إيران.. والحليف المفقود

https://rasanah-iiis.org/?p=37830

في خِضَمّ اشتعال حدَّة المواجهات المسلَّحة الإسرائيلية-الإيرانية، التي استمرَّت 12 يومًا من الهجمات والهجمات المضادَّة العنيفة، التي كادت أن تصِل إلى حرب شاملة كارثية على الشرق الأوسط برُمّته، أصطفّ خلالها الجيش الأمريكي الأقوى في العالم إلى جانب جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي يقع ضمن أقوي الجيوش في الشرق الأوسط، وكذلك أعلنت غالبية العواصم الأوروبية دعمها الكامل لإسرائيل في ضرورة تحقيق هدفين: إزالة التهديدين النووي والباليستي لإيران

في المقابل، وجدت إيران نفسها وحيدة في المعركة، في موقف لا تُحسَد عليه، ولم تقدِّم لها الدول التي تصنِّفها على أنَّها حليفة مثل الصين وروسيا، أيّ شكل من أشكال المساندة أو التهديدات الرادعة، التي يمكنها ردْع إسرائيل أو الحدّ من سقف أهدافها تجاه إيران، مقارنةً بما قدَّمته الولايات المتحدة من مساندة عسكرية مباشرة لإسرائيل بقصف قاذفاتها الإستراتيجية الشبحية الأُصول النووية الإيرانية. واختار الشريكان الاقتصاديان والإستراتيجيان لإيران الوقوف على الحياد، واكتفيا بإدانة التصعيد الإسرائيلي، وحتى عندما أخذت روسيا خطوة أبعد من الإدانة، فلم تتخطَّ حاجز الحياد المصلحي، وطرَحَ بوتين الوساطة لإنهاء المواجهات المسلَّحة بين الطرفين.

يسود تساؤل داخل الأوساط الإعلامية والأكاديمية الإيرانية وغير الإيرانية أيضًا، يبدو منطقيًا ولا يزال مفتوحًا يتعطَّش للمزيد من النقاشات والتفسيرات المنهجية والموضوعية، لفهم كيف تفكِّر وتصنِّف القُوى الكُبرى حلفاءها من القُوى المصنَّفة «متوسِّطة» مثل إيران، وكيف تنظر لمستوى العلاقات معها، مفاد التساؤل: لماذا لم تقف الصين وروسيا إلى جانب إيران في الحرب ضدّ إسرائيل؟ أين بكين وموسكو ممّا يجري في إيران بما أنَّهما حليفان في التصوُّر الإيراني؟ ألَم تُصنَّف إيران ضمن ما يُسمَّى إعلاميًا بـ«المعسكر الشرقي» -الذي يضُمّ الدول المناهِضة للهيمنة الأمريكية المنفردة على النظام الدولي بقيادة صينية- المنافس للمعسكر الغربي بقيادة أمريكية على القيادة الدولية وطبيعة النظام الدولي؟

ألَم يصِل المستوى التعاوني في العلاقات الإيرانية مع الدولتين إلى مستوى متقدِّم سمَحَ لإيران بتوقيع اتفاق شراكة إستراتيجية شاملة لمدَّة 25 عامًا مع كليهما؟ ألم يمُدّ الإيرانيون نظرائهم الروس بمسيَّرات وصواريخ باليستية لعِبَت دورًا بارزًا لصالح روسيا في جبهات القتال المختلفة في أوكرانيا؟ ألم تُصنَّف إيران بـ«الشريك الموثوق» في قائمة أبرز الشركاء المهمّين للصين؟

تفكيك الجدل السائد حول تفسيرات الحياد الصيني والروسي من المواجهات المسلَّحة الإسرائيلية-الإيرانية، وعدم الاصطفاف إلى جانب إيران حسب التصوُّر الإيراني، يتطلَّب ضرورة فهم التصوُّرات الصينية والروسية لمستوى التعاون مع إيران، حيث يقع الكثير من المحلِّلين في الخطأ ذاته عند تصنيف مستوى العلاقة الإيرانية مع كلٍّ من الصين ووسيا -كما تتصوَّر إيران- على أنَّها علاقة «حليف أو حلفاء»، ولذلك ينطلقون في تقديراتهم للمواقف الصينية والروسية تجاه القضايا الإيرانية الخارجية من تلك الزاوية؛ ما يجعلنا أمام سيل من التحليلات غير الواقعية، من خلال تتبُّع عدد من المؤشِّرات، أبرزها:

