تشهد المنطقة تطوُّرات متسارِعة منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023م، وآخر هذه التطوُّرات ما شهدته الساحة السورية من تغييرات سياسية، وقد سبقتها تحوُّلات شمِلَت كامل المنطقة في لبنان والبحر الأحمر وإيران، وعكست بمجملها حافَّة الهاوية، التي تقِف عندها دول المنطقة. ومن المعلوم أنَّ جانبًا من هذه الأزمات، لم يكُن سوى انعكاس للتنافس/الصراع بين القُوى الإقليمية والدولية، على تشكيل مستقبل الشرق الأوسط. وبينما تمُرّ المنطقة بمرحلة من عدم اليقين وعدم الاستقرار، فإنَّ سوريا تحدِّيدًا تنطوي على تهديد وفُرصة في آنٍ واحد، من أجل إعادة تشكيل المشهد الإقليمي، وإعادة صياغة توازناته، وصولًا للأمن والاستقرار، أو الدخول في دورة جديدة من التنافس والصراع والفوضى غير الخلّاقة.
وباعتبار تركيا والسعودية من أبرز القُوى الإقليمية الفاعِلة والأكثر تأثيرًا وجدارة، فإنَّهما يمكن أن يشغِلا معًا الفراغ، الذي تركه خلفه نظام بشّار الأسد والقُوى الدولية التي ساندته، كما يمكنهما العمل على امتصاص الارتدادات السلبية لهذا التحوُّل العميق وتأثيراته، التي قد لا تشمل سوريا وحسب، لكن تشمل المنطقة ككُلّ، وتهدِّد أمنها الإقليمي، الأمر الذي يعني أنَّ الساحة السورية قد تكون بداية مهمَّة لتشكيل محور إقليمي بارز يمتَدُّ من الرياض إلى أنقرة عبر منطقة المشرق العربي، وذلك لتعزيز مكانة البلدين، ولعِب دورٍ بارز في الأمن والاستقرار الإقليمي، بوصفه رافعة مهمة لمشروع البلدين وطموحهما، ورُبَّما لا تقتصر التأثيرات عند هذا الحد، إذ إنَّ الشراكة المتنامية وتقارُب وجهات النظر والواقعية، التي تتابعها الرياض وأنقرة، قد تجعلهما في مسارٍ واحد مؤثِّر في الترتيبات الإقليمية القادمة.
ويأتي هذا التقرير استكمالًا لاهتمام معهد «رصانة» بالعلاقات بين الرياض وأنقرة في جوانبها المتعدِّدة، إذ بدأ هذا الاهتمام بنشر تقرير حول تطوُّر العلاقات الثنائية على المستوى الدفاعي بين البلدين مؤخَّرًا، فيما يحاول هذا التقرير أن يبحث العلاقات على الصعيد الإقليمي، استنادًا إلى التقارُب الجاري بين الجانبين فيما يتعلَّق بسوريا ما بعد الأسد، واحتمال أن يمهِّد ذلك الطريق نحو تعاون أكبر، قد تكون له آثاره على العديد من القضايا والأزمات الإقليمية، وبما يخدم مصالح البلدين.
أولًا: تقارُب ومصالح مشتركة
على مستوى العلاقات الثنائية، تجمع كل من الرياض وأنقرة مصالح حيوية، فالعلاقات بين البلدين تاريخية بالأساس، وخلال السنوات الأربع الأخيرة تحدِّيدًا شهِدَت تطوُّرات إيجابية، ارتفعت معها العلاقات إلى مستوى إستراتيجي شمِلَ العديد من المجالات، وعكست الزيارات المُتبادَلة للقادة السياسيين تقارُبًا في وجهات النظر، ووجود مساحة مشتركة يمكن أن يتعاون فيها البلدان.
كما عكست المؤشِّرات الاقتصادية المنافع المُتبادَلة؛ حيث زاد حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين، إذ بلغ 25.4 مليار ريال عام 2023م، محقِّقًا نموًّا بنسبة 15.5%، إذ تبلغ الصادرات السعودية إلى تركيا 15.6 مليار ريال، أمّا الواردات التركية إلى المملكة فتبلغ 9.8 مليارات ريال، ويعمل البلدان على مضاعفة هذا التعاون، عبر تعاونٍ في قطاعات التعدين والصحة والتكنولوجيا والاتصالات والسياحة والبنية التحتية والمعلوماتية وصناعة الدفاع.
أمّا على المستوى الإقليمي، فيتمتَّع البلدان بثِقَل كبير في محيطهما، وتتقاطع مصالحهما في دوائر عِدَّة، ومن خلال النظرة شديدة الواقعية، التي تتبنّاها قيادة البلدين، فإنَّ لديهما مصلحة حيوية في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي؛ لأنَّ طموحاتهما الاقتصادية ومشروعاتهما الواعِدة تحتاج إلى بيئة أمنية مستقِرَّة، وإلى وضع حدٍّ للانفلات الأمني وانتشار الميليشيات وضعف دور الدولة في العديد من دول المنطقة، مع بنية أمنية قوية، يمكن من خلالها إدارة الأزمات، ووضع حدٍّ للصّراعات.
ورُبَّما يستشعر البلدان الخطر نفسه، من تكالُب القُوى الدولية على إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، بما يخدم مصالحهما، فضلًا عن النزعات التوسُّعية لبعض القُوى الإقليمية، وحالة الفوضى التي نتجت عن ذلك، والتي تمثِّل تحدِّيًا حقيقيًا للمشروع الاقتصادي الواعد، الذي تتبنّاه كُلٌّ من الرياض وأنقرة، والذي يحتاج إلى بيئة أمنية مستقِرَّة.
كما يتطلَّع البلدان على المستوى الإقليمي، إلى أن يقود الاستقرار إلى توفير البيئة والمناخ، إلى التموضُع على خارطة الممرّات الدولية التي تمُرّ بالمنطقة، بل تبنِّي مشروعات خاصَّة للاتصال الإقليمي تصِل المنطقة بالغرب والشرق، وتمثِّل سوريا المستقِرَّة بيئة وجغرافيا مهمَّة في هذه المشروعات الحيوية والضخمة، التي ينشدها البلدان.
أمّا دوليًا، فإنَّ كُلًّا من السعودية وتركيا لديهما التوجُّه نفسه، فيما يتعلَّق بالسعي لتأكيد المكانة الدولية، والتموضُع بين القُوى الكُبرى، وهُما قوَّتان ناشئتان صاعدتان بين الكبار، وينتهجان خطًّا مستقِلًّا في علاقاتهما الدولية، يقوم على التنوُّع، وعدم الانحياز، وموازنة العلاقة بين الشرق والغرب، كما أنَّ لديهما مصلحة مشتركة في دعم عالم متعدِّد الأقطاب.
وإضافة إلى ذلك، فإنَّ البلدين تجمعهما قُدرة كبيرة على التأثير في العديد من الفضاءات المشتركة العربية والإسلامية، ولديهما فائض قوَّة ناعمة تمكِّنهما من التأثير على العديد من القضايا، التي تخُصّ العالمين العربي والإسلامي، بل والقضايا العالمية، وتلتقي مصالحهما في معالجة بعض هذه القضايا، ومنها القضيتين الفلسطينية والسورية، والأزمات في العراق واليمن والبحر الأحمر.
ثانيًا: تعاون وقُدرة على التأثير في سوريا
بعدما افتقدا التنسيق نتيجة التطوُّرات التي شهِدَتها العلاقات، والتطوُّرات التي شهِدَتها الأزمة وأدوار القُوى الفاعلة فيها، عادت والتقت مصالح السعودية وتركيا في سوريا من جديد، بعد سقوط نظام الأسد، ودلَّت العديد من الإشارات على أنَّهما الأكثر اهتمامًا، ورُبَّما الأكثر تأثيرًا في المشهد السوري، خلال المرحلة المقبلة، ولقد ثبت ذلك من خلال العديد من المؤشِّرات؛ إذ كان المسؤولون الأتراك والسعوديون من أوائل المسؤولين الأجانب، الذين زاروا العاصمة السورية دمشق، حيث التقيا برئيس الإدارة السورية الجديد أحمد الشرع.
ثمَّ جاءت أول زيارة دولية للإدارة السورية الجديدة، في الأول من يناير، عندما زار وزير الخارجية أسعد الشيباني المملكة العربية السعودية، مع وفدٍ ضمَّ وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات السورية، الذين التقوا بنظرائهم السعوديين في العاصمة الرياض. وهو الوفد نفسه، الذي انتقل في الأسبوع نفسه إلى أنقرة، في ثاني زيارة رسمية خارج البلاد، الأمر الذي يُشير إلى دور أنقرة والرياض البارز في التفاعلات السورية الراهنة، وفي الوقت نفسه يحمل في طيّاته دلالات عميقة على حقيقة المشهد الإقليمي قيد التشكُّل، والذي يمكن أن تلعب فيه الرياض وأنقرة دورًا بارزًا في مرحلة شديدة التعقيد والحساسية تمُرّ بها منطقة الشرق الأوسط.
وبطبيعة الحال، ما كان هذا التطوُّر ليحدث لولا علاقة تركيا العضوية مع الإدارة الجديدة من جانب، ومسارعة الرياض لاتّخاذ خطوات استباقية ساهمت في تعزيز الاعتراف بالإدارة الجديدة، وبناء الثقة معها، بل المبادرة بتقديم المساعدة لها؛ من أجل تعزيز شرعيتها في الداخل، ومساعدتها في نيل الاعتراف الدولي، والمطالبة برفع العقوبات، التي قد تُعيق عملها.
والواقع أنَّ الرياض وأنقرة تجمعهما عِدَّة مصالح في سوريا، وتعملان على تحقيقها معًا: أولها، أولوية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وضمان سيادتها، بوصفها قوَّة إقليمية لا غنى عنها في التوازن في بلاد الشام ومنطقة المشرق العربي، وقوَّة عربية لا بديل عنها في تحقيق التوازن الإقليمي في مواجهة القُوى الإقليمية، التي لديها مشروعات وتطلُّعات جيوسياسية توسُّعية، ولهذه المصلحة المشتركة أهمِّية خاصَّة بالنسبة لتركيا، التي لديها هاجس من مساعي الأكراد للوصول إلى الحُكم الذاتي، ورُبَّما أكثر من ذلك.
واتصالًا بذلك، يمكن لتركيا أن تعتمد على المملكة في معالجة القضية الكردية المثيرة للقلق، حيث تمثِّل هذه القضية أولوية خاصَّة لتركيا، وتتفهَّم السعودية المخاوف التركية، ولديها أدواتها ونفوذها للتأثير على الأكراد، ومن ثمَّ يمكن للمملكة أن تقود التفاهُمات بين الأطراف؛ للحيلولة دون تحوُّل هذه القضية لبيدق في يد القُوى الإقليمية والدولية، التي تسعى إلى حرف الانتقال في سوريا عن مساره الطبيعي.
كذلك تجمع البلدين أولوية تحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا، وتأمين مسار التحوُّل الجاري، والحيلولة دون حدوث انتكاسة تقود إلى الفوضى وعودة الصراع الداخلي بين المكوِّنات السورية، إذ لدى البلدين مصلحة في أن تمتلك سوريا إرادتها، وألا تكُن أسيرة إملاءات أيّ قُوى إقليمية أو دولية، وأن تكون لكُلِّ السوريين، وأن تُسيطر الدولة على كامل أراضيها، وتحتكر وحدها حقّ امتلاك السلاح واستخدام القوَّة، بدلًا من العقْد، الذي وقعت فيه تحت تأثير صراع الميليشيات الأجنبية.
بالإضافة إلى ذلك، يدعم الجانبان السعودي والتركي عملية إعادة البناء، وهُما معًا يمتلكان القُدرة على رسم مسار المستقبل الخاص بسوريا إلى حدٍّ بعيد؛ فهُما قوَّتان مكتفيتان، ولا تحرِّكهما مطامع جيوسياسية، بل يقيِّمان العلاقات على أساس المنافع والمكاسب المُتبادَلة، كما أنَّ لديهما الإمكانيات لسدِّ جوانب القصور معًا من أجل دفع عملية إعادة الإعمار قُدُمًا. فتركيا بحُكم حدودها المشتركة مع دمشق، يمكنها أن تقدِّم المساعدات والخِطَط اللازمة بالنهوض السوري من جديد، ولديها خبرة وتجربة الحُكم في إدلب، كما أنَّ لديها الكفاءات والصناعات المتطوِّرة، التي يمكن أن تعزِّز مشروع البناء في سوريا. ومن جانبها، تمتلك السعودية الموارد والقُدرة على حشد القُوى الدولية الحليفة لمساعدة سوريا، أو الحدِّ من تأثيراتها السلبية في سوريا، كما تمتلك القُدرة على التأثير من أجل رفع العقوبات عن سوريا، لتسهيل عملية إعادة الإعمار، إذ إنَّ إعادة بناء ما دمَّرته الحرب أكبر من قُدرة أيّ قوَّة وحدها على النهوض به.
ثالثًا: سابقة يمكن البناء عليها إقليميًّا
بينما تواجه المملكة وتركيا تحدِّيات ضخمة على الصعيد الإقليمي، فإنَّ تعاونهما رُبَّما أصبح أمرًا مُلِحًّا ولا غِنى عنه للجانبين، إذ إنَّه بديل مهمّ ومسار آمن وفعّال للانتقال السياسي، ويضمن عدم انجرار البلاد نحو الفوضى، ويحرِّرها من الخضوع لقُوى دولية وإقليمية تحاول أن تجعل من سوريا رافِعة لمشروعها ونفوذها الإقليمي، ورُبَّما إعادة تشكيل المنطقة بعيدًا عن مصالح دولها الرئيسة والفاعِلة، ولاسيّما في ظلّ المشروعات الإقليمية التي تتجاذبها المنطقة، والتي يستهدف بعضها نشر الفوضى وعدم الاستقرار، ويستهدف بعضها الآخر تحريك الحدود وطمس القضايا المصيرية، فضلًا عن المشروعات التي تُمليها القُوى الدولية، كالصين والولايات المتحدة وروسيا.
ولا شكَّ أنَّ نجاح التعاون السعودي-التركي في سوريا، حتى الآن، يمثِّل وضعًا مُربِحًا للجانبين، يعزِّز من نفوذهما الإقليمي إلى حدٍّ بعيد، كما أنَّه سوف يفتح الأُفُق لمزيد من الشراكة التركية مع دول الخليج، ويُبرِز المملكة كرائد للأمن والاستقرار الإقليمي.
كما يضمن التنسيق السعودي-التركي عدم عودة المنطقة إلى حُكم التيّارات المتطرِّفة، إذ يمِّثل وجود البلدين ضمانة للحدِّ من انتشار هذه الجماعات ونموها، وذلك من خلال إحلال التنمية بدلًا من الفقر، الذي يغذِّي هذه الجماعات بالعناصر المقاتلة، إلى جانب تعزيز قوَّة الدولة وسيادتها والسيطرة على حدودها.
فضلًا عن ذلك، فإنَّ هذا التعاون يُنظَر إليه على أنَّه تجربة جديرة بالاهتمام، يمكن للبلدين أن يبنيا عليها لتحقيق مسارٍ آمن من أجل سوريا والمنطقة، إذ إنَّ هذا التعاون يمكن أن يكون بمنزلة سابقة واختبار، يمكن من خلاله أن تستشرف البلدان قُدراتهما وإمكانياتهما على تحقيق التعاون، من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي، وتعزيز المصالح المشتركة، التي تشمل أكثر من مجال، وتمتَدّ إلى أكثر من ساحة.
ولهذا، رُبَّما لا يتوقَّف هذا التعاون على سوريا، إذ إنَّ نجاح التعاون التركي-السعودي في سوريا قد يعزِّز من حماسهما، من أجل نقل التجربة إلى ساحات أخرى، حيث تشهد بعض الدول والمناطق حالة من الفوضى والارتباك، كالعراق ولبنان واليمن وليبيا ودول منطقة القرن الأفريقي، ويمتلك البلدان إمكانيات وقُدرة على لعِب دورٍ في هذه الساحات، بما يتمتَّعان به من ثِقَل، وبما يجمعهما من تفاهُم وتقارُب. وهذه البلدان ذاتها، والتي باتت تنشُد التغيير بعد عقود من الاضطراب والفوضى، قد ترحِّب بهذا الدور البنّاء، الذي لا شكّ سيكون مهمًّا في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي، من خلال رؤية إقليمية بعيدًا عن تجاذبات القُوى الكُبرى، التي تسعى لتكريس مصالحها على حساب أمن المنطقة واستقرارها.
على سبيل المثال، يلعب البلدان أدوارًا مهمَّة في قضايا مشتركة؛ فالسعودية لديها دور بارز في الوساطة في السودان، وقد وجَّهت تركيا مؤخَّرًا جهودها للوساطة في هذه الأزمة، وذلك بعدما لعِبَت دورًا محوريًا في تسوية النزاع الدبلوماسي بين إثيوبيا والصومال. ونظرًا لحيوية هذه المنطقة، فإنَّ جهود البلدين يمكن تنسيقها من أجل دفع السلام الإقليمي، خصوصًا أنَّ منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي ذات أهمِّية خاصَّة للسعودية، في ظلّ المشروعات العملاقة التي تتبنّاها المملكة في هذه المنطقة في إطار «رؤية 2030»، وكذلك بالنسبة لمصالح تركيا العميقة في هذه المنطقة، التي تزايدت خلال السنوات الأخيرة، هذا ناهيك عن أولوية الأمن في هذه المنطقة، في ظلّ الهجمات التي يشنّها الحوثيون على السُفُن الماَّرة بالمنطقة، والحضور العسكري المكثَّف في البحر الأحمر.
مع ذلك، لا تخلو العلاقات من وجود بعض التنافس، بحُكم معطيات التاريخ والجغرافيا التي تجمعهما، وبحُكم تموضُعهما الإقليمي ومصالحهما المشتركة في أكثر من ساحة، والذي قد يؤثِّر على هذا التعاون، إذ لا تزال السعودية تنظُر بحذرٍ إلى مشروع تركيا القديم في محيطها التاريخي، الذي يتبنّاه الحزب الحاكم ذو الميول الإخوانية، والذي قد تُعيد تركيا إحياءه مع وجود حكومة تنتمي إلى التيّار نفسه.
كذلك قد لا تتشجَّع بعض دول المنطقة إلى الانضمام إلى مسار البلدين، في ظلّ موقفهما الصارم من جماعة الإخوان المسلمين والتيّارات المحسوبة عليها، فضلًا عن عبء إعادة الإعمار والبناء، الذي قد لا يقوى عليه البلدان وحدهما دون تعاون إقليمي ودولي.
كما سيجِد مشروع تركيا والسعودية مقاومة من القُوى الدولية والإقليمية؛ لأنَّه بالأساس مشروع نابع من الإقليم، ويعبِّر عن مصالحه، ولا يستجيب لإملاءات القُوى الخارجية، ورُبَّما لا يحقِّق مصالحها، ومن بين هذه القُوى، من يحمل مشروعًا بديلًا لإضعاف سوريا، أو رُبَّما جرّها من جديد إلى مربَّع الفوضى والاقتتال الداخلي، وهو ما قد يعرقل جهود البلدين.
خلاصة
في لحظة إقليمية فارِقة، وعلى الرغم من التحدِّيات، خلقت كُلُّ من تركيا والسعودية، من خلال نهجهما الواقعي في سوريا، فُرصةً من أجل إعادة صياغة مفهوم الأمن الإقليمي ككُلّ؛ فسوريا تمثِّل اختبارًا مهمًّا يمكن أن يدفع البلدين إلى تعزيز تعاونهما بشأن ملفات وقضايا إقليمية أخرى، الأمر الذي قد ينعكس على المنطقة ككُلّ، ويقودها إلى عهدٍ جديد من الازدهار والاستقرار السياسي، بعد عقود من الفوضى والأزمات، ورُبَّما يُسهم البلدان معًا في خلق مسارٍ للتعاون والعمل الإقليمي، يتجاوز النماذج والهياكل القديمة، التي بات وجودها شكليًا، وبما يتواكب مع التحدِّيات والتطوُّرات الراهنة، بما في ذلك المشروعات التوسُّعية المطروحة لإعادة تشكيل المنطقة والمدفوعة أيديولوجيًا. وهذا المسار الواقعي الآمن قد تنضمّ إليه قُوى أخرى تتوافق مع رؤية البلدين، ناهيك عن أنَّ بيدهما طرح المشروعات التي قد تضع البلدين ودول المنطقة على الخريطة الجيوسياسية للممرّات التجارية الدولية، التي يُنظَر إليها على أنَّها أحد أهمّ الآليات الفاعِلة في النظام الدولي قيد التشكُّل، وذلك بحُكم موقعهما وإمكاناتهما، وذلك بدلًا من المشروعات، التي تستند إلى الفوضى والتدخُّل وتجاوُز الجغرافيا السياسية. ويكتسب هذا المسار أهمِّية خاصَّة، بحُكم قابليته للتطوير وقيادة المشهد الإقليمي، وذلك في وقت تشهد فيه المنطقة حالة من الفراغ، في ظلّ تراجُع نفوذ إيران، وكذلك احتمال متابعة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مسار أكثر انعزالية، أو إعطاء مواجهة الصين في منطقة جنوب شرق آسيا الأولوية في الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، لاسيّما بعد أن تمكَّن قبل الوصول إلى منصبه من وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما يطرح الأسئلة حول اليوم التالي، ليس في غزة أو سوريا، ولكن بالنسبة للمنطقة ككُلّ، وهي الأسئلة التي يجب أن تجِد السعودية وتركيا معًا لها إجابات، فتقودا الجهود مع دول المنطقة؛ من أجل حماية مصالحهما ومشروعهما، والدفاع عن مستقبل المنطقة ككُلّ، من خلال لعِب دورٍ بارز في أيّ ترتيبات قادمة؛ لأنَّه في حال عدم قيامهما ودول المنطقة بهذا الدور المُناط بها، فهناك من سيأتي ليقوم بهذا الدور ويملأ الفراغ، لكن وفق مشروعات لا تخدم دول المنطقة.