في أول زيارة خارجية لبابا الفاتيكان منذ تولِّيه منصبه، زار تركيا ثمَّ لبنان، وقد هدَفَ البابا من وراء تلك الزيارة، إلى تحقيق عدَّة أهداف على المستوى اللاهوتي والسياسي، لا سيّما وهي أول زيارة له خارج الفاتيكان، وبالتالي فإنَّ أهمِّيتها تكمُن في رسائلها، التي توَدّ الفاتيكان إرسالها إلى المنطقة والعالم. فقد بدأ البابا زيارته إلى تركيا في الثامن والعشرين من نوفمبر الماضي (2025م)، ومن تركيا إلى لبنان حيث الزيارة الأهمّ، وقد تحدَّث فيها عن نبْذ العُنف والسلام وسلاح «حزب الله». تأتي الزيارة في مشهد معقَّد للغاية في الإقليم ككُل؛ إذ إنَّ المنطقة برُمّتها تمُرّ بلحظة تاريخية حرِجة، رُبَّما تكون نقطة تحوُّل تاريخي، حيث بروز فاعلين جُدُد واستقرار فاعلين آخرين، وأفول دول حاولت الهيمنة على قرار المنطقة لعقود. وتأتي لبنان وتركيا في قلب تلك الأحداث، إضافة إلى محاولات رأب الصدع المسيحي-المسيحي، والخشية على الوجود المسيحي في المشرق، خصوصًا بعد زيادة مؤشِّرات هجرة الشباب المسيحي بعد تفجير مرفأ بيروت، وهيمنة «حزب الله» على القرار اللبناني، فجاء اهتمام الفاتيكان بالدولة المعقل الأهمّ للمسيحية في الشرق الأوسط، محاولًا المساعدة والمساندة وتقديم النصيحة.
في هذا السياق، فإنَّ البابا الجديد ليو الرابع عشر (روبرت فرانسيس)، الذي تولَّى منصبه خلفًا للبابا فرانسيس في مايو الماضي (2025م)، له علاقات قوية مع مجتمع «السود» في الولايات المتحدة، وهو من دُعاة السلام ونبْذ العُنف وحقوق العُمّال والنساء، ويتّبِع نهْج سلفه في مسألة حوار الحضارات، وبناء جسور بين الشرق والغرب، والعمل على وحدة المسيحيين، وتقريب المسافات اللاهوتية بين طوائفهم، وله قراءة مختلفة عن التفسيرات الدينية، التي يتبنّاها اليمين المسيحي الشعبوي في أمريكا، فيدعم حقّ المهاجرين، وحقوق العُمّال، والأجور العادلة، ونحو ذلك؛ فتلك خلفيات مهمَّة لفهم عقل البابا وتحرُّكاته. ومن ثمَّ، فسوف نركِّز هُنا في هذا التقرير على مُجمَل الرسائل السياسية واللاهوتية، من وراء أول زيارة له خارج الفاتيكان، مع أهمِّية رسائل «حزب الله» السياسية، التي أراد توجيهها للبابا.
أولًا: أجواء الزيارة ورسائلها
تأتي زيارة البابا إلى تركيا ثمَّ لبنان، في سياق أجواء متوتِّرة عالميًا وإقليميًا، سواءً على المستوى الديني أو السياسي. وبالتالي، فإنَّ الزيارة وإن جاءت بمناسبة الاحتفال بمرور ألف وسبعمئة سنة على انعقاد مجمع نيقية، إلّا أنَّ الفاتيكان هدَفَ من ورائها إلى تعزيز حضوره الديني والسياسي، وكذلك أراد البابا الجديد تأسيس واختبار المنهاج، الذي سيسلكه خلال فترة بابويته، وأراد أن يبدأ ذلك بالحديث عن الوحدة بين المسيحيين، والسلام السياسي، وإنهاء النزاعات بين الدول المتحاربة، وإرسال رسالة إلى الشرق عمومًا، والعالم الإسلامي خصوصًا، بأنَّه مستمرّ في ملتقيات الحوار، التي تبنّاها سلفه.
1- رسالة «حزب الله» إلى البابا: استبق «حزب الله» وصول البابا إلى مطار بيروت؛ ليرسل رسالة له، ويجهِّز كشّافة الإمام المهدي للمشاركة في استقباله. أمّا عن الرسالة، فقد أكَّد الحزب فيها «التمسُّك بالعيش الواحد المشترك، وبالديمقراطية التوافقية، وبالحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي، وبحرصنا على السيادة الوطنية، وحمايتها بالوقوف مع جيشنا وشعبنا؛ لمواجهة أيّ عدوان أو احتلال لأرضنا وبلدنا، ونعوِّل على مواقف قداستكم في رفْض الظُلم والعدوان، اللذين يتعرَّض لهما وطننا لبنان على أيدي الإسرائيليين وداعميهم». وأكَّد الحزب رفضه للتدخُّل الأجنبي في فرْض الوصاية على لبنان، ثمَّ أكَّد للبابا أن «هذا البلد الجميل بما حباه الله من موقعٍ جغرافي، وتنوُّعِ طائفي منتظِم، في إطار عيْشٍ واحد وتوافُق عام، هُما سِمتان ضروريتان لاستقرار نظامه السياسي وأمنه الوطني»، لافتًا إلى أنَّ «المعاناة التي يعيشها اللبنانيون، من جرّاء الاحتلال الصهيوني لبعض أرضهم، ومواصلة اعتداءاته عليهم، وتهديد أمنهم واستقرارهم في بلدهم، طمعًا بالتسلُّط على مياههم وأرضهم وثروتهم من الغاز، ومحاولةً منه لفرض إذعان وخضوع اللبنانيين لشروطه الأمنية والتوسُّعية والسياسية، التي لا قعر لها ولا نهاية».
وتحمل هذه الرسالة عدَّة دلالات سياسية ولاهوتية، أهمَّها أنَّ الحزب يريد أن يُرسِل رسالة بأنَّه يحترم النسيج الوطني اللبناني، وأنَّ التنوُّع الطائفي والديني هو سبب استقرار النظام السياسي والاجتماعي والأمن الوطني للدولة اللبنانية، ومن ثمَّ فأيّ خلل في هذه التركيبة الدينية سيؤدِّي إلى انهيار الدولة اللبنانية، أو إلى خلل جوهري في تلك التركيبة، التي هي أشبه بـ «العقد الاجتماعي». لكن في الوقت نفسه، تجاهل «حزب الله» استعدائه للرُفقاء اللبنانيين، وتهديده لمعارضيه بالسلاح والحرب الأهلية، ورفضه الاندراج تحت المنظومة القانونية والدستورية للدولة، ورفضه الانصياع لقانون الدولة ومؤسساتها، التي ألزمته بتسليم السلاح، وبالتالي مصادرة القرار الوطني من قِبَل الحزب، وتعامله كجماعة فوق الدولة وفوق الدستور والقانون، إضافة إلى تواصله مع جِهات ودول خارجية، والاستقواء بها على مؤسسات الدولة وخصومه السياسيين في الداخل.
كذلك يستدعي الحزب هُنا أدبيات «الحداثة»، التي يفهمها الغرب؛ الديمقراطية التوافقية، العيش المشترك ونحو ذلك، وحقيقة نظرية الحُكم، التي يعتقدها الحزب، كما يعلن مرارًا وتكرارًا، هي «ولاية الفقيه»، وليست الديمقراطية، فالحزب يريد أن يجعل من لبنان دولة تابعة لـ «الولي الفقيه»، والحزب بجميع عناصره «جنودًا للولي الفقيه»، ومن ثمَّ فاستحضار مقولات حداثية متعلِّقة بالديمقراطية والتعدُّدية، هو عمل براغماتي تكتيكي، