برزت المملكة العربية السعودية مركزًا دوليًا محوريًا للدبلوماسية مستثمرةً مكانتها المميزة في الساحة العالمية للعب دور وسيط دولي نافذ، وقد أصبحت المملكة قوةً «عالمية فاعلة قادرةً على التوسط بنجاح في النزاعات الدولية»، وكان هذا الدور جَليًا في جهود الوساطة التي بذلتها بين روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا، ومشاركتها في تشكيل مُستقبل سوريا وانخراطها في أزمة غزة. وبحسب مصادر غربية، منحت الوساطة رفيعة المستوى بين الولايات المتحدة وروسيا الرياض نفوذًا سياسيًا في المفاوضات بشأن مُستقبل غزة بعد الحرب. وفي هذا الصدد، قالت «إذاعة أوروبا الحرة» إن المناقشات بين الولايات المتحدة وروسيا منحت المملكة العربية السعودية فرصًة «لتأكيد نفوذها السياسي بعد رفضها خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لترحيل سُكان غزة مع مقاومة أي تطبيع للعلاقات مع إسرائيل». وقُبيل القمة شارك وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في اجتماعات مع نظرائه في مجموعة العشرين.
عُقدت القمة في 21 فبراير بالعاصمة السعودية الرياض، حيث اجتمع فيها قادة السعودية ومصر والأردن والبحرين والكويت وقطر والإمارات لمناقشة القضايا الإقليمية العاجلة، ولاسيما القضية الفلسطينية والأزمة المتصاعدة في قطاع غزة. وكانت القمة بمثابة اجتماع «تشاوري أخوي» فتحت الباب لتبادل وجهات النظر حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية، مؤكدًة على الجهود المشتركة لدعم فلسطين. ووفقًا لوكالة «فرانس برس»، ناقش المشاركون في القمة «خطة إعادة الإعمار لمواجهة خطة ترامب لغزة». وعكست القمة التزام المملكة العربية السعودية الدائم بتحقيق السلام والاستقرار الإقليمي.
بعد 15 شهرًا من الحرب بين إسرائيل و «حماس»، أصبح قطاع غزة مُدمرًا بالكامل تقريبًا، وقدَّرت الأمم المتحدة مُؤخرًا أن تكلفة إعادة الإعمار ستتجاوز 53 مليار دولار. ومن جانبه صرح العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، خلال اجتماع مع الرئيس ترامب في واشنطن في 11 فبراير 2025م، «أن مصر ستقدم خطة بشأن مُستقبل غزة» وقد ناقشها المشاركون في قمة الرياض الأخيرة. وسارع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تأكيده على أن «حل الدولتين هو السبيل الأنسب لحل القضية الفلسطينية»، وذلك بعدما اقترح الرئيس ترامب سيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة، مما يعني إمكانية ضمها. وفي وقت سابق أرسل العاهل الأردني عبدالله الثاني رسالًة عاجلة إلى البيت الأبيض، مُحذرًا من العواقب الإقليمية لهذا الاقتراح.
وحسبما أفادت وكالة «رويترز» للأنباء، دارت النقاشات في الرياض حول خطة مصر لإعادة إعمار غزة التي تسعى لجمع 20 مليار دولار من دول الخليج العربي خلال ثلاث سنوات، لكن لم يُحدد بعد إطار زمني لهذه الخطة. وفي قمة الرياض، رحب القادة المجتمعين بعقد قمة عربية طارئة في القاهرة في 04 مارس 2025م، لتكون أرضيًة لمزيد من النِقاشات والعمل الجماعي، ويتمثل الموقف الرسمي للدول العربي، بأن أي عملية سلام يجب أن تضمن قيام دولة فلسطينية تتعايش مع إسرائيل. وقبل انعقاد قمة الرياض، التقى وزير الداخلية السعودي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف بالعاهل الأردني لإطلاع الجانب الأردني بالمبادرات السعودية بشأن غزة وأوكرانيا، وبدوره، شكر الجانب الأردني المملكة العربية السعودية على «جهودها لتعزيز العمل العربي المشترك».
وصرحت وكالة الأنباء الأردنية «بترا» أن الملك عبدالله رفض خلال لقائه ترامب مقترَحَهُ «تملُك» قطاع غزة الذي سيؤدي إلى تهجير الفلسطينيين من القطاع ومن المحتمل أيضًا من الضفة الغربية. وقد ناقش القادة العرب في قمة الرياض خطة مصر لإعادة إعمار القطاع والتي اقترحتها حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ الجدير بالذكر أن الرئيس المصري عرض هذا المقترح أول مرة خلال لقائه مع رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، رونالد لودر، وذكرت وكالة الأنباء السعودية، أن قرارات قمة الرياض ستُضاف إلى جدول أعمال القمة العربية الطارئة المقرر عقدها في الرابع من مارس 2025م في مصر.
قدمت مصر خطًة شاملًة ترُكز على إعادة الإعمار العاجل لقطاع غزة دون تهجير سُكانه، وتقترح هذه المبادرة على إقامة «مناطق آمنة» داخل القطاع بتوفير سكن مؤقت للسكان، بينما تجري إعادة إعمار البنية التحتية الرئيسية. ومن منظور القاهرة، فإن إطار حُكم قطاع غزة المستقبلي لا يشمل حركة «حماس» والسلطة الفلسطينية، والأرجح سيضم قوة أمنية تتشكل من ضُباط سابقين من السلطة الفلسطينية. وتجري بالفعل مناقشات مع الدول الأوروبية ودول الخليج بشأن كيفية التمويل، مع النظر في عقد مؤتمر دولي لإعادة الإعمار. وفي حين تبقى تفاصيل الاقتراح طي الكتمان، أعلن الدبلوماسي المصري السابق محمد حجازي، أن المقترح مبني على نهج تدريجي يمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، بحيث تعني المرحلة الأولى ومدتها ستة أشهر بإزالة الأنقاض و«التعافي المبكر»، وتتطلب المرحلة الثانية عقد مؤتمر دولي لوضع خطط مُفصلة لإعادة الإعمار، وستوفر المرحلة النهائية الإسكان والخدمات وإنشاء «مسار سياسي لتنفيذ حل الدولتين» وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل.
إن أهم نتائج قمة الرياض الموقف العربي الموحد الرافض لأي خِطط تقوم على التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، والتأكيد على حقوقهم وسيادتهم على أراضيهم. وأكد القادة، أن مثل هذه الأفعال تقوض القضية الفلسطينية وتُهدد أمن المنطقة، واتفق القادة بالإجماع على الحاجة الماسة للقيام بجهود إعمار واسعًة النطاق بتمويل ودعم لوجستي عربي ودولي. وأكدت قمة الرياض التزام العالم العربي بالحلول التي تضمن سلامة الأراضي الفلسطينية وتلبية احتياجاتهم الإنسانية دون الرضوخ لضغوطات خارجية من شأنها أن تُفاقم من زعزعة استقرار المنطقة. كما أن مستقبل الحكم في غزة بعد الانتهاء من مرحلة إعادة الإعمار كان من أهم محاور النقاش في هذه القمة.
تمثل قمة الرياض خطوًة حاسمة في الجهود الدبلوماسية العربية لحل أزمة غزة، ومن خلال إعدادها استراتيجيات شاملة تضع سلامة الفلسطينيين والاستقرار الإقليمي أولوية، تهدف الدول العربية إلى التصدي للمقترحات الخارجية التي تُفاقم التوترات. ومن المتوقع أن تقوم النقاشات في القمة العربية المقبلة في القاهرة على هذه النقاشات، وستسعى جاهدة للوصول إلى حلول فعلية تضمن حقوق الشعب الفلسطيني وكرامته. وستناقش القمة المقبلة أيضًا خِطة إعادة الإعمار المقترحة لتعزيز خطة عربية شاملة ومعالجة التحديات التي تواجهها غزة.