د. يحيى بوزيدي، محمود حمدي أبو القاسم
يشهدُ الشارع الإيراني منذ منتصف سبتمبر 2022م حراكًا احتجاجيًا لم يتوقَّف، ويبدو أنَّه يعبِّر عن حالة شعبية رافضة لما آلت إليه الأوضاع في إيران. وعلى الرغم من أنَّ السلطة تُمعن في ممارسة أقصى درجات القمع، بما في ذلك القتل بلا رحمة، والإعدامات بلا عدالة، بغرض التأثير على الاحتجاجات ووقف هذه الموجة المرتفعة من الغضب الشعبي، غير أنَّ المحتجين يُظهرون نفس القدر من التحدي في مواجهة بطش السلطة. وبينما يتنامى الصراع بين السلطة والمحتجين على هذا النحو، فإنَّ هناك أغلبيةً شعبية، هي ما يُطلق عليها الأغلبية الصامتة، لا تزال تترقَّب، ولم تحسم موقفها بعد. وعلى الرغم من أنَّ أغلب هذه الكتلة من المتضرِّرين من سياسات النظام، إلا أنَّه لا يُعرَف ما إن كان النظام سيتمكَّن من احتوائها، أو تكون هذه الكتلة وقودًا لعملية تغيير جذري أو إصلاح واسع للنظام في إيران.
وبينما يواجه النظام واحدةً من أسوأ حالات عدم الاستقرار منذ الثورة، فإنَّ جملةً من الأفكار تتقدَّم إلى الواجهة، أهمّها دور السلطة نفسها في تفاقُم الحركة الاحتجاجية غير السلمية، بعد أنْ حالت دون المشاركة السياسية السلمية، بعدما تبيَّن أنَّ أقلّ المناطق مشاركةً في انتخابات 2021م الرئاسية أكثرها مشاركةً في الفعاليات الاحتجاجية، وهي الانتخابات التي كانت خطوةً في طريق تأمين الحفاظ على النظام والثورة، ويرتبط بذلك التطرُّق لمدى ارتداد سلوك «المتشدِّدين» بالاستحواذ على السلطة على عملية الانتقال المرجُوَّة في مرحلة ما بعد خامنئي. إضافةً إلى التطرُّق إلى المعامِلِ الأكثر أثرًا على تحوُّل زخم الاحتجاج الراهنة إلى غضب شعبي، قد يصل إلى قلب المعادلة بين المحتجين والنظام، وهو الأغلبية الصامتة، التي سيكون لموقفها دورٌ مهمٌ في مستقبل الحراك، بل ومستقبل النظام السياسي، وفي كسر حالة عدم اليقين، التي تسود إيران خلال هذه المرحلة، التي تبدو شبيهةً بمرحلة تاريخية سبقت ثورة 1979م.
كيف تعرقل الاحتجاجات خطة نقل السلطة إلى المرشد الثالث في إيران؟
في الواقع، تأتي هذه الموجة من الاحتجاجات في وقتٍ حرج بالنسبة لمسيرة «الجمهورية الإسلامية»، التي كان المرشد يخطِّط لخلق الكواليس؛ من أجل الحفاظ على زخمها ومبادئها الثورية والأيديولوجية، حيث كان بالفعل قد اتّخذ بالتنسيق مع الحرس الثوري و«الدولة العميقة» خطوات فعلية من أجل الاستعداد لما يسمِّيه المرشد «الخطوة الثانية للثورة»، أو بالأحرى التمهيد نحو عملية انتقال سلِس للسلطة في حال غيابه. لكن مع هذا الزخم الشعبي، يبدو أنَّ هذه الخطة تواجه مأزقًا قد تتوقَّف عنده مسيرة هذا النظام برمَّته.
في البداية، يمكن القول إنَّ النظام ارتكب خطأً كبيرًا أسهمَ في مأزق الشرعية الراهن، الذي يواجهه خامنئي وزبانيته، بما قد يعطِّل مشروعَ الانتقال، الذي يُدبَّر خلفَ الكواليس. فعلى مدى أكثر من أربعين عامًا، اكتسبَ النظام شرعيته الشعبية، من خلال الحفاظ على بعض المعايير الديمقراطية، التي تُتيح للشعب قدرًا من المشاركة في تشكيل السلطتين التنفيذية والتشريعية. إذ كان يُراعى الحفاظ على «عملية انتخابية شكلية»، يختار فيها الشعب من خلال صناديق الاقتراع الرئيس والتيار الممسك بالسلطات التنفيذية والتشريعية، ضمانًا لمشاركة جماهيرية يتم خلالها تهدئة التوتُّرات، وامتصاص الغضب الجماهيري، ودمج بعض المطالب في إطار العملية السياسية، إضافةً إلى خلق حالة مُتوهَّمة من الصراع بين تيارين متعارضين، وما هما بمتعارضين، بما يُسهم في امتصاص غضب ومطالب الجماهير مع كلّ عملية انتخابية، حيث يتم تبادُل السلطة بين هذين التيارين، في عملية تبادُل أدوار واضحة، لكنها كان فاعلة في تأمين الاستقرار الداخلي إلى حدٍ ما.
بصرف النظر عن المعايير والقواعد غير المتوازنة، التي تجعل مضامين هذه العملية الديمقراطية فارغةَ المضمون، كانت هذه الصيغة، التي كرَّسها الخميني فعّالةً في تهدئة التوتُّرات وامتصاص غضب الجماهير. لكن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي جرت في يونيو 2021م، وقبلها في الانتخابات البرلمانية في فبراير 2020م، تدخَّل النظام من خلال مجلس صيانة الدستور بصورة سافرة، وهندَسَ العمليةَ الانتخابية؛ من أجل تمكين «المتشدِّدين» من الهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية بصورة فجّة، وأصرّ النظام على استبعاد كافّة المرشَّحين «الإصلاحيين» المؤهَّلين لخوض المنافسة لنهايتها. وجاء هذا التوجُّه ضمن سلسلة إجراءات بدأها المرشد لإعادة ترتيب المشهد السياسي في إيران، هدفها استعادة زخم الثورة، عبر برنامج الخطوة الثانية للثورة، الذي أعلن عنه خامنئي وتبنّاه رئيسي، وتوحيد توجُّهات المؤسسات الحاكمة في مرحلة حرجة من تاريخ إيران؛ من أجل تمهيد الطريق نحو انتقال سلِس للمرشد الذي سيخلف خامنئي، والذي يبدو أنَّه سيكون تكرارًا لعملية الانتقال، التي حدثت عقب رحيل المرشد المؤسس الخميني.
في الحقيقة، كانت النتيجة المباشرة لهذا التلاعب الفجّ في العملية الانتخابية، هو عزوف الجماهير عن المشاركة فيها، حيث شهِدت هاتين الجولتين أقلّ مشاركة شعبية في كل الانتخابات، التي شهدتها إيران منذ الثورة عام 1979م. وما هو معلوم بالضرورة، أنَّ غلق باب المشاركة عبر القنوات الشرعية والسلمية، يفتح الباب أمام المشاركة عبر غيرها من الوسائل السلمية أو غير السلمية، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ بدأت موجةٌ عاتية من الاحتجاجات الشعبية بعد الانتخابات، كان أبرزها الاحتجاجات الراهنة عقِب مقتل مهسا أميني، التي تطوَّرت بصورة أحرجت النظام داخليًا وخارجيًا وأربكته.
وبينما كان يهدف النظام لتمكين «المتشدِّدين» من السلطة لجعل النظام موحَّدًا خلفَ رجلٍ واحد، ولتأمين عملية انتقال السلطة بعد خامنئي، فإنَّه أساءَ التقدير، وفتحَ الطريق أمام الجماهير، التي أغلقت أمامها نوافذ المشاركة إلى الخروج للشارع للتعبير عن استيائها، حتى إنَّ المناطق التي شهدت أقلّ مشاركة هي نفسها التي تشهد زخمًا احتجاجيًا أكبر. ليس هذا وحسب، بل إنَّ خطط الدفع بجيل ثوري جديد لمواقع السلطة فشل فشلًا ذريًعا، حيث أثبت القادة الجُدد أنّهم دون المستوى؛ إذ انساقت هذه النُّخبة الجديدة خلف خطاب وإملاءات أيديولوجية بعيدة عن ملامسة جوهر الأزمات، ومن ثمَّ قدمت برنامجًا بعيدًا كل البُعد عن المعالجة الواقعية لأزمات المجتمع الإيراني المستفحلة منذ سنوات، بل قدَّمت معالجات غير ناجعة لمعالجة الأزمة التي يمر بها النظام نفسه، فضلًا عن أنَّ نهج الهيمنة على هذا النحو أفرغَ النظام من التوازن الطبيعي، الذي يضمن له قدرًا من الرشادة في صناعة القرار، ولم يُبقِ على أيّ قدرٍ من المراجعة والنقد بما يُصحِّح له مسارَه.
إنَّ خطاب هذه النُّخبة لم يواكب تطلُّعات جيل لم يعِش الثورة، ولم يتأثَّر بها، كما لم تتمكَّن الحكومة من حسم خلافاتها مع الغرب، على الرغم من أنَّها كانت على مسافة خطوة من العودة للاتفاق النووي، مع ما يحمله ذلك من مزايا اقتصادية كانت يمكن أن تستغلها الحكومة في جبر فجوة الشرعية السياسية، التي تواجهها منذ لحظة تشكيلها. واستمرارًا لسياسة المواجهة والمقاومة، تبنَّت سياسات تقليدية من أجل التغلُّب على العقوبات، لكن لم تثمر هذه السياسة ولو بقدر مقبول لتحسين الأوضاع الداخلية المتردِّية، أو التحايل على الضغوط والعقوبات الخارجية، في ظل متغيِّرات دولية أفقدت النظام قدرته على مواكبتها والتكيُّف مع تحدياتها.
يعلِّمنا التاريخ أنَّ الأنظمة السياسية تتآكل من داخلها وتتصارع مكوِّناتها، قبل أن يُسقِطها معارضوها، وقد كشفت الانتخابات وما بعدها لأيّ مدى أصبح النظام السياسي فاقدًا للفاعلية، ويتّسِم بالجمود وعدم القابلية للتكيُّف مع الواقع، وكشفت لأيّ حدٍّ أسهمَ بسياساته وخياراته في إظهار تآكل الدعم الشعبي، حتى من أقرب مؤيِّديه، ومن ثمَّ مواجهة أكبر أزمة شرعية منذ الثورة. كما كشفت الاحتجاجات، أنَّ المجتمع في إيران يعيش خلال هذه المرحلة فوقَ بركانٍ من الغضب الشعبي، وأنَّ هناك جيلًا غير مقتنع بخطاب الثورة، ولا بقيود الأيديولوجيا، ويتطلَّع إلى غدٍ لا رقابةَ للدولة فيه على معتقداتهم وقِيَمهم، فضلًا عن زِيهم؛ جيلٌ متطلِّع إلى المشاركة في تشكيل واقع المجتمع ودور دولته في الداخل والخارج؛ لهذا، فإنَّ النظام يواجه مأزقًا خطيرًا في المستقبل المنظور، في ظل هذه التعبئة الاحتجاجية، وحالة عدم الاستقرار الراهنة، لاسيّما إذا حافظت هذه الجماهير على حراكها ونظَّمت نفسها بصورة أكبر، وأظهرت قيادات ميدانية قادرة على حشد وتعبئة الجماهير خلف بديل مقنع لـ«جمهورية رجال الدين»، التي وصلت بإيران إلى وضع لا يليق بشعبها، ومكانة لا تناسب إمكانياتها، حيث ستكون «عملية الانتقال الآمن للمرشد الثالث في حال غياب خامنئي» معرَّضةً للخطر، وربما يطال الخطر بقاء «الجمهورية الإسلامية» ذاتها.
الأغلبية الصامتة في إيران بين الاحتواء والتمرُّد
سارعَ النظام الإيراني مع بداية الاحتجاجات المستمرة منذ أربعة أشهر، إلى حشد مؤيديه الرافضين للاحتجاجات في مظاهرة بالعاصمة طهران، وحاولت الحكومة من خلال تلك المظاهرة توجيهَ رسائل داخلية وخارجية، مفادها أنَّ النظام لا يزال يمتلك شرعيةً تعكسها قاعدته الشعبية الواسعة. في المقابل، بقِي المحتجون محصورين في أعداد قليلة وفئات محدودة، أغلبها الشباب والنساء. لكن مع استمرار الاحتجاجات كل هذه الأشهر، استطاعت إرباكَ السلطة السياسة، وتعديلَ سياسات الحكومات الغربية تجاه طهران، ومع هذا لم تُقنِع الجميع بقدرتها على تغيير النظام السياسي.
انطلاقًا من هذه الثنائية، يذهب جُلّ المتابعين للشأن الإيراني إلى أنَّ الاحتجاجات الحالية لا تشِّكل أيّ تهديد وجودي للنظام المتماسك والقوي، وتعضِد بعض القراءات ذلك أيضًا بـ«القاعدة الشعبية للنظام»، التي تُعَدّ بالملايين، حسب زعمها، مع استعدادها للدفاع عنه ودعمه. هذه القراءة تجانب الدقَّة؛ لتعميمها صفة الولاء، وأيضًا لإغفالها لـ«الأغلبية الصامتة»، التي لا يمكن تصنيفها مع أو ضد النظام، ومستقبل الاحتجاجات مرتبط بمدى قدرتها على جذب الأغلبية الصامتة تجاهها؛ أمّا النظام الإيراني فالتَّحدي الأساسي بالنسبة له يكمن في إقناع الأغلبية الصامتة باستمرار المحافظة على حيادها، أو صمتها بمختلف الوسائل.
يمتلك النظام الإيراني بكل تأكيد قاعدة صلبة مؤمنة بأفكاره ومقتنعة بسياساته، لكن حجمها ليس بتلك الصورة، التي تسوِّقها السلطة، حتى إن كانت تنطلق من معطيات ميدانية. فعلى سبيل المثال، أرقام المنخرطين في مختلف هياكل ومؤسسات الدولة السياسية والأمنية والمدنية، لا تُعبِّر عن حقيقة القاعدة الشعبية المؤيِّدة للنظام؛ لأنَّ الكثير من هؤلاء، أو على الأقلّ بعضهم، تربطهم علاقة مصلحية محضة بتلك المؤسسات التي ينتمون إليها؛ وليس له أيّ استعداد للدفاع عن النظام إذا انتفت مصلحته، ولعل مظاهر الفساد، التي تنخر الاقتصاد الإيراني، والتي تورَّط فيها مسؤولون كبار في الدولة، أحد المؤشرات على ذلك.
يُظهِر تراجُع حجم المشاركة السياسية الانتخابية في مقابل تزايُد المشاركة الاحتجاجية، مدى تآكُل شرعية النظام، وفقدانه للكثير من قواعده الانتخابية، علمًا أنَّ النسبة الكبيرة السابقة كان التيار «الإصلاحي» المعارض يُساهم فيها بشكلٍ معتبر، وكلَّما تراجعت حدَّة معارضته كان ذلك يُخصَم من رصيده الشعبي. وغنيٌ عن التذكير هُنا، أنَّ تراجُع خاتمي عن تجاوزات الأجهزة الأمنية في مجال حرية التعبير، كان من أبرز أسباب انتفاضة الطلبة في 1998م. لكن آمال الإصلاح حينها كانت كبيرةً جدًا، كما أنَّ الوضع الاقتصادي شهِد تطوُّرًا ملحوظًا عقب نهاية الحرب العراقية-الإيرانية ومكاسب إيران من حرب الخليج الثانية، فضلًا عن الإنجازات التنموية، التي باشرها الرئيس هاشمي رفسنجاني؛ لذلك فشلت احتجاجات الطلبة حينها بالاستمرار والانتشار، وبقيت «الأغلبية الصامتة» في مربعها القريب جدًا من دعم «الإصلاحيين».
استطاعت الحركة الخضراء بعد جذب قطاع من الأغلبية الصامتة للاحتجاج على الانتخابات، خاصةً مع الزخم الذي أحدثته الحملات الانتخابية ووجود قيادة سياسية ممثَّلة في مير حسين موسوي ومهدي كروبي، إعادةَ إحياء المشروع «الإصلاحي»، الذي بدأه الرئيس محمد خاتمي، لكن النظام السياسي استطاع من خلال الترهيب والقمع الشديد، تحييدَ الأغلبية الصامتة وإعادتها لمربع الحياد، وساعده في ذلك حالة الانقسام المجتمعي، باعتبار أنَّ قطاعًا لا بأس به من المجتمع كان مقتنعًا بأطروحة الرئيس أحمدي نجاد الشعبوية.
انتهجَ النظام الإيراني في السنوات التالية مقاربةً استُبعِد فيها التيار «الإصلاحي» بكل مستوياته، وركَّز السلطة بيد «المحافظين». وبدل التركيز على مواجهة المشكلات الاقتصادية، انشغلَ بقضايا ممارسة التدُّين في المجتمع؛ ونتيجةً لذلك، شهِدت البلاد في الفترة الممتدة بين 2017 إلى 2021م احتجاجات تميَّزت بخاصيتين مهمتين، هما الفئوية حيث حدثت -على سبيل المثال لا الحصر- في مايو 2018م قرابة 489 احتجاجًا حول مطالب محدَّدة؛ كسائقي الشاحنات، والعُمّال، والمودعين المنهوبة أموالهم، والمتقاعدين، وغيرهم. وعلى الرغم من خاصيتها الفئوية، إلا أنَّ تلك الاحتجاجات أخذت بُعدًا وطنيًا؛ لانتشارها في مختلف محافظات البلاد. في المقابل، فإنَّ الانتخابات التي جرت في هذه الفترة عرفت مشاركةً هي الأقل في تاريخ إيران. تدُلِّل هذه المعطيات على تراجُع وتآكُل القاعدة الشعبية المؤيِّدة للنظام، وأيضًا استعداد الأغلبية الصامتة للاحتجاج ضده، من خلال الاحتجاجات الفئوية؛ لأنَّ الأغلبية الصامتة -مبدئيًا- ترفض سياسات النظام، أو في أفضل الأحوال غير راضية على أدائه في مختلف المجالات، خاصةً الاقتصادية منها؛ فالاحتجاجات المطلبية المتزايدة، التي لم تنقطع منذ سنوات، تعكس حجم التذمُّر الكبير في المجتمع الإيراني من «سلطة الملالي». هذه الأوضاع تؤكد على الأقل، أنَّ هؤلاء غير مستعدين للوقوف إلى جانب النظام ودعمه، فضلًا عن التضحية بأنفسهم من أجله.
يُدرك النظام الإيراني هذه الحقيقة، والقمع الذي يمارسه ضد المحتجين هدفه ترهيب الأغلبية الصامتة، وحثّها على التزام مكانها، وعدم الانخراط في الاحتجاجات، ويتوجَّس من أيّ خطوة يقوم بها من شأنها جذب الأغلبية الصامتة نحو الاحتجاجات وحثّها على الاندماج فيها. من هذا المنطلق، حرِص النظام على التسويق لقرار تجميد عمل شرطة الأخلاق؛ بوصفها استجابةً «إصلاحيةً» منه، تُقنع الأغلبية الصامتة بقابليته لـ«الإصلاح الداخلي». وفي الوقت نفسه، شدَّد النظام من قمع الاحتجاجات، حتى لا تُفهَم الخطوةُ على أنَّها دليل ضعف وبداية لتنازلات أخرى، وفي هذا الإطار يفسِّر إصدار أحكام الإعدام وتنفيذها في حق بعض المتظاهرين.
أخيرًا، بغضّ النظر عن مآلات الاحتجاجات الحالية، فإنَّ التحدي الأساسي الذي سيواجهه النظام الإيراني، يكمُن في قدرة أيّ احتجاجات على جذب الأغلبية الصامتة من دائرة الجمود والانعزال إلى دائرة الاحتجاج، أمّا القاعدة الشعبية للنظام فإنَّها آيلةٌ نحو الانحصار والانكماش؛ بسبب تراكُم إخفاقاته، وفشله في مختلف الأصعدة، خاصةً الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن تآكل الكثير من مصادر شرعيته، بما في ذلك الدينية، وأيّ محاولة إصلاح تقتضي لا محالة إحداثَ تغيير جذري في بنيته ومصادر شرعيته، وهذا الأمر ناهيك عن أنَّه صعبٌ للغاية، فإنَّه إذا حصل فمعناه أنَّ نظامًا جديدًا تشكِّل في إيران.
وفي النهاية، يتّضِح من خلال هاتين الفكرتين حول تأثير الاحتجاجات على عملية نقل السلطة لمرحلة ما بعد خامنئي، وخيارات الأغلبية الصامتة بين التمرُّد أو الانصياع للنظام، يمكن استنتاج أنَّ إصرار النظام على الاحتفاظ بالخطاب الثوري دون تغيير، وعدم استعداده لقبول فكرة إدخال إصلاحات داخلية وعملية ومشاركة سياسية أوسع، والتخفيف من حالة الغلو الأيديولوجي، الذي يتعارض مع رغبة المواطنين في مزيد من الانفتاح والحداثة، يرسم صورةً عن شيخوخة النظام، وعدم قابليته للتعاطي مع المتغيِّرات المتسارعة، والمتطلَّبات المتزايدة للشعب الإيراني، خصوصًا في ظل إجماع إقليمي ودولي ضد تصلُّب النظام في معالجة مشاكله مع المجتمع الدولي، ولجوئه إلى تصدير أزماته إلى الخارج.
ما يُضيف من مصاعب النظام، بقاؤه تحت تأثير العقوبات والضغوط؛ لذا فإنَّه بممارساته المتصلِّبة مع الشعب المتذمِّر يغامر بنقل مزيد من الكُتل الحرجة الصامتة إلى صفوف المحتجين، وذلك يصُب في مصلحة مواجهة النظام لأزمة غير مسبوقة، قد تقضي على ما تبقَّى له من شرعية، وستزداد الخيارات المتاحة أمامه تعقيدًا مع مرور الوقت.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد