الجماعةُ الحُجَّتِيَّة والسياسة في إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=37660

باتت تُطرح اليوم أسئلة مهمة متعلقة بمدى كفاءة الجهاز الإداري والسياسيّ والأيديولوجي للدولة الإيرانية بعد الإخفاقات الكبيرة التي يمرّ بها المشروع الإيراني في الآونة الأخيرة، وتراجع واضح في صفوف التيَّارات الولائية خارج إيران بعد الضربة القاضية التي تعرضت لها تلك التيَّارات في لبنان وسوريا والعراق، وفي مسار موازٍ: الفشل الذريع في الملفات الحيوية في الداخل الإيراني كالاقتصاد والأمن والاجتماع، كل ذلك الإخفاق الداخلي والخارجي انعكس على نظرية الحكم الأساسية التي اعتمد عليها نظام ما بعد ثورة ١٩٧٩م وهي “ولاية الفقيه”. فما عاد حكم الفقيه اليوم مقبولًا في أوساط الشباب والنساء وعموم الشعب باعتباره رمزا للفشل والإخفاق وأحيانًا رمزًا للتهور والتدمير والعبث بموارد الدولة وأموال دافعي الضرائب خارج حدود الدولة الإيرانية. بالتالي ما عاد السؤال المركزي موجَّهًا حول مدى كفاءة نظرية ولاية الفقيه ولا حول مدى فاعليتها، بقدر ما هو موجَّه إلى البحث عن البدائل الممكنة، ومن ضمن تلك البدائل نظرية “الانتظار” و”السلبية السياسيَّة” للحوزة والفقهاء، أي رجوع الفقهاء إلى “ثكناتهم الحوزوية”، وترك الشأن العامّ وفقه التدبير للمدنيين والتكنوقراط وتأسيس نظام دستوري مدني يحترم المواطن في الداخل ويقيم عَلاقات متوازنة مع دول الجوار بعيدًا عن النهج الطائفي أو الأيديولوجي. ومن جملة التيَّارات المهمة التي لا تزال تعتنق نظرية الانتظار وتدعو إليها جماعة الحُجَّتِيَّة، التي هي اليوم من أكبر الجماعات الدينيَّة والثقافية في إيران.

وظهرت الجماعة بدايةً ردَّ فعل على ظهور البهائية، لكنها اليوم شهدت تحوُّلات فكرية وباتت فاعلة في المشهد الثقافي والدينيّ الإيراني بقوة، فقد أمكنها أن تبني عَلاقات قوية مع الحوزة العلمية، وتنأى بنفسها عن المشهد السياسيّ، لكنها في نفس الوقت تمثِّل جانب التحدي للنخبة الحاكمة بطهران في الجانب الدينيّ باعتبارها أكبر جماعة في إيران تحفظ مقولة “الانتظار” وتروّجه بين الشباب والنخب الثقافية، وبالتالي تناطح مقولة “ولاية الفقيه”، فيجد النظام نفسه في حرج شديد باعتبار أن نظريته التي يزعم أصالتها في الفكر الدينيّ الشيعي تردِّد الجماعة والانتظاريون من ورائها أنها مقولة دخيلة أو نظرية غير مركزية في الإرث الشيعي على أقلّ تقدير. وهنا في هذه الدراسة سنشرح المقولات السياسيَّة والدينيَّة وتفكيك مبادئ الجماعة، وفهم علاقتها بالحوزة العلمية، وموقفها المتشدد من ولاية الفقيه، وكذلك موقعها في الدولة الإيرانية بخاصة والجماعة الشيعيَّة بعامة، والبحث عن أسئلة مهمة في هذا السياق متعلقة بموقعها في النظام الراهن ومستقبلها في مرحلة ما بعد النظام.

وقد تناول كثير من الباحثين هذه الجماعة بالبحث والدراسة، بيد أن التركيز كله انصبّ على الجانب الدينيّ والعَقَدِيّ دون الجانب السياسيّ والفكري وعلاقتها مع نخب الفكر والحكم والحوزة، واستشراف مآلات موقعها السياسيّ، وهو ما تركز عليه هذه الدراسة وتنفرد به. ويمكن تناول ذلك من خلال ما يلي من نقاط.

أولًا: شكل الدولة ونظام الحكم

للجماعة مقولات سياسيَّة وتصوُّر عن الدولة ونظام الحكم مختلف تمام الاختلاف عن تصوُّر النخبة الحاكمة، وقد حاولت الجماعة طمأنة النظام الإيراني منذ أن حلَّها بعد الثورة، لكن هذا التطمين ومحاولة إيجاد مساحات للعمل والانتشار لم تَمَسّ قَطُّ الجانب الدينيّ والسياسيّ عند الجماعة، فلا تزال الجماعة تقول بالانتظار في مقابلة ولاية الفقيه، وتعتقد أنه لا ولاية مطلقة أو عامة للفقيه في زمن الغيبة، بالتالي يبقى الخلاف السياسيّ كبيرًا والفجوة عميقة بين الجانبين.

1. ضدّ الحكومة.. فصل الدينيّ عن السياسيّ: لم ترَ الحُجَّتِيَّة وجوب إقامة حكومة إسلامية في زمن الغيبة، وارتأت أن هذه من مهمات الإمام الغائب. فرؤيتهم في زمن الغيبة عدم جواز الثورة أو إقامة الحكومة، لأنهم يعتقدون أن شرعية الحكم السياسيّ خاصَّة بالإمام المعصوم. ويقول مؤسِّس الجماعة في هذا الصدد: “فالعادل يخطئ أحيانًا، فلا يمكن إعطاء دم الشعب وماله وعرضه وشرفه لأحد يخطئ، لا يمكن إيداعها لأحد تتحكم فيه الرغبات والهوس، يجب أن يُودَع شرف الشعب وعرضه وروحه وأمواله لشخص لا يرتكب الذنوب، ولا يخطئ. الخلاصة: أنه يجب إيداعها لشخص معصوم، وهو المهديّ المنتظر”([1]). بالتالي آمنت الجماعة بفصل الدينيّ عن السياسيّ، وأكدت أنّ أي عضو من أعضائها يشارك في العمل السياسيّ فلا يمثِّل رأي الجماعة ولا توجُّهاتها، بل يعبِّر عن رأيه الشخصيّ. ولكن الجماعة مارست التَّقِيَّة السياسيَّة تِجاه الثورة بعد نجاحها خوفًا من الملاحقات، وهذا لا يعني أنها آمنت بخلط الدينيّ بالسياسيّ بقدر ما هدفت من وراء ذلك إلى إيجاد موضع قدم لها في الساحة الجديدة، وضمان مساحات للعمل الدينيّ والدعويّ الذي تؤمن به. وموقفها من عَلاقة السياسيّ بالدينيّ هو الذي ألّب عليها الخصوم باعتبارها أداة تنويم للجماهير من وجهة نظر الولائيين، ولكن تبدلت تلك النظرة من النظام السياسيّ وأمكنه التعايش معها، بخاصة أنها لا تمثِّل أي تهديد مباشر لمستقبل النظام السياسيّ، فارتأى إمكانية الإفادة منها، بل وتوظيفها في خدمته أحيانًا، والتوجُّس منها أحيانًا أخرى.

2.ولاية المراجع بدلًا من ولاية الفقيه: إذا كانت الجماعة لا تعترف بشرعية الحكومة في زمن الغيبة، فمن البدهي أن ترفض ولاية الفقيه العامة والمطلقة، وتعُدَّها افتئاتًا على حقّ الإمام المعصوم، لأنّ من شروط الحاكم عندهم أن يكون معصومًا كاملًا مؤهَّلًا حتى يمكنه إجراء الأحكام الشرعية، وهذا لا يتوفر إلا في “المهدي الغائب”. وقد تأسست الحُجَّتِيَّة بمباركة مراجع التقليد لمحاربة البهائية، وبعد نجاح الثورة في عام ١٩٧٩م وجدت الحُجَّتِيَّة نفسها في مأزق بسبب رفضها للقراءة الجديدة “ولاية الفقيه”، فهي إما أن تواجه النظام الجديد وتتعرض لعمليات ملاحقة واستئصال، وإمّا أن تتجاهل الأحداث السياسيَّة تمامًا وتكتفي بكونها جماعة دينيَّة، وهذا ما فعلته، بيد أنّها وإن لم تؤمن بالعمل السياسيّ فإنّ كونها تنتظر الإمام الغائب لإقامة حكومة العدل واعتبار ذلك مرتكزًا في مفاهيمها ودعوتها، هو جزء من العمل السياسيّ، فاضطُرَّت الحركة إلى تَبنِّي صيغة “ولاية مراجع التقليد”، في مقابل “ولاية الفقيه”، أي من خلال تعميم الولاية، ودعت إلى فصل القيادة عن المرجعية([2]). كأن الجماعة أرادت بهذا الطرح الاستقواء بالحوزة والمرجعية الشيعيَّة كلها ضدّ الولائيين الذين يعتقدون بولاية المرشد الأعلى فقط دون غيره من المراجع. وهذا الطرح يقتضي أنّ رأي المرشد إذا تعارض مع رأي المراجع قُدّم رأي المراجع، وهو خلاف رأي الخمينيّ ثم خامنئي من تقديم رأي الوليّ الفقيه/المرشد على رأيّ المراجع كافة وقت التعارض. وهنا حاولت الحُجَّتِيَّة أن توازن بين رأي القيادة/المرشد ورأي المرجعية الممثلة في مراجع وفقهاء التقليد، على الأقلّ في غير الأمور السياسيَّة، فحاولت تقليم أظافر القيادة في الأمور العبادية وكل ما هو غير سياسيّ، أي تحويل القائد تلقائيًّا إلى رئيس جمهورية ونزع ولاية الفقيه من مضامينها تلقائيًّا، لا سيما في صلاحياته المطلقة في أبواب العبادات والأحكام الحكومية التي يقدِّمها الوليّ الفقيه على الأحكام الشرعية الأولية.

وهذه المقاربة قريبة من نظرية “شورى الفقهاء” لمحمد مهدي الشيرازي، إلا أن نظرية الشيرازي تتحدث عن شورى الفقهاء ومراجع التقليد في كل الشؤون حتى السياسيَّة منها([3]). لكن لم تُكلَّل تلك النظرية بالنجاح لتَشبُّث نظام ولاية الفقيه بطرحه السياسيّ ونظرته الشمولية لمهمة الولي الفقيه، فليس عنده أي استعداد للحَدّ من صلاحياته على المستوى السياسيّ أو الدينيّ، لأنه يستمد قداسته من مهامه الدينيَّة، وأي اهتزاز في تلك المهامّ سينتج عنه خلل في المهامّ الأخرى المبنية على توظيفه للدين وتسييسه للمذهب.

3. موقف الجماعة من مبدأ الثورة: ترفض الجماعة مبدأ الثورة باعتبارها جماعة تعتقد التقليد الشيعي وتحفظ الإرث الحوزوي الانتظاري. ومبدأ الثورة منبوذ في الفكر السياسيّ الاثنا عشري المبكر منذ عهد “المعصومين”، ولا تزال الحوزات الشيعيَّة المركزية ترفض مبدأ الثورة ضدّ الأنظمة السياسيَّة كافة حتي “الظالمة” منها، أو “غير الشرعية”. وقد تَجلَّى هذا الموقف للحُجَّتِيَّة عندما وقفوا موقفًا سلبيًّا من الشاه فلم ينتقدوه ولم يمارسوا عملًا سياسيًّا في عهده، ولم يشاركوا في الثورة عليه كذلك، لذا فبعد نجاح الثورة نظر إليهم الخميني ورجاله كخصوم للثورة. لكن مع هدوء الموجات الثورية فكّر النظام الثوري الجديد في الاستفادة منهم، فهم سلبيون سياسيًّا لا يدعون إلى الثورة ولا إلى الجهاد، فإذا كانوا لم يُعارضوا الشاه فلم يمدحوه أيضًا لطبيعة منظومتهم الفكرية غير المؤمنة بالعمل السياسيّ أصلًا، فقد كانوا يتداولون روايتهم المشهورة «كل راية تُرفَع قبل راية المهدي فهي راية ضلال، وصاحبها طاغوت». بالتالي يمكن القبول بهم في المشهد الدينيّ العام إذ إنهم لا يمثِّلون تهديدًا مباشرًا للنظام في الجانب الثوري، وإن مثَّلوا تهديدًا في الجانب الفكري والدينيّ النظريّ. وأدرك مؤسِّس الحُجَّتِيَّة محمود الحلبي أنّ ما بعد الثورة ليس كما قبلها، وأن تَغيُّرًا استراتيجيًّا قد طرأ على المشهد برمته، فنظام الشاه ليس دينيًّا وإن وظّف الدين والمؤسسة الدينيَّة في بعض حاجاته، فكان يمكن الوقوف على الحياد معه، وكسب مساحات للعمل الدينيّ بلا إبداء لأي آراء سياسيَّة معارضة أو مساندة، لكن النظام الجديد هو نظام دينيّ وله رؤية دينيَّة خاصة ومُسيَّسة، ولا يؤمن بابتعاد رجال الدين عن السياسة وينظر إليهم نظرة التخوين والتشويه، لذا فإنّ الجماعة لا يمكن أن تقف على الحياد هنا وإلّا فستدخل في صدام مباشر مع المؤسسة الدينيَّة الجديدة، فهنَّأ محمود الحلبي الخميني على نجاح الثورة، ولكن هل كانت تهنئته الخميني تكتيكًا وبراغماتيَّة لحفظ واستمرار جماعته، أم إنّ تَحوُّلًا استراتيجيًّا قد طرأ على فكر الرجل بعد نجاح الثورة وغيّر قناعاته ورؤيته للدين والدولة؟ ما نُقل عنه أنه عَدّ انتصار الثورة تمهيدًا لخروج المهدي، وسمّى الخميني «نائب الإمام»، ولم يُسمِّه «الإمام»، لأنّ الإمام من وجهة نظر الحُجَّتِيَّة هو المهدي الغائب المعصوم فقط. وهذا يعني أنّ التحوُّل الذي طرأ على الحلبي ورفاقه من الخميني وثورته هو تحوُّل تكتيكيّ وانحناء للموجة التي رافقت الثورة الإسلامية من اعتقالات واغتيالات لكلّ من رفض رؤية الخميني، مع ذلك أعلن الخميني حلّ الجماعة وبقي ضَيِّق الصدر بوجودها في المشهد العامّ.

الحاصل أن الجماعة تعاملت ببراغماتية مع المشهد دون تَحوُّل استراتيجي في مقارباتها، ويبرهن على ذلك أنه بعد وفاة مؤسسها عندما أعادت ترتيب صفوفها صرّحت بعدم إيمانها بولاية الفقيه، وعدم امتلاكها أيَّ مشروع سياسيّ، وذلك هو نهجها الثابت حتى اليوم.

السؤال المهم هنا هو: هل يمكن للجماعة أن تشارك في عملية تغيير واسعة (ثورة) ضدّ النظام الحالي إذا خرجت جموع الشعب ضدّه تهتف بإسقاطه؟

على المستوى النظري فإن ذلك ليس من عرف الجماعة ولا منهجها، لكن على المستوى العملي فإن أفراد الجماعة هم جزء من الشعب ويقع عليهم ضغط اجتماعيّ واقتصاديّ وأمنيّ، وقهر عامّ، وعنف متأصل، ومن ثم فإن خروجهم كأفراد وبلا توجيه من قادة ومنظِّري الجماعة يبقى مُرجَّحًا، وقد أشيع أنهم شاركوا في أحداث ٢٠٠٩م ضدّ النظام. وينبغي أن لا يُنظَر إلى التيَّارات والجماعات الفكرية ككتلة واحدة تفكِّر بصورة آلية، بل هي تيارات مكوَّنة من عقول متفاوتة وتقديرات مختلفة ومصالح متباينة بين أفرادها، ويظهر ذلك عادة في لحظات الثورات واللا مركزية القيادية. نعم، يمكن القول إن الجماعة لن تُقدِم على فعل ثوري وحدها يعرِّضها للإفناء بيد النظام، لكنها قد تشارك في فعل نشب بيد غيرها من أطياف الشعب المختلفة لكونها جزءًا من الشعب.

ثانيًا: المقولة الدينيَّة والعَلاقة مع الفاعلين الشِّيعَة

تشمل الأفكار السياسيَّة والدينيَّة الرئيسية لجماعة الحُجَّتِيَّة: فصل الدين عن الدولة، ودعم العلمنة الثقافية، والحدود الصارمة مع أهل السُّنَّة ومعارضة شعار الوحدة الإسلامية، والعداء للتصوُّف والفلسفة، ودعم نظام السوق الحرة في الاقتصاد، ومقاومة الأفكار اليسارية. وربما يمكن اعتبار جماعة كولن التابعة لفتح الله كولن الجماعة الأكثر تشابها مع جماعة الحُجَّتِيَّة في العالم الإسلامي([4]). ولم تنتقد الجماعة الحكومة الإيرانية اليوم علنًا، كما أنها لم تنتقد نظام الشاه من قبل، لأنها لم تؤمن بالعمل السياسيّ والثوري نيابة عن الإمام المهدي الذي كانت تنتظره ليفعل ذلك([5])، فقد نهت الجماعة عن أيّ انتفاضة في عصر الغيبة ودعت إلى الصمت والصبر على البلاء، ولم تؤمن بتأسيس أيّ حكومة قبل “ظهور المهدي”. بالتالي اتسقت مواقفها في عهد الشاه وعهد “الحكومة الإسلامية”. وهذه الفلسفة في الحقيقة، كما أشرنا، هي فلسفة المذهب الشيعي ومَراجع وفقهاء الشِّيعَة منذ التأسيس الأول، أي إنها فلسفة تستند إلى مقولات دينيَّة متجذرة في البيئة الشيعيَّة. بالتالي يمكن الوقوف على عَلاقة الجماعة بالفاعلين الشِّيعَة الآخرين كالنجف وقم وبعض المدارس الفلسفية التي تشاركها الحُجَّتِيَّة بعض المقولات.

1.العَلاقة مع النجف: عندما اتسع الخلاف بين الخميني والحُجَّتِيَّة توجهت الحُجَّتِيَّة إلى مرجعية الخوئي لأنهم يدركون العداوة الشديدة بين الخوئي والخميني، بسبب تنافس الرجلين، وتباين خطَّيهِما السياسيَّيْن، علاوة على اقتراب الحُجَّتِيَّة المنهجي من خطّ الخوئي، لا سيما في الفقه السياسيّ([6]). وقد نظر الخوئي إلى الخميني كمتمرّد على المذهب وأعرافه ومستقراته، ومبتدِعٍ لنظرية جديدة لا تمتّ إلى أصول المذهب بِصلة، ونظر الخميني إلى الخوئي كحجر عثرة أمام بسط نفوذه على حوزة النجف ومِن ثَمّ يصبح المرجعية العليا في العالم كله لا في قم أو إيران فقط، بالتالي انتظر من الخوئي إعلان الولاء له، وهو ما لم يحدث، ومِن ثَمّ وصل الخلاف بين أتباعهما إلى العنف والعراك في مراحل كثيرة([7]). وكان ذهاب الحُجَّتِيَّة إلى خطّ الخوئي يشوبه النكاية في الخميني الذي سحب توكيله من محمود الحلبي، إضافة إلى أنّ خط الخوئي هو الأقرب منهجيًّا مع الفكرة الحُجَّتِيَّة، فهو متّسق معها في الابتعاد عن العمل السياسيّ، وانتظار المعصوم، والعداء لطرح الخميني السياسيّ.

ولا تزال الحُجَّتِيَّة حتى اليوم قريبة الصلة بالنجف وبمنهج مرجعيتها العليا ورؤيتها السياسيَّة، التي ترى في ولاية الفقيه معضلة للتشيع المعاصر. جدير بالذكر هنا أن الخلافات التاريخية المعاصرة في السبعينيات والثمانينيات بين المراجع الدينيّين لا تزال هي الفاعل الأهمّ في رسم كثير من التوجهات والسياسات المعاصرة، والعَلاقات البينية بين الفرق والتيَّارات. لذا فإن الخلاف العميق بين الحُجَّتِيَّة والنخبة الحاكمة في طهران تأسس بعد الثورة مباشرة، ولا تزال نفس الأسباب متوفرة. ولعل من الأسئلة المهمة في هذا السياق: لماذا لجأت الحُجَّتِيَّة إلى الخوئي ولم تلجأ إلى مَراجع قم الذين يغايرون الخميني في نظريته السياسيَّة أيضًا، من أمثال شريعتمداري وكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوانساري صاحب “جامع المدارك”؟ لعلّ الأقرب للقراءة الواقعية أنّ خط الخوئي كان الأقرب حينئذ لخطّ الجماعة، بخاصَّة في شِقِّه السياسيّ، وهو الشِّقّ الذي تسبب في العداء بين الخميني والخوئي. ويجمع الجماعةَ بالخوئي حِفظُ إرث التقليد الشيعي ومركزية المهدي المنتظر والقول بأنه لا ولاية للفقيه، ونحو ذلك من مشترَكات. وإذا كانت طهران تملك أذرعًا خارج حدودها، بعضها قريب من النجف يؤمن بولاية الفقيه وبعضها يمارس ضغوطًا على النجف، فإن النجف تملك أيضًا الإرث الشيعي والتقليد المعتبَر، ومِن ثَمَّ تملك ولاء الجماعات والحوزات التي لا تزال تؤمن بالانتظار في قلب إيران وقم، ومن ثم فإن الخلاف بين الجانبين هو خلاف عميق ومستمر ولا يتوقع له أن يذهب لأنه جزء من الخلاف حول قراءة النص الدينيّ نفسه، مع اقترانه بجوانب مصلحية وسياسيَّة عَقّدته وجعلت حلّه ضربًا من المُحال.

2.العَلاقة مع قم والوليّ الفقيه: دعم الخميني الحُجَّتِيَّةفي السنوات الأولى من ظهورها، بل وسمح لمؤسسها بأن يجمع المال من المقلدين باسمه وكيلًا عنه، ذلك أنها ظهرت في ذلك الوقت كمدافعٍ عن تعاليم التشيُّع والحفاظ على حواضن وأصول المذهب ضدّ المدّ البهائي، وهي إن كان موقفها سلبيًّا من العملية السياسيَّة، فإن القطاع الأكبر من حوزة قم والنجف وقتئذ كان كذلك، فلم ينظر إليها الخميني كمُعوّق لرؤيته السياسيَّة، لا سيّما وهي تؤدِّي دورها ضدّ البهائية التي هدَّدَت عرش الحوزة وسطوتها في الخمسينيات، بخاصة في جيل الشباب. أيضًا فنظرية الخميني السياسيَّة لم تكُن اكتملت بصورتها النهائية وقتئذٍ، فقد مرّ بمراحل متعدّدة حتى وصل إلى الولاية المطلقة بقراءتها النهائية([8]). ولكن يؤخذ على هذا الافتراض أن سنة واحدة هي الفارقة بين موقفَي الخمينيّ من الجماعة، بين القبول والنقد، مِمَّا يعطي قوة لفكرة توظيف الخميني السياسيّ للجماعة واستخدامها في أجندته واستراتيجيته. وقد جاء في صحيفة الإمام([9]) أنّ مجموعة من مقلّدي الخميني سألوه عن جواز إعطاء الحلبي -مؤسس الحُجَّتِيَّة- الحقوق الشرعية، وكان جواب الخميني: «إنّ ما فعله هؤلاء النفر -أي الحُجَّتِيَّة- يقع موقع التقدير، ورضا الله تعالى، كما أن التعاون والتنسيق معهم سيكون موقع رضا وليّ العصر عجَّل الله فرجه، كذلك فإن المؤمنين مُجازَون بإعطاء الحقوق الشرعية كإعطاء الزكوات وغيرها، وفي حالة الضرورة فإنهم مُجازَون بإعطائهم ثلث السهم المبارك للإمام، وطبيعيّ أن يكون ذلك تحت إدارة وإشراف أشخاص متديِّنين، وإذا أمكن لحضرة المستطاب حجة الإسلام السيد الحلبي، دامت بركاته، أن يكون مشرفًا على إعطاء الحقوق الشرعية، وأسأل الله تعالى لهم التوفيق»([10]). وبعد فترة قصيرة سحب الخميني تلك الفتوى، فتَخوَّف من الموقف السياسيّ السلبي للحُجَّتِيَّة، فرجع عن تأييده لها، وسحب توكيله من زعيمها، وشنَّع عليها وعلى أفكارها في دروسه وخطاباته، ففي سنة 1971م كتب الخميني بيانًا عن رأيه في تَجمُّع الحُجَّتِيَّة ومؤسِّسها فقال: «بخصوص الشخص الذي تسألون عنه (يقصد محمود الحلبي) فإن جلساته على ما يبدو مضرة، وأنا منذ علمت بذلك لم أدعمه، ولن أفعل ذلك مستقبلًا»([11]). فبعد أن كان الحلبيّ “حضرة المستطاب حجة الإسلام”، صار “الشخص الذي تسألون عنه”. وتعليقًا على إلغاء الخميني توكيله لزعيم الحُجَّتِيَّة، يبدي هاشمي رفسنجاني مبرراته لذلك القرار بأن الجماعة تتحالف مع نظام الشاه. لكن رفسنجاني التفت إلى شيئين مهمين: الأول أنها أمرت أتباعها بعدم التدخل في السياسة، وحرَّمَت الجهاد ضدّ نظام الشاه، والثاني أنها جذبت عددًا من “المجاهدين” لدروس العقائد التي كانت تشرف عليها. لذا فهِمَ الخميني وتلامذته هذا الأمر على أنه تخدير للشباب، ولم يستطيعوا أن يستخدموا الحركة، بل ارتأوا أن الحركة هي التي استخدمت قواعدهم التي تأثرت بالدروس الدينيَّة للحركة، وبالتالي شَنُّوا هجومًا كبيرًا على الحركة، وسحب الخميني توكيله من الحلبي([12]).

لكن ينبغي أن ننوِّه هنا بأن قم أكبر من حصرها في “ولاية الفقيه”، فداخل قم فقهاء كثر لا يؤمنون بولاية الفقيه، واستطاعت الحُجَّتِيَّة أن تبني معهم عَلاقات قوية، أزعجت النظام في بعض الفترات.

3.العَلاقة مع المدرسة التفكيكية: كان مؤسس الحُجَّتِيَّة الشيخ محمود ذاكر زاده، المعروف باسم محمود الحلبي (1917-1997م)، تلميذًا للميرزا مهدي الأصفهاني مؤسس التيار التفكيكي الإيراني([13]). وقد أسس الجماعة الحُجَّتِيَّة “انجمن حجتيه” في مدينة مشهد في خمسينيات القرن العشرين([14])، ومدينة مشهد هي الحوزة الرئيسية للمدرسة التفكيكية. لذا فإنّ بين المدرستين الحُجَّتِيَّة والتفكيكية مشترَكات، حتى جعل بعضهم تَوَجُّه الحُجَّتِيَّة هو ذاته توجُّهَ التفكيكية في عَلاقة الفلسفة بالدين، فوجهة نظرهم في عَلاقة الفلسفة والعرفان بالنصّ الدينيّ هي نفس توجُّه مدرسة التفكيك، لكن مدرسة التفكيك لا تتحدث عن قضية الحكم الدينيّ في زمن الغيبة، أو بعبارة أوضح لم تدخل هذا المعترك الفكري ولم تجعله هاجسًا في لبّ أفكارها إلا إذا خاضه بعض المنتمين إليها، فالشيخ محد رضا حكيمي زعيم التيار التفكيكي هو تلميذ مخلص ونجيب لعلي شريعتي الذي تبادله السلطة العداء، تارة في العلن وتارة بالتشويه المتدرج.

لكن التفكيكية في العموم هي توجُّهٌ نصوصيٌّ (مِنَ النَّصّ) في العقيدة والتفسير يخالف التأويل العرفاني والفلسفي في فهم النصّ الدينيّ([15]). ومِمَّا يدلُّ على هذا القرب بين الجماعتين التفكيكية والحُجَّتِيَّة أن الحلبي “مؤسس الحُجَّتِيَّة” كان من تلاميذ ميرزا مهدي أصفهاني، وعكس الخميني، كان يعارض إدماج التصوف والفلسفة بالفقه الإسلامي([16]).

وجاء تأسيس الحُجَّتِيَّة ردًّا فعل على زيادة النفوذ البهائي، فركزت الحُجَّتِيَّة جهودها في بادئ الأمر على محاربة البهائية([17])، ففي فترة الخمسينيات والستينيات كانت النخبة المثقفة والشباب يتعاطفون مع أفكار البهائيين الحداثية التي كانت تدافع عن حقوق المرأة والمساواة ونحو ذلك، فرأت الحُجَّتِيَّة في البهائية تهديدًا وجوديًّا للقيم الشيعيَّة التقليدية([18])، وعملت على تفنيد الخطاب البهائي، ووصفت البهائية بالمرتدّين، مِمَّا أكسب الجماعة الحُجَّتِيَّة قبولًا واسعًا واستحسانًا من رجال الدين التقليديين حينئذ، وهو ما تَبدَّل بعد الثورة في ١٩٧٩م عندما بدأ الخميني يحذِّر من الحُجَّتِيَّة. لكنَّ التفكيكية لم تنغمس في محاربة البهائية، بل كانت مدرسة فلسفية نخبوية إلى حدّ بعيد ولم تسعَ للشعبوية الشيعيَّة أو استقطاب العامة والشباب، بخلاف الحُجَّتِيَّة التي مهَّدَت لحضورها بدروس العقيدة والإرشاد.

ثالثًا: الحجتيون الجدد والبديل الآمن

لا تزال الجماعة فاعلة في المشهد الدينيّ والثقافي الإيراني، بالتالي فمن المهم استشراف مستقبلها ومآلاتها الفكرية ومدى جاهزيتها لتكون قراءتها الدينيَّة بديلًا من نموذج نخب الحكم الراهنة، فهي بين عدة سيناريوهات: أن تكون فاعلة في المشهد الدينيّ والثقافي والسياسيّ أكثر مما عليه الآن، أو تظَلّ كما هي في صورتها الحالية تدرك حجمها وطبيعة علاقتها مع النظام وتخشى التمدُّد الزائد فتتعرض لضربات تؤثر في بنيتها وهيكلها، أو تُصاب بحالة من الكمون نتيجة موت القادة والمؤسسين الأوائل وتتعرض لتغييرات جوهرية في أفكارها تأثُّرًا بالحداثة والجيل الجديد والإكراهات الاجتماعية والسياسيَّة السلطوية. وهو ما سنحاول تفصيله في ما يلي.

1.مدنية الدولة وتطوير المجتمع: يُحاجُّ القائلون بهذا السيناريو بأن الحركة الحُجَّتِيَّة تقف حجر عثرة أمام نهضة المجتمع الإيراني، ويجعلونها مع البهائية (أي مع خصمها التاريخي) معضلة وعقبة رئيسية أمام تطوير المجتمع وصناعة نهضة حقيقية، بالتالي يجعلونهما عائقًا رئيسيًّا أمام نهضة المجتمع وتطويره، لا أمام خطط النظام السياسيَّة والاقتصاديَّة، وفي المقابل يُطرَح سؤال أعمق عن معيار قياس الحركات الدينيَّة والحكم عليها كفاعل من فواعل النهضة أو مانع لها. تؤكد الحُجَّتِيَّة وكذلك البهائية فصل الدين عن السياسة (أو بشكل أكثر دقة فصل الدين عن الدولة)، بالتالي لا ولن تشكِّل أيّ خطر سياسيّ أو اجتماعي على المجتمع الإيراني. فالدين ينتمي إلى المجال الخاصّ، والسياسة تنتمي إلى المجال العامّ، ولا عَلاقة لكليهما بالآخَر.

وبغَضّ النظر عن مقولاتهما الدينيَّة، لا تُمثِّل الحركتان عقبة أو عائقًا أمام عملية تطوير سياسيّ وتكوين المجتمع المدني، لأن الحركتين تؤكدان دومًا ليس فقط فصل الدين عن الدولة، بل وفصل الدين عن السياسة. إن تفسير الحركتين للإسلام لا عَلاقة له بقضايا المجتمع المدني الإيراني المستقبلي، لأن هذين التيارين هما التياران الدينيّان الإيرانيان البارزان اللذان يفصلان الدين عن الدولة، بل وعن السياسة، معتبرين ذلك مسألة شخصية. ولأن بقية الحركات الدينيَّة، من منظمة مجاهدي خلق إلى حزب الإصلاح، تُشدِّد على جودة التشيُّع السياسيّ. أما مناصرو المجتمع المدني الإيراني، فمن المهم أن يعتمد الناس على قراءة للتشيُّع تفصل الدين عن السياسة. أما الباقي، فيعود إلى الشعب نفسه في تحديده أيَّ تفسير للمذهب الشيعي سيقبل في المستقبل: البهائية التي أنهت مهمة المهدي واستوعبت الثقافة الشيعيَّة الإيرانية بشكل خاص، أم الحُجَّتِيَّة، التي تؤمن بظهور المهدي في المستقبل. «وبالطبع، في هذه الأثناء، سيتبع عديد من الإيرانيين مسارات أخرى، قد لا تكون بالضرورة دينيَّة»([19]).

2.التحوُّلات الفكرية والخلافات الداخلية: عندما هنّأ الحلبيُّ الخمينيَّ على نجاح الثورة، ووعده بحلّ التنظيم الذي كان فيه أعضاء في الجيش وكل مفاصل الدولة، رفض فريق آخر من الحُجَّتِيَّة هذا التنازل من الحلبي، وعدّوه خيانة لمبادئ الجماعة التي تأسست عليها، علاوة على أنّ هذا الفريق رأى أنّ قيام الجمهورية الإسلامية قبل ظهور المهدي هو افتئات على مهمّات المعصوم ووظيفته، واعتبروا أنّ تأسيس الجمهورية الإسلامية عقبة أمام ظهور المعصوم. وفريق الحلبيّ الذي شجّع أتباعه على حلّ التنظيم كان أيضًا يعتقد أنّ ولاية الفقيه بقراءتها الخمينية افتئات على المهدي، بدليل أن الخمينيّ توجس منهم طوال فترة حياته، غير أنّ هذا الفريق قرأ سياسات الخمينيّ قراءة واقعية ومتأنية، فقد أدرك أنّ الخمينيّ لن يُبقِي على معارضيه، وسوف يتعقَّبهم، وبالتالي آثروا حل التنظيم([20]). وبالفعل صحّت قراءة هذا الفريق فاستُؤصل الجناح الآخر الذي رفض حلّ الجماعة ولجأ إلى العنف، إذ تَحوَّل الجناح الرافض لقيام الجمهورية الإسلامية إلى العنف، وقيل إنّ قائد منظمة الفرقان التي اغتالت الجنرال قرني ومرتضى مطهري وعددًا من رموز الثورة كان ينتمي إلى الجناح المعارض من الحُجَّتِيَّة. لكن الجناح الأول بقيادة الحلبي استطاع على الأقلّ أن يحافظ على تنظيمه ولو لُوحِقَ وحُجِّمَ، لكنه استطاع إعادة تموضعه وترتيب أوراقه بعد وفاة الخمينيّ، واليوم تُعَدّ الحُجَّتِيَّة من أقوى التنظيمات الدينيَّة في إيران، إلا أنها حصرت نفسها في الجانب الثقافي.

استعمل جناح محمود حلبي “التَّقِيَّة” في التعامل مع المستجدات، وكان شعارهم «إلهي إلهي احفظ لنا الخميني حتى ظهور المهدي»، الذي كانوا يطلقونه عقب كل صلاة وفي المحافل العامة، كما كانوا يركزون تركيزًا لافتًا، خصوصًا في السنة الأولى من الثورة، على إحياء ذكرى ولادة المهدي، في منتصف شعبان من كل عام، ويقيمون احتفالات كبرى ويزيِّنون الشوارع والمساجد ويوِّزعون الحلوى، وكانوا يصرّون على تسمية الخميني «نائب الإمام» لا «الإمام»([21]).

وعبّرت الحُجَّتِيَّة عن سياستها ومواقفها الجديدة بتعديل ميثاقها الذي أصبح بعد التعديل داعمًا “للجمهورية الإسلامية”: «إنّ الجمعية تدعم استمرار الجمهورية الإسلامية حتى ظهور المهدي المنتظر، ونجد من واجبنا أن نقوم بأيّ خدمة في المجالات السياسيَّة والاجتماعية اتباعًا لتوجيهات الزعيم العالي القدر (الخميني)، إذ يستطيع أفراد الجمعية الاشتراك في أي نشاط إعلاميّ أو سياسيّ أو عسكريّ تحت إشراف أو موافقة مراجع الشِّيعَة العظام»([22]).

والمدقق في الميثاق الجديد لا يجد إقرارًا بولاية الفقيه كقراءة وحيدة للنظرية السياسيَّة الشيعيَّة، ولا يجد تلك الحماسة التي تعبّر عن سريان الفكرة في أحشاء الجماعة، فالتَّقِيَّة واضحة في هذا الخطاب البراغماتي، ومن ثمّ فهذا التحوّل على الأرجح ليس تحوّلًا استراتيجيًّا على مستوى المبادئ والتنظير، فلم تؤمن الحُجَّتِيَّة بولاية الفقيه كنظرية أُحادية لا بدّ منها، ولم تُوجِب على أعضائها العمل السياسيّ، كل ما في الأمر كما هو واضح من هذا الميثاق أنّها حاولت الانحناء لموجة الثورة وعنف النخب الحاكمة. على أنها اشترطت موافقة مراجع الشِّيعَة على مشاركتها في أي عمل عسكري أو إعلامي، لا شخص الوليّ الفقيه فقط، ثمّ بمنطق الصيرورة الاجتماعية تَحوَّل أعضاء من الجماعة على الأصحّ إلى المشاركة السياسيَّة في المناصب الرسمية للنظام السياسيّ الإيراني بعد الثورة، بخاصة في تلك الفترة التي جمدت فيها الجماعة أعمالها خوفًا من ملاحقة النظام بعد الثورة، في حين بقي جهد جناح الحُجَّتِيَّة المنحلة -بقيادة حلبي- في ذلك الوقت ينصبّ على تعميق الصلة بين الناس والإمام الغائب، بالحديث عنه والاحتفال سنويًّا به وعقد الدروس العَقَدِيّة والإرشادية للشباب وتمتين العَلاقة مع الحوزة والمجتمع.

ثم بعد وفاة مؤسس الجماعة سنة ١٩٩٧م وتولِّي افتخار زاده زعامة الحركة بدأ يتكون ما يمكن تسميته بالحُجَّتِيِّين الجُدُد، الذين ينشطون في جانب الدعوة والعقيدة، وفي نفس الوقت يتّهمهم النظام بأنهم ينشطون في جوانب سياسيَّة ويندمجون في السياسة أكثر. ولكن الواقع أن الجماعة نشطت في الجوانب الدينيَّة والثقافية ورسخت علاقتها بالحوزة وأعادت بحكم قوة طرحها وبسبب إخفاقات النظام مقولة الانتظار وفصل الدين عن الدولة إلى المركز، بصورة ناعمة بلا اشتباك مباشر مع النظام، فعمد النظام إلى تشويههم باتهامهم بالمشاركة في مظاهرات ٢٠٠٩م و٢٠١٧م وغيرها من احتجاجات شعبية، لكنه لم يُقدَّم دليل واحد على مشاركة الحركة كجماعة في مثل تلك الاحتجاجات بصورة رسمية أو بقرار هيكلي هرمي من داخلها. والأرجح أن النظام يخشى تناميها وقوتها الناعمة ومرتكزاتها الحوزوية والتقليدية الشيعيَّة فيلجأ إلى كبحها وترهيبها بمثل تلك الاتهامات.

3.المنظّرون والفاعلون داخل الجماعة: أسَّس الجماعة الشيخ محمود الحلبي (ت:١٩٩٧م)، وكان بمنزلة المنظّر الأول لها باعتباره المؤسس وأحد تلامذة الميرزا الأصفهاني “مؤسس التفكيكية الإيرانية”، ولم تخرج تعاليم الجماعة عن الفكرة الرئيسية للتشيع في صورته الأولى وهي انتظار المعصوم، والموقف السلبي من السياسة أي عدم ممارسة السياسة بالصورة الإيجابية بالمشاركة والترشح والنزاع عليها، ثم تولى الشيخ حسن افتخار زاده زعامة الجماعة الحُجَّتِيَّة بعد الشيخ الحلبي، وقد مات افتخار زاده بداية هذا العام (يناير ٢٠٢٥م) وشهد الوسط الدينيّ الحوزوي موجة تَعازٍ من الشخصيات الدينيَّة في إيران، تُظهِر تعزيز دور الحُجَّتِيَّة في الأوساط الدينيَّة في السنوات الأخيرة([23]). وفي عهد افتخار زاده تراجعت الجماعة عن فكرة “شيوع الظلم”، فبدأت الظهور في ثوب جديد بعد سنة 1997م، بزعامة افتخار زاده الذي نفى نفيًا قاطعًا سعي الجماعة لنشر الفوضى والفواحش وشيوع الظلم تمهيدًا لخروج “المعصوم”. وقد أورد افتخار زاده في كتاب له بعنوان “مقالات حول إمام الزمان” فصلًا كاملًا لإثبات خطأ نظرية نشر الظلم من أجل التعجيل بظهور المهدي، وندَّد بهذه النظرية بشدة، وإن طرح هذا الأمر في مؤلفات الجمعية الأخرى يوضح أن الجمعية تحاول الدفاع عن نفسها وإزالة التهم عن أقوالها. كذلك اشتهر عن الحُجَّتِيَّة معارضتهم للفلسفة والفلاسفة الشِّيعَة ومنهم الخميني والطباطبائي وملا صدر وغيرهم. والمفارقة أن افتخار زاده كان عضو الجمعية الملكية للفلسفة. ويمكن القول إنّ الصمت السياسيّ للجماعة واهتمامها بأصول التشيُّع والجانب العَقَدِيّ جاء في صالح بنيتها التحتية من قواعد شبابية وحواضن داخل الحوزة الدينيَّة. والحقيقة أن الجماعة لا تفتقر إلى منظّرين لأنها لا تنبعث بنظرية جديدة للحكم والدولة، بل غاية ما تفعله أنها تستند إلى الإرث المذهبي والتراث الشيعي والمراجع الكبار قديمًا وحديثًا ممن يحرِّمون العمل السياسيّ ويبتعدون عن الشأن العامّ بصورته التي هو عليها اليوم من بعد ١٩٧٩م، التي أسَّسها الولائيون وروّجوها باعتبارها أصلًا من أصول التشيُّع. بالتالي فإن الجماعة بعد وفاة الحلبي لم تتأثر كثيرًا، وكذلك بعد وفاة افتخار زاده ليس من المرجح أن تتأثر كثيراً كونها جماعة تستند إلى أصول التشيُّع نفسه وحوزاته الرئيسية وتبدي نفسها حامية للعقيدة الشيعيَّة وتسير على نفس النهج الحوزوي التقليدي بلا شذوذ بالمصطلح الفقهي والأصولي، ممَّا ينعكس على سمعتها داخل الحوزة الدينيَّة، بل يدعمها بعض المراجع والتجار بالمال والموارد اللازمة([24]).

خاتمة: مآلات الجماعة ومستقبلها

تبدو الحُجَّتِيَّة اليوم في إيران جماعة متأصلة في المشهد الفكريّ والثقافيّ والدينيّ، لا تتدخل في الشأن السياسيّ، واكتفت بالأنشطة الثقافية، والجماعة إن تأسست في بداية الأمر لمواجهة البهائية فإن وجودها ما عاد مرتبطًا بالبهائية وجودًا وعدمًا، بل بات لها درس عَقَدِيّ يجتذب كثيرًا من الشباب الشيعيّ والإيرانيّ، وباتت ملجأً في قراءتها الدينيَّة لجُلِّ الرافضين لولاية الفقيه ولإخفاق النظام الإيراني، وكلما زاد فشل النخبة الحاكمة اجتذبت الجماعة عددًا أكبر من الحانقين على تسييس الدين والناقمين على ولاية الفقيه. فلعَلَّ الفشل والإخفاق الذي سببته ولاية الفقيه وتسببت به في المشهد السياسيّ والثقافي الإيراني هو نفسه الذي كان من جملة عوامل بقاء الحُجَّتِيَّة فاعلة في المشهد الثقافي باعتبارها جماعة انتظارية عَقَدِيّة تريد أن تعود بالتشيُّع إلى أسسه الأولى بعيدًا عن الجانب السياسيّ، ومن ثم يجد فيها كثيرٌ من الناس بديلًا ممكنًا لعملية تسييس الدين الجارية منذ العام ١٩٧٩م حتى اليوم. بالتالي فإنّه من المرجح أن تظلّ الجماعة فاعلة في المشهد الثقافي، وقد يزيد حجمها ودورها كلما أخفقت ولاية الفقيه، باعتبارها جماعة مهدوية انتظارية تبتعد عن السياسة وترى أن الاشتغال التامّ بها جناية على المذهب الشيعي، وهذا الموقف إن كان مناقضًا لنظرية رجال الحكم اليوم في طهران، فإنه في ذاته هو السبب الرئيسي في حماية الجماعة لنفسها وعدم تَعرُّض الحكومة لها بالتنكيل والمطاردة باعتبارها لا تمثِّل خطرًا استراتيجيًّا على النظام لكونها سلبية في السياسة ولا تسعى لحكم أو قيادة.

ومن المرجَّح أن تبقى الجماعة فاعلة وحاضرة على الأرض ما بقيت على ذات النهج ونفس المساحة بينها وبين السياسة، فهي تفوِّت الفرصة على النظام للنيل منها، ويكتفي النظام بتهديدها وترهيبها حتى لا تمثل له عبئا شعبيًا وحَرَجًا دينيًّا من قلب الحوزة، لكن مقاربة الجماعة من السياسة لا تمنعها مستقبلًا من المشاركة مع عموم الشعب أو مع تحالف واسع من قلب الحوزة والمجتمع في الثورة على النظام أو الاحتجاج ضدّ سياساته أو محاولة تغييره. من جانب آخر عزَّزَت الجماعة حضورها الحوزوي وقَوَّت عَلاقتها بفقهاء الحوزة حتى قيل إنها تتلقى دعمًا منهم أو إن بعض الفقهاء سمح للجماعة بالنيابة عنهم في بعض أموال الخُمْس، وكذلك قَوَّتْ عَلاقتها مع التُّجَّار ورجال الأعمال، فلم يَضِرْها أنها لا تتلقى تمويلًا من الحكومة الرسمية على غرار كثير من المؤسسات الدينيَّة والثقافية، وربما هذا الاستقلال هو ما يزعج السلطة أيضًا، مع غياب المبرِّر السياسيّ والقانوني للتنكيل بالجماعة أو التضييق على أفرادها، فأي تنكيل لها لن يُنظَر إليه على أنه تنكيل بجماعات معارضة أو إرهابية على غرار أدبيات النظام ضدّ معارضيه، بل سيُنظَر إليه كتنكيل بجماعة دعوية عَقَدِيّة تنبذ العمل السياسيّ وترتكز في تعاليمها على نفس قراءة الحوزة التقليدية في قم والنجف، فسيكون أشبه باستهداف مجتمع رجال الدين التقليديين برمته.

إذًا سمَحَت مجموعة من العوامل الحوزوية والاقتصادية والسياسيَّة ببقاء الجماعة قوية وفاعلة في المشهد العامّ، ومن المرجَّح أن تبقى كذلك ما بقيت تلك العوامل، ما لم تحصل تغييرات دراماتيكية في المشهد الإيراني برُمَّته لا يتعلق بالجماعة وحدها، بل بالدولة والحكومة وشكل الحكم الراهن.


([1]) انجمن حجتیه چه اعتقاداتى دارد؟ اگر مى شود چند تا از انجمن حجتی ها در مشهد نام ببرید؟. وانجمن حجتیه چیست؟ ونظر آیت الله خامنه درمورد این افراد چه میباشد؟، ٢٣ مارس ٢٠١١م (تاريخ الاطِّلاع: ٢١ مايو ٢٠٢٥م). http://www.pasokhgoo.ir/node/29111

([2]) انجمن حجتیه چیست؟ ونظر آیت الله خامنه درمورد این افراد چه میباشد؟، سابق.

([3]) راجع: محمد الصياد، النظام الإيراني والمرجعية الشيرازية، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “رصانة”، ١٠ مارس ٢٠١٨م (تاريخ الاطِّلاع: ٢٠ مايو ٢٠٢٥م). https://bit.ly/44NNBHw

([4]) زاد إيران، جماعة الحُجَّتِيَّة، نشر: ٢٥ يناير ٢٠٢٥م، (تاريخ الاطِّلاع: ١٨ مايو ٢٠٢٥م). https://zadiran.com/جماعة-الحُجَّتِيَّة/

([5]) أحمد الكاتب: الشيعة من الحُجَّتِيَّة إلى الخمينية، حلقة منشورة على «يوتيوب» بتاريخ ٠٦ أبريل ٢٠٢١م (تاريخ الاطِّلاع: ٢١ أبريل ٢٠٢٥م)

https://bit.ly/4jH5UlO

([6]) ميثاق العسر: ولاية الفقيه السيستانية بين النصب والانتخاب، المثقف، عدد 3547، الأحد 22/ 5/ 2016م.

([7]) راجع: بدر الإبراهيم، ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية.. تسييس المذهب ومذهبة السياسة، ط/ الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2013م، ص147.

([8]) للمزيد عن تَحوُّلات الخميني وابتكاره لولاية الفقيه المطلقة، راجع: محسن كديور، ولاية الفقيه.. نقد نظرية الحكم في الفكر السياسي الشيعي، (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، ٢٠٢١م)، ص١٨٤.

([9]) صحيفة الإمام، 2/ 282.

([10]) وخُتمت الفتوى بتاريخ 5 شعبان 1390هـ. راجع: جمعية الحُجَّتِيَّة.. توكيل بالاستفادة من الحقوق الشرعية لمكافحة البهائية، شبكة المعارف الإسلامية، http://cutt.us/4Trxv. وراجع: أحمد الكاتب، الشيعة من الحُجَّتِيَّة إلى الخمينية، سابق. ونلاحظ هنا أن الخمينيّ هو الذي يوكّل الحلبي بالإشراف على الحقوق الشرعية وأن الحلبي لم يطلب من الخمينيّ ذلك.

([11]) راجع: محمد الصياد، فقه الانتظار، (الرياض: رصانة المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، ٢٠١٨م)، ص١٠٦-١١١.

([12]) المرجع السابق نفسه.

([13]) للمزيد حول المدرسة التفكيكية الإيرانية، راجع: محمد الصياد، العرفانية والانقلاب على مسار الحوزة في قم، مجلة الدراسات الإيرانية “الرياض” السنة الثانية العدد الخامس ديسمبر ٢٠١٧م. وراجع: حيدر حب الله، المدرسة التفكيكية وسؤال المنهج.. هل تثور إيران المتصوفة على الحكمة المتعالية والعرفان الشهودي؟، نصوص معاصرة، ٠٢ مايو ٢٠١٤م. https://bit.ly/44u5LxW

([14]) راجع: توفيق السيف: حدود الديمقراطية الدينية، (بيروت: دار الساقي 2008م)، ص262.

([15]) راجع: محمد الصياد، فقه الانتظار، (الرياض: رصانة، 1439هـ)، ص106.

([16]) زاد إيران، جماعة الحُجَّتِيَّة، ٢٥ يناير ٢٠٢٥م (تاريخ الاطِّلاع: ١٨ مايو ٢٠٢٥م). https://bit.ly/4dlYEtT

([17]) راجع: فاطمة الصمادي، التيارات السياسية في إيران، ص296.

([18]) كاتايون أميربور: البهائيون في إيران.. حياة تحت القمع والاضطهاد، ترجمة: رائد الباش، قنطرة 23 نوفمبر 2009م، (تاريخ الاطِّلاع: ٢٠ أبريل ٢٠٢٥م). https://bit.ly/4cJxDjN

([19]) ايران تشابار، حکومت ولایی، اصلاح‌طلبان ومعضل انجمن حجتیه، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩م (تاريخ الاطِّلاع: ٢٦ أبريل ٢٠٢٥م. https://bit.ly/4jdKWKL

([20]) يذهب بعض الباحثين المحسوبين على الدولة الإيرانية إلى أن النظام لم يحل الجماعة رسميًّا، بل حلت الجماعة نفسها تكتيكيًا وبقي التنظيم قائمًا كما هو.

([21]) أحمد الكاتب: الشيعة من الحُجَّتِيَّة إلى الخمينية، سابق.

([22]) أحمد الكاتب: الشيعة من الحُجَّتِيَّة إلى الخمينية، سابق.

([23]) زاد إيران، الحُجَّتِيَّة.. التاريخ السري لجمعية دينية مثيرة للجدل في إيران، نُشر بتاريخ: ٢٨ مارس ٢٠٢٥م (تاريخ الاطِّلاع: ٢١ مايو ٢٠٢٥م). الرابط:https://bit.ly/43i5KvQ .

([24]) السابق، نفسه.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير