أحدثت القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا يوم 15 أغسطس 2025م، تحولًا بارزًا في مسار الدبلوماسية الدولية، مُستعيدةً أجواء لقاءات القمم الرئاسية الأمريكية–السوفياتية خلال الحرب الباردة. مثّلت هذه الزيارة أول حضور لبوتين في الولايات المتحدة منذ نحو عقد، في وقت أكدَّ فيه الرئيس الروسي أن العلاقات الثنائية تمرّ بـ «فترة صعبة». وقد انعقدت القمة في ألاسكا، التي كانت ذات يوم أرضًا روسية، على وقع حرب مستعرة في أوروبا، وانقسام غربي. ورغم أن البيانات الرسمية الأمريكية قدّمت القمةَ بوصفها مسعى من أجل السلام، فإن ما طُرح خلالها يحمل دلالات عميقة، خصوصًا على أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
جاءت قمة ألاسكا وسط ضغوط متزايدة على روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب، وهو ما يُعدّ أولويةً رئيسيةً في سياسة ترامب الخارجية وجزءًا من مسعاه الشخصي لنيل جائزة نوبل للسلام. ومع عودته إلى البيت الأبيض، سعى الرئيس الأمريكي لإعادة تموضع الولايات المتحدة وسيطًا براغماتيا لا مدافعًا تقليديًا عن القواعد الدولية. وبحسب ما تسرّب من الاجتماع المغلق، ناقش الرئيسان قضايا استراتيجية عديدة: «أوكرانيا، والناتو، وضبط التسلح، والعلاقات الثنائية، وصفقات محتملة في مجال الطاقة، والعقوبات». إلا أن النتيجة الأبرز لم تكن اتفاقًا أو وقفًا لإطلاق النار، بل تبدلًا في النبرة، إذ تبنّت إدارة ترامب نهجًا يركّز على اتفاق سلام يعالج جذور الصراع -وهو مطلب روسي قديم-بدلًا من وقف إطلاق نار عاجل، كما فضّلت الدول الأوروبية.
وبحسب مبعوث ترامب ستيف ويتكوف، الذي حضر اللقاء في أنكوراج، فإن روسيا تقترب من تقديم تنازلات لإنهاء الحرب، تشمل القبول بضمانات أمنية قوية -لكن خارج إطار الناتو-كان ترامب قد اقترحها. وفي المقابل، بدا أن الولايات المتحدة خفّفت من معارضتها لاستمرار السيطرة الروسية على القرم والمناطق المحتلة في دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون، التي تشكّل مجتمعةً نحو 20% من أراضي أوكرانيا.
هذا الموقف الجديد تَعزّز بعد أسابيع قليلة خلال قمة مُنفصلة وحاسمة. جمعت القمة، التي عقدت في واشنطن يوم 18 أغسطس، ترامب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعددٍ من القادة الأوروبيين، بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، والأمين العام لحلف الناتو مارك روته. هدَفَ هذا اللقاء العاجل إلى حشد الدعم لأوكرانيا وسط مخاوف من أن يُبرم ترامب صفقة تصبّ في مصلحة موسكو. وخلاله، طالب زيلينسكي بضمانات ملموسة، تشمل حزمة أسلحة بقيمة 90 مليار دولار، تضم طائرات وأنظمة دفاع جوي ومسيرات، إضافةً إلى ضمانات أمنية مُلزِمة بدلًا من تعهدات مبهمة.
ترامب، وبنبرة ودّية، أعاد التأكيد على استعداد واشنطن لـ «ضـمـان» أمن أوكرانيا، لكنه طرح فكرة تجاوز وقف إطلاق النار لصالح اتفاق سلام مباشر، وحثّ زيلينسكي على «إبرام صفقة» بالنظر إلى قوة روسيا العسكرية. وبالنسبة لأوكرانيا، فإن الأمر يعكس واقعًا صارخًا: ضغوط أمريكية للقبول بخسائر إقليمية مقابل السلام، ما يعني تجميد خطوط القتال، حيث واصلت القوات الروسية تحقيق مكاسب ثابتة خلال هجومها الصيفي عام 2025م. ففي الفترة بين 15 يوليو و12 أغسطس، سيطرت روسيا على 241 ميلًا مربعًا إضافيًا من الأراضي الأوكرانية، بزيادة 7% مقارنةً بـ226 ميلًا مربعًا بين 08 يوليو و05 أغسطس للعام 2024م، مستغلةً نقص القوات والسلاح المتطور لدى أوكرانيا.
مثل هذه التنازلات قد تقوّض معنويات كييف وتهدد سلامتها الإقليمية، فيما تُعزز رواية روسيا عن النصر. وعلى صعيد الأمن الأوروبي، تُثير هذه التطورات مخاوف جدية بشأن تماسك «الناتو». فكثير من القادة الأوروبيين يخشون أن يؤدي اتفاق ترعاه واشنطن بمعزل عنهم إلى تشجيع روسيا على المزيد من المغامرات العسكرية -ربما في دول البلطيق- وإلى إضعاف التحالف «الأطلسي». تصريحات ترامب عن «عواقب وخيمة» على روسيا في حال الفشل بالوصول إلى اتفاق لم تبعث الطمأنينة، إذ بدت متناقضةً مع إصرار الأوروبيين على ضمانات قوية لأمن أوكرانيا، قد تشمل فتح الباب أمام عضويتها في «الناتو». كما قال ترامب في اجتماع حكومي بالبيت الأبيض في إشارة إلى لقاءٍ محتمل مع زيلينسكي وبوتين: «زيلينسكي ليس بريئًا تمامًا أيضًا. كما أكرر دائمًا: الأمر يحتاج إلى طرفين، ويجب جمعهما معًا». اصطف القادة الأوروبيين المشاركين خلف زيلينسكي، مؤكدين أنَّ وقف إطلاق النار شرطٌ مسبقٌ لأيّ مفاوضات، ما أبرز التباين عبر الأطلسي: الولايات المتحدة تسعى إلى مخرج سريع من الحرب وفاءً بوعود داخلية، فيما تُركز أوروبا على الردع بعيد المدى في مواجهة التوسع الروسي.
وقد جاء الرد الأوروبي سريعًا ومضطربًا. ففي باريس، دعا ماكرون إلى عقد قمة رباعية للسلام تضم أوكرانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في محاولة لإعادة الصوت الأوروبي إلى عملية بدت وكأنها باتت تحت سيطرة واشنطن وموسكو. وأعرب ميرتس عن دعمه لهذه المبادرة، وإن تجنّب انتقاد ترامب مباشرةً. أما دول البلطيق وبولندا والدول الإسكندنافية فكانت أكثر وضوحًا، محذّرة من أن أي اتفاق لا يشمل أوروبا سيقوّض هيكل الأمن القاري على المدى الطويل. ومن جانبها، اقترحت روسيا عقد قمة ثنائية مع أوكرانيا في موسكو، مستبعدة واشنطن وبروكسل، كما ألمحت إلى إمكانية عقد لقاء دبلوماسي على مستوى أدنى في أنقرة أو هلسنكي أو بودابست، في إشارةٍ إلى رغبتها في الاستفادة من وساطات غير غربية لإعادة تشكيل الإطار التفاوضي.
هذا الزخم من اللقاءات يكشف عن غرب منقسم بلا توافق على كيفية إنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالنظر إلى المستقبل، تبدو احتمالات السلام بنهاية 2025م أو مطلع 2026م ضئيلةً وإن لم تكن معدومة. فالتقدم العسكري الروسي المتسارع في ظل معاناة أوكرانيا دفاعيًا، قد يُرغم كييف على التفاوض في حال استمرار نُدرة الأسلحة الغربية المتطورة إنْ بقيت أوروبا والولايات المتحدة مترددة في تزويدها بأنظمة بعيدة المدى خوفًا من التصعيد. ومع ذلك، فإن حربًا طويلة قد تستنزف الاقتصاد الروسي المثقل أصلًا بالعقوبات والخسائر البشرية التي تُقدَّر بما بين 30 إلى 45 ألف فرد شهريًا، وهو معدل قد لا يستمر بعد 2026م. وإذا استغل ترامب هذه الهشاشة بالضغط المدروس، قد يفضي الأمر إلى صراع مجمّد أو اتفاق جزئي بحلول منتصف 2026م. لكن غياب وحدة الموقف عبر «الأطلسي» قد يُطيل أمد الحرب، مهددًا الأمن الأوروبي وموهنًا وضع أوكرانيا. أما السلام، إن تحقق، فسيكون ناقصًا قائمًا على مزيج من التنازلات والضمانات لتفادي تصعيد عسكري جديد. وقد يثبت الوسطاء الجدد: «تركيا والمجر وحتى فنلندا» أن دورهم حاسمٌ في سدّ الفجوات، لكن مدى قدرتهم على تحقيق ما هو أكثر من مجرد خطوات رمزية لا يزال غير مؤكد. وفي النهاية، لم تُحقق قمّتَا ألاسكا وواشنطن السلام بعد، لكنهما أعادتا رسم خريطة الدبلوماسية. فما كان تحالفًا أطلسيًا واضحًا ملتزمًا بتحقيق النصر لأوكرانيا، انقسم الآن إلى رؤى متعددة بــ «نتائج مقبولة». وستُحدد الأشهر المقبلة ما إذا كانت هذه الانقسامات ستتحول إلى نتائج كارثية، أم ستفرز -على غير المتوقع- إطارًا دبلوماسيًا جديدًا يوازن بين العدالة والواقعية والسيادة والأمن.