في تطوُّر مفاجئ، اندلعت اشتباكات عنيفة بالأسلحة الثقيلة بين أبرز كيانين عسكريين في السودان: الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن السودانية، أسفرت حتى الآن عن سقوط عشرات المدنيين والعسكريين بين قتيل وجريح. رجع الجيش السوداني القصف والاشتباكات إلى محاولة قوات الدعم السريع السيطرة على عدد من المواقع الإستراتيجية في العاصمة ومناطق متفرقة في البلاد، فيما رجعتها قوات الدعم السريع إلى مهاجمة الجيش لمعسكراتها وتمركزاتها في الجزء الجنوبي للعاصمة بواسطة أسلحة ثقيلة وخفيفة. ويأتي هذا التصعيد المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع بعد نشوب خلاف علني بينهما خلال الفترة الماضية حول آليات ومراحل إدماج الدعم السريع في الجيش.
في هذا التقرير نستعرض أسباب وطبيعة الخلافات بين الجيش والدعم السريع التي تقف وراء هذا التصعيد الخطير، وانعكاساته على مقدرات وموارد البلاد وأمنها واستقرارها، ودلالات تصعيد قوات الدعم السريع ورفضها لعملية الإدماج وَفْقًا للجدول الزمني الذي رسمه الجيش، فضلًا عن تداعيات الحرب الدائرة بين هاتين المؤسستين العسكريتين على الوضع في السودان.
أولًا: كيف تفجَّر الخلاف بين الجيش والدعم السريع؟
الخلافات بين قوات الدعم السريع وقيادة الجيش طفت على السطح منذ بدء الحديث عن إدماج هذه القوات في جيش موحد. في يونيو 2021م أعلن قائد قوات الدعم السريع أن الحديث عن إدماج قوات الدعم السريع في الجيش يمكن أن يفكك السودان، وفي 25 أكتوبر 2021م أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان إجراءات استثنائية، منها حل مجلسَي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ، وهو ما اعتبره بعض القوى السياسية «انقلابًا عسكريًّا». وفي أغسطس 2022م تطورت الخلافات بين البرهان وحميدتي بعدما صرح الأخير بأن إجراءات البرهان التي حلَّ بموجبها مجلس السيادة والحكومة المدنية قد فشلت، وأن السودان أصبح في حال أسوأ، ثم طالب بضرورة تنفيذ الاتفاق الإطاري، وتسليم السلطة إلى المدنيين، وعدم السماح بالتعرض للمتظاهرين، كما عبَّر عن ندمه من المشاركة في إجراءات 25 أكتوبر، التي وصفها بالانقلاب.
وفي ديسمبر 2022م وبعد توقيع الاتفاق الإطاري المؤسِّس للفترة الانتقالية، الذي أقرَّ بخروج الجيش عن السياسة وتسليم السلطة إلى المدنيين، عاد الخلاف بقوة بين الطرفين حول مسألة إدماج قوات الدعم السريع، وظهر ذلك بصورة جلية بعد انسحاب ممثلي الجيش من ورشة الإصلاح الأمني والعسكري في نهاية شهر مارس 2023م، لعدم شمول توصياتها أيّ جدولة زمنية لعملية الإدماج.
ووفقًا للجدول الزمني الذي توافقت عليه القوى السياسية والمؤسسة العسكرية، كان من المقرر الإعلان عن تشكيل حكومة مدنية جديدة تنهي الفراغ السياسي الذي يعيشه السودان منذ الإجراءات التي أعلن عنها البرهان في 25 أكتوبر 2021م وحل بموجبها حكومة عبد الله حمدوك، إلا أن الخلافات بين الجيش وقوات الدعم السريع كانت سببًا رئيسيًّا في إرجاء توقيع الاتفاق النهائي مع القوى السياسية، الذي كان مقررًا في مطلع أبريل الجاري، إلى أجل غير مسمّى. وفي ما يلي أبرز الخلافات حول مسألة إدماج قوات الدعم السريع:
1. مطالبة الجيش السوداني بألا تتجاوز فترة إدماج «الدعم السريع» ستة أشهر، فيما يريد الأخير أن يكتمل إدماجه في الجيش خلال فترة تتجاوز 10 سنوات.
2. الخلاف الثاني هو قضية رُتَب ضباط «الدعم السريع»، إذ يرى الجيش أن تجري مراجعة رُتَب ضباط هذه المؤسسة العسكرية، فيما يطالب الدعم السريع بأن يجري استيعاب ضباطه في الجيش برتبهم الحالية.
3. خلاف ثالث تمثَّل في مطالبة الجيش بوقف عمليات التجنيد التي يقوم بها الدعم السريع، إذ يجنِّد الدعم السريع أعدادًا كبيرة من الجنود الجدد في معسكراته المنتشرة في السودان، وهو الأمر الذي يجد معارضة شديدة من الجيش.
4. امتدت الخلافات بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي لتشمل الجهة التي سوف تتقلد منصب القائد العام للجيش خلال فترة الإدماج، إذ تطالب قوات الدعم السريع بأن يكون القائد هو الرئيس المدني للدولة، وهو ما يرفضه الجيش.
خلال الأيام الأخيرة، زادت حدة التوتر والتصريحات المتبادلة بين قادة الجيش وقادة الدعم السريع، ووصلت الخلافات بين الطرفين إلى نقطة غير مسبوقة من التوتر الأمني، بعدما دفعت قوات الدعم السريع بـنحو 100 مركبة محملة بالجنود والأسلحة نحو مطار مروي في شمال السودان، الذي يُعتبر مطارًا إستراتيجيًّا مساندًا لمطار الخرطوم المدني في حالات الطوارئ، ويضم قاعدة جوية مساندة للمطار العسكري الأول الموجود بالخرطوم، دون علم قيادة الجيش أو التنسيق معها، كما بدأت قوات الدعم السريع بالانتشار والتحشيد العسكري في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن السودانية، مما أثار التكهنات حول إمكانية وقوع مواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع، كما حذر الجيش يوم الخميس 14 أبريل 2023م من مواجهة محتملة بين قواته وقوات الدعم السريع لعدم استجابة حميدتي لسحب قواته من مطار مروي.
ثانيًا: ما قوات الدعم السريع؟ وكيف عزز قائدها سلطته في السودان؟
أُنشئت قوات الدعم السريع، التي يُقدَّر عدد أفرادها حاليًّا بنحو 100 ألف فرد، في عهد الرئيس السابق عمر البشير، للمساهمة في مواجهة الحركات المتمردة في دارفور، وفي عام 2013م أصبحت هذه الميليشيات قوات «شبه نظامية» تابعة لجهاز الأمن الوطني السوداني، وفي عام 2017م قرر البشير اعتماد هذه القوات بشكل أكثر رسمية، إذ أجاز البرلمان قانونًا ينظم وضع القوات، ونقل تبعيتها من جهاز المخابرات إلى الجيش. لكن عندما طلب منه قمع المحتجين في أثناء الثورة الشعبية التي خرجت في 2018م ضد حكومة عمر البشير، رفض قائدها حميدتي هذه المطالب ووقف في صف المحتجين. وفي أبريل 2019م شاركت قوات الدعم السريع في الإطاحة بالبشير تحت ضغط الشارع السوداني واعتصامات المحتجين أمام القيادة العامة للجيش السوداني، وفي نفس العام وقَّع حميدتي اتفاقًا لتقاسم السلطة جعله نائبًا لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم الذي يرأسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
وقوف الدعم السريع إلى جانب الثورة، ومشاركته في الإطاحة بحكومة البشير، خلقا شعبية للدعم السريع وقائده وسط الشعب السوداني، لكن سرعان ما انعدمت الثقة وتوترت العلاقة مع هذه القوات بعد اتهامها بالمشاركة في فض اعتصام القيادة العامة، الذي سقط فيه عدد كبير من المدنيين. ثم زادت الفجوة بين حميدتي والمدنيين بعدما شاركت قواته في الإجراءات التي نفذها البرهان، والتي أطاحت بالحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021م.
ثالثًا: دلالات تصعيد الدعم السريع ورفضه لعملية الإدماج في الجيش
يبدو أن التحركات الأخيرة لقوت الدعم السريع، ومن ضمنها السيطرة على مطار مروي، كانت بهدف الضغط على الجيش وإرغامه على الرضوخ للمطالب المتعلقة بإطالة مدة الإدماج، كما أراد حميدتي إخراج مطار مروي من سيطرة الجيش لأن الأسلحة الموجودة في هذا المطار قد تضمن تفوقه على الدعم السريع.
إضافة إلى ذلك فإنّ إدماج الدعم السريع يعني احتمالية فقدان حميدتي وقادة الدعم السريع للمكتسبات السياسية والاقتصادية التي تراكمت منذ صعودهم بعد الإطاحة بالرئيس المعزول عمر البشير، بالإضافة إلى المخاطر التي تتهدد حميدتي تحديدًا جرّاء ذلك، مثل احتمالية تنحيته عن العمل العسكري لعدم تمتعه بالمؤهلات العسكرية التي تمكّنه من الحصول على رتبته العسكرية الحالية، فضلًا عن إمكانية محاكمته في اتهامات تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في دارفور والتورط في فض اعتصام القيادة العامة 2019م.
خلال الفترة الأخيرة، اتخذ حميدتي خطوات عديدة لتأمين مستقبله في العمل السياسي بالسودان، مثل بناء تحالفات مع عدد من الأحزاب والقيادات السياسية، والتقرب من الثوار وتبنّي شعاراتهم، وبناء علاقات قوية بدول إقليمية فاعلة، إضافة إلى تكوين ثروة ضخمة نتيجة لنفوذه العسكري واستحواذه على مناجم الذهب في دارفور، وقد أسَّس عديدًا من الشركات التي تعينه على المحافظة على مكتسباته الاقتصادية الكبيرة التي حققها خلال الأعوام الماضية.
رابعًا: مآلات وانعكاسات الأزمة على الوضع في السودان
استمرار الصدام بين الجيش والدعم السريع من شأنه أن يؤدي إلى تأجيل التوقيع على الاتفاق الإطاري، وربما إجهاض الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي في السوداني. كما يعاني السودان من أوضاع اقتصادية صعبة وتفلتات أمنية، وبالتالي فإنَّ الاشتباكات الجارية قد تزيد الوضع سوءًا.
إذا تمكَّن الجيش السوداني من حسم المعركة لصالحه في العاصمة الخرطوم فإنَّ قوات الدعم سوف تنتقل إلى مناطق أخرى، خصوصًا إقليم دارفور، وبالتالي ستتحول إلى حركة متمردة قد تشكل خطرًا كبيرًا على السلم والأمن في السودان. وقد يشرع الدعم السريع مستقبلًا في تجييش وإدماج الحركات المتمردة في دارفور في جيش واحد تمهيدًا لفصل إقليم دارفور، خصوصًا في ظل إصرار الجيش على السير قُدمًا في حسم معركته مع الدعم السريع، وتصنيفه لهذه القوات بأنها ميليشيا متمردة. أمّا إذا حسم الدعم السريع المعركة لصالحه -رغم أن الأوضاع في الأرض تسير حاليًّا لصالح الجيش بعد التفوق الذي أحدثته القوات الجوية- فإنّ ذلك يعني تفكك الجيش ومؤسساته العريقة وسيطرة حميدتي على كل السودان، وبالتالي انفراده بالحكم، وهو السيناريو الذي ترفضه غالبية الشعب السوداني.
الاتفاق الإطاري يتضمن آليات لتفكيك النظام السابق، وخلال الأيام الماضية شن أنصار نظام البشير حملات إعلامية مكثفة لإجهاض هذا الاتفاق، وبالتالي فإن استمرار المعارك بين الجيش والدعم السريع يخدم بشكل مباشر أنصار النظام السابق الذين يسعون للعودة إلى الحكم، كما أن فشل الاتفاق وسيطرة الجيش على مقاليد الحكم سوف يحدثان تفوقًا واضحًا لهم على القوى المدنية التي تخوض معركة سياسية عنيفة لنجاح مشروع التحول المدني في السودان، خصوصًا أن الإجراءات التي نفذها البرهان في 25 أكتوبر الماضي أعادت عددًا كبيرًا منهم إلى مفاصل الدولة.
تنص أهم بنود الاتفاق الإطاري على اختيار رئيس وزراء انتقالي من قِبل قوى الثورة، وتنظيم انتخابات في نهاية الفترة الانتقالية المحددة بعامين، وتعيين مدير جهاز المخابرات ضمن صلاحية رئيس الوزراء، وإطلاق عملية شاملة لكشف الجرائم ومحاسبة مرتكبيها، والحرص على جيش وطني موحد مهني، وإدماج قوات الدعم السريع ضمن الجيش، وتبعية قوات الأمن لوزارة الداخلية، والتزام مبدأ تجريم الانقلابات العسكرية، ومنع الجيش والأمن والمخابرات من ممارسة الأعمال الاستثمارية، واعتماد سياسة خارجية متوازنة تلبي مصالح البلاد، ووقف التدهور الاقتصادي في البلاد، وبالتالي فإنّ استمرار الأزمة بين الجيش والدعم السريع لن يؤدي إلى نسف الاتفاق الإطاري فقط، بل قد يقود الجيش إلى الانفراد بالحكم تحت ذريعة تعرُّض البلاد لأوضاع أمنية حرجة تتطلب تدخلًا حاسمًا من الجيش في كل مؤسسات الدولة.
في الختام، يمكن القول إنّ الحرب التي تدور رحاها الآن بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن السودانية تشير إلى خروج الأوضاع عن السيطرة، خصوصًا في ظل إصرار كل طرف على حسم المعركة لصالحه، وسط مخاوف داخلية وإقليمية ودولية من انزلاق هذا البلد نحو حرب واسعة، الأمر الذي يتطلب احتكام قادة هاتين المؤسستين العسكريتين لصوت العقل واللجوء إلى الحوار للحيلولة دون دخول السودان في مصير مجهول. وتظهر في الأفق مَساعٍ للدول العربية لاحتواء الأزمة من خلال الدعوة لاجتماع طارئ لجامعة الدول العربية لتدارس الحلول الممكنة لتهدئة الأوضاع، كما أن بين حميدتي والبرهان وساطة سعودية جارية قد تساعد في عودة الأمور إلى نصابها قبل فوات الأوان.