مقدمة
بينما ينشغل العالم بمكافحة جائحة «كورونا» المستجِّد، تكافحُ روسيا وإيران لإبقاء سوريا في «الحجر» غير الصحي الذي تريد كلٌ منهما فرضهُ على الأرض السورية، وفقًا للمعايير المصالحية لكلا الدولتين. في هذا السياق أتت زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق في 23 مارس 2020م، ولاحقًا، زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي التقى الرئيس السوري بشار الأسد في 20 أبريل 2020م. وتأتي زيارة وزير الدفاع الروسي الأخيرة لتوجيه تحذيراتٍ للأسد بعدم الإنصات كثيرًا للإيرانيين، وعدم تأييدهم في استمرار تفجير الوضع، وأنَّ روسيا لا تسمحُ بتجاوز الاتفاقيَّات الروسية – التركية حول إدلب، فيما تأتي زيارة وزير الخارجية الإيراني بناءً على التطورات في الساحة السورية في محاولةٍ لوضع النقاط على الحروف ومناقشة ما تراه، إيران، أنها شواهدَ ميدانية تدُل على إقصائها من التفاهمات الجارية بين روسيا وأمريكا من جهة، وبين روسيا وإسرائيل من جهةٍ أخرى، واستبعادها أيضًا من التفاهمات والترتيبات الروسية – التركية الأخيرة حول إدلب وغيرها.
هاتان الزيارتان تأتيان بينما العالم منشغلٌ بكارثة «كورونا» حصرًا وتبعاتها الاقتصادية القاسية، وانحسار الاهتمام بالقضايا الدولية. هذا يُعطي انطباعًا بأنَّ حدة الخلافات بين موسكو وطهران حول طريقة تعاطيهما مع الشأن السوري وصلت تقريبًا إلى مفترق طرق، حتى إنَّ موسكو وصفت علاقتها بطهران بأنها «علاقةُ تنسيقٍ وليس تحالفًا»، فما طبيعة هذه الخلافات، وما مسارات تطورها، وما آفاقها المستقبليَّة؟
بدايةً، يجب الاعتراف بأنَّ ما يربطُ روسيا وإيران هي مصالح مشتركة وعلاقة تعاونٍ عسكريٍّ وأمنيٍّ في إطار رؤيتهما المشتركة التي تجمعهما لعقودٍ من الزمن في مواجهة ما يُسميانه بالعدو الغربي المشترك. كما يلتقيان في عدائهما لما يُطلقان عليه «الجهاديَّة الإسلاميَّة»، والمقصود من هذه التسمية التنظيمات السُنية، إذ تُصنِّف روسيا الجماعات الإسلامية ضمن مصادر التهديد لأمنها القومي، وتخشى من وجود ارتباطٍ بين هذه الجماعات ونظائرها في القوقاز ودول آسيا الوسطى.
ومنذ أن دعمت كلٌ من إيران وروسيا بشار الأسد ومنعت انهيار نظامِهِ منذ بداية النزاع بينه وبين معارضيه في سوريا عام 2011م، جرى تنسيقٌ في الأدوار تخللتهُ بعض الخلافات التكتيكية التي لم تلبث إلّا أنْ تنتهي بالتفاهم السياسي دون أن يصل إلى فكٍ للشراكة التخادميَّة التي تجمعهُمَا.
وكان سيجري البتّ في بعض التباينات، بيد أنَّ تطور الموقف السياسيﱟ والعسكريﱟ، ووصول الأزمة إلى مرحلة النهايات، وما سيتخلّلُها من إعادة الإعمار في سوريا، دفع بهذه التناقضات والخلافات إلى السطح، وتصاعدت حِدّة التباينات بينهما في أكثر من زمان ومكان، وهو أمرٌ طبيعي يحدُث دائمًا بين التحالفات المُشتركة عند قُرب موعد الحصاد وتوزيع الغنائم. ومنذ العام 2014م ظهرت على الساحة السورية موضوعاتٌ متناقضة بشدة بين الحليفيْن الروسي والإيراني حول شكل النظام السياسي، ومستقبل الدولة في سوريا، وإمكانية استمرارية بشار الأسد في الحكم، وهُويَّة المؤسَّسة العسكريَّة السورية، وهيكلة مؤسَّسات الدولة، ومناطق انتشار قوات الدولتين، واستمرار القوات الأجنبية والمرتزقة في سوريا، ومِلف إعادة الإعمار. أما الأهمّ فهو الخلافات بينهما حول التفاهمات المنفردة الجارية بين روسيا وتركيا وواشنطن وإسرائيل، وخشيةَ النظام الإيراني من نتائجها العكسية على مستقبل مصالحه في سوريا.
أولًا: التنسيق الروسي مع الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة في سوريا بمعزلٍ عن إيران
ربما يبدو العامل الأشد قلقًا للنظام الإيراني هو التفاهمات الروسية التي فتحت الأخيرة منها قنواتٍ لها مع كافة الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة المنخرطة في الصراع، بما فيهم خصوم طهران نفسها، على غرار إسرائيل والولايات المتحدة. وهنا، ترى إيران أنَّ موسكو تسعى إلى تكريس دورها بوصفها الرقم الصعب في المعادلة السورية والمحور الرئيس في مجمل الترتيبات التي يجري العمل على صياغتها في مرحلةِ ما بعد انحسار المواجهات المُسلحة، في وقتٍ استعادَ فيه النظامُ أغلب الأراضي السورية مع قُرب انطلاق مرحلة التسويات السياسية النهائية.
هذا ما دعا جهاتٍ سياسية مُتعدّدة في البرلمان الإيراني والمؤسَّسات الأخرى للتحدث أكثر من مرة عن وجود نوايا روسية للاستحواذ على سوريا وتهميش إيران، وأنها تنفرد بتفاهماتٍ مع تركيا وإسرائيل وأمريكا بمعزلٍ عن إيران(1). والحقيقة، أنه ورغم بعض المجاملات السياسية البروتوكولية، فإنَّ الروس تعاملوا مع إيران بوصفها لاعبًا ثانويًا في الساحة السورية، ويستطيع المراقب أنْ يلمح تردد موسكو بالفعل في إشراك طهران بكامل اتفاقيات ترتيب الوضع السوري.
1- تقارب المصالح الروسية-التركية يُقلق إيران
أكثر ما تخشاه إيران هو التقارب المستمر للمصالح الروسية والتركية في وقتٍ يتصادم طموح طهران مع الطموح التركي حول مِلفاتٍ عدة. تُدرك إيران أنه في تاريخ الدولة العثمانية (1299م-1923م) تمكَّن الأتراك من احتلال وهزيمة وحُكم جميع الدول العشر المجاورة لها باستثناء روسيا وإيران، وبالتالي فتركيا منافسٌ إستراتيجيٌ تاريخيٌ كبيرٌ لها على النفوذ والتوسع في منطقة شمال الجزيرة العربية. وتخشى طهران من أن يُعيد التاريخ نفسه وتصبح أنقرة إحدى العقبات الإستراتيجية الكبرى في سوريا خاصةً بما تملكهُ الأخيرة من مقومات تمكين قوية هي: ارتكاز تركيا على عضويتها في حلف الناتو، وعلى شراكتها القوية مع روسيا في إدارة الملف السوري، وعلى مبررات الجوار الجغرافي وأمن حدودها، ومذهبها السُني الذي تتشاركه مع الأغلبية السُنية في سوريا.
يصفُ الكاتب الإيراني حسين كريمي الخطر التركي على سوريا بأنه نابعٌ من سَعي أنقرة إلى تفكيك إدلب، حيث قامت تركيا في عام 1939م بِضَمّ إقليم إسكندرون لأراضيها، وتسعى حاليًّا لتجزئة وتفكيك إدلب لِضَمها لأراضيها؛ لأجل إقامة طريقٍ لها يوصلها إلى سوريا والأردن وكافة دول منطقة الشرق الأوسط. هناك مطامع تركية تاريخيَّة في ضم أجزاءٍ من الأراضي السورية، وتدّعي بأنَّ لها أحقيةً تاريخيةً، مثلما تتكرر الادعاءات التركية من قِبل مسؤوليها في أحقيتهم بكركوك والموصل العراقية، وهو الأمر الذي جعل المسؤولين الإيرانيين يرفضون تلك النوايا معتبرين أنّ ذلك، كما يقول الكاتب، سيؤدي إلى إشعال فتيل الأزمة في الشرق الأوسط! أما الأمر الآخر فيتركز حول مسألة معارضة إيران للمساعي التركية الرامية لزيادة نصيب مشاركة التركمان في سوريا؛ نظرًا لأنّ أغلب الجماعات السياسيَّة والعسكريَّة التركمانية في سوريا يقبعون تحت إدارة وإشراف تركيا بل وإنّ غالبية التركمان السوريين يتلقون الأوامر من أجهزة المخابرات التركية. يُضاف إلى ذلك أنَّ أنقرة قامت في السابق بتسليح التركمان تحت غطاء تقديم المساعدات الإنسانية(2).
وتابع الكاتب حسين كريمي قائلًا: «تتعارض المصالح التركية والإيرانية في سوريا حول موضوع نوع الحكومة في سوريا، حيث حُظي التاريخ بسلسلةٍ من الاختلافات الدينيَّة والمذهبيَّة بين الدولتين الصفوية (الشيعية) والعثمانية (السُنية). فبعد سقوط الأخيرة وقيام تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك وميولها نحو الغرب، أصبحت الحكومة التركية ذات منحًى مختلفٍ عن السابق»(3). وأضاف الكاتب أنَّه «في الفترة التي كانت إيران تحت الحكم البهلوي الذي اتّخذ هو الآخر منحًى نحو الغرب، حينها، لم تكُن تشهد الدولتان أيّ حساسيَّة دينيَّة بينهما خاصةً وأنَّ تركيا أصبحت علمانية الحكم. إلّا أنَّ الأمر تغير بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979م وعادت الخلافات الدينية إلى سابق عهدها بعد أنْ تغيّر شكل الحكم في إيران وأصبح دينيًّا، حيث كان عددٌ من المسؤولين الأتراك قد صرّحوا بالخطر الشيعي على تركيا ومخاوفهم من النموذج الإيراني. ومخاوف تركيا فيما يتعلق بسوريا تكمُن في أنها ترى بأنَّ وصول نظام حكم مذهبي يُوالي إيران من الممكن أنْ يُهدد تركيا مستقبلًا، في الوقت الذي لا تريد فيه إيران أن يكون النظام السياسي في سوريا علمانيًّا»(4).
وبالتالي فإنَّ مصدر القلق الأساس لدى النظام الإيراني هو أنَّ هناك توافقًا ما، غير معلن، بين السياستين الروسية والتركية، حول مستقبل سوريا، وأنهما يسعيَان إلى إنهاء الوجود الإيراني بشكلٍ كامل في الشمال السوري، وإجبار القوات الإيرانية على الانسحاب من هذه المنطقة، وربما يخططان إلى ما هو أبعد من ذلك بإجلاء إيران من كامل سوريا.
وفي واقع الأمر، ومنذ بداية الأزمة، عملت تركيا على إحداث تأثيرٍ ثقافيٍّ وديموغرافي في الشمال السوري، ولا ترغب في حضورٍ إيراني ولو بسيط في هذه المنطقة، إنْ لم يكُن في كل سوريا، إذ قامت بتغيير التركيبة البشرية وتغيير هُوية المكان وإكسابه طابعًا تركيًا في مناطق الحدود مع سوريا. وتهدفُ من ذلك إلى خلق وإيجاد نطاقات سُكانيَّة واجتماعيَّة عربية خاضعة إلى تُركيا في مناطق الحدود، وأن يستمر نفوذ التنظيمات الحليفة لها في محافظة إدلب حتى بعد تسوية الصراع، ومنع الحكومة السورية من إدارة المحافظة كونها جزءًا من إقليم الدولة السورية. تهدفُ تُركيا في محافظة إدلب لجعلها منطقةً خاضعةً للفصائل والتنظيمات السياسيَّة والعسكريَّة المدعومة منها التي تسيرُ في فلكها. فكثيرٌ ممَّن يسكنون مُحافظة إدلب الآن هُم ليسوا من أبنائها ولكنهم من أعضاء تلك التنظيمات والفصائل من كُل أنحاء سوريا الذين تمّ نقلهم إلى إدلب في السنوات الأخيرة.(5) بالطبع، إيران قلقةٌ من استمرار تركيا في هذا النهج وسط صمتٍ روسي. وعلى الرغم من أنَّ إيران وتركيا سبقَ ونسقتا سويًا لإجهاض تجربة الانفصال الكردي في العراق في سبتمبر 2017م، وهناك تنسيق جارٍ بينهما لتقليص تمدد نفوذ القوى الكردية في شمال سوريا، يُضاف إلى ذلك أنَّ الدولتين عضوين في آلية أستانة للتسوية السياسية حول سوريا؛ إلّا أنه بدا واضحًا تزايُد حدة المنافسة بينهما في الملف السوري وحجم الاختلاف العميق والجذري حول سُبل التسوية في سوريا. يبقى أنّ الهجوم الثلاثي الأمريكي – البريطاني – الفرنسي فجر 14 أبريل 2018م على مواقعَ في العاصمة السورية دمشق وخارجها في محافظة حِمص، لما وُصِف بأنه معاقبة الأسد على استخدام سلاحٍ محرَّمٍ دوليًّا، أظهر أن تركيا، كما تنفردُ بالتنسيق مع روسيا، فهي أيضًا تتبنى خيارات إستراتيجية مع الغرب، حلفائها في الناتو. تلك الضربات وما نتج عنها من تبعاتٍ أظهرت أنَّ التحالف الإيراني-التركي في سوريا، ليس إلا تحالفًا تكتيكيًّا مرحليًّا لا إستراتيجيًّا، سيزول بزوال أسبابه ومسوغاته، ما جعل إيران ترى في تركيا اللاعب الذي له أجندته الخاصة ولا يُمكن الوثوق به.
ويُضاف إلى ذلك أنَّ إيران أبدت رفضًا واضحًا للعملية العسكريَّة التي تشُنها تركيا في شمال سوريا، بدايةً من 09 أكتوبر 2019م، تحت مسمى «نبع السلام»، إذ اتخذت خطواتٍ عديدة حاولت من خلالها توجيه إشارات إلى أنقرة بأنها لا تدعم الترتيبات الأمنية التي تقوم بصياغتها في شمال سوريا، ولا سيَّما أنها كانت بالتوافق مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. ولم تكتفِ إيران بإبلاغ تركيا معارضتها للعملية العسكرية التي تشُنها داخل الأراضي السورية في الفترة الحالية، واتخذت خطوات أخرى في هذا السياق، منها: إلغاء زيارة رئيس البرلمان الإيراني السابق علي لاريجاني إلى إسطنبول، والتي كانت ستجري بالتوازي مع بداية العملية، للمشاركة في اجتماعٍ برلمانيﱟ بدعوة من نظيره التركي. كما سمحت السلطات الإيرانية لوسائل إعلامٍ بشن حملةٍ قوية ضد تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان، حيث وضعت صحيفة «فرهيختگان» على صفحتها الأولى في العدد الصادر في 08 أكتوبر 2019م، عنوان: «السلطنة في خدمة الإرهاب»، وصورةً للرئيس أردوغان، إذ اعتبرت أنَّ العملية العسكرية ستمنح «تنفسًّا صناعيًّا للإرهاب»(6).
ولهذا أتت زيارة ظريف الأخيرة إلى دمشق، كما وصفتها مصادر إعلامية، للتعبير عن انزعاج طهران من العمليات العسكرية المستمرة في الشمال السوري ومن استبعادها من التفاهمات الروسية – التركية الخاصة بإدلب، المُبرمة في 05 مارس 2020م. فإيران فهمت أنها بالاسم فقط ضمن مسار أستانة، ولا وجود لقوات إيرانية بين الدوريات المشتركة الروسية – التركية، ولا الترتيبات العسكرية، بل إنَّ اتفاق موسكو الأخير سمح لتركيا بتعزيز قواتها العسكرية إلى نحو 16 ألف عنصر، وآلاف الآليات والدبابات، في شمال غربي سوريا. على إثرها، نقلت طهران إلى دمشق ضرورة أن يكون اتفاق إدلب مؤقتًّا ولا يسمح بوجودٍ تركيٍ دائم(7).
وما زالت إيران حريصةٌ على الترويج إلى أنَّ «الخطر» الأكبر الذي يواجه مستقبل الترتيبات الأمنية والسياسية في سوريا يتمثَّل في بقاء مشكلة إدلب دون تسوية. ففي رؤيتها، أنَّ هذا المِلف يكتسب أهميةً أكبر بمراحل من «الخطر» الذي تزعم تركيا أنه يُواجهها من خلال سيطرة الميليشيا الكردية على المناطق المحاذية لحدودها، وترى اتجاهاتٌ في طهران أنَّ أحد أهداف العملية العسكرية التركية يتعلق بمحاولة توجيه الانتباه بعيدًا عن مِلف إدلب، التي تحولت إلى «خزَّان جهاديﱟ» في ظِل سيطرة التنظيمات الإرهابية عليها، وهو الملف الذي سعت إيران وروسيا والنظام السوري إلى منحه الأولوية في الفترة الماضية؛ لأجل إنهاء التنظيمات الموجودة فيها وتوسيع نطاق سيطرة القوات النظامية على الأرض(8).
أوصل التصعيد العسكري الجاري في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا حالة «الودّ» الظاهري بين تركيا وإيران إلى نهايتها، وأجلى التناقض العميق بين الطرفين، وذلك عندما وجدَت ميليشيا حزب الله المقاتلة إلى جانب قوات النظام السوري نفسها في مرمى نيران القوّات التركية، الأمر الذي أثار حفيظة طهران ودفعها إلى توجيه إنذارٍ لأنقرة، وأدّى قصفٌ جوّي نفّذه سلاح الجو التركي على المنطقة الممتدة من معرة النعمان إلى سراقب بجنوب شرق إدلب، إلى مقتل ما لا يقل عن خمسة عشر عنصرًا من عناصر حزب الله اللبناني بينهم قادة ميدانيون إضافةً إلى تدمير كمٍ كبير من عتاد الحزب وأسلحته(9).
أنقرة مطمئنة وتعلم، وهي تستهدفُ قواتٍ تابعة لإيران ولحزب الله، أنها أولًا تستميل الولايات المتحدة الحريصة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، على تحجيم نفوذ إيران وقطع أذرعها في المنطقة. ثُمَّ إنها تدرك عدم اكتراث روسيا بضرب ميليشيات حزب الله في سوريا، وهو ما ثبُت بشكلٍ متكرّر عند استهداف إسرائيل للمواقع الإيرانية داخل الأراضي السورية. وأصبحت إيران، عمليًّا، باستهداف القوات التركية، ميليشيا حزب الله اللبناني (الذراع الأقوى لإيران في المنطقة) في حالة مواجهةٍ مع تركيا.
ولكن رغم أنَّ إيران مستاءةٌ جرّاء التفاهمات التركية مع روسيا والعمليات العسكرية التركية الأخيرة، فإنّها تُظهر حرصها على استمرار علاقاتها مع تركيا، على المستويات المختلفة، وتسوّق لها بأنها علاقاتٌ إيجابية، بل إنَّ طهران ربما ستلعب بشكلٍ أكبر دورَ الوسيط بين تركيا من جهة والنظام والأكراد من جهةٍ أخرى. فطهران لا تريد أن تُغامر بقطع علاقتها مع تركيا ولا التضحية بها، فهامشُ النظام الإيراني في المناورة أضحى قليلٌ جدًّا لإدراكه بأنَّ أمامه ضغوطًا إقليميَّة ودوليَّة، وربما يحتاج أنقرة كوسيطٍ في مِلفه النووي، كما فعل من قبل، أو في مِلفه الاقتصادي بسبب تبعات العقوبات الأمريكية، أو حتى في بعض المِلفات في العراق وسوريا، وتُعوِّل إيران على تركيا بالوقوف إلى جانبها ضد أيّ محاولةٍ من جانب الدول العربية للتقارب مع العراق ولعب دورٍ مستقبليﱟ في سوريا، وخاصةً من قِبل السعودية أو الإمارات.
2- أولوية الأمن الإسرائيلي في الأجندة الروسية
مصدر القلق الثاني في سياق التفاهمات الروسية، ما تراه إيران من أولويةٍ للأمن الإسرائيلي في الأجندة الروسية. أعلنت وزارة الدفاع الروسية مُبكرًا وبالتحديد في 10 أكتوبر 2015م، أنَّ الجيش الروسي أنشأ «خطًا مباشرًا» مع الجيش الإسرائيلي، وذلك للتنسيق لمنع أيّ احتكاكٍ محتمل بين الجيشين الروسي والإسرائيلي. وتستندُ آلية التنسيق بين الجانبين في سوريا إلى هذا الخط الساخن الذي يربط بين قيادة القوة الجوية الروسية المتواجدة في مطار اللاذقية، وقيادة القوة الجوية الإسرائيلية(10). وبالنسبة إلى روسيا فالهدفُ من هذه الآلية هو حماية الجيش الروسي من القصف الخاطئ للغارات التي تنفذها إسرائيل ضد الوجود الإيراني والتأكد من ألّا تطال هذه الغارات مقرات نظام بشار الأسد. وتُفسر إيران هذا التنسيق بأنه ضوءٌ أخضر من روسيا للقوة الجوية الإسرائيلية لضرب وحداتها وميليشيات حزب الله.
وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية يوم 29 أغسطس 2018م عن حصول اتفاقٍ بين تل أبيب وموسكو على إخراج كلِّ القوات العسكرية التابعة لإيران وحزب الله من الجنوب السوري مسافة 85 كم من مرتفعات الجولان الحدودية، والإبقاء على القوات السورية الحكومية فقط في تلك المنطقة، مقابل أنْ تتوقف إسرائيل عن استهدافها المواقع الإيرانية في سوريا. يؤكِّد ذلك وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بقوله: «إنَّ القوات السورية الحكومية هي فقط من لديها حق البقاء في الجنوب، ويجب خروج أيّ قوات أجنبية أخرى، وعلى إيران الالتزام بذلك»(11).
ترى إسرائيل، وكما كشف رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في أكتوبر 2019م، أنَّ الوجود الإيراني في سوريا مُهددًا لها، وأنَّ هناك مجموعة من المهددات الإيرانية في سوريا ستتعامل تل أبيب معها بكل حزمٍ من خلال حرمان إيران من التوسع باتجاه الحدود الإسرائيلية في الجولان وفتح جبهة جديدة ضدها، إضافةً إلى الجبهة الجنوبية في غزة، وقطع خطوط الإمداد لشحنات الأسلحة المرسلة من إيران إلى حزب الله مرورًا بسوريا، وتدمير المنشآت الإيرانية في سوريا والمخصَّصة لتطوير دقة صواريخ حزب الله، ومنع إيران من تحقيق طموحها في إيجاد ممرﱟ بريﱟ يربطها بسواحل المتوسط في لبنان عبر العراق وسوريا، وإنهاء تهديد الصواريخ التي نشرتها إيران في سوريا ولبنان(12).
ووصل مستوى التنسيق إلى أنَّه في يونيو من العام 2019م، عُقدت في إسرائيل قمةٌ أمنيةٌ جمعت مسؤولين أمريكيين وروس وإسرائيليين، وخُصِّصت لبحث مستقبل سوريا، خرج بعدها الرئيس نتنياهو ليقول للصحافة: إنَّ «هناك اتّفاقًا إسرائيليًّا- أمريكيًّا- روسيًّا على أنه يجب إخراج إيران من سوريا، لكننا نختلف على كيفيّة تنفيذ ذلك». وسبق وأنْ أعلن قبل ذلك، وبالتحديد في 19 فبراير 2019م، وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت عن انتقال بلاده من إستراتيجية الدفاع إلى إستراتيجية الهجوم ضد طهران. وأكّد أنَّ هدفه يكمُن في إخراج القوات الإيرانية من سوريا، وأعلن عن وجود اتّفاقٍ بين إسرائيل والولايات المتحدة مفاده أنَّ «تل أبيب تتحمّل المسؤولية عن مواجهة إيران في سوريا، فيما تُعدّ واشنطن مسؤولةً عن التصرف ضد الجمهورية الإسلامية في العراق»(13). وبعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية في مارس 2020م الماضي تضاعفت وتيرة الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، والتي استهدفت مستشارين وقياداتٍ إيرانية، ومواقعَ لحزب الله اللبناني، في الوقت الذي بدأت فيه الضغوط الأمريكية على إيران في العراق مطلع العام الجاري مع مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، قرب مطار بغداد. وفي هذا السياق، صدرت دراسةٌ استشرافية موسَّعة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تضمَّنت توصيات للحكومة الإسرائيلية الجديدة التي بدأت أعمالها يوم 17 مايو 2020م، حول الطريقة المُثلى للتعامل مع ملف التنسيق مع روسيا بشأن تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وكان من ضمن التوصيات، ما يلي(14):
- على الحكومة الإسرائيلية الجديدة أن تبذل جهودًا إضافية لكي تُكثف روسيا من جهودها لتقليص النفوذ الإيراني العسكري في سوريا.
- محاولة التأثير على موسكو لمراعاة بناء قوةٍ عسكرية «غير متقدمة» للجيش السوري.
- العمل على دفع روسيا لاستخدام نفوذها لفصل الميليشيات الموالية لإيران عن أجهزة الأمن السورية.
- المحافظة على آلية التنسيق مع الجيش الروسي لضمان استمرار حرية إسرائيل في الحركة والعمل، وضمان عدم حدوث احتكاك مع الروس في الأجواء السورية.
- بلورة صورة مخابراتية مشتركة مع روسيا حول شكل وطبيعة الأنشطة الإيرانية التخريبية ضد مصالح الدولتين.
هذه التنسيقات بين موسكو وتل أبيب كان من نتائجها أنَّ الدفاعات الجوية الروسية (S300) المنتشرة في مناطق سورية، لم تعترض الغارات الجوية الإسرائيلية المتتابعة ضد التمركزات الإيرانية، وقوافل السلاح، ومخازن «حزب الله» في سوريا، بل من وقتٍ لآخر أصبحت الطائرات الروسية والإسرائيلية تُنفّذ غاراتٍ مشتركة ضد الميليشيات الإيرانية ووحدات حزب الله.
3- إدخال موسكو لواشنطن طرفًا في الأزمة السورية
يتعلَّق مصدر الانزعاج الإيراني الثالث من روسيا، هذه المرة بإدخال موسكو للولايات المتحدة الأمريكية كطرفٍ في الأزمة السورية. وتبدو طهران غير راضيةٍ البتة عن الاتفاقيَّات التي توصلت إليها روسيا بالتعاون مع واشنطن مبكرًا في 27 فبراير 2016م، بدءًا من اتفاقية وقف الأعمال العدائية في إدلب، وصولًا إلى مفاوضات مناطق خفض التصعيد، رغم أنَّ المندوب الإيراني في مؤتمر «أستانة- 6» أقسم بأنه لن يتمّ اتفاق إدلب، وستعمل إيران على تخريبه(15).
تتوجَّس إيران أيضًا من تنامي التفاهمات الأمريكية-الروسية تجاه مستقبل سوريا ومصير الأسد في الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة في عام 2021م، ولا سيَّما بعد اتباع الروس إستراتيجية مغايرة تحمل إشاراتٍ لإمكانية التخلي عن الأسد في المرحلة المقبلة، إذ شنَّت الأوساط الإعلاميَّة الروسية هجومًا حادًّا على الأسد مُشكِّكةً في قدراته على الحكم، وتذبذب سيطرته وحمايته للمناطق المحررة من المعارضة، وعدم إنجازه تقدمًا في مِلف الإصلاحات وصياغة الدستور.
وقد بيّنت نتائج الاستبيان الذي استطلع رأي 1000 سوريﱟ داخل مناطق النظام، في شهر أبريل 2020م، وبحسب ما أفادت به وكالة «ريا فان» القريبة من الكرملين أنَّ 31.4% يفضلون بقاء الأسد، و41.3% لهم رأيٌ سلبيٌّ ومعارضٌ له، و27.3% يرفضون الإجابة، أو تهرّبوا منها(16).
يُدرك الروس أنَّ بقاء الأسد في المرحلة المقبلة سيصطدمُ برؤية وتوجُّهات الجماعة الدولية، فضلًا عن إدراكهم صعوبة إعادة إعمار سوريا بدون التنسيق مع الولايات المتحدة الرافضة للدور الإيراني في سوريا، ورفض الإدارة الأمريكية الانسحاب من حقول النِّفط السورية، أو من قاعدة التنف الحدودية التي تُشكل تهديدًا لإيران(17).
وبدت إيران مقتنعةً بأنَّ الروس بدأوا بالفعل في إعداد خارطة طريق بالتنسيق مع الغرب تضمنُ الإطاحة بالأسد مقابل رفع العزلة الدبلوماسية والعقوبات الأمريكية عن سوريا والبدء في عمليات إعادة الإعمار. تعلم روسيا أنه ومن أجل النجاح في سوريا يتطلب منها تنفيذ التزاماتها تجاه واشنطن هناك، ومنها ضمان أمن إسرائيل، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وكل ذلك يتطلب إخراج إيران من سوريا، وفكّ ارتباطها بها.
وتُدرك روسيا مسؤولياتها كدولة كبرى، ضمن قوى دوليَّة مُتنافسة، ولديها حساباتٌ إستراتيجيةٌ واقتصاديةٌ مختلفة عن إيران، ولديها دروسٌ من التاريخ اكتسبتها من غزوها الدرامي لأفغانستان، أو تعلمته مما كانت شاهدًا عليه أثناء حربها الباردة مع أمريكا وتخبُطها في «المستنقع الفيتنامي»، أو لاحقًا عندما غاصت في «الوحل العراقي»، ولذلك فموسكو تدرك جيدًا أنَّ العمليات العسكرية يجب أن تتوقف عندما تظهر في الأفق نافذةُ سلام ولو نسبي. لدى روسيا شعورٌ بأنها وصلت نقطة الذروة في سوريا، وتخشى «الوهن الإستراتيجي الكامل»، وهي مرهقة ماليًّا، في ظل التبعات الاقتصادية لجائحة «كورونا» المستجِّد وهبوط أسعار الطاقة، وأنه حان وقت الحصاد وتعويض الخسائر من مشاريع إعادة الإعمار في سوريا ومن الاستثمارات الواعدة فيها. لذلك هي الآن أشد حرصًا من ذي قبل في الدفع باتجاه تصميم حلفٍ سياسيﱟ لإيجاد حلولٍ سياسية، وإحياء محادثات السلام التي بدأت في كازاخستان. بينما يرى النظام الإيراني أنه لا يزال يحتاج مزيدًا من الوقت لتثبيت أقدامه أكثر في سوريا والحصول على موطئ قدم مُرضٍ على كامل الرقعة السورية. كما يرى أنَّ مشروعه الطائفي سيذبُل مع السلام والاستقرار؛ لأنَّ الفوضى تُعَد بيئته المفضلة، كما زرعها في العراق وفي اليمن، وليس وجود الدولة ذات المؤسَّسات. وبات نظام طهران مقتنعًا أنَّ التسويات السياسيَّة ليست في صالحه في الوقت الحالي، وأنه يجب استمرار عسكرة الوضع السوري واستمرار العمليات سعيًا للتمدد على أكبر قدرٍ من الجغرافيا السورية، خاصةً في الغُوطة الشرقية أو إدلب أو درعا.
ثُم أنَّ طهران لن تجد ما تُقنع به الشعب الإيراني الذي يتظاهر ويحتجُّ من وقتٍ لآخر مُطلِقًا شعارات: «لماذا تُصرَفُ أموال الشعب الإيراني على مشاريع خارجية غير مجدية»! وبالفعل جنَّدت إيران ودربت وموَّلت ما يُعرف بقوات الدفاع الشعبي NDF وعددهم نحو 100 ألف مقاتلٍ شيعيﱟ(18)، ويعملون تحت إشراف القوات الإيرانية منذ النشأة عام 2012م.
وتُشير التقديرات إلى أنَّ عدد المقاتلين العسكريين (التابعين للحرس الثوري) وغير العسكريين (من الذين جلبتهم إيران من الدول غير المستقرة من أفغانستان وباكستان والعراق وغيرها) بلغ نحو 20 ألف مقاتلٍ بينهم نحو 2000 إيرانيﱟ ما بين ضابط وجندي، ونحو 7500 عنصرٍ من حزب الله(19)، بينما قَدّرت منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية المعارضة عددهم بنحو 70 ألف مقاتل، بينهم 20 ألفًا من الميليشيات العراقية ومثلهم من الأفغان، إلى جانب 7 آلاف من باكستان، ونحو 10 آلاف مسلح ٍمن ميليشيات حزب الله(20)، ويُقدّر عدد القتلى من هؤلاء المقاتلين بـِ 2000 قتيلٍ بمن فيهم قياداتٌ كبيرة في الحرس الثوري الإيراني(21)، وبالطبع فهي تنتظرُ من النظام السوري تعويضًا ماديًّا استثماريًّا عن كل هذا.
وهذا ما دعا عضو لجنة السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه إلى التصريح في مايو 2020م، بأنّ على إيران استعادة أموال شعبها التي أنفقتها على سوريا، بالتزامن مع الواقع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه البلاد، فإيران أعطت ما بين 20 و30 مليار دولار للنظام السوري، ويجب استعادة هذه الأموال التي تعود إلى الشعب(22).
ومن خلال التحليل السابق يتّضح حجم الخلافات السياسيَّة بين موسكو وطهران حول ما تراه إيران إقصاءً لها من تفاهمات موسكو مع أطرافٍ إقليميَّة ودوليَّة. مع ذلك يبقى الخلاف الأكبر حول مصير الرئيس السوري بشار الأسد. فروسيا لا تهتم ُّكثيرًا بمصير الأسد، وبقاؤه ليس جوهريًا، كما أسلفنا، بل ربما يكون رحيلُه أفضل للكرملين الذي يُدرك مدى الضغوط التي يقوم بها الإيرانيون عليه وعلى طائفته العلوية، وأنَّ خضوعه للشروط الإيرانية ووفاءه بمتطلباتهم سيكون على حساب المكتسبات الروسية من الكعكة السورية.
وعلى العكس من موسكو، ترى إيران بدورها أنَّ بقاء الأسد هدفًا أساسيًّا لها، فهو بالنسبة إليها خطًا أحمر؛ لأن أي انتخاباتٍ حرة في سوريا تعني وصول حكومة سُنية إلى سُدة الحكم، بحكم الأغلبية السُنية في سوريا التي تبلغ 76.1%، مقابل 11 تقريبًا % للطائفة العلوية و0.4% شيعة. وحتى لو افترضنا أنَّ الدستور سيكون مبنيًّا على قواعد طائفية ومحاصصة سياسية كدستور العراق أو لبنان، فهذا يعني أيضًا دستورًا يكتبه المشرّعون السُنة أو العلمانيون، وفي كلا الحالتين يعني تقلّص الدور الإيراني، ليس فقط في سوريا بل وربما في لبنان.
ثانيًا: خلافاتٌ حول بقاء الميليشيات الإيرانية
تكمن طبيعة الخلاف الثاني في رغبة روسيا في الحد من الميليشيات في سوريا، بينما إيران مستمرةٌ في تعزيز حضورها المسلح لفرض واقعٍ مكافئٍ للوجود العسكري الروسي.
ضغطت موسكو على دمشق لتمرير بعض المطالب ومنها إعادة هيكلة المؤسَّسات الأمنية والسـيادية؛ بهـدف إقصـاء القـوات المواليـة لإيران فـي سوريا للحد من تأثيرها، وتوحيد الولاءات في الجيش السـوري لصالح روسـيا، وفيما يبدو أنه ينسجم مع المطالب الإسرائيلية.
ويبدو أنَّ هناك تقابلًا في الآراء بين موسكو وواشنطن حول الحدّ من ظاهرة الميليشيات العسكرية، فقد قال المبعوث الرئاسي الأمريكي ومسؤول الملف السوري جيمس جيفري: إنَّ بلاده تدعم «بكل الطُرق الممكنة»، دبلوماسيًا ولوجستيًا، الغارات الإسرائيلية على مواقعَ إيرانية في سوريا، لافتًا إلى وجوب خروج جميع القوات الأجنبية التي لم تكُن موجودةً قبل 2011م بما فيها التركية والإيرانية والأمريكية باستثناء الروسية(23)! ، ولاحقًا، طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مايو 2018م كافة القوات الأجنبية بمغادرة سوريا، وكان يقصد الميليشيات الموالية لإيران، وقام الطيران الروسي باستهداف القوات الإيرانية في مدينة حمص وقصف أكثر من مرة، تجمعاتٍ لحزب الله في حلب وفي بلدات نُبّل والزهراء وحماه(24). وسبق وأن أكد تقريرٌ صادرٌ عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية «رصانة» أنَّ العلاقات بين روسيا وإيران دخلت مرحلةً أكثر تصدُّعًا منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الفرقة الرابعة السورية بقيادة ماهر الأسد -الموالي لإيران- والفرقة الخامسة السورية -الروسية بقيادة قائد قوات النمر اللواء سهيل الحسن -الموالي لروسيا- في يناير 2019م في سياق الصراع على السيطرة والنفوذ في المناطق الحيوية بريف حماة الشمالي الغربي.
وفي مايو 2019م، ضغط الروس على الأسد لإعادة هيكلة الفرقة الرابعة والمؤسَّسات التابعة لها كهيئة الأركان العامة، وشعبة التنظيم والإدارة، وقيادة الأمن العسكري والاستخبارات العسكرية والحرس الجمهوري؛ لتوحيد الولاءات في يد موسكو بما يضمنُ كسر شوكة الفرقة الرابعة التي تُعَد من أكثر الفرق السورية تجهيزًا وتسليحًا، وتُسيطر على مناطق ومفاصل الدولة السورية، والأكثر قربًا من إيران بحكم تكوينها الطائفي. وبالفعل وبناءً على الطلب الروسي، تمّ إحالة بعض ضباط النظام السوري للاعتقال وللمحاكمات بحكم الفساد وتمّ عزل بعضهم ونقل بعضٍ من ضباط وجنود فرقة ماهر الأسد لوحدات عسكرية أخرى(25).
وعاد التوتر مجددًّا بين الوحدات العسكرية الروسية والإيرانية عقب الاشتباكات بين القوات الروسية من جهة، والميليشيات الموالية لإيران في مطار مدينة حلب السورية في شهر مايو 2019م. وكانت الشرطة العسكرية الروسية قد شنَّت هجومًا ضد مسلحين مدعومين من إيران، كانوا متمركزين في مطار حلب الدولي؛ ما أدى إلى سقوط قتلى وإصابات داخل صفوف الميليشيات الإيرانية التي كانت متواجدةً في مطار حلب، بعد اشتباكاتٍ اُستُخدمت فيها أسلحةٌ ثقيلة ومتوسطة. وعقِب الهجوم، اعتقلت الشرطة العسكرية الروسية عددًا من زعماء الميليشيات الإيرانية، فيما عُدَّ حلقةً أخرى ضمن توترات القوات الإيرانية والروسية في سوريا(26).
من جانبٍ آخر، وفي سياق إضعاف سيطرة إيران وتأثيرها على المجتمع السوري وعلى أجهزة ميليشيا أسد العسكرية والأمنية، طالبت روسيا، الأسد في أبريل 2020م، تحت ذريعة فيروس «كورونا» المستجِّد، بإعادة توزيع التشكيلات القتالية الموالية لروسيا بشكلٍ منفصل عن التشكيلات الموالية لإيران. كما أزالت القوات الروسية المتواجدة في مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي، الرايات واللافتات التابعة للميليشيات الإيرانية ضمن منطقة شارع الكورنيش ودوار البلعوم بالمدينة، فيما أبقت على العلم السوري المعترف به دوليًّا بالإضافة إلى وضعها صورًا للرئيس بوتين ونُصِب العلم الروسي بجانبه(27).
ويسعى الروس إلى بناء الجيش السوري وإعادة مأسسته؛ لأنه المؤسَّسة القادرة على ترسيخ السلام الذي تراه روسيا؛ ولأنه عاملٌ مساعد لاستقرار النفوذ الروسي على المدى الطويل، بوصفه مؤسَّسةً خاضعةً دستوريًّا للسُلطة السياسية. وعلى العكس من ذلك، ترى إيران أنَّ الجيش النظامي مصدرُ خطرٍ على وجودها في سوريا، فالجيش الوطني المُستقل والمتحرِّر من التأثيرات الإيرانية، سيتصادم معها، وسيرفض عمل ميليشياتها، ومشاريعها للتغيير الديمغرافي(28).
مع أنَّ روسيا لا تؤيّد توسع الميليشيات في سوريا، وأن يكون الجيش السوري هو من تُوكَلُ له المهام القتالية ضد المعارضة، إلّا أنّها اضطرت لإنشاء ميليشياتها الموالية لها ردًا على توسع نفوذ الميليشيات التابعة لإيران. سعيُ إيران إلى تكرار تجربتها في العراق في بناء ميليشيات طائفية مسلحة في سوريا، دفع بروسيا إلى مجاراتها وتشكيل عددٍ من الميليشيات في مناطق سورية عدة منها: قوات النمر، صقور الصحراء، صائدو الدواعش، لواء القدس الفلسطيني، ميليشيا العساسنة، آل بري، والفيلق الخامس الذي يتألف من 25 ألف جنديﱟ مكونة من أفراد المصالحات في الجنوب السوري، وأشرفت موسكو على تدريبه وإعداده بالكامل(29)، وأصبحت أغلب هذه الميليشيات التابعة لموسكو ولطهران تتمتع بسلطاتٍ واسعة خوَّلت لها احتكار الخدمات الرئيسة التي تمسُّ حياة الناس بدءًا من المخابز والمياه والوقود والنقل والمستشفيات العامة، لتزيح بذلك سلطة آل أسد عن المشهد، حتى أصبحت هذه المجموعات المسلحة تتقاسم العائدات المالية مع الأجهزة الأمنية التابعة لميليشيا أسد. وقد ذكر مصدرٌ إعلاميٌ إيراني أنَّ موسكو طالبت الأسد بأن يسعى لكي يعتمد على نفسه بدرجة أكبر؛ لأن مسألة الدعم التي يقوم بها الجيش الروسي يُفترض أن تكون مؤقتة ولن تستمر طويلًا. فإيران وروسيا لديهما العديد من المستشارين في المؤسَّسات الأمنية السورية ولكن بقاءهما سيُقابلُ بحالة من التحديات بينهما(30).
ورغم الغارات الجوية الروسية والإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية والتابعة لها لم تُثنِها من تعزيز مواقعها العسكرية والتزود بصواريخ وأسلحة جديدة في سوريا لفرض واقعٍ عسكريﱟ يؤثر على التوازنات السياسية التي لا تسير في مصلحتها، حيث عززت إيران من شحن صواريخها إلى سوريا من خلال الميليشيات المسلحة الموالية لإيران تحت إشراف فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، من خلال حفر الأنفاق من العراق إلى سوريا على الشريط الحدودي العراقي، وذلك لنقل الصواريخ والطائرات المسيرة إلى الميليشيات الموالية لها في سوريا إلى قاعدة الإمام علي السورية من خلال الأنفاق،وبعضٌ منها يُنقَل إلى حزب الله في لبنان. وتهدفُ إيران من خلال تعزيز عسكرة المجموعات الشيعية في سوريا إلى فرض واقعٍ عسكريﱟ يُغير من قواعد اللعبة التي ترى أنَّ روسيا تلعبها مع حلفائها بمعزلٍ عنها(31).
رصدت دراسة مهمة نشرها مركز «حرمون للدراسات المعاصرة» أماكن وجود القواعد الإيرانية على امتداد الجغرافيا السورية، وكشفت عن أنواع الأسلحة التي تمتلكها الميليشيات الإيرانية أيضًا. وتُعَد قاعدة الإمام علي أكبر القواعد العسكرية الإيرانية التي بنتها إيران في سوريا، وأكثرها أهمية جيو-إستراتيجية، خاصةً أنها قريبة من الحدود العراقية كثيرًا، وتستطيع خدمة أهداف إيران في البلدين؛ لقربها من معبر القائم الحدودي الذي سيُشكل نقطةً مهمة لنقل الأسلحة والصواريخ إلى سوريا. شُيدت هذه القاعدة لتستوعب آلاف الجنود والقوات التابعة لهم، وأشرف على بنائها «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، وهذه أول قاعدة تقوم بإنشائها إيران بكاملها من الصفر. وتبعد هذه القاعدة عن قاعدة التنف الأمريكية 320 كم، وتضمُّ 15 نقطة عسكرية، بينها 10 نقاط تحوي عددًا من مخازن السلاح، وساحاتٍ لتدريب المقاتلين، إضافةً إلى عددٍ من المقار العسكرية للميليشيات المدعومة من إيران، وعلى رأسها الحرس الثوري وميليشيا فاطميون، بالإضافة إلى خمس نقاط أخرى تحوي منصات إطلاق صواريخ متطورة(32).
وفي وقتٍ سابق، ضغطت إيران على النظام السوري لفتح النقاش مع روسيا حول إمكانية إنشاء قاعدة جوية في منطقة القلمون وأخرى بحريَّة في بانياس توضعان تحت تصرف إيران، على غرار قاعدتي طرطوس وحميميم اللتين يستخدمهما الروس، لكن الروس رفضوا ذلك مُتذرعين بالرفض العالمي لإيجاد موطئ قدم للإيرانيين في المتوسط، وذلك في الوقت الذي لا تُحبِّذ فيه موسكو أيّ إجراءٍ يُمكن أن يعزز النفوذ الإيراني في سوريا ويدفع طهران إلى المطالبة لاحقاً بحصةٍ ودورٍ ومشاركةٍ في صياغة التسوية المنتظرة، والتي تريد روسيا وضعها مع الأمريكيين والأتراك(33).
ثالثًا: الصراع على الاقتصاد وتقاسم الثروة في سوريا
يتعلَّق مجال الخلاف الثالث بين طهران وموسكو بتعارض الطموح الاقتصادي بينهما في سوريا. ترى إيران أنَّ روسيا أخذت نصيب الأسد؛ وهو ما جعل طهران تطالب بتعويضاتٍ ماليَّة واستثماريَّة في مقابل الأثمان المالية والبشرية التي دفعتها من أجل تثبيت سيطرة النظام ودحر المعارضة. ففي 27 مارس 2018م، صادق مجلس الشعب السوري على عقدٍ يسمح للشركة الروسية «ستروي ترانس غاز»، بحقّ استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية (45 كم جنوب غرب تدمر) ضمن قطاع يبلغ الاحتياطي المثبّت فيه 105 ملايين طن، كما أعطى روسيا حق استثمار ميناء طرطوس والأراضي المحيطة به لمدة 50 عامًا(34).
وفي المقابل، وحتى لا تغضب طهران، وقّع النظام السوري عقودًا تسمح للإيرانيين كذلك باستخراج الفوسفات، وتم منحهم خمسة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية وألف هكتار لبناء المنشآت والمصافي النِّفطية. وفي شهر مايو 2020 تم منح إيران عقد لاستخراج النفط على الحدود السورية – العراقية، بالإضافة إلى منحها رخصة تشغيل الهاتف المحمول، وذلك بناءً على خمس مذكرات تفاهم وقعها رئيس الوزراء السوري خلال زيارته طهران في 17 يناير 2019م، وحق الإفادة من ميناء اللاذقية ومصفاة حِمص كي يكون لإيران موطئ قدم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في ميناء اللاذقية. وتريد إيران أنْ يكون مرفأ اللاذقية هو المحطة الأخيرة في مسار السكة الحديدية الواصل بين إيران وسوريا عبر العراق والذي يمر في محافظة دير الزور. وكان مدير شركة خطوط سكك الحديد الإيرانية سعيد رسولي قد أكد خلال لقاءٍ مع نظيريْه السوري والعراقي، أنَّ خط السكك الحديدية سينطلق من ميناء الإمام الخميني في إيران مرورًا بشلمجة على الحدود العراقية ومدينة البصرة العراقية ليصل إلى ميناء اللاذقية(35). والمؤكد أنَّ وجود إيران بجانب القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس يُشكل قلقًا لروسيا وهو ما قد يعرّض قواتها للخطر في حال حدوث أيّ توترٍ كبير بين إيران وإسرائيل أو بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. وتريد روسيا أنْ تكون صاحبة القوة الرئيسة على الساحل الشرقي للمتوسط دون منافسٍ أو معرقل.
وترغب إيران من خلال هذه المشاريع في البنية التحتية السورية، في الاستيطان بعيد المدى في سوريا. فمُنذ بداية الأزمة السورية تقوم شركاتٌ وجهاتٌ محسوبة على الحرس الثوري بشراء عقاراتٍ في دمشق وخاصة في المنطقة المعروفة باسم «المدينة القديمة» للعاصمة، وإعادة السيطرة على العديد من المناطق المحيطة بالعاصمة، وإنشاء مزارع لتربية الحيوانات. وفي مارس 2019م، وعدت شركة إيرانية ببناء 200 ألف وحدة سكنية في سوريا معظمها في دمشق، كما عززت الميليشيات الموالية للنظام الإيراني قبضتها على المزارات الشيعية في دمشق وحمص، في عملية توطينٍ ممنهجة تتزامن مع عمليات التغيير الديموغرافي الجاري في البلاد(36). فمنذ مئات السنين، كان غالبية سكان العاصمة السورية من السُنة، ولكن في السنوات الأخيرة، انتقل العديد من الشيعة الإيرانيين والأفغان والسوريين إلى هذه المدينة. كما فر العديد من المسيحيين وغيرهم من السكان غير المسلمين من البلاد خلال الحرب. فعلى سبيل المثال، باع العديد من المسيحيين السوريين ممتلكاتهم للطائفة الشيعية السورية الصغيرة وهذه الطائفة معروفة بعلاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع إيران.
قبل عام 2011م، وعلى الرغم من مرور 30 عامًا من التحالف الإستراتيجي بين إيران وسوريا، إلَّا أنَّه لم تكن هناك إلَّا القليل من المعاملات التجارية بين البلدين لعدم وجود حدود برية، ولكن ذلك تغير منذ الثورة السورية. فقد أقرضت إيران سوريا 5.6 مليار دولار على الأقل خلال الـ10 سنوات الماضية، وتم إنفاق كل هذه الأموال تقريبًا على استيراد النفط الخام والمنتجات البترولية الأخرى، والمعدات والآلات من إيران. ووفقًا لتقديرات أحد مراكز البحوث في دمشق، في عام 2017م استوردت سوريا بقيمة 1.3 مليار دولار من إيران. ومن ناحية أخرى، قامت سوريا بتصدير سلع بقيمة 13 مليون دولار فقط إلى إيران في نفس العام، وهو أقل 100 مرة وما يعادل أقل من 2% من صادراتها(37).
وتستند العلاقة الاقتصادية بين البلدين إلى خطوط الائتمان الثلاثة (وخط الائتمان هو مصطلح اقتصادي والميزانية مخصصة لإقراض الحكومة والتجارة والأشخاص الحقيقيين) التي منحتها إيران لسوريا على مدى العقد الماضي. وكان أكبرها في يوليو 2013م بقيمة 3.6 مليار دولار، مع التركيز على بيع النفط والمنتجات البترولية. وقد تم منح خطين ائتمانيين آخرين بقيمة مليار دولار لكل منهما. وفي مجال الكهرباء، حصلت الشركة القابضة «مجموعة مبنا» الضخمة في طهران على ثلاثة عقود لبناء محطات إنتاج الطاقة في تشرين وحمص واللاذقية. يحتوي تقرير موقع «تقرير سوريا» على بعض المعلومات المثيرة للاهتمام حول هذا الأخير: «إن بناء محطة كهرباء اللاذقية هو مشروع بقيمة 411 مليون دولار بدأ عام 2019م، وكان من المقرر أن يكتمل في غضون ثلاث سنوات؛ ولكن نقص السيولة في كلا البلدين جعل من غير المرجح أن يمضي هذا المشروع قُدمًا(38).
وعلى كل حال، وكما صرحت به بعض الصحف الإيرانية، فإنَّ الروس يعملون بذكاء في سوريا ويدركون أنَّ مكانة الأسد أصبحت هشَّة، وأنَّ سوريا أصبحت مدمرةً سياسيًّا واقتصاديًّا، وتبلغ تكلفة إعادة إعمارها حوالي 200 مليار دولار، في وقتٍ ما زالت أجزاءٌ من الأراضي السورية، حتى اليوم، تُقام فيها المظاهرات والمسيرات المناهضة للرئيس الأسد، بما يعني أنَّ الروس مدركين أنَّ عملية الاستقرار في سوريا وفي ظل وجود الأسد سيُعتبر أمرًا صعبًا(39). وهذا ما يدفعُ بروسيا لتوقيع اتفاقيات اقتصادية واستثمارية طويلة المدى مع الحكومة السورية، تحسبًا لمغادرة الأسد للسلطة، ولكي تضمن عائدًا مُجزيًا يكافئ على الأقل ما أنفقته منذ بداية الأزمة.
وأمام كل هذه العقبات تُدرك روسيا أنَّ إيران لن تكون مِعول استقرار اقتصاديﱟ وتنمية في سوريا، والأهم أنها لن تُساهم كثيرًا في عملية البناء؛ بسبب العقوبات المفروضة على شركاتها، ووضعها الاقتصادي الهشّ. فهي جاءت إلى سوريا لتفرض حضورها العسكري والأمني والعقدي، وليس هدفها تنمية سوريا. وإذا كانت لم تُعِر اهتمامًا للتنمية في داخل إيران فكيف تساهم في بناء دولة عربية! ولهذا فروسيا تُمهد، وتُسوق ذلك أمميًا، بأنها هي من سيُشرف على إعادة عملية إعمار سوريا، وتجميع المانحين والتنسيق بينهم. مجرد وجود إيران في مشروع إعادة الإعمار لن يكون مقبولًا ولا مُتحمسًّا له من قِبل الدول المانحة، وخاصةً من دول الخليج العربي، ربما باستثناء قطر.
رابعًا: التنافس على توظيف المكانة الجيو-سياسية والجيو-ثقافية لسوريا
الخلاف الجوهري الأكثر تأثيرًا ربما بين الروس والإيرانيين هو خلافٌ جيو-سياسي، تفرضه مكانة سوريا الجغرافية والتاريخية، بوصفها الميناء الأقرب إلى أوروبا بالنسبة للبر الإيراني، والمعبر الضروري لوارداتها من الطاقة إلى أسواق أوروبا، التي تحاول روسيا احتكارها، وبالتالي تضع العراقيل أمام «الممر البري» الذي تسعى إيران لإنشائه؛ بهدف الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.
في المنظور الجيو-إستراتيجي تسعى موسكو للحصول على توافقٍ دوليﱟ، وخاصةً أمريكي وإسرائيلي، يضمن لها مكانةً في نظامٍ عالميﱟ جديد قيد التبلور، تسعى روسيا لأنْ يكون متعدد الأقطاب ولكي يُفقد الولايات المتحدة هيمنتها الأحادية عليه. وموسكو تدرك أنَّ حضورها في سوريا سيُضيف لها قيمةً إضافية جديدة في التوازنات الإستراتيجية الدولية، وربما تطمح لأنْ تشارك الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي كأحد رعاة السلام بين العرب والإسرائيليين. ولتعزيز هذا التوجه، ستُواصل موسكو بناء قواعد عسكرية دائمة في طرطوس، وحتمًا سيكون لها مناطق نفوذ على المتوسط، مما سيُغير من لعبة التوازنات وربما من قواعد الوضع الراهن ( quo Statu) في الشرق الأوسط.
ومن المنظور الإستراتيجي الروسي الجديد، يُلاحظ أنه بعد أن تُحرز روسيا تمكينًا في سوريا، تنوي استكمال مثلثها الإستراتيجي الذي تسعى لبناء ركيزتيه الأخرتين في ليبيا وجنوب اليمن، بما سيُعزز من بقائها في المياه الدافئة، والبقاء على تماسﱟ دائم باللاعبين الكبار في صراع النفوذ الدولي.
فالمياه الدافئة وبالتحديد شواطئ المتوسط، كانت حلمًا لقيصر روسيا بطرس الأكبر (1672-1725م ) الذي كان أول من بنى أكبر أسطولٍ روسيﱟ وبنى جيشًا قويًّا. ويبدو أنَّ بوتين الذي يتمتع بعقلٍ قيصري وقلبٍ شيوعي يُحقق بثبات حُلم قيصره. ورغم هذا فروسيا تسلك المنهج البراغماتي وليس لديها أيديولوجية مذهبية تريد فرضها، كما كانت الشيوعية خلال حقبة الاتحاد السوفيتي، كما أنّها لن تقبل بأن يقود «الإسلام السياسي» مستقبل سوريا، وتُفضِّل عليه النظام العلماني الصرف.
وفي المقابل، لدى إيران طموحٌ جيو-إستراتيجي أيضًا، لكن ينطلق من مقاربة إقليمية دفاعية وأمنية ممزوجة بصبغة مذهبية-قومية. تقع سوريا، من منظور المجال الحيوي الإيراني، ضمن خطوط الحماية والدفاع التي تبدأ من إيران كخط دفاعٍ أول ثُم خط الدفاع الثاني متمثِّلًا في العراق وصولًا إلى سوريا كخط دفاع ثالث. السيطرة على الشريط الإقليمي السوري العراقي ستجعلها على تماسﱟ مع «خصمها» إسرائيل ومع أذرعها حركة حماس والجهاد وحزب الله. أما الغاية الأبعد من ذلك فإنها تُخطط لإقامة هلالها الشيعي كحاجزٍ ثقافيﱟ وجغرافيﱟ يفصل بين العمق العربي في جنوب الجزيرة العربية والدول العربية في شمالها. وهي تقوم بتنفيذ ذلك وفي عينها محاصرة الدور السعودي وعزله عن أي دورٍ مستقبليﱟ في العراق وسوريا ولبنان، وطمعًا في أن يؤدي ذلك إلى تحقيق حلمها بتشظي المكون العربي-السُني، وإحلال المكون الفارسي-الشيعي بديلًا عنه!
في الأفق الإستراتيجي الإيراني يمكن الاستقراء بأنها تُخطط لتحويل الصراع «العربي-الإسرائيلي» كقضية ترتكز على القومية العربية والمذهبية السنية إلى صراعٍ «إيراني-إسرائيلي» تصبح فيه القومية الفارسية والمذهبية الشيعية روافعها الجديدة وولاية الفقيه مرجعيتها الوحيدة. وهي تأمل أن تُحقق من وراء ذلك مكاسبَ ونقاطًا جيو-سياسية تضاف إلى رصيد «محور المقاومة والممانعة» الذي طالما تغنَّى به وردَّده خطابها الأيديولوجي. وستسعى، أيديولوجيًّا، لاستثمار هذا المفهوم الصراعي الجديد من خلال شعار «تحرير المسجد الأقصى» مؤمِّلةً أن تتزعم الأمة الإسلامية، وتحقق حُلمها الثوري بنزع هذه المكانة المعنوية والروحية عن المملكة العربية السعودية وإضعاف رصيدها المعنوي والروحي وإسقاط رمزيتها كخادمة وحامية للحرمين الشريفين. وعلى المستوى الدولي، نجاحها في تحقيق هذا المفهوم الصراعي الجديد، يعني توظيفه في مقايضاتها وسجالاتها مع الغرب وإسرائيل، حتى يُعترف بها لاعبًا إقليميًّا رئيسًا، وبمذهبها كمكونٍ ديني في نطاق حوار الحضارات. وتأملُ إيران تحقيق تلك الرؤية باستخدام أساليبها التي درجت عليها وهي المُتمثِّلة في «التفكيك وإعادة التركيب»؛ تفتيت البنى الثقافية والعرقية للدولة السورية، كما فعلت في العراق، والتركيب التدريجي للدولة الطائفية التي تُدين لولاية الفقيه.
وتعلم إيران أنَّ روسيا وليست سوريا هي التحدي الأول أمام طموحها الجيو-سياسي، وتخشى طهران من استفراد روسيا بتشكيل مستقبل سوريا وصناعة عملية سلامٍ على مقاسها، بالاتفاق مع أمريكا وتركيا والدول العربية، وهذا من شأنه تحطيم كامل البنية التي صنعتها إيران على مدار سنوات واستثمرت فيها. وتعتقد إيران أنها مَنَحت روسيا فرصةً لتحسين موقعها في سُلَّم النظام الدولي، ليس فقط عبر دعوتها للتدخل في المعترك السوري، ولكن عبر بذل أقصى مجهودٍ لإنجاح هذه المهمة، فقد وفَّرت الميليشيات والقوات البرية، ودفعت ثروات هائلة للحيلولة دون إسقاط النظام والإبقاء على مؤسَّسات الدولة، وحصدت روسيا نتائج كبيرة بتكلفة قليلة(40). ولذلك فهي تنتظر أن ترُد لها روسيا الجميل وأن تدخلها طرفًا أساسيًا في كل التفاهمات والاتفاقيات التي تجري حول سوريا.
جيو-ثقافيًا، ولأنَّ التعليم هو محور الهُويَّة، تشُنّ إيران وعلى مدار تسع سنوات، حربًا ناعمة على سوريا من خلال السيطرة على المدارس السورية، وتغيير المعتقد السُني، بل إنها عمدت إلى استهداف المدارس والجامعات وتدمير العديد منها؛ بهدف أن تتولى ترميمها وإعادة بنائها، ووضع إدارتها تحت سوريين من الطائفة العلوية والشيعية التي تُعوِّل عليهم بنشر المذهب الشيعي بين الطلبة وبثّ أفكار ولاية الفقيه.
ويتم ذلك من خلال الاتفاقيَّات التعليمية والثقافية بين البلدين، التي وصلت إلى 11 اتفاقية، آخرها في نهاية شهر يناير 2020م. وفي وقتٍ مبكر في عام 2014م، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسومًا بتدريس المذهب الشيعي في المدارس السورية إلى جانب السُني. كما تسعى طهران إلى نشر اللغة الفارسية بين السوريين لتكون اللغة الثانية لهم، ونجحت طهران في افتتاح أول قسمٍ للغة الفارسية في جامعة دمشق، تلتها جامعتا حِمص وحلب، وتبعها عددٌ كبير من الجامعات السورية في دير الزور وطرطوس. وفي محاولةٍ للسيطرة على تفكير الطلاب والأطفال، تم إنشاء كشافة المهدي في 2014م، وهي تابعةٌ لجمعية الإمام المهدي في مدينة السيدة زينب، وتتركز أغلب مبادئها على غرس المفاهيم الثقافية والدينية وعبارات الثورة الإيرانية في أذهان الأطفال. وبالنسبة لنشر المذهب الشيعي، فإنَّ طهران تتوسع في إنشاء الحسينيات، فقد بلغ عددها في منتصف 2019م، نحو 500 حسينية ونحو 69 حوزة شيعية، وتقوم هذه المراكز بتعليم أصول الفقه الشيعي(41).
ومن ثَمَّ فإنّ الأهداف للدولتين في سوريا متناقضة، فبينما تهدفُ إيران إلى زرع الفوضى وتفكيك البنى الثقافية والعرقية لسوريا ومنحها هيكلًا طائفيًّا جديدًا، فإنَّ هدف روسيا يتناقض معها تمامًا، فهي تريد الإبقاء على وحدة الأراضي السورية وبناء دولة مستقرة توالي موسكو، ولا تسعى لتغيير هُوية سوريا، بل إنَّ إبقاء الهُوية العربية لسوريا سيُحقق لموسكو عوائد مهمة من خلال تدعيم العلاقة مع الأطراف العربية الأخرى. ولذلك أدركت موسكو مؤخرًا أنَّ الوجود الإيراني في سوريا يبدو معاديًا لها على طول الخط، وبات سببًا رئيسًا للتوتر والتفكك داخليًّا، ولإزعاج أطراف إقليمية وعالمية، وأنَّ سلوكها الفوضوي في دمشق يُعيق تحويل نصر موسكو العسكري إلى إنجازٍ سياسيﱟ مقبولٍ دوليًا، ما يعني تأخير تمويل إعادة الإعمار، الذي يربطه المجتمع الدولي بمستوى من التغيير السياسي.
خامسًا: أي أُفقٍ ينتظر تصاعد الخلافات الروسية-الإيرانية؟
بينما تقف روسيا وإيران أمام هذه الخلافات والتباينات، ومع قرب الوصول بالفعل إلى صراع الحصاد في سوريا، تبدو في الأفق مجموعة من السيناريوهات المحتملة، يُمكن جمعها في سيناريوهين أساسيْن:
السيناريو الأول، يأتي امتدادًا للتحليل السابق، وهو ما يُمكن أن نطلق عليه «نفوذ إيراني محدود في سوريا». من مؤشرات هذا السيناريو ما تم طرحه سابقًا من تصاعد وتيرة الخلافات والاشتباكات بين القوات العسكرية الموالية لإيران ولروسيا في كل مناطق سوريا، ومن الشواهد أيضًا نجاح موسكو في بلورة تفاهمات سياسية وتخطيط عسكري مشترك مع تركيا وأمريكا وإسرائيل، وربما لاحقًا مع دولٍ عربية ضد الوجود العسكري الإيراني (حصل انفتاحٌ عربي على سوريا من البوابة الإنسانية لمساعدتها في مواجهة فيروس «كورونا» من قِبل اتصالاتٍ جرت بين ثلاثة رؤساء دول عربية وبشار الأسد). يُعزز كل هذه المؤشرات أنه منذ مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني تراجع الأداء التنظيمي والقتالي الإيراني في سوريا. كان سليماني العقل المدبر لأنشطة إيران في الشرق الأوسط، ووزير خارجيتها الفعلي، فيما يتعلق بشؤون حروب إيران الخارجية، والمسؤول عن صعود القوات شبه العسكرية الموالية لإيران في معارك العراق وسوريا.
يُمكن أن يضاف إلى ما سبق من دلائل أنَّ هناك إرادة روسية واضحة بإزاحة النظام الإيراني من أن يشارك «الكرملين» في الوصاية على المستقبل السوري وتطورات الموقف السياسي؛ لخوفه من أن تستنسخ إيران تجربتها العراقية في سوريا وتوطّد نفوذها في البلد وتحكم السيطرة على قراره السياسي وجزءٍ من أراضيه عن طريق الميليشيات التابعة لها. تريد روسيا أن تستمر كما هي حاليًّا، في الإمساك بالقرار في سوريا، فموسكو من خلال التهديد بقوتها الجوية، وتوظيف ثقلها الدولي، ومرونتها في تشكيل التحالفات، في وقتٍ لا تنظر دول العالم لأيّ شرعية للميليشيات الطائفية الأجنبية الموالية لإيران. وبالتالي فكل المؤشرات والدلائل السابقة تُرجِّح هذا السيناريو، وتُشير إلى أن التطورات والمسارات القادمة ستَسيرُ باتجاه تصعيد التوتر بين روسيا وإيران من جهة، ومن جهة أخرى، باتجاه التراجع والانحسار التدريجي للنفوذ الإيراني في سوريا، خاصةً من قِبل ميليشياتها، ولكن هذا لا ينفي استمرار حضورها الجزئي في عدد من الملفات على الأراضي السورية.
أما السيناريو الثاني، فيُمكن بلورته بأنه تطورٌ للمواقف الحالية نحو «نفوذٍ إيرانيﱟ واسع في سوريا» وبقائها كفاعلٍ أساسيٍّ في تشكيل مستقبل سوريا. فسوريا تُمثل عقدة التواصل الإستراتيجي للمشروع الجيو-سياسي الإيراني في المنطقة، وبالتالي فإنَّ مسألة الخروج منها غير مطروحة بالنسبة للإيرانيين. فهناك احتمالٌ كبير أن تختار طهران التركيز أكثر على الجانب المذهبي والمنظور العقدي في إقناع نظام الأسد «العلوي» بحاجته إلى حماية النظام الإيراني «الشيعي» المعادي للأغلبية السُنية في سوريا، وفي دول الجوار الجغرافي المحيطة بها. وسيسعى النظام الإيراني لوضع المزيد من العراقيل أمام موسكو لإثبات أنَّ طهران هي القوة التي يُمكن لنظام الأسد الوثوق بها، والتي أحدثت حضورًا قويًّا في تمكين المكون الشيعي الطائفي في العراق، وأنَّ بإمكانها، وقد فعلت، من تمكين الطائفة العلوية في سوريا، وأنها الوحيدة مع حزب الله، التي يُمكن الاعتماد عليها في حماية سوريا من إسرائيل ومن التنظيمات السُنية المعارضة. ومن المحتمل أن تكون هذه مبررات تدفع بالأسد إلى إقناع الروس بإدخال الإيرانيين في التفاهمات الروسية-التركية-الغربية حول مستقبل سوريا وإعادة الإعمار، وإعطاء طهران مزيدًا من التواجد في سوريا.
يُعزز هذا السيناريو أنَّ الدبلوماسية الإيرانية لطالما غازلت الحزب الديمقراطي بأنها تعملُ في سياق إستراتيجيته «الفوضى الخلاقة» التي ورثها الرئيس السابق باراك أوباما من عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، كمقاربة داعمة لاحتجاجات ما يُعرف بـ «الربيع العربي» مثله مثل المرشد الأعلى علي خامنئي. ومن وقتٍ إلى آخر، ترسل طهران إشاراتٍ عبر دبلوماسييها أنها الوحيدة التي تستطيع زراعة الفوضى في التكتل السُني العربي المحيط بالكيان الإسرائيلي، وهو منحى تتشاركُ فيه مع تل أبيب. وبالتالي فلو نجح الديمقراطيون في الانتخابات القادمة، خاصةً في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي تعصف حاليًّا بالولايات المتحدة، فمن المحتمل عودة المفاوضات من جديد بين إيران والغرب، وربما ستحمل معها صفقة سلام جديدة مع إيران يتم فيها غضّ الطرف عن دورها المستقبلي في سوريا. وبما أنَّ طهران تُظهر من وقتٍ إلى آخر براغماتيةً عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالح كبرى، فقد لا تمانع مقابل أن يتم الاعتراف بها كلاعبٍ محوري في سوريا، من الاعتراف بإسرائيل وعمل صفقة جديدة شبيهة بـ«كامب ديفيد»، أو على الأقل توقيع اتفاقيات سرية تضمن تعهد إيران وحلفائها بعدم تشكيل أي تهديدٍ ضد إسرائيل. ومع كل هذا، فمن الصعب الحكم بصمود هذا السيناريو لضعف مؤشراته وقرائنه، ولكنه يبقى فرضيةً تؤكدها أو تنفيها طبيعة التطورات السريعة على الساحة السورية، وكذلك على الصعيد الدولي، وهو في النهاية مرتبطٌ بمدى الإصرار الروسي على استبعاد إيران من أن تكون شريكًا كاملًا في لعبة التفاهمات والمفاوضات القادمة.
خلاصة
وفي الختام، حاولت هذه الدراسة تحليل واستعراض الجهود والمساعي الروسية الهادفة إلى تكثيف الضغوط على إيران من أجل تحجيم نفوذ ميليشياتها وتمددها العسكري على الأراضي السورية. ويُمكننا استنتاج أنه منذ تدخل روسيا وإيران في سوريا والعلاقات الروسية-الإيرانية تبدو ظرفيةً وأقرب إلى تنسيق مصالح الطرفين منها لتحالفٍ إستراتيجيٍ متين. ومع تطور الأزمة، تباينت مصالح الطرفين وتراكم جليد الخلافات الإستراتيجية بينهما، وبدأ الافتراق في أجندة الدولتين، وظهرت صعوبة التعايش معًا على أرضٍ واحدة. ففي الأجندة الروسية القوة العسكرية التقليدية ليست إلا أداةً لتحقيق أهدافٍ سياسية تنتهي بسلامٍ وإعادة الدولة السورية لتعمل من جديد بكامل مؤسَّساتها، في وقتٍ ينصبُّ الاهتمام الروسي على الأراضي السورية ذاتها أكثر من اهتمامها بمصير الأسد الذي لا تمانع من المفاوضة عليه لتحصل على شيء آخر بالمقابل. بينما في الأجندة الإيرانية، كما في العراق واليمن ولبنان، يهدفُ نظام الملالي إلى ديمومة الحرب العقائدية وزراعة الفوضى وتوليد نموذج الدولة الفاشلة، أو تركيب نظامٍ أيديولوجي يتبع لولاية الفقيه في سياق الإمبراطورية الفارسية والهلال الشيعي، وهذا لا يتم إلَّا بالمحافظة على نظام الأسد.
يُضاف إلى ذلك أنه يوجد بنيةٌ قويةٌ من الشُكوك العميقة والممتدة تاريخيًّا، المتبادلة بين إيران وروسيا، ما يجعل عامل الثقة بينهما متذبذبًا. لم تُبدِ موسكو وطهران ما يُمكن وصفه بالخطط المستقبلية المشتركة والرؤية المتكاملة حول الشأن السوري، بما يفيد أنَّ حدة الخلافات سيستمر تصاعدها في الأشهر المقبلة، بينما من جانبها ستواصل روسيا محاولاتها في بناء توافقاتٍ مع قوى إقليمية ودولية لتثبيت موقعها على الخارطة السورية وفرض أمرٍ واقع يتواءم مع مصالحها. مثَّلت سوريا، ولا تزال بالنسبة لروسيا، فرصةً لصعود سُلَّم القوّة الدولي، وإعادة صياغته من جديد، لِتستعيد موسكو تصنيفها كقطبٍ أساسيٍّ في النظام العالمي الجديد. وما حققته روسيا من «انتصارات» ميدانية على قوى المعارضة، لا يبدو كافيًا طالما لم يتم التوصل، حتى اللحظة، إلى خارطة طريقٍ سياسيةٍ واضحة المعالم تتضمن إقرارًا دوليًّا بتفويضها في إحداث التحول الذي تريده ونقل سوريا من الحرب إلى السلم وفق خُططها. في ذات الوقت تُدرك موسكو أنَّ هذا الأمر يستلزم بالضرورة، خَفْض دور إيران المُعرقل، وشلّ قدرتها بالتأثير في المجال السوري عمومًا.
وتأتي محاولات روسيا في كبح جماح النظام الإيراني في سوريا في وقتٍ وصلت إلى نقطة الذروة في مشروعها السوري، خاصةً في ظل أزمة «كورونا» وتراجُع أسعار النِّفط؛ بما يجعلها تستعجلُ تسوية الأزمة والحفاظ على ما حققته من مكاسب حتى الآن، وتعويض خسائرها من خلال جعل شركاتها تستفيدُ من إطلاق مشاريع إعادة الإعمار بسوريا وتهيئة البيئة الاستثمارية أمام أطرافٍ دولية وخليجية لمساعدتها في انتشال سوريا من وضع الدولة الفاشلة.
كل ما سبق يقودنا إلى التوقع بأنَّ النظام الإيراني ستزداد عُزلته ومصاعبه وافتراقه عن روسيا التي أجادت إدارة الأزمة واختيار الأطراف التي تثقُ فيها لمشاركتها صناعة قرارات المستقبل السوري. وستزداد الضغوط ضد الوجود الإيراني في سوريا عسكريًّا من خلال استهداف ميليشياتها العارية من غطاءٍ دفاعيﱟ جويﱟ من قِبل الطيران الإسرائيلي، أو سياسيًّا، كون طهران لا تمتلك شرعية أو قبولًا دوليًّا لإبقاء الميليشيات الموالية لها في سوريا، أو اقتصاديًا في ظل استمرار العقوبات الأمريكية ضدها، في وقت تتزايد فيه الإحتجاجات الداخلية التي تطالب بوقف التبذير على مشاريع خارجية لا تعود بالنفع على الشعب الإيراني. فهل سيخضع النظام الإيراني أمام كل هذه الضغوط والتحديات لمعادلة الأمر الواقع، ويقبل بأن تُصيغ روسيا قرارات نهايات المشهد السوري، ويرضى هو بشئ من المكتسبات حفاظًا على ماء الوجه، أم أنَّ النظام الإيراني، وقد قدَّم التضحيات الجسام، قرّر أن يبقى في سوريا، رغم ما سيُواجههُ من مخاطر، حتى لو استلزم ذلك «تجرُّع السُم»!؟
1– المركز الديمقراطي العربي، مياه الخليج بين الهيمنة الأمريكية والتعنّت الإيراني: السياقات والمآلات، (15 مايو 2020م) تاريخ الاطلاع: 29 مايو 2020م، https://bit.ly/3dhEXn0
2– حسین کریمی فرد، تعامل وتقابل ایران وترکیه در بحران سوریه، فصلنامه سياست، سال چهارم، شماره سيزدهم، ١٣٩٦، ص 78.
3– المرجع نفسه.
4– المرجع نفسه، ص 78-80.
5– موقع العين الإخبارية، ما هي أهداف تركيا الحقيقية في سوريا؟، (19 مارس 2020م)، تاريخ الاطلاع: 29 مايو 2020م، https://bit.ly/3dsBdzm.
6– موقع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، لماذا تعارض إيران العملية العسكرية التركية في سوريا؟ (15 أكتوبر 2019م) تاريخ الاطلاع: 29 مايو 2020م، https://bit.ly/2z0RDQi.
7– موقع العربية، روسيا تلوي ذراع الأسد بشروط: لا اشتباك مع الأتراك! (20 مايو 2020م)، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/3gHzWq0 .
8– موقع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، لماذا تعارض إيران العملية العسكرية التركية في سوريا؟ مرجع سابق.
9– موقع جريدة العرب، معركة إدلب تسقط قناع «الود» الشكلي بين تركيا وإيران، (02 مارس 2020م)، تاريخ الاطلاع: 31 مايو 2020م، http://ks.sa//av5b.
10– موقع «واللا» الإخباري الإسرائيلي، (أكتوبر 2015م)، تاريخ الاطلاع: 01 مايو 2020م، https://bit.ly/3gDhQWf.
11– موقع منشور، هل تتفق روسيا وإسرائيل على إخراج إيران من سوريا؟، (16 يونيو 2018م)، تاريخ الاطلاع: 31 مايو 2020م، https://bit.ly/3cmOfwA .
12– معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، (01 يناير 2020م) ، تاريخ الاطلاع: 03 يناير 2020م، https://bit.ly/2TPiJAX.
13– موقع جريدة الأنباء، التباين الروسي الإيراني في سوريا.. أسبابه وأبعاده، (19 أبريل 2020م)، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2TXX4qo .
14– التقييم الإستراتيجي لإسرائيل في 2020م: (تقرير محدّث) في (11 مايو 2020م)، تاريخ الاطلاع: 01 يونيو 2020م، https://bit.ly/2TXM3Fs.
15– موقع جريدة الأنباء، التباين الروسي الإيراني في سوريا.. أسبابه وأبعاده، (19 أبريل 2020م)، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، المرجع السابق.
16– المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)، تقرير شهر أبريل 2020م، تاريخ الاطلاع: 28 مايو 2020م، https://bit.ly/2zFlZID .
17– موقع الحرة، «ضعيف ولا يتحكم بالوضع».. هجوم روسي على الأسد وحكومته، (17 أبريل 2020م)، تاريخ الاطلاع: 26 مايو 2020م، https://cutt.us/3N8Br.
18– Seth G. Jones, War by Proxy: Iran’s Growing Footprint in the Middle East, CSIS, Accessed on: June, 10,2020, https://bit.ly/2zljOK3.
19 –חדשות מדיני ביטחוני، הצמרת הביטחונית דוחפת לקו התקפי מול איראן בסוריה، הארץ، (09 أبريل 2018م)، تاريخ الاطلاع: 01 يناير 2019م، goo.gl/VaUZj3.
20– شبكة شام، منظمة إيرانية تكشف وجود 70 ألف مقاتلٍ من الميليشيات الايرانية في سوريا، تاريخ الاطلاع: 10 فبراير 2020م، https://bit.ly/2XR3Lv1.
21– BORZOU DARAGAHI, Iran Wants to Stay in Syria Forever, foreign policy, (01 June2018), Accessed on: 14 Feb 2019, https://bit.ly/2kMFzHx.
22– المرجع السابق.
23– موقع جريدة الشرق الأوسط، جيفري: روسيا تعرف طبيعة حليفها السوري.. وعقوباتنا تضغط على «الحلقة الضيقة»، (02 مايو 2020م) تاريخ الاطلاع: 29 يونيو 2020م، https://arbne.ws/3cmOGHe .
24– موقع العربية، بوتين: نهدف لانسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا، (03 أكتوبر 2018م)، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2XRkgYH .
25– المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)، تقرير شهر أبريل 2020م، تاريخ الاطلاع: 28 مايو 2020م، https://bit.ly/2yOuhgC .
26– موقع الحرة، صراع نفوذ.. توتر بين روسيا وإيران بسوريا، (28 مايو 2019م)، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://arbne.ws/3eFGun0 .
27– المرصد السوري لحقوق الإنسان، القوات الروسية تطمس الوجود الإيراني في الميادين وترفع راياتها وصور بوتين، (25 أبريل 2020م)، تاريخ الاطلاع: 28 مايو 2020م، https://bit.ly/3cp6yRU .
28– موقع مركز الإمارات للسياسات، صراع نفوذ صامت روسي-إيراني في سوريا، (31 مارس 2020م)، تاريخ الاطلاع: 01 يونيو 2020م، https://bit.ly/2ZZtvZp .
29– موقع أورينت، هكذا تتنافس روسيا وإيران على المناطق الإستراتيجية في سوريا، (15 يناير 2020م) تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2MkjHRP.
30– ایران و روسیه در نهایت در سوریه با یکدیگر به اختلاف میخورند؟، اقتصاد نيوز، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://cutt.us/3gVSH.
31– موقع العربية، صراع الموانئ في سوريا.. روسيا وإيران و«عقدة بانياس»، (20 أبريل 2020م) تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2Bfwq5S .
32– للمزيد، انظر، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، القواعد العسكرية الإيرانية وبدايات تدخلها الأمني والعسكري في سورية، (16 مايو 2020م)، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2yVnL82 .
33– موقع العربية، صراع الموانئ في سوريا.. روسيا وإيران و«عقدة بانياس»، (20 مايو 2020م) تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2UdNZKv .
34– موقع شبكة الحرية، الصراع على الثروة السورية بين إيران وروسيا: الفوسفات نموذجًا، (23 يوليو 2018م)، تاريخ الاطلاع: 28 مايو 2020م، https://bit.ly/3cmryJ8 .
35– موقع المرصد الإستراتيجي، تنامي الخلاف الروسي-الإيراني في سوريا، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/3clN1lt .
36– موقع جريدة الأيام، عن الغزو العقاري الإيراني لسورية، (30 مايو 2020م) تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2020م، https://bit.ly/2MjAUus .
37 عزيزى، آرش، ایرانوایر، رقابت نفسگیر؛ ماراتن ایران و روسیه بر سر منافع خود در سوریه، ( 13يونيو 2020)، تاريخ الإطلاع 14يونيو 2020. https://bit.ly/3fjH3Dx
38 – المرجع السابق
39– ایران و روسیه در نهایت در سوریه با یکدیگر به اختلاف میخورند؟، اقتصاد نيوز، تاريخ الوصول: 30 مايو 2020م، مرجع سابق.
40 – موقع مركز الإمارات للسياسات، صراع نفوذ صامت روسي-إيراني في سوريا، مرجع سابق.
41– موقع الحرة، مدارس ولغة فارسية وحسينيات.. حرب ناعمة تشنها إيران في سوريا، (18 فبراير 2020م)، تاريخ الاطلاع: 02 يونيو 2020م، https://arbne.ws/2TZcPh2.