شكّل الصراع العنيف «رغم قصر مدته» بين إيران وإسرائيل في يونيو 2025م نقطة تحوّل حاسمة في الحسابات الاستراتيجية لإيران. فقد أسفرت الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية، المنسقة بدعم استخباراتي أمريكي، عن تدمير واسع للبنية التحتية النووية والعسكرية الإيرانية، فضلًا عن إلحاق الضرر بأجزاء من بنيتها التحتية للطاقة. ومن جانبها، ردّت القوات الإيرانية بهجمات صاروخيةٍ مكثفة، غير أن المواجهة انتهت خلال أقل من أسبوعين بوقف مؤقت لإطلاق النار بوساطة أمريكية. كشف هذا الصراع عن جوانب القوة والضعف في سياسة الردع الإيرانية، وأثار نقاشًا داخليًا محتدمًا بين النخب السياسية والأمنية حول كيفية الاستعداد للحروب المقبلة.
أخطر تداعيات الحرب برزت في تأثيرها على العقيدة النووية الإيرانية. فقد أدى تدمير منشآت رئيسية، واغتيال علماء بارزين، وإضعاف قُدرات التخصيب إلى إحياء الدعوات داخل المؤسسة الأمنية للنظر في خيار «التسلّح النووي العلني»، لاسيما أن إيران ما زالت تتمتع بخبرة تقنية ومخزون من اليورانيوم المخصّب بنسبة تصل إلى 60% يكفي لإنتاج مادةٍ انشطارية لعدة قنابل خلال أشهر، رغم أن الجدول الزمني للتصنيع يبقى غير محسوم. تسببت الضربات الإسرائيلية في اغتيال ما لا يقل عن 14 عالمًا ومهندسًا نوويًا، مما أعاق مساعي إيران للتسلح النووي. لكن معظم الأبحاث المرتبطة بالتسلح أُنجزت قبل أكثر من عقدين، حسب ما كشفت عنه وثائق استولى عليها «الموساد» عام 2018م. وعلى ضوء هذه المعلومات، تبقى العقبة الأساسية أمام إيران هي استعادة قدراتها السابقة مثل تحويل اليورانيوم إلى معدن في أصفهان. وأصبحت الأولوية الاستراتيجية لدى طهران هي حماية كوادرها وما تبقى لها من منشآت نووية، حيث نقلت الحكومة كوادرها الناجين إلى مواقع مؤمنة في طهران وشمال إيران.
الصدمة لم تكن تقنيةً فقط، بل سياسيةً أيضًا في الداخل الإيراني. ففي أغسطس 2025م أعدمت السلطات الإيرانية الباحث النووي روزبه وادي بتهمة تسريب معلومات سرية إلى «الموساد» خلال اجتماعات في فيينا. وحظيت القضية بتغطية واسعة في الإعلام «المحافظ»، باعتبارها عقوبة للخيانة العظمى. هذا الحدث عمّق المخاوف من الاختراق والتجسس، وأشعل الدعوات لتشديد القبضة الأمنية ومركزية القرار. وفي خطوة غير مسبوقة منذ حرب إيران–العراق، أنشأت القيادة في 03 أغسطس 2025م «المجلس الوطني للدفاع» ضمن مجلس الأمن القومي الأعلى، برئاسة رئيس الجمهورية ووفق المادة 176 من الدستور. وأُسندت إليه مهمة وضع سياسات الدفاع والأمن في إطار توجيهات المرشد الأعلى، وتنسيق جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية والاستخباراتية والثقافية مع الأولويات الأمنية، وحشد الموارد المادية والمعنوية لمواجهة التهديدات. وعُيّن السياسي المخضرم علي لاريجاني رئيسًا للمجلس في محاولة لتجاوز الانقسامات وتحسين التنسيق بين القيادة المدنية والحرس الثوري وباقي الأجهزة.
وعلى المستوى العقائدي، عززت الحرب مركزية مبدأ الردع. فقد اعتمدت إيران طوال عقدين على مزيج من القدرات الصاروخية التقليدية والطائرات المسيّرة لتهديد الخصوم، مع برنامج نووي يُقدَّم بوصفه سلميًا لكنه يحتفظ بإمكانات خفية للتسلح. غير أن هجمات يونيو 2025م أثبتت أن المنشآت عالية التحصين تحت الأرض مثل «نطنز وفوردو» ليست بمنأى عن الضربات الدقيقة. أخَّرت الضربات التخصيب لأشهر وربما لعامين، لكن المعرفة التقنية والمخزونات ما زالت موجودة؛ لذا يتنامى في طهران الإدراك بأن الردع الفعّال لا يمكن أن يستند فقط إلى القدرات التقليدية والغموض النووي. وأصبح التوجه الآن يسير نحو امتلاك قدرات استراتيجية قادرة على الصمود في وجه الضربة الأولى.
هذا النقاش يتقاطع مع تقيد ديني وسياسي قديم، ألا وهو فتوى المرشد علي خامنئي التي أصدرها أوائل الألفية بحظر إنتاج واستخدام السلاح النووي. فقد شكّلت هذه الفتوى داخليًا مرجعية أخلاقية، وخارجيًا مظلة دبلوماسية لتبرير الطابع السلمي للبرنامج النووي، ومع كل هذا، تبقى الفتاوى مرتبطة بسلطة المرجع وقابلة للتأويل أو التراجع إن تغيّرت الظروف. وفي هذا السياق، كسرت الحرب الأخيرة حاجز المحظور حتى على مستوى نقاش إلغائها، إذ نُقل على لسان قادة بارزين في الحرس الثوري الإيراني دعوات لإعادة النظر في الفتوى في ظل هشاشة الدفاعات أمام إسرائيل. ووصف هؤلاء المسؤولون السلاح النووي بأنه «بوليصة التأمين الأخيرة» لحماية النظام، مستشهدين بتجربة كوريا الشمالية. لم تُتخذ بعد خطوة رسمية للتراجع عن الفتوى، لكن مجرد تداول الأمر داخل دوائر صُنع القرار يُعد تحولًا لافتًا في هذا السياق.
الجدير بالذكر هنا أنَّ المخاطرة السياسية لتغيير الفتوى جسيمة، فشرعية خامنئي تقوم على موقعه كقائد أعلى وعلى تمسكه بالمبادئ الإسلامية. التراجع عن خط أحمر أُعيد تأكيده مرارًا قد يُنفّر قاعدة النظام الدينية والشعبية، لكن الأدلة تتزايد أمام المؤسسة الأمنية بأن الردع الحالي قد لا يكفي أمام تهديدات وجودية. لذا يُطرح حل وسط قيد النقاش يقوم على «إعادة تفسير» الفتوى بدلًا من إلغائها، بما يسمح بامتلاك السلاح في ظروف قصوى مع الحفاظ على خطاب علني ضد استخدامه.
دبلوماسيًا، ما زالت طهران منفتحةً بحذر؛ فقد أبدت استعدادها لاستئناف محادثات مع الولايات المتحدة بهدف إحياء جزئي للاتفاق النووي لعام 2015م، شرط توافر رفع ملموس للعقوبات وضمانات أمنية جدية. وتسعى الدبلوماسية الإيرانية للفصل بين عدائها لإسرائيل وبين الانفتاح على واشنطن، لتُبقي مجالًا للتفاوض مع التحسب لفشله. أما الموقف تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية فازداد تشددًا، إذ برزت دعوات لإعادة صياغة الترتيبات بما يمنح مجلس الأمن القومي الأعلى صلاحية الكلمة النهائية في التعاون.
كشفت الحرب أيضًا مدى الهشاشة الأمنية للبنية التحتية النووية الإيرانية، إذ لم تُستهدف منشآت التخصيب فقط بل أيضًا أنظمة مساندة مثل: شبكات الكهرباء وخطوط النقل وأجهزة الطرد المركزي. وردًا على ذلك، تتجه إيران نحو توزيع منشآتها المهمة والبحث عن دورات وقود نووي بديلة يمكن تكييفها لأغراض عسكرية إذا لزم الأمر. كما تُعيد إيران تقييم منظومات القيادة والسيطرة لضمان قدرتها على الردع من الضربة الأولى. بالنسبة للمجتمع الدولي، يرى أنَّ هذه مسألة معقدة: فالعمليات الاستباقية أثبتت أنها تؤخر قدرات إيران لكنها لا تقضي عليها، بل ربما تُعزز حجج دعاة التسلح داخلها، كما أن مصداقية «معاهدة حظر الانتشار النووي» ودور الوكالة تعرَّضا لهزاتٍ خطيرة. وإذا خلصت طهران إلى أن عضويتها في المعاهدة لا تحميها من الهجوم، ستتضاءل دوافعها للبقاء ضمن إطارها. وفي نهاية القول، ستختبر السنوات المقبلة قدرة إيران على الموازنة بين المبدأ الديني والضرورة الاستراتيجية. فإذا أفضت الدبلوماسية إلى مكاسب ملموسة، قد تستمر الفتوى رمزًا للانضباط الداخلي. وإن لم تفلح إيران في هذه الموازنة، فقد تطغى ضرورات الردع وبقاء النظام على الاستمرارية الفقهية، ما قد يُمهد لتحول عقائدي هو الأعمق منذ عام 1979م. إن مرحلة ما بعد الحرب تُمثل مفترق طرق: عقيدة إيران الحربية تتجه نحو الردع والمرونة والقدرات الاحتياطية، مع بقاء الحسابات النووية ركيزةً أساسية. ويبقى مستقبل الفتوى -سواء أُبقيت أو أُعيد تفسيرها أو أُلغيت- العامل الأبرز في تحديد ملامح منظومة الأمن في الشرق الأوسط وما بعده.