1. يكشف اختبار المواجهات المسلَّحة الإسرائيلية-الإيرانية لمستوى التعاون الحقيقي، ومدى متانة العلاقات بين طهران وكلٍّ من بكين وموسكو، عن افتراق في التصوُّرات الإيرانية لمستوى التعاون مع الدولتين والعكس، فإيران تستخدم نظريًا في تصوُّرها لعلاقاتها مع الدولتين مفهوم (حلفاء/حليف)، وهو المستوى الأعلى والأكبر في مستويات التعاون، بل يأتي في أعلى قمَّة مستويات التعاون، في المقابل لا توجد أيَّة مؤشِّرات لا نظرية ولا عملية على استخدام الدولتين في تصوُّرهما للعلاقات مع إيران مفهوم «الحليف»، كما لا تُوجَد أية مؤشِّرات على تقديم الدولتين أيٍّ من أشكال الدعم لإيران في مواجهاتها مع إسرائيل، بالعكس كان من بين أوائل الردود الروسية في ذروة المواجهات المسلَّحة، أنَّ الاتفاقية الموقَّعة مع إيران لا تشتمل على بند للدفاع المشترك، الذي يسمح للطرفين بالتدخُّل للدفاع العسكري حال وقوع هجوم على أحدهما؛ ما اعتبره البعض  موقفًا روسيًا حاسمًا بعدم تقديم الدعم العسكري لإيران في حربها مع إسرائيل، وإن ذكَرَ بوتين في وقتٍ لاحق من انطلاق المواجهات أنَّ إيران لم تطلب المساعدة من روسيا.

2. كشَفَ أداء الدفاعات الجوِّية الإيرانية، عن حالة الضعف في التصدِّي لسلاح الجو الإسرائيلي المتطوِّر، وتحوُّل الأجواء الإيرانية إلى ساحة مُستباحة لسلاح الجو الإسرائيلي، لحد القُدرة الإسرائيلية على فرْض السيادة الجوِّية، وعن عدم حصول إيران على المنظومة الدفاعية الروسية المتقدِّمة «S-400» والطائرة الروسية المتطوِّرة المصمَّمة لاختراق الدفاعات الجوِّية للعدو « SU-3»، التي يمكنها فرْض هيمنة جوِّية شاملة في سماء العدو، والتي تتقارب في إمكاناتها ومقدراتها من المقاتلات الأمريكية مثل «F-35»، وذلك على الرغم من الحاجة الإيرانية المُلِّحة والعاجلة لتعزيز دفاعاتها الجوِّية بأسلحة روسية وصينية متطوِّرة، بعدما انكشفت مرَّتين في المواجهات مع إسرائيل في «الوعد الصادق 1 و2».

كذلك، ضغَطَت الصين على إيران، لعدم تفعيل تهديد إغلاق مضيق هرمز الإستراتيجي أمام الملاحة والتجارة الدولية؛ لأنَّ إيران والصين ستكونان المتضرِّر والخاسر الأكبر حال إغلاقه، من حيث كمِّيات النفط المتدفِّقة نحو الصين، التي تعتمد عليها عجلة الاقتصاد الصيني الجبّارة، أو من حيث حجم التجارة الصينية المارَّة عبر المضيق، والتي تبلغ نسبتها نحو 33% من إجمالي حجم التجارة المارة عبر المضيق؛ ما يفسِّر عدم إقدام إيران على إغلاق المضيق، فهو ليس ورقة ضاغطة عل الأمريكيين ولا الأوروبيين، بل ستكون ورقة ضاغطة على الصين.

3. تُثبت الوقائع والتطوُّرات أنَّ للصين وروسيا حسابات مغايرة عن الحسابات الإيرانية في العلاقات مع إيران وقضاياها الخارجية، منها:

أ. التوجُّهات الخارجية للنظام الإيراني: تُعَدُّ تلك التوجُّهات قيدًا لرُبَّما على دخول العلاقات الصينية والروسية مع إيران لمستوى التحالف؛ لأنَّ الدولتين تدركان أنَّ مستوى التحالف مع إيران يحمِّلهما «عبء الحليف العزول والمُحاصَر»، نتيجة توجُّهاته النووية والجيوسياسية، التي جعلته في حالة صراع دائم مع القُوى الإقليمية والدولية، وتسبَّبت في إخفاق إيران في توفير البنية التحتية اللازمة لمشروعي: «الحزام والطريق» الصيني، و«الشمال-الجنوب» الروسي، وبالتالي تراجعت أولويتها في الإستراتيجيتين الروسية والصينية بالنسبة لخارطة المحاور والممرّات التجارية اللوجستية العالمية.

كذلك رُبَّما تنظُر الدولتان لحجم الاختراق الاستخباراتي والأمني غير المسبوق لإيران، ونجاح إسرائيل في تصفية قادة الصف الأول في ساعات قليلة، بنظرة تقييمية لأداء النظام السياسي الإيراني، بأنَّه –بالطبع- لن يعزِّز وضع إيران لديهما كحليف.

ب. العلاقات مع دول الخليج العربي: تجمع الدولتين الروسية والصينية علاقات قوية مع دول الخليج العربي، التي تناهض النظرة الجيوسياسية للدول في الشرق الأوسط، ومن بينها النظرة الجيوبوليتيكية الإيرانية، حتى وإن عادت العلاقات الدبلوماسية السعودية-الإيرانية منذ الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية، فالمتغيِّر الخليجي يُعَدُّ من أقوى المتغيِّرات على انتقال مستوى التعاون الروسي والصيني، إلى مستوى يغيِّر قواعد اللعبة في الشرق الأوسط مع إيران.

ج. علاقات الدولتين مع تل أبيب وواشنطن: يُعدمتغيِّر طبيعة العلاقات مع الغرب وتوازُن العلاقات مع إسرائيل محدِّدًا رئيسيًا للعلاقات الصينية والروسية مع إيران، فالدولتان رُبَّما تقيِّمان حجم المصالح مع الغرب الحليف لإسرائيل أكثر بكثير من حجم المصالح مع إيران المعزولة، بفعل سياساتها التوسُّعية والنووية والباليستية؛ فهناك علاقات اقتصادية وخاصة تكنولوجية قوية بين الصين وإسرائيل. وتخشى بكين من أنَّ تقديم الدعم لإيران قد يؤثِّر على العلاقات المتوتِّرة مع الولايات المتحدة، منذ توقيع الرئيس دونالد ترامب رسوم جمركية على الصين، ورَدّ الصين بالمثل. كما تخشى موسكو من تغيير الغرب لحالة التوازن العسكري المدروس في أوكرانيا، حال تقديم الدعم العسكري لإيران، ورَدّ الولايات المتحدة والغرب بتقديم الأسلحة الإستراتيجية المتطوِّرة لكييف على نحوٍ يغيِّر قواعد اللعبة في الحرب الروسية-الأوكرانية، ورفْع التكلفة على روسيا، التي باتت مُنهَكة اقتصاديًا بفعل مدَّة الحرب.

وختامًا، تُعد المواجهات المسلَّحة الاختبار الأقوى لمستويات التعاون بين الدول المشتبِكة مع الوحدات الدولية، وبالنسبة لاختبار المواجهات المسلَّحة الإسرائيلية-الإيرانية، فإنَّه قد كشَفَ عن نتيجة مفادها: أنَّ إيران أمام «معضلة حليف»؛ فالنظام الإيراني وهو على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمان في الُحكم، لم يفلح في الوصول في مستوى علاقاته التعاونية مع الأطراف الخارجية إلى مستوى «التحالف»، وهذه سابقة غريبة في العلاقات الدولية، فحتى الدول الأقلّ أهمِّية من حيث الموقع والموارد من إيران استطاعت أن تصِل لمستوى الحليف في علاقاتها الخارجية، في حين لم تصِل إيران لذلك المستوى، لنتساءل: هل زيارة وزير الدفاع الإيراني للصين تأتي في إطار المساعي الإيرانية لإعادة ترميم العلاقات العسكرية مع الصين، التي تمتلك أسلحة متطوِّرة عالميًا لتعزيز الدفاعات الجوِّية الإيرانية؟ لكن بالطبع ستكون هناك حسابات صينية تجاه المسعى الإيراني.

لا نذهب بعيدًا، الدول العربية والخليجية القريبة بل والجارة من إيران، والتي تتشابه في كثير من الأمور مع إيران، مثل الموقع والموارد والثروات، تقدِّم النموذج الأمثل والبنّاء لإيران، حيث تمكَّنت تلك الدول من الدخول في شبكة تحالفات إقليمية ودولية قوية وواسعة لتعزيز المصالح الخليجية والعربية، والعمل لصالح الأمن القومي العربي برُمّته، وبلغت في علاقاتها مع العديد من القُوى العظمى والكُبرى لمستوى التحالف، وأصبحت متغيِّرًا ومحدِّدًا رئيسيًا على السياسات والتوجُّهات الخارجية للقُوى الكُبرى تجاه منطقة الشرق الأوسط،  بل أصبحت محط أنظار القُوى العالمية في تنفيذ المحاور اللوجستية والتجارية العالمية؛ لكونها دول أعطت الأولوية الأولى والأخيرة لنموذج «التنمية والتحديث الشامل وبناء الانسان ومؤسسات الدولة الحديثة»  مقارنةً بإيران، التي أولت أولويتها لمشروعات جيوسياسية عبثية، لم تجنِ منها سوى الخسائر المادِّية والبشرية الهائلة في ساحات نفوذها بالشرق الأوسط، وصولًا إلى تلقِّيها ضربات عسكرية أمريكية وإسرائيلية قوية. لكن لا تزال الفرصة سانحة أمام إيران في الوصول إلى مستوى الحليف مع العديد من الدول، بل وتحقيق الاندماج الإقليمي والانتقال إلى طور «الدولة الطبيعية»، حال قرَّر النظام القبول بالمقاربات والتفاهمات البنّاءة، التي تخدم الأمن والاستقرار الإقليمي لكافَّة الدول والشعوب، بالتخلِّي عن المشاريع الجيوسياسية والباليستية والنووية.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د. عبدالرؤوف مصطفى الغنيمي
د. عبدالرؤوف مصطفى الغنيمي
باحث سياسي بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية