عقب سقوط نظام «الأسد»، تنوعت ردود أفعال الدول في المنطقة على التحولات السياسية المفاجئة في سوريا، فمن جانب اندلعت اشتباكات بين القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة و «الجيش الوطني السوري» المدعوم من تركيا، ومن جانب آخر شنّت إسرائيل غاراتٍ جوية مكثفة على الأراضي السورية. وعربيًا، عقدت جامعة الدول العربية اجتماعًا ضم وزراء الخارجية العرب ومسؤولين دوليين في الأردن حيث أكدوا فيه على دعم انتقال سلمي وشامل للسلطة في سوريا ما بعد «الأسد». وفي خضم هذه التطورات المُتسارعة في سوريا، تتحرك الدول في المنطقة بما تَقضيه مصالحها وشواغلها وشكوكها. ومن جانبها، وسعت إسرائيل رُقعة احتلالها في هضبة الجولان، مما يُشير إلى مخططها لزيادة عدد المستوطنات في هذه المنطقة، وهذا ما تعكسه موافقة «الكنيسيت» الإسرائيلي على خطة بقيمة 11 مليون دولار لتحسين الخدمات في المستوطنات في هضبة الجولان، واستغلت إسرائيل حالة عدم الاستقرار في البلاد لتوسع في نطاق المنطقة العازلة، وقالت إن غاراتها المكثفة تمكنت من تدمير 80% من القدرات العسكرية للجيش السوري، كما تتطلع إسرائيل لاستمرار الدعم الأمريكي لها في المنطقة، لاسيما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان أول قائد عالمي يعترف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان وبعودته سيتعزز هذا الدعم. وفي ظل هذه التطورات، تتوخى الدول في المنطقة وأدانت هجمات إسرائيل على سوريا.
أما تركيا، فقد استغلت نفوذها في سوريا ودعمها للقوات السورية بشكل استراتيجي لتعزيز مصالحها الأمنية مع مد سيطرتها على المزيد من الأراضي السورية، كما التقى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مؤخرًا بالحاكم الفعلي الجديد لسوريا أحمد الشرع، لمناقشة التحول السياسي في سوريا، وجهود إعادة البناء ودعا إلى رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا. وكثفت تركيا هجماتها ضد مقاتلي و«حدات حماية الشعب» و«حزب العمال الكردستاني» في شمال سوريا والعراق في السنوات الأخيرة وبعد انهيار نظام «الأسد»، وفي هذا الصدد، دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المقاتلين الأكراد في سوريا إلى إلقاء سلاحهم أو مواجهة الدمار. وأعربت تركيا عن رغبتها في تعزيز تعاونها مع سوريا في مجال الطاقة وتوقيع اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة، كما أعرب المسؤولون الأتراك عن استعدادهم للمساعدة في إعادة الإعمار بعد الحرب، وهي خطوة مُهمة جدًا لإعادة الاستقرار إلى سوريا، وأعلن أردوغان عن استعدادات بلاده لفتح قنصلية في حلب، متوقعًا عودة المزيد من اللاجئين السوريين العام المقبل.
ومن الجانب الإيراني، يُعد انهيار نظام «الأسد» خسارة استراتيجية كبرى لإيران ولـــ «محور المقاومة»؛ فعلى مدى أكثر من عقد من الزمان، كان نظام «الأسد» حليفًا محوريًا لإيران، مَكّن طهران من الحِفاظ على نفوذها في المنطقة. وبعدما تعرضت السفارة الإيرانية في سوريا للهجوم، انكشف مدى ضُعف الوجود الإيراني في المنطقة، إذ حث المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي السوريين على مقاومة الحكومة التي يقودها «المتمردون» في أعقاب الإطاحة ببشار «الأسد»، مُدعيًا أن الانتفاضة السورية كانت من تدبير الغرب. وفي السياق نفسه، صرح عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني محسن رضائي: «الشباب والشعب السوري المقاوم لن يظل صامتًا في مواجهة الاحتلال الأجنبي والعدوان والاستبداد الداخلي من قبل بعض الفصائل». ومن جانبه، حذر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من التسرع في التوصل إلى استنتاجات حول مستقبل سوريا ووصف الوضع بأنه «لا يمكن التنبؤ به»، مُلمحًا إلى احتمالية تدخُل إيران في البيئة الأمنية الحالية، مما دفع جامعة الدول العربية لإدانة هذه التصريحات بشدة، ولم يتضح بعد ما إذا كانت طهران سوف تتعاون مع الحكومة الجديدة في دمشق وكيف ستُسير مصالحها في سوريا وسط تنامي غضب واسع النطاق ضد تدخُلها في البلاد.
ومن الجانب الأردني، شرعت عمّان وبسرعة في ظل التغيرات المتسارعة في الداخل السوري إلى التواصل مع الإدارة الحالية في دمشق، حيث التقى وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بأحمد الشرع لمناقشة مخاوف بلاده الأمنية وحماية مصالِحها الوطنية؛ فالأردن ترتبط مع سوريا بحدود برية تمتد على مسافة 375 كم، مما يخلق لها تحديات جسيمة، على رأسها أمن الحدود وتهريب الأسلحة والمخدرات مثل «الكبتاجون»، كما أكد المسؤولون الأردنيون مؤخرًا سعيهم لتسريع ودعم العودة الطوعية لــــ 710 ألف لاجئ سوري يعيشون في الأردن.
ومن الجانب القطري، زار وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري محمد بن عبد العزيز الخليفي دمشق والتقى بالشرع، الجدير بالذكر أن قطر كانت من منتقدي نظام «الأسد» ودعمت الجماعات المسلحة ضده، ولم تستأنف علاقتها مع سوريا على الرغم من عودتها إلى جامعة الدول العربية العام الماضي. وأكدت قطر التزامها بدعم استقرار سوريا وإعادة إعمارها، مؤكدًة على الجهود المبذولة لإعادة إعمار البلاد بعد سنوات من الحرب. وتُشير التقارير أيضًا إلى أن قطر قد تُعيد طرح مشروع خط أنابيب الغاز بقيمة 10 مليارات دولار لتوريد الغاز إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا الذي رفضه نظام «الأسد» سابقًا، وأجرى فريق فني من «الخطوط الجوية القطرية» تقييمًا لمطار دمشق الدولي بهدف إعادة استئناف الرحلات المباشرة بين الدوحة وقطر، كما شارك صندوق «قطر للتنمية» في مناقشات لإنشاء آليات لتوصيل المساعدات الإنسانية، ودعت قطر إلى رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا على الفور.
ومن الجانب السعودي، التقى وفد سعودي بأحمد الشرع في دمشق لمناقشة القضايا الإقليمية، لاسيما أزمة تهريب «الكبتاجون» التي كانت مصدر قلق كبير للمملكة منذ فترة طويلة. وفي مقابلة له، أشاد الشرع بالتنمية في المملكة وأعرب عن تطلُعاته لتحقيق تقدم مماثل في سوريا، مؤكدًا على التعاون الاقتصادي والتنموي المحتمل مع دول الخليج. وقد كانت المملكة تراقب عن كَثب الوضع في سوريا وتُشير الاستجابات السعودية إلى نهجها «البراغماتي» القائم على تعزيز الاستقرار الإقليمي ومعالجة التحديات على أسس تعاونية وتشاورية.
ومن الجانب الإماراتي، أجرى وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني وناقشا التطورات في سوريا، كما ناقشا آليات تعزيز العلاقات الثنائية. وأكدت الإمارات دعمها لوحدة سوريا وسيادتها، مؤكدًة على الجهود المبذولة من أجل انتقال شامل وجامع لتأمين مستقبل مُزدهر، وتُمثل هذه المكالمة الهاتفية أول تواصل رسمي للإمارات مع القيادة السورية الجديدة وسط جهود دبلوماسية إقليمية متنامية. تُشير ردود فعل الإمارات حتى الآن إلى جهودها الرامية إلى اتباع نهج التعامل البناء مع سوريا، ودعم الانتقال الشامل نحو الاستقرار والتعافي الاقتصادي.
ومن الجانب العراقي، أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على بذل بلاده جهودًا دبلوماسيًة لاحتواء الأزمة في سوريا، مُستذكرًا تأثيرها المباشر على الأمن العراقي، وأعرب عن مخاوفه بشأن تولد أي ارتدادات سلبية لهذا التغير، ولاسيما أن بقايا «داعش» لا تزال تُشكل مصدر تهديد لها، كما أجرى وزيرا خارجية العراق وسلطنة عمان محادثات في بغداد وناقشا الوضع الجاري في سوريا.
وفي حال تولت أي حكومة إدارة البلاد يجب أن توجه بوصلتها نحو معالجة التحديات الاقتصادية وإعطاء الأولوية للاستقرار لضمان بقائها، ومن الضروري جدًا أن تُقدم الدول في المنطقة ولاسيما، دول الخليج، الدعم اللازم للتنمية الاقتصاد في سوريا وتنويعها نطاق تفاعلاتها مع الخارج، وهذا من شأنه أن يُساعِد في تقليل الاعتماد على دولة بعينها، كما رأينا في اعتماد نظام «الأسد» على إيران، مما حَدَّ من الاستقلال الاستراتيجي لسوريا وقيد سياستها الخارجية. ومُستقبلًا، سيتعين على سوريا تجنُب الدخول في وضع مشابه لتمهيد الطريق للتعاون نشط مع جيرانها والدول الإقليمية. وعلى المدى البعيد، يُشكل تحقيق التوازن في العلاقات مع القوى الإقليمية الرئيسية ضرورًة أساسيًة لاستِقرار سوريا ونموها المستدام.
وأخيرًا، سوف يعتمد النهج المستقبلي في سوريا إلى حد ٍكبيرٍ على طبيعة الحكومة الجديدة، ويُدرك الشرع هذا جيدًا، كما يتضح من ردوده الأخيرة والمواقف السياسية التي اتخذها حتى الآن. ومن المرجح أن تختبر الدول الإقليمية الوضع قبل تحديد نِطاق وعمق مشاركتها، وسوف يتوقف مستوى الدعم الإقليمي أيضًا على قدرة الحكومة الجديدة على تأمين حدودها ومحاربة «الفصائل المتطرفة»، وهو التحدي الذي يتفاقم بسبب رفض بعض «الجماعات المسلحة» حل نفسها دون قيد أو شرط. كما ستلعب المساعدات الدولية دورًا محوريًا في التعافي الاقتصادي في سوريا، لذا سيتعين على الحكومة الجديدة أن تُثبت التزامها بالتمسك بالقانون الدولي وحقوق الإنسان لضمان مثل هذا الدعم.