوروبا والولايات المتحدة وبريطانيا أبرز المستوردين. وبحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة، ستصبح الهند أكبر مستورد للنفط النفط في عام 2030م، وذلك في ظل زيادة قدرتها على تكرير النفط.
وفي ظل هذا التصعيد، تُواجه الحكومة الهندية ضغوطًا داخليةً وخارجيةً كبيرة؛ فنيودلهي تحاول دبلوماسيًا احتواء الأزمة لتجنب تفاقمها، مُدركةً أن نزاعًا تجاريًا متفاقمًا مع واشنطن قد يُهدد قطاعات التصدير كثيفة العمالة، وبالتالي فرص العمل والنمو الاقتصادي. ووفقًا لتقارير، لجأت السفارة الهندية في واشنطن إلى التعاقُد مع شركة الضغط السياسي «ميركوري بابلك أفيرز» لتهدئة التوترات مع الإدارة الأمريكية.
وتُعد العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة ذات أهمية كبيرة للهند، نظرًا لكونها السوق الكُبرى الوحيدة التي تُحقق فيها نيودلهي فائضًا تجاريًا ملموسًا، لا سيما في المجالات مثل: الأدوية والمجوهرات والإلكترونيات والمنسوجات. لذا، فإن أي إجراءات جمركية أمريكية ستهدد مُباشرةً مكاسب الهند التصديرية، وتُضعف قدرتها التنافسية، وتفرض ضغوطًا على شراكتها الاقتصادية مع واشنطن. ومن الضروري للهند تجنب تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة، لاسيما أنها سعت بنشاط في السنوات الأخيرة إلى تعميق التعاون الدفاعي وإقامة شراكة إستراتيجية أوسع مع واشنطن. فواشنطن تُدرك أيضًا أن استبعاد الهند ليس خيارًا مطروحًا، فهي شريكٌ إستراتيجيٌ مهمٌ لموازنة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين «الهندي والهادئ»، وتعي جيدًا أن الضغط المُفرط على الهند سيولد نتائج عكسية. ومع ذلك، لا تستطيع الهند تحمل التخلي عن روسيا، التي لطالما كانت شريكتها في الدفاع والطاقة.
داخليًا، يواجه رئيس الوزراء ناريندرا مودي تدقيقًا سياسيًا، حيث تتهمه أحزاب المعارضة بالمبالغة في التودد لإدارة ترامب، وهو انتقاد يلقى صدى واسعًا نظرًا لاعتماد مودي في السابق على إنجازات السياسة الخارجية لتعزيز حملاته الانتخابية. وزاد هذا الانتقاد حدةً تقاربه اللافت للنظر مع ترامب خلال زيارات سابقة، بما في ذلك الحدث الذي حظي بتغطية واسعة تحت شعار «ناماستي ترامب»، فإن فرض الرسوم الجمركية اليوم ينسف رواية الدبلوماسية الشخصية الناجحة التي حاول تسويقها. داخليًا وخارجيًا، يتعيّن على حكومة مودي أن تُظهر قدرتها على إدارة الضغوط الخارجية بفاعلية دون المساس باستقلالية الهند. وقد تجلى ذلك في مشاركة مودي بالقمة الأخيرة لمنظمة «شنغهاي» للتعاون، حيث سعت الهند، من خلال الانخراط مع روسيا والصين في إطار واحد، إلى التشديد على تمسّكها بالاستقلالية الإستراتيجية وإيصال رسالة بأنها ترفض أن تُصنَّف في إطار الاصطفاف الحصري مع الغرب.
وفي السياق الجيوسياسي الأوسع، تشترك الهند والولايات المتحدة في مصالح مشتركة عميقة وواسعة تُشكّل أساس العلاقات الثنائية بينهما؛ فالنزاع الحدودي المستمر بين الهند والصين، والدعم الصيني لباكستان، والموقف الصيني المتشدّد في منطقة المحيطين «الهندي والهادئ»، جميعها ملفات إستراتيجية تُثير قلق نيودلهي وواشنطن على حدٍ سواء. هذه الحقائق الجيوسياسية الراسخة تُمثل بنية العلاقات الهندية-الأمريكية، وتضمن أنه حتى في لحظات الاضطراب، تبقى عوامل التقارب أقوى من عوامل الاختلاف.
إن تكرار الإجراءات الجمركية القسرية يهدّد بتآكل الثقة في الشراكة، مما يُثير شكوك الهند حول موثوقية الولايات المتحدة كشريك إستراتيجي، ويعقّد حساباتها ويدفعها إلى اتباع سياسات تحوّط أكثر حزمًا. وكلما طالت فترة هذه التوترات، زاد خطر تقويض مصداقية الالتزامات الأمريكية في آسيا، ما يُعزّز في الوقت نفسه من إرادة الهند في الحفاظ على استقلاليتها الإستراتيجية وترسيخ مكانتها في نظام دولي متعدد الأقطاب.
وقد أعلن ترامب مؤخرًا عبر منصة «تروث سوشيال»، أن الهند والولايات المتحدة تستأنفان المحادثات التجارية، في لهجة متفائلة تبنتها نيودلهي، مما يعكس تخفيفًا تكتيكيًا للتصعيد. فواشنطن تسعى للحفاظ على أدوات الضغط، بينما تحاول الهند الموازنة بين استقلاليتها الإستراتيجية وضغوطها الاقتصادية المتزايدة. في هذا السياق، من غير المرجّح أن ترضخ نيودلهي لضغوط ترامب، بل ستواصل التحرك في المسارات الدبلوماسية لإدارة الموقف، مع استمرارها في المفاوضات مع واشنطن للتوصل إلى اتفاق تجاري. وستحظى طريقة تعاملها مع هذه المواجهة بمتابعة دقيقة من القوى الأخرى، التي قد تنظر إليها كاختبار لمدى قدرة الولايات المتحدة على حصر حلفائها وشركائها، أو مدى تأثير هذا الضغط الأمريكي على شريك إقليمي رئيسي.