في مؤشر بارز على تغيير إسرائيل قواعد الاشتباك ضد «الحوثيين» في اليمن، وسَّع سلاح الجو الإسرائيلي نطاق هجماته وأهدافه لتشمل القيادات المدنية لـ «الحوثيين»، بعد أن كان تركيزه لشهور على البنى التحتية فقط. حيث شنَّت المقاتلات الإسرائيلية قرابة 10 هجمات تفجيرية ضخمة لعدد من المباني التي احتضنت اجتماعًا للحكومة غير الشرعية في العاصمة صنعاء، وذلك عصر الخميس الموافق للثامن والعشرين من أغسطس 2025م، ما أسفرَ عن تصفية رئيس الحكومة أحمد الرهوي وبعضًا من وزرائه وإصابة آخرين. ما يفتح الباب على تساؤلات هامة بينها: لماذا غيرت إسرائيل استراتيجيتها تجاه «الحوثيين» باليمن في هذا التوقيت؟ وما تداعيات وحجم الخسائر على الصعيدين الداخلي والخارجي لـ «الحوثيين»؟ وإلى أين سيمضي «الحوثيون»: هل سينكفئون على الداخل؟ أم سيتأرجحون؟ أم سيصعدون ضد إسرائيل؟
أولًا: دوافع إسرائيل لتنفيذ مُخطط الاغتيالات «الحوثية»
يقف وراء تغيير إسرائيل لقواعد الاشتباك مع «الحوثيين» عدة أسباب أساسية؛ هي:
1. الحلقة الأخيرة النشطة في محور المقاومة ضد إسرائيل
تُعد الجبهة «الحوثية» الجبهةَ الوحيدة النشطة في محور المقاومة ضد إسرائيل، كذلك الجبهة الوحيدة التي لم تُعلن انفصالها عن إسناد غزة. فقد سبق وأن سارع «حزب الله» اللبناني إلى القبول بالانفصال عن جبهة غزة ووقف إطلاق النار بعد الإجهاز الإسرائيلي على غالبية قياداته وتدمير أجزاء واسعة من قدراته. وسوريا خرجت كُليةً عن المشروع الإيراني ولم يُعد بها ميليشيات موالية لإيران. وفي العراق؛ انكفأت الميليشيات الموالية لإيران على نفسها خوفًا من إعادة تكرار سيناريو «حزب الله»، لكن «الحوثيين» استمروا في تنفيذ التهديد والوعيد لإسرائيل بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة -معظمها يتم اعتراضها- باتجاه إسرائيل، وشنوا عشرات الهجمات ضد السفن التجارية بزعم ارتباطها بإسرائيل؛ لذلك أرادت إسرائيل كسرَ شوكة «الحوثيين» لإجبارهم على الانفصال عن جبهة غزة.
2. آثار عمليات «الحوثيين» على الاقتصاد الإسرائيلي
استمرارية استهداف «الحوثيين» للسفن التجارية الإسرائيلية أو السفن التجارية الأجنبية القادمة إلى إسرائيل أو تلك التي تمتلكها، لها تأثير على الاقتصاد الإسرائيلي، وقد تنامى تأثيرها في ظل تأثُّـر الاقتصاد الإسرائيلي بفعل دخولها في حروب متعددة الجبهات امتدت لما يقارب عامين؛ ولذلك على ما يبدو أن إسرائيل غيرت قواعد الاشتباك مع «الحوثيين» بعدما توصَّلت إلى قناعة أن استهداف البنية التحتية لـ «الحوثيين» لم يعُد يُشكل رادعًا قويًا لوقف ضرباتهم للاقتصاد الإسرائيلي، فأرادت كسر «الحوثيين» من خلال توسيع دائرة أهدافها، لتشمل القيادات المدنية «الحوثية»، ما من شأنه إحداث إرباك في القيادة، ويقودها لإعادة حساباتها فيما يتعلق بالموقف من استهداف إسرائيل.
3. تأكيد اليد الطولى واستمرارية النصر
لطالما ردَّد المسؤولون الإسرائيليون مقولة «اليد الإسرائيلية الطولى» في الشرق الأوسط لإزالة كافة التهديدات المهددة للأمن القومي الإسرائيلي، مع تحقيق ما أسمته إسرائيل بـ «النصر المطلق»؛ ولذلك احتوى بيان الجيش الإسرائيلي بعد الهجمات على «الحوثيين»: «نعمل بقوة ضد الحوثيين، إلى جانب تكثيف العمليات في غزة، وسنواصل العمل للقضاء على جميع التهديدات»؛ ولذلك أرادت إسرائيل تقديم مثال إضافي لإيران وأذرعها، بل وربما للإقليم مع بداية حملتها العسكرية لاحتلال غزة واستمرارية تسديد الضربات لـ «حزب الله» بالجنوب اللبناني، بأنها لم تُنهك وقادرة على تحقيق طموحاتها بإعادة تغيير وجه الشرق الأوسط.
4. الشهية الإسرائيلية المفتوحة للهيمنة في الشرق الأوسط
تعيش إسرائيل حالةً من النصر في الشرق الأوسط جعلتها تُعيد النظر لذاتها، وربما الإحساس بأنها قادرة أن تُصبح «شرطي المنطقة» أو المهيمن الإقليمي الأوحد، وإن كانت المنطقة عَصّية على دولة بعينها أن تُهيمن عليها نظرًا لوجود فاعلين يمتلكون من القدرات ما يجعلها تحفظ التوازن في المنطقة. لكن إسرائيل ترى أنها اقتربت من مكانة الهيمنة، وذلك على خلفية الهزائم التاريخية التي مُنيت بها إيران وما يسمى بـ «محور المقاومة»، لدرجة أنها رفضت قبول ورقة الوسطاء لإيقاف الحرب في غزة رغم موافقة «حماس»، وقالت حتى إن قبلت «حماس» فإن ذلك لن يُثنيها عن العملية العسكرية لاحتلال كامل القطاع.
ثانيًا: تقييم حجم الخسائر والتداعيات
تحمل الغارة الإسرائيلية التي استهدفت عددًا من القيادات «الحوثية» تداعيات وأبعادًا رمزية واستراتيجية، سواءً فيما يتعلق بالتداعيات الداخلية على «الحوثيين» وعلى التوازنات اليمنية الداخلية، أو فيما يتعلق بتداعياتها الخارجية، والتي يمكن سردها فيما يلي:
أ- التداعيات المتوقعة على المنظومة الداخلية لـ «الحوثيين»
أسفرت الغارات الإسرائيلية عن مقتل رئيس حكومة «الحوثيين» وعدد من وزرائه؛ وبالتالي شلَّت هذه الغارات الهيكل الإداري لحكومة الميليشيا في لحظة حساسة تزامنت مع مرور عام على تشكيلها في أغسطس 2024م، وهو ما شكّل صدمةً للميليشيات بالنظر إلى أن هذه الأسماء اُختيرت بعناية من قبل القيادة العليا للجماعة، بما يضمن ولاءهم الكامل لـ «الحوثي» شخصيًا، ما يجعل مسألة تعويضهم أكثر تعقيدًا مُستقبلًا. ومع ذلك، فقد بدت الخسارة مرتبطةً بالجانب الرمزي والإداري أكثر منها بالجانب العسكري والأمني، ما يجعل الضربة قاسيةً في بُعدها الرمزي، لكنها غير قاصمة في بنيتها الاستراتيجية.
أظهرت الأيام التالية للعملية قدرًا من الارتباك في إدارة الموقف، ما كَشف عن محدودية ترتيبات الطوارئ وضُعف آليات التعامل مع مفاجآت من هذا القبيل. وهو ما اتضح في خطابهم الإعلامي، حيث سعى «الحوثيون» إلى وصف الغارات الإسرائيلية بأنها «فاشلة». هذا التوصيف يعكس ارتباكًا في خطابهم، فالجماعة تُدرك أن الرهوي لا يُمثل خسارةً استراتيجيةً حقيقيةً، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع الاعتراف بأن اختراقًا أمنيًا قد سَمحَ لإسرائيل ببلوغ قلب صنعاء وتحديد موقع عدد من مسؤوليها. لذلك؛ تبنَّت خطابًا مزدوجًا يقوم على إنكار سقوط قيادات مهمة، مقابل التأكيد غير المباشر على أن الضربة «لم تمس المراكز الحيوية».
ومع ذلك، فإن بنية القرار داخل الميليشيا لا تتمحور حول الحكومة، بل حول المجلس السياسي الأعلى والمكتب التنفيذي، مما حال دون حدوث شلل مؤسسي كامل. وقد كان من المتوقع ملء فراغ رئاسة حكومة «الحوثيين» عبر تعيين بديل لرئيسها بعد مقتل الرهوي، مع إمكانية لتعزيز موقع مهدي المشاط كرأس للقيادة السياسية، وهو ما يضمن استمرارية الحد الأدنى من التماسك التنظيمي للميليشيا.
ب- تداعيات الضربة على التعامل «الحوثي» مع الداخل اليمني
على مستوى التعامل «الحوثي» مع الداخل اليمني أو تداعيات هذه الضربة على التوازنات اليمنية، فمن المرجح أن تؤدي الضربة إلى تصاعُد هواجس «الحوثيين» تجاه احتمالية وجود الاختراق، وستدفع هذه العملية إلى تكثيف إجراءاتهم الأمنية داخل صنعاء ومناطق سيطرتهم، عبر تنفيذ حملات تفتيش واعتقالات واسعة، وتحقيقات متصلة داخل مناطق سيطرة «الحوثيين»، بما في ذلك قيادات سياسية واجتماعية كان «الحوثيون» قد بدأوا بالفعل في ملاحقتهم خلال الأشهر القليلة الماضية مثل: «كوادر حزب الإصلاح، وأطراف في حزب المؤتمر، وبعض القبائل اليمنية». هذا السلوك، على الرغم من أنه سيُعزز القبضة الأمنية للميليشيا، إلا أنه قد يولِّد حالةً من الارتياب والضغط داخل البيئة الاجتماعية والسياسية في مناطق سيطرة «الحوثيين».
لكن في المقابل، يمكن لـ «الحوثيين» توظيف الحدث كأداة تعبئة ودعاية، عبر تصوير الضربة كجزء من «معركة وجودية» تُبرر رفع منسوب التجنيد والدعوة إلى الثأر بين أنصار الميليشيا في اليمن، لاسيما وأنهم اعتادوا على تحويل الخسائر إلى مادة رمزية تُكرّس من خطاب «المقاومة» الذي تتبناه. حيث يتحول القادة الذين يسقطون إلى «شهداء» كما تصورهم وسائل الإعلام التابعة لهم، ما يُعزز الشرعية التعبوية بدلًا من أن يُضعفها. وهذا يُفسر كيف أن العملية، رغم رمزيتها، قد تفضي إلى تجديد الخطاب القتالي بدل تفكيك الروح المعنوية للجماعة. وبالتالي، سيقود ذلك إلى الرفع من منسوب عدوانية «الحوثيين» ضد المواطنين في مناطق سيطرتهم، ويدفع نحو استكمال إرهاق الجماعة المتواصل للمجتمع المحلي بالدعاية تارةً والترهيب والاتهامات بالعمالة والتجسس تارةً أخرى.
أما على مستوى البنية السياسية، فإن الارتدادات قد تبدو محدودة. باعتبار أن المجلس السياسي الأعلى والأجهزة الأمنية لا تزال مُتماسكة، ومنصبُ رئاسة الحكومة في الهيكل «الحوثي» يُعد منصبًا تنفيذيًا بيروقراطيًا أكثر منه مركز قرار سيادي، الأمر الذي قد يُخفف من وقع العملية على المنظومة الداخلية للميليشيا. بمعنى آخر، الضربة تُمثل صفعةً معنويةً ورمزيةً أكثر من كونها ضربةً قاضيةً سياسية أو تنظيمية.
ج- تداعيات الضربة على المواجهة «الحوثية» مع إسرائيل
توعد «الحوثيون» بالثأر لضحايا الهجوم الإسرائيلي من قيادات حكومتهم ومواصلة إسناد غزة. ونظرًا لعدم تأثير الهجمات على البنية الإستراتيجية لـ «الحوثيين»، إذ لم تَستهدف العملية قُدرات الجماعة الأساسية مثل: «الصواريخ الباليستية أو الطائرات المسيّرة أو أجهزتها الاستخباراتية والأمنية والعسكرية»، مما يُرجح احتمالية استمرار الجماعة في شن هجمات تجاه إسرائيل أو البحر الأحمر مع تصعيد في المواجهة، لإظهار قُدرتها على الرد لتفادي صورة الضعف الذي كشفته العملية الإسرائيلية الأخيرة. وقد دفع التخوف من هجمات انتقامية الحكومة الإسرائيلية إلى عقد اجتماعها في موقع آمن بديل يوم الأحد 31 أغسطس الماضي. ولكن يُستبعد أن تُحدث الهجمات «الحوثية» الجديدة تحولًا كبيرًا في المواجهة، خاصةً الهجمات الصاروخية على إسرائيل نظرًا لمحدودية القدرات «الحوثية» مقابل قوة أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية باستثناء بعض الدلالات الرمزية، كالاضطرار لوقف الطيران عند استهداف مطار بن غوريون، أو الإرباك الذي تُحدثه صفارات الإنذار للحياة اليومية رغم شِبه اليقين بعدم بلوغ الصواريخ أهدافها.
ومن ناحية أخرى، يُعتبر ضرب الجهاز الحكومي «الحوثي» رادعًا إضافيًا للأذرع الإيرانية، حيث سيأخذ «حزب الله» اللبناني هذا المُعطى بعين الاعتبار في تقديره للتعامل مع إسرائيل، بما في ذلك السياق الداخلي المتعلق بنزع سلاحه. إذ لا يُستبعد أن يُوسِّع الاحتلال الإسرائيلي بنك أهدافه في لبنان ليطال القيادات السياسية لـ «حزب الله»، وحتى حركة «أمل» المدافعة عن سلاح الحزب، خاصةً في حالة تجدد المواجهة العسكرية. والأمر نفسه بالنسبة للحالة العراقية، والتي بدورها ستواصل الجماعات الشيعية المسلحة المحسوبة على إيران انكفائها ومحاولة المحافظة على امتيازاتها الداخلية، وتجنب تصفيتها، توجسًا من ضربها هي الأُخرى بغض النظر عن صفتها: مدنية كانت أم عسكرية.
ثالثًا: موقف القوى الإقليمية والدولية
1. إدانةٌ إيرانية: أدانت الحكومة الإيرانية الهجوم الذي استهدف رئيس وزراء حكومة «الحوثيين» غير المعترف بها وعددًا من الوزراء في اليمن. ووصفت الخارجية الإيرانية هذا الهجوم بأنه «جريمة صهيونية» وانتقام من الشعب اليمني بسبب دعمه لغزة، ويعكس هذا الموقف طبيعة العلاقة بين طهران و «الحوثيين»، باعتبار الجماعة تُمثل أحد أذرع ما يسمى بـ «محور المقاومة»، وتخشى إيران من أن يقود هذا الاختراق إلى توسيع عملية استهداف القادة السياسيين والعسكريين للجماعة، الأمر الذي يُحيد أهم أذرعها وداعميها في المرحلة الحالية من عناصر محورها الإقليمي، وذلك بعد الضربة التي تعرضت لها الميليشيات في لبنان وسوريا والعراق.
2. تضامنٌ من فصائل المقاومة: أدانت حكومة «حماس» الهجوم الإسرائيلي، ونعت في بيان رسمي القيادات التي تم استهدافها، وأكدت على التضحيات المشتركة للجانبين في هذه المواجهة مع إسرائيل. وأشارت «حماس» إلى أن هذا الهجوم يُشير إلى الخطر الذي تمثله إسرائيل على المنطقة بأسرها، ويعكس هذا الموقف طبيعة العلاقة بين الحركتين، والدعم المتبادل في مواجهة إسرائيل. كما أدان «حزب الله» الهجمات عبر برقية أصدرها الأمين العام للحزب نعيم قاسم، أشار فيها إلى بشاعة الأعمال الإسرائيلية والقتل بدون ضوابط أو قواعد. وأكد دعمهُ الكامل ووقوفه مع اليمنيين سويًا لمقاومة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
3. تجاهلٌ إقليمي: تجنَّـبت الحكومات العربية إصدار أي بيانات رسمية حول العملية، مع أن العملية لقيت اهتمامًا وتغطيةً إعلاميةً ملحوظة، ويعود ذلك إلى أن هذه الحكومة غير معترف بها، كما أنها لا تحظى بعلاقات مع الدول العربية، بل علاقاتها متوترة مع دول الخليج، ناهيك عن أنه يُنظر لـ «الحوثيين» بشكل عام على أنهم أحد عناصر محور إيران الإقليمي. ويعكس الموقف العربي والخليجي تحديدًا حِفاظ دول الخليج على التفاهمات التي أبرمتها مع إيران و «الحوثيين»، وسياساتها الرائدة في المنطقة، والتي تقوم على أساس عدم الانخراط في صراعات لا طائل من ورائها، وعدم التورط في لعبة المحاور والصراع القائم، وهي ما تزال تسعى إلى تسوية الصراع في اليمن والسلام الإقليمي بصفة عامة، والسعودية تحديدًا التي تسعى إلى تسوية الأزمة الداخلية في اليمن ترى أن أي تصعيد قد يقوض جهودها، ومن المعلوم أن الرياض سبقَ وأدانت الهجمات الإسرائيلية في 2024م على ميناء الحديدة، وعلى بعض المواقع اليمنية.
4. صمتٌ غربي: من جانبها لم تعلق الحكومات الغربية بصورة رسمية على الهجوم الإسرائيلي، ويتفق ذلك مع توجهاتها نحو هذه الحكومة، فهي حكومة غير شرعية من وجهة نظر الولايات المتحدة والغرب. بل تُصنف بعض هذه الدول الجماعة بما في ذلك حكومتها على أنها «منظمة إرهابية»، ونظرًا لأن إسرائيل تَلقى دعمًا من هذه الدول، فإنها تخشى من أي ردود فعل متهورة من جانب «الحوثيين»، لاسيما ما يتعلق بسلامة الملاحة في باب المندب ومنطقة خليج عدن.
هكذا عكست المواقف طبيعة التوازنات والتحالفات الإقليمية، لاسيما محور إيران الذي يَنظر إلى هذه المعركة على أنها تستهدف في الأخير القضاء على هذا المحور وشبكة النفوذ الإقليمي التي ينتمي إليها، والقوى الغربية على الرغم من تأييدها لسياسة إسرائيل، غير أنها على ما يبدو تجنبت تأييد الضربات، وذلك خشية إثارة «الحوثيين». وتخشى الولايات المتحدة تحديدًا من أن يؤدي أي موقف مؤيد لإسرائيل لانهيار الاتفاق مع «الحوثيين» وتجديد الهجمات ضد مصالحها وقِطعها البحرية وسفنها التجارية المارة عبر المنطقة.
رابعًا: خيارات الرد «الحوثي» المحتمل
الاغتيالات الأخيرة التي نفذتها إسرائيل داخل الأراضي اليمنية وأسفرت عن مقتل رئيس الحكومة «الحوثية» وعدد من الوزراء، تفرضُ على «الحوثيين» تبني أحد الخيارات الثلاثة التالية للرد على إسرائيل:
- التصعيد
الاغتيالات الإسرائيلية قد تقود إلى تحول كبير في مسار المواجهات مع «الحوثيين»، فقد تشهد الهجمات «الحوثية» على السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل والمملوكة لها ارتفاعًا ملحوظًا، بما في ذلك إغراقها من قبل «الحوثيين» في مياه البحر الأحمر، مُستفيدين في ذلك من مخزونهم الكبير من الصواريخ المضادة للسفن، والألغام البحرية، وصواريخ كروز متوسطة المدى، والصواريخ الباليستية. كما أن «الحوثيين» قد يلجأون إلى توجيه ضربات صاروخية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وربما مهاجمة السفارات الإسرائيلية في أفريقيا وآسيا، معتمدين على عناصر مجندة من قبلهم أو متعاطفة معهم.
إيران التي تدعم الجماعة «الحوثية»، قد يصبُ التصعيد «الحوثي» ضد إسرائيل في مصلحتها، نظرًا لرغبتها في إشغال إسرائيل خلال هذه الفترة الحساسة من تاريخها، لتُبعد عن نفسها شبح الحرب والتهديدات الأوروبية بإعادة العقوبات الأممية، وكذلك إعادة ترتيب أوراقها السياسية والعسكرية تحسبًا لأي تصعيد جديد ضدها. وقد تجلت الرغبة الإيرانية في الدفع بـ «الحوثيين» للرد على الهجمات الإسرائيلية، في البيان الذي أصدره الحرس الثوري الإيراني، والذي أكد فيه بأن «المقاومة الإسلامية في المنطقة وخاصةً الشعب اليمني المقاوم، سيوجه ردًا قاسيًا للصهاينة ردًا على اغتيال رئيس الوزراء أحمد الرهوي وعدد من الوزراء». کما استبعدَ الحرس الثوري أن تؤدي عملية اغتيال رئيس الوزراء وعدد من الوزراء بحكومة «الحوثيين»، إلى إضعاف الإرادة الجهادية والثورية للشعب اليمني، بل ستزيد من إشعال نيران الغضب والصحوة المناهضة للهيمنة الصهيونية في المنطقة.
- الانكفاء على الداخل
أحد القرارات التي يُمكن أن تتخذها الميليشيا «الحوثية» هو أن توقف هجماتها ضد إسرائيل خلال الفترة الراهنة لتجنب المزيد من التصعيد والاغتيالات والهجمات الإسرائيلية، وربما الأمريكية ضد القيادات الحوثية ومواقعهم، خاصةً بعد تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وكبار المسؤولين الإسرائيليين، حول أن العملية الأخيرة هي مجرد بداية، وأن هناك خطة ممنهجة لاستهداف قيادات «الحوثيين». وهي تصريحات تكشف أن إسرائيل قد تضع اليمن في سلم أولوياتها خلال الفترة المقبلة بهدف إبعاد الخطر الذي بات يشكله «الحوثيون» على تل أبيب، عبر تكرار سيناريو «حزب الله» اللبناني في اليمن. لكن انكفاء «الحوثيين» على الداخل والتوقف عن استهداف إسرائيل والملاحة البحرية، قد ينعكس سلبًا على الجماعة، خصوصًا على المستوى الداخلي؛ نظرًا للاختراق الأمني الكبير وحجم الاغتيالات وتوقع الشارع اليمني لرد «حوثي» يتناسبُ مع الضربة القوية التي تلقوها من إسرائيل.
3. التأرجُح
الخيار الثالث لـ «الحوثيين» هو التأرجح بين الانكفاء والتصعيد لكن بشكل محدود، وذلك لضمان المحافظة على ورقة الردع المحدودة التي تمتلكها الجماعة تجاه إسرائيل، لاسيما فيما يتعلق باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ صوب الأراضي الفلسطينية، والحيلولة دون تصعيد إسرائيلي أشد عُنفًا، يفتك بالجماعة ويؤدي إلى تنفيذ اغتيالات تطال قياداتها العليا وتمهد للإطاحة بمشروعها في اليمن.
التصعيد «الحوثي» لن يكون موجعًا لإسرائيل نظرًا للفارق الكبير في الإمكانيات العسكرية والاستخباراتية، لكنه سيؤدي إلى حفظ ماء الوجه وامتصاص الصدمة الداخلية التي أحدثتها الاغتيالات الواسعة في صفوف «الحوثيين». ورغم ظهور بعض المؤشرات حول خيار التصعيد، بعد استهداف «الحوثيين» سفينةً إسرائيلية في البحر الأحمر، والوعيد «الحوثي» بردٍ قاسٍ على الاغتيالات الإسرائيلية. إلا أن هذا الخيار الثالث يبقى هو الخيار الأقرب للتحقق؛ نظرًا للتداعيات الخطيرة بالنسبة لـ «الحوثيين»، والتي قد يترتب عليها اللجوء إلى خيار التصعيد خاصةً في هذا التوقيت الحساس الذي تمر به المنطقة. ولا يزال «الحوثيون» يمتلكون مخزونًا كبيرًا من الصواريخ المضادة للسفن والألغام البحرية وصواريخ كروز متوسطة المدى والصواريخ الباليستية، التي سيحرصُ «الحوثيون» على تأمين حركتها تحسبًا لأي استهدافات، وتساعدهم سلسلة الأنفاق على الصمود أكثر.
في المحصلة؛ الضربة الإسرائيلية لا تبدو قادرةً على زعزعة سلطة «الحوثيين» على المدى القريب، لكنها تحمل تداعيات تراكمية على توازنات الداخل اليمني. فهي من جهة ستُعمّق قبضةَ الجماعة القمعية وتزيد من عدوانيتها تجاه المجتمع المحلي. ومن جهة أخرى ستُضاعف الضغوط المادية والتنظيمية عليها، بما قد يفتح المجال أمام إعادة تشكيل التوازنات الداخلية مستقبلًا، كما أنها قد تدفع إلى تصعيد كمي للعمليات «الحوثية» في البحر الأحمر وضد إسرائيل، ولكن بدون أن تُحقق مكاسب كبيرة في ظل تباين موازين القوى العسكرية؛ ويتوقف مصير هذا المسار التصعيدي بين الطرفين على مستوى الرد «الحوثي» على الاغتيالات الإسرائيلية.