كانت الضربات التي تلقَّتها إيران على أراضيها، والتي يصفها البعض بالموجعة، هي الأولى من نوعها منذ الحرب الإيرانية-العراقية، إذ تُستهدف فيها الأراضي الإيرانية بهجمات عسكرية مباشرة. ولطالما تبنَّت إيران إستراتيجية نسْج شبكة من الحُلفاء من الفاعلين من غير الدول، للقيام بأدوار متقدِّمة لجعل الصراع بعيدًا عن الأراضي الإيرانية، ولكي تعمل كمصدّات عسكرية ومذهبية ضدّ المخاطر، بعيدًا عن الحدود الجغرافية الإيرانية، أو ما يُسمَّى في العلم العسكري «الدفاع المتقدِّم»، في جهْدٍ متّصِل للحفاظ على أمنها ونظامها، نظرًا إلى ما يدور في الذاكرة الإيرانية تاريخيًّا من تَعرُّضها للتهديد والاحتلال.
وفي ضوء الاستهداف الإسرائيلي لهذه القواعد، والوصول إلى الأراضي الإيرانية بحملة جوِّية منظَّمة، يُجيب التقرير التالي عن الأسئلة التالية: كيف ستكون التفاعلات القادمة بين إسرائيل وإيران؟ وهل باستطاعة إيران الاستمرار بالدفع في اتّجاه الضغط على إسرائيل واستنزافها بالطُّرُق التقليدية؟ وما مستقبل الميليشيات الموالية لإيران في ظلّ ارتباك التواصل بين مكوِّنات هذه الشبكة؟
أولًا: هجوم إسرائيلي يزعزع فاعلية قواعد الاشتباك القائمة
خلال الفترة التي تلت حرب 2006م بين حزب الله وإسرائيل، عمِلَت إيران على ترسيخ فكرة أنَّ انتصار حزب الله هو امتداد لنجاحها في إبعاد إسرائيل عن الحدود الإيرانية، والضغط في مناطق بعيدة عن حدودها. انخرطت إيران في الأراضي السورية والعراقية، لتأمين خطّ اتصال مع رأس الحربة، حزب الله، في عملياتها لمشاغلة إسرائيل، وتأسَّست بناءً على ذلك قواعد اشتباك مريحة لطهران، بدت كأنَّها الوصفة النهائية لترسيخ كيانها. لذلك بنَتْ إيران جزءًا كبيرًا من عقيدتها العسكرية على فكرة تعزيز واستمرار هذه الذهنية. وقد أتت هجمات حركة حماس على إسرائيل في أكتوبر من العام الماضي، لتُضيف حلقة ضغْطٍ نارية على إسرائيل، ولتساهم في الاطمئنان لفكرة الردع، التي تبنَّتها طهران منذ نشأة حزب الله.
لكن نفَّذَت إسرائيل عمليات تصعيد معاكِس لنقل المعركة وتحويل مساراتها إلى خارج حدودها، وكانت العوامل الحاسمة لدى إسرائيل لتنفيذ ذلك هي المعلومات الاستخبارية الدقيقة، واستخدام التكنولوجيا العالية. فمن خلالهما استطاعت أن تحدِّد وتراقب الأعضاء الفاعلين، فيما سمَّتهم إيران «محور المقاومة»، وتِباعا استُهدف مسؤولون إيرانيون في الأراضي السورية، وفي السفارة الإيرانية بدمشق، وصولًا إلى استئصال قادة حزب الله ابتداءً بأمين عام الحزب، وقبله اغتيال الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وقادة الصف الأول والثاني، وامتدَّ ذلك إلى رئيس المكتب السياسي اللاحق لـ«حماس» يحيى السنوار. وقد حاولت إيران تخفيض حدَّة المواجهات، والإبقاء على المعادلة القائمة، من خلال ردود محسوبة ومُعلَنة.
ما تَحقَّق من نجاحٍ إسرائيلي غير متوقَّع في تحجيم قُدرات حزب الله وحماس، رُبَّما أغرى إسرائيل بمواصلة جولة إزاحة معادلة المواجهات إلى إيران نفسها، من خلال استهداف إسرائيل المباشر لإيران، حيث طالت الاستهدافات مواقع عسكرية ذات دلالة في رسْم خطوط جديدة لحدود الاشتباك، كما تريده إسرائيل.
كان من ضمن ما أظهرته وسائل الإعلام عن الاستهدافات الإسرائيلية، أنَّها تركَّزت على مُجمَّع لإنتاج الصواريخ شمال طهران، ومجمَّع لإنتاج وقود الصواريخ الصلب في الناحية الغربية، ومواقع للدفاع الجوِّي. وعلى الرغم من أنَّ ذلك ليس شاملًا لشَلِّ القُدرات الإيرانية، فإنَّ الرسالة من وراء ذلك هي قُدرة إسرائيل على الوصول إلى الداخل الإيراني، والقُدرة على شلِّ القُدرات الدفاعية، ما يعني أنَّه في حال تطوَّرت الأوضاع سوف تصبح إيران بلا غطاء جوِّي يحميها من التهديد الإسرائيلي.
ثانيًا: خيارات إيران أمام تآكل قوَّة الردع العسكري
بلا شكّ، تبدو الأسئلة مُلِحَّة أمام صانع القرار الإيراني، حول كيفية إبقاء معادلة ردْع فعّالة، في ظل الظروف الضاغِطة حاليًّا. وقد تعوِّل إيران على الدعم الروسي والصيني للحفاظ على التماسك أمام نشوة التفوُّق الإسرائيلي، المدعومة غربيًّا، والمسكوت عنها أُمميًّا. غير أنَّ مقاربات الدولتين الُعظمَيَين (روسيا والصين) ستكون محدودة بمقايضات بين الدول العُظمى، وقد لا تُرضي الطموح الإيراني بما يكفي لاستعادة كفَّة الصراع القائم.
خلال الفترة الماضية، وعندما شعرت إيران بالتراجع وضعْف التنسيق بينها وبين أذرع المقاومة، لجأت إلى آلية جديدة لمحاولة إعادة تنشيط محور المقاومة، تحت إشراف مركزي من طهران. وناقش البرلمان الإيراني مشروع قانون تحت عنوان «تشكيل تحالُف دفاعي-أمني بين فصائل المقاومة والدول الداعمة لها»، يديره الحرس الثوري الإيراني، بهدف تقوية هذا المحور، والتأثير في المعادلات الأمنية والعسكرية والسياسية في المنطقة، ومعالجة علامات التصدُّع الناجمة عن تراجُع دور هذا المحور وضعْف دوره في مواجهة الأحداث السياسية والعسكرية الأخيرة، التي شهِدَتها منطقة الشرق الأوسط، بخاصَّة ما يتعلَّق بالحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، والاختراقات الأمنية، التي أدَّت إلى نجاح إسرائيل في اغتيال أبرز قيادات محور المقاومة.
قد يكون الإجراء الإيراني متأخِّرًا، في ظل غياب رموز هامَّة في المحور وقيادات كانت تمثِّل أُسُسًا رئيسية في المشروع الإيراني، والخسائر المادِّية، والاختراق الواضح لمكوِّنات المحور، بالإضافة إلى عدم اهتمام سوريا باستمرار هذه المقاربات، في سياق تطلُّعها إلى دورٍ عربي مؤثِّر يَحُول دون تعرُّضها لسيناريو غزة ولبنان.
لكن في ظل تقدُّم إيران في برنامجها النووي، ومعارضة القُوى الكُبرى إجراءات قد ترفع المخاطر في حال تعرَّضت المنشآت النووية للاستهداف، قد تسعى إيران لتسريع تقدُّم المشروع كخيار إستراتيجي وجودي، والإعلان عن حيازة السلاح النووي، بما يضع العالَم أمام أمر واقع يفرض معادلة تَعامُل مختلفة تساعد إيران على إبقاء المفاوضات من واقع قوَّة، على الرغم من المخاطر التي ستترتَّب على ذلك، والتي قد تأتي على النظام الإيراني برُمَّته.
أمام إيران خيار آخر، هو التراجُع عن الردّ ووقْف التصعيد، وإتاحة الفرصة للدبلوماسية، من أجل تهدئة التوتُّرات مع الغرب. فإيران تدرك أنَّها بحاجة إلى الالتفات إلى الاقتصاد، وحلّ الأزمة مع الغرب، ويدعم ذلك أنَّه مع قدوم القيادة التنفيذية الإيرانية الجديدة برئاسة مسعود بزشكيان، كانت ملامح السياسة الإيرانية تشِي بتوجُّهٍ وإيماءات إلى التواصل مع الجانب الغربي، تحديدًا إيجاد آلية لإدارة الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية، من واقع امتلاك أدوات ضغْط تعزِّز مناورتها وشروطها التفاوضية. وظهر ذلك جليًّا في تصريحات الرئيس الإيراني الجديد خلال حضوره اجتماع الجمعية العامة للأُمم المتحدة بنيويورك في مطلع شهر أكتوبر الحالي، وكانت إيران مطمئنة إلى أنَّه نتيجة لإحكامها حلقة من النار حول تل أبيب، سيُفضي ذلك إلى مقاربات غربية تُتيح لطهران المناورة للالتفاف على العقوبات وتخفيف وطأتها، من خلال القبول بشروط مخفَّفة تجاه إيران وإدارة ملفّها النووي بلا خسائر كُبرى، إلّا أنَّ تداعي الأحداث بسرعة غير متوقَّعة بعثر الخُطَط الإيرانية.
ثالثًا: تحدِّيات التصعيد المُتبادَل
على الرغم من أنَّ إسرائيل في حالة من النشوة بالنجاحات التي تحقَّقت، وبتخفيف حالة العجز عن تحرير الرهائن، التي كانت المهمَّة الأساسية لعملياتها في غزة، فإن الإصابات في العُمق الإسرائيلي، التي طالت منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد تُشير إلى أنَّ الصراع لم تبدُ معالم نهايته بعد. كذلك فإنَّ إسرائيل، على الرغم من حالة التغوُّل التي عبَّر عنها نتنياهو بأنَّها ستطال كامل منطقة الشرق الأوسط، بدت عاجزة عن تحقيق الأمن الداخلي، وغير قادرة على إعادة مواطنيها المهجَّرين في الداخل والمحتجَزين في غزة، وكل ما فعلته من فظائع غير إنسانية وتدمير لن تنساه الأجيال. ومن الصعوبة أن تعيش إسرائيل حالة حرب دائمة، إذ يعاني الاقتصاد الإسرائيلي حالة استنزاف كبيرة، وقد تكشف الأيام للإسرائيليين أنفسهم أنَّ الحياة في إسرائيل تستدعي إعادة النظر في عديد من السياسات.
كما أنَّ الجانب الإسرائيلي أصبح يشعر بمزيد من الهواجس الأمنية، على الرغم من القبضة العسكرية الحديدية التي بلغت مداها، إذ لا تزال تواجهه تحدِّيات أمنية كبيرة وصعوبات في تحقيق أهدافه كاملةً، مثل استعادة الرهائن، وتأمين الجبهة الداخلية. ومن الصعب الاستمرار في المقاربات الأمنية الحالية التي سيتأثَّر بها الإسرائيليون قبل غيرهم، على المستويين الاقتصادي والأمني، وتنامي الكراهية ضدّهم في غالب المجتمع الدولي، نتيجةً للممارسات الوحشية، التي يرتكبونها بلا رادع.
في المقابل، قد يكون من الصحيح القول إنَّ نظرية الردع الإيرانية التقليدية تضاءلت أمام التفوُّق التقني الإسرائيلي المدعوم من الغرب، وأنَّ الخيارات أمام طهران تضيق، ما قد يدفعها نحو المجازفة بتسريع برنامجها النووي لتفادي الغلبة المُطلَقة لإسرائيل في ميزان الصراع القائم، إلّا أنَّ ذلك ينطوي على مخاطر كبيرة، تجُرّ معها المنطقة إلى المجهول، وعلى عواقب غير متوقَّعة، بما في ذلك زيادة التوتُّر مع الغرب، واندلاع سباق تسلُّح إقليمي. لذلك، ينبغي لإيران البحث عن بدائل دبلوماسية لتعزيز موقفها، بدلًا من ذلك التصعيد.
وفي تقديرنا أنَّ حالة إضعاف الدول الوطنية التي تسبَّبت فيها إيران، في كُلِّ من العراق وسوريا ولبنان، سهّلَت لإسرائيل الوصول إلى الداخل الإيراني، كما أنَّ سياسة التفرقة التي دعمتها إسرائيل بين منظَّمة فتح وحركة حماس، وعدم السماح بإقامة الدول الفلسطينية، قادت إسرائيل إلى أحداث السابع من أكتوبر وما تلا ذلك من فتْح جبهات أخرى مثل لبنان وإيران.
وفي ظل ترقُّبٍ عالمي لنتائج الانتخابات الأمريكية، فإنَّ الوضع القائم في واشنطن هو استمرار الدعم المُطلَق لإسرائيل، وعدم الاكتراث كثيرًا بالحديث مع إيران، أو مناقشة المواضيع التي تهمّ الجانب الإيراني. وآخر ما تتمنَّاه طهران هو وصول الجمهوريين إلى سُدَّة البيت الأبيض بقيادة دونالد ترامب، العدو اللدود لإيران، الذي قدَّم ضربةً كُبرى للمشروع الإيراني باغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، والذي تسبَّب في انفراط عقْد المقاومة منذ ذلك الحين.
خلاصة
يمكن القول إنَّ الدروس المُستفادة من الأحداث الأخيرة كثيرة، أبرزها أنَّ العنف لا يولِّد إلا عنفًا أكبر وأعمق، وعلى كلا الجانبين الإيراني والإسرائيلي، أن يُدرِك أنَّ ما يفعله من التضحية بالغير سيرتَدّ وبالًا عليه، ورُبَّما حان الوقت لمراجعات كُبرى، لتفادي تذوُّق المرارة مجدَّدًا. وقد لا يكون لدى الجانبين كثير من الخيارات للخروج من المأزق الكبير الذي يبدو مستمِرًّا. لكنَّ الطرفين سيحتاجان إلى إعادة النظر في كثير من الدروس، ولعلَّ المبادرة العربية لحلِّ القضية الفلسطينية وبناء علاقات مع إسرائيل، أحد المخارج التي تحتاج إلى دعْم وقبول من طرَفَي النزاع.
كما أنَّ ما نحصده من نتائج سلبية في المنطقة اليوم، يؤكِّد صحة ما ذهبت إليه المملكة العربية السعودية والدول العربية، من ضرورة المحافظة على كيانات الدول العربية، وعدم السماح لمجموعات ميليشياوية أو دول خارجية بالتحكُّم في قرارها لخدمة أجندات خطيرة.