أوكرانيا 2025: الواقع العسكري وطريق للسلام بين الشك واليقين

https://rasanah-iiis.org/?p=37574

مع دخول الحرب الروسية-الأوكرانية مرحلةً جديدةً تغيرت ديناميتها باطراد تدريجي؛ فقد تحوَّلت ساحات القتال الهائجة إلى بؤر استنزاف، وعادت أجراس الدبلوماسية تدقُ ناقوسَ الخطر من جديد، إذ تُشير التطورات الأخيرة بدءًا من الهجوم الروسي على منطقة كروسيك والمفاوضات الدولية، إلى إمكانية إعادة ضبط الاستراتيجيات على جميع الجهات، ولكن مع تصاعد جبهات القتال رغم تنامي المبادرات الدبلوماسية يبقى الطريق نحو السلام شائكًا.

في تطور لافت على الجبهة الشمالية للحرب، أحرزت العمليات العسكرية الروسية في الشمال تقدمًا استراتيجيًا في منطقة كورسك، مما دفع القوات الأوكرانية إلى الانسحاب شبه الكامل من المنطقة، بحيث لم يبقَ سوى عددٌ قليلٌ من القرى الحدودية تحت السيطرة الأوكرانية، وذلك بعد قيام روسيا بسلسلة عمليات منسَّقة اعتمدت فيها اعتمادًا كبيرًا على المدفعية والحرب الإلكترونية وأسراب الطائرات المسيرة التكتيكية؛ لاختراق الخطوط الدفاعية الأوكرانية. هذه التطورات، وإن كانت متواضعةً على الأرض، إلا أنها تشكل ضربةً معنويةً وتُرهق قوات الدفاع الأوكراني المستنزَفة.

ويبدو جليًا للمراقب أن أوكرانيا تعاني الآن من نقصٍ متفاقمٍ في القوى العاملة؛ ومع موجات التعبئة المتكررة وتناقُص أعداد المتطوعين فيها، أصبحت وحدات الخطوط الأمامية تتناوبُ فيما بينها بوتيرة أقل، وغالبًا ما تكون من جنود احتياطيين أكبر سنًا وأقل تدريبًا. وتُشير تقارير من مصادر مفتوحة ومحللين عسكريين غربيين إلى تنامي الإرهاق والضغط اللوجستي في دعم العمليات الدفاعية على جبهات مترامية الأطراف.

مع ذلك، فإن التقدم الروسي ليس على نسقٍ واحد؛ إذ تُشير التقارير إلى تقدمٍ تصاعدي عبر عدة محاور في دونباس، وبالقرب من دونيتسك، وباتجاه خاركيف، ولكن كل كيلومتر تسيطر عليه روسيا يكلفها ثمنًا باهظًا. وتشير أرقام الضحايا، وإن كان من الصعب التحقق منها، إلى تكبد روسيا خسائر بشرية كبيرة واستنزاف كبير للعتاد المدرع. ويبدو أن الكرملين مستعدٌ لتحمل هذه التكاليف، مراهنًا على قدرته على الصمود أكثر من أوكرانيا في حرب استنزاف طويلة مدعومة باقتصاد حربي أكثر عزلة.

وباستعادتها السيطرة على كورسك، أعادت القوات الروسية رسمَ خطوط العملية الدبلوماسية، وجعلت أوكرانيا ترى نفسها الآن تتفاوض من موقفِ ضعفٍ نسبي؛ فقد أدت القيمة الرمزية والاستراتيجية لكورسك، سواءً كهدف عسكري أو كإشارة على النية الروسية، إلى تآكل نفوذ كييف على طاولة المفاوضات. في ظل هذه التطور، تلقَّت مفاوضات السلام ضربةً رمزية، حيث وردَ أن قمةً عُقدت مؤخرًا في لندن قد تراجع مستوى حضورها من الأطراف المعنية في أعقاب رفض أوكرانيا القاطع لخطة أمريكية مقترحة كانت ستؤدي إلى الاعتراف بشبه جزيرة القرم لروسيا مقابل إيقاف الحرب على طول خطوط المواجهة الحالية. أثار الاقتراح، الذي طُرِح بشكل غير رسمي على لسان وسطاء غربيين، ردَّ فعلٍ عنيف من كييف، التي شدَّدت على أن أي تنازل بشأن شبه جزيرة القرم خطٌ أحمر لأوكرانيا. ومن جانبه، أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استيائه من الرئيس فولوديمير زيلينسكي لعدم أخذه التنازلات عن الأراضي، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، طريقًا للسلام. تعكس هذه الحادثة الضوء على التباين بين التوجهات الدبلوماسية الأوكرانية والغربية، وتعكس إرهاقًا استراتيجيًا أوسع نطاقًا لدى بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين الذين يُبدونَ انفتاحًا متزايدًا على إنهاء الحرب عبر سُبل واقعية، وإن كانت مثيرة للجدل. علاوةً على ذلك، أشار مقال نُشر مؤخرًا، نقلًا عن مصادر في الكرملين إلى أن بوتين قد يكون منفتحًا على تجميد الصراع على طول خطوط المواجهة الحالية، في إشارة إلى أن موسكو، على الرغم من ثقتها العلنية، قد تكون أكثر دافعيةً لإيقاف الحرب في ظلّ مواجهتها لضغوط اقتصادية داخلية متزايدة.

ويُفاقم هذا الغموض الدبلوماسي التردد السائد بين الدول الأوروبية بشأن دورها في أمن أوكرانيا المستقبلي، فعلى الرغم من تشكيل «تحالف الراغبين» من 30 عضوًا لإرسال قوات حفظ سلام إلى أوكرانيا، لم تؤكد سوى ستُ دول استعدادها للمشاركة في هذه الخطوة. ويعود هذا التردد إلى حد كبير إلى غياب تفويض واضح للمهمة والقلق السائد من إثارة المزيد من المواجهات مع روسيا. وأكد وزير الدفاع الهولندي روبن بريكلمانز على أن التساؤلات ما زالت قائمة حول أهداف المهمة وقواعد الاشتباك. وعلى نفس المنوال، نوَّه وزير الدفاع السويدي بول جونسون إلى وجود ضبابية بشأن ما إذا كانت العملية ستركز على حفظ السلام أم الردع أم بث الطمأنينة بين الأطراف المعنية. وفي هذا الصدد، تعكس هذه المواقف المتباينة مدى الصعوبات التي تواجهها أوروبا في الانتقال من الدعم التفاعلي إلى القيادة الاستراتيجية، وهي فجوةٌ تَعيها جيدًا كييف وتستغلها أيضًا موسكو.

وبعد التحليل يتبين لنا جليًا ألّا إمكانية للتوصل لأيّ اتفاق سلام دون ضمانات أمنية موثوقة وقابلة للتنفيذ. وتبقى الولايات المتحدة إلى حد كبير، الطرفَ الوحيد الذي يتمتع بالنفوذ العسكري والسياسي اللازم لتقديم مثل هذه الضمانة. أما الدول الأوروبية، فرغم التزامها خطابيًا، ومساعداتها المالية والعسكرية الكبيرة، لا تزال مقيدةً بأولويات وطنية متضاربة على مستوى الأعضاء وتوافق استراتيجي محدود على مستوى الاتحاد. وبدون ضمانات أمريكية، فإن أيَّ تنازلٍ، وخاصةً فيما يتعلق بالحدود، سيعود سلبًا على كييف وسيُزعزع الاستقرار في الداخل الأوكراني. وفي خضم هذه التوترات، برزت الرياض وسيطًا رئيسيًا في تيسير المحادثات غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة، مستثمرةً موقفها المحايد وقنواتها الدبلوماسية المتعددة للتوصل لتفاهمات محتملة ترمي لخفض التصعيد. أما بالنسبة لموسكو، فتبدو حساباتها أكثر نفعية؛ فما دامت مطالبها الأساسية قد استُوفيت، ولا سيما عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاعتراف الرسمي أو غير الرسمي بالأراضي المتنازع عليها والمناطق الأمنية العازلة، تبقى غير مبالية بالتفاعلات على الساحة الدبلوماسية. لذلك يُعد موقف الكرملين موقفًا انعزاليًا مدروسًا؛ نجد فيها روسيا تدخل في محادثات ليس بهدف تقديم تنازلات، بل لترسيخ مكاسبها الحالية على أرض المعركة وتحويلها إلى واقع سياسي دائم وثابت.

وفي الختام، تواصلُ روسيا تقدمها على الأرض بكل عزم وإنْ كان تقدمها ضئيلًا وبتكلفة باهظة، وعلى الضفة الأخرى تُكافح أوكرانيا للحفاظ على وحدة أراضيها في ظل نقص في القوى العاملة وتراجع في الدعم الغربي. أما مفاوضات السلام، التي سبقت أوانها، أصبحت الآن سمةً جوهريةً للمشهد الجيوسياسي، لكن مآلات هذه المفاوضات المتعثرة تشكلها ضبابية المشهد، وتضارب الأهداف، وتباين الرؤى لمستقبل أوكرانيا. وقد تُرينا الأشهر المقبلة ما إذا كانت ستشهد الحرب تجميدًا للقتال لوقتٍ طويل أم ستتفجر وتدخل في مرحلةٍ جديدة من التصعيد. أما الآن فلا تزال رحى المعارك دائرةً مع ضبابية دبلوماسية تخيمُ على المشهد بالكامل.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير