واجهت الجهود الدبلوماسية الأمريكية الهادفة إلى تعزيز السلام والاستقرار في لبنان مؤخرًا عقبًة كبيرًة بعد رفض «حزب الله» التَخلي عن سلاحِه. وكان المبعوث الأمريكي الخاص توم باراك، خلال زيارته الثالثة لبيروت خلال أسابيع -بين 21 و22 يوليو- قد أعاد التأكيد على موقف واشنطن الثابت من هذه القضية. وقال إن «السلاح يجب أن يكون في يد الدولة اللبنانية فقط». وأضاف باراك، أن المحادثات الأخيرة تُعقد نيابًة عن لبنان، وليس «حزب الله»، في تأكيدٍ على سياسة واشنطن بشأن عدم التعامل مع هذا «التنظيم» المدعوم من إيران، والمُصَنف ضمن المنظمات «الإرهابية» في القوائم الأمريكية. فيما أكد الأمين العام للحزب نعيم قاسم، التمسك بالسلاح. وقال: «لن نستسلم، ولن نُسلّم سِلاحنا لإسرائيل»، في تحٍد مُباشر لحكومة لبنان «الإصلاحية» ولمساعي الوساطة الأمريكية، ما يجعل إمكانية التوصل إلى اتفاق يُنهي المواجهات الحدودية مع إسرائيل، ويُعيد سيادة الدولة اللبنانية على الجماعات المسلحة في الداخل، محل شك.
وترسم المبادرة الأمريكية خارطة طريق تدريجية، تبدأ بوقف مؤقت للهجمات الإسرائيلية على لبنان لمدة 15 يومًا، وهو مُقترح طرحه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، في المقابل تبدأ لبنان عملية نزع سلاح «حزب الله» بشكل تدريجي، بهدف توحيد القوة العسكرية تحت لواء الجيش اللبناني. وربطت الولايات المتحدة هذه الإجراءات الأمنية بتقديم دعم كبير للمؤسسات الأمنية اللبنانية، بما يشمل زيادة تمويل الجيش وتقديم المساعدة التقنية لإصلاح القطاع المالي. وكرر المبعوث الأمريكي التأكيد على أن واشنطن لا تفرض مطالب، بل تطرح «أفكار ومساعدات» للمساهمة في إيجاد نهج يقوده اللبنانيون لحل الأوضاع في البلاد. واعتبر أن «نزع السلاح ضرورة اقتصادية بقدر ما هي أمنية». وأوضح باراك، أن «انعدام الأمن حال دون استغلال لبنان لدوره التاريخي كوجهة اقتصادية وسياحية في المنطقة». وصرح: «على مدى خمسين عامًا، إذا جُني دولار واحد في الشرق الأوسط، كان نصيب لبنان منه خمسة سنتات، فقط… لأننا فقدنا الأمن».
وأبدت الحكومة اللبنانية انفتاحًا حذرًا تِجاه المبادرة الأمريكية. إذ وصفها رئيس الوزراء نواف سلام، بالـ «فرصة، لكنه ربطها بانسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلة، وإنهاء الانتهاكات اليومية لوقف إطلاق النار الموقع عام 2024م. أما «حزب الله»، فيتمسك بسلاحه انطلاقًا من مبررين رئيسين. الأول: أن الحزب يرى في السلاح ضرورًة رادعة لأي عدوان أو توسع إقليمي من جانب إسرائيل، وفي هذا السياق أشار نعيم قاسم، إلى أحداث الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م، وحرب عام 2006م، وأكد أن «المقاومة المسلحة» وحدها تحمي السيادة اللبنانية. والثاني: أن «حزب الله» يرى أن الجيش غير قادر على ردع إسرائيل وحده، وأنه بحاجة إلى دعم بنية «حزب الله العسكرية». وقال قاسم، بوضوح في هذا السياق: «لن نتخلى عن إيماننا ولا عن قوتنا… وحاضرون للمواجهة». وبدلًا من نزع السلاح الكامل، يقترح «حزب الله» مُناقشة مسألة السلاح ضمن إستراتيجية دفاع وطني، يُدمج فيها «الحزب» في مؤسسات الدولة، دون تفكيكه.
يُبرز هذا الموقف التناقض بين هدف الدولة باحتكار السلاح، والواقع الذي يفرضه «حزب الله» كقوة عسكرية وسياسية هجينة. فالحزب يمارس نفوذًا خارج سيطرة الدولة، ويرتبط بأجندة إقليمية تقودها إيران. ويزيد من تعقيد المفاوضات مواقف إسرائيل، فمنذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 2024م وحتى مايو 2025م، نفّذت إسرائيل أكثر من 3000 غارٍة جويٍة على الأراضي اللبنانية، بحجة استهداف مواقع عسكرية لـ «حزب الله»، أسفرت هذه الضربات عن مقتل أكثر من 200 شخص، بينهم مدنيون، مما رفع مستوى التوترات الحدودية. وتحتفظ إسرائيل بمواقع عسكرية في خمس مناطق جنوب لبنان، وتُصرّ على عدم الانسحاب الكامل ما لم يُجرّد «حزب الله» من سلاحه. وبالتالي، فإن هذا الوضع يُشكل مُعضلة أمنية، إذ يرفض الحزب نزع السلاح لأن إسرائيل تحتل أراضٍ لبنانية وتنتهك الهُدنة. وترفض إسرائيل الانسحاب طالما ما يزال «حزب الله» مُسلحًا. وفي هذا السياق أقر المبعوث الأمريكي باراك، أنه: «لا يمكن للولايات المتحدة إجبار إسرائيل على فعل أي شيء»، مما يُثير الشكوك حول قُدرة الولايات المتحدة على تقديم ضمانات تُقنع «حزب الله» في النظر على الأقل في عملية نزع سلاح تدريجية. وليس هذا المأزق سوى نتاج أزمة لبنان المزمنة، المُتمثلة في وجود سيادتين، فمنذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، احتفظ «حزب الله» ببنية عسكرية موازية خارج سيطرة الدولة. ورغم أن عديدًا من اللبنانيين يرون في «حزب الله» مُحررًا للجنوب من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000م ومقاومًا لهجماته، يرى آخرون أن سلاحه المستقل يقوض السيادة الوطنية ويعرّض البلاد لحروب مدمرة.
ويحاول باراك، الخروج من حالة الجمود في المواقف من خلال تقوية مؤسسات الدولة، خاصًة الجيش اللبناني، الذي تدعمه واشنطن وحلفاؤها. إذ أكد أن الولايات المتحدة لا ترى في جيش لبنان قوًة هجومية، بل جهة حفظ سلام قادرة على أن تحل محل «حزب الله» تدريجيًا. فيما يرى «حزب الله» والقوى الحليفة له -بما في ذلك بعض الأوساط الشيعية- أن نزع السلاح يعني تحمل الخطر بمفرده، في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة ومحدودية تأثير واشنطن على تل أبيب. ويزيد من غياب الثقة حقيقة عدم وجود أي تواصل مباشر بين واشنطن و «حزب الله» بسبب تصنيفه «جماعًة إرهابية»، مما يحد من إمكانية التوصل إلى تسوية. والفشل في تسوية مسألة السلاح له تبعات خطيرة. فإقليميًا، ما يزال خطر التصعيد قائمًا، وقد تندلع الحرب بين «حزب الله» وإسرائيل من جديد، خاصًة أن كِلاهما يعمل على إعادة التموضع وتطوير القدرات العسكرية. وصحيح أن إسرائيل اغتالت مؤخرًا قيادات بارزة في الحزب ودمرت بنى تحتية له، لكنها لم تَقضِ على قدرته. وداخليًا، يقوض استمرار غياب الأمن الجهود الإصلاحية. وفي هذا الصدد، ناقش المبعوث الأمريكي، إصلاح القطاع المصرفي وتثبيت النظام المالي وتبني تقنيات متقدمة مثل «ستارلينك» لدعم بنية الإنترنت التحتية، ولكن تلك الخطوات لن تجذب المستثمرين ما دام شبح الحرب قائمًا. فيما تواجه الولايات المتحدة نفسها تحديات تخُص مصداقية جهودها، فهي لا تملك نفوذًا على إسرائيل، وتتفادى أي تواصل مباشر مع «حزب الله». وبالتالي؛ فإن هذا التحرُّك المحدود لا يضمن تحقيق أي من مكاسب أمنية أو اختراقات دبلوماسية، مما قد يُفقد واشنطن ثقة شرائح لبنانية لا ترى جدوى ملموسة من هذا الانخراط الأمريكي. وتُبرز مهمة باراك الأخيرة الفُرص والمخاطر التي تنطوي عليها الدبلوماسية الأمريكية في لبنان. فرغم تصوره لمستقبل آمن وازدهار اقتصادي في لبنان بعد تفكيك الميليشيات المسلحة، فإن رفض «حزب الله» التخلي عن سلاحه يعكس مخاوف أمنية عميقة وتوازنات إقليمية تتجاوز قُدرة واشنطن المباشرة. وما لم تتضمن المفاوضات المقبلة ضمانات أمنية ملزمة وآليات لدمج «حزب الله» في الجيش، وخطوات موثوقة نحو انسحاب إسرائيلي من البلاد، فسيظل الجمود قائمًا. وسيبقى حينها لبنان عالِقًا بين طموحاته في السيادة الكاملة وواقع المواجهة الإقليمية، بينما يظل اقتصاده واستقراره السياسي وأمنه على المحك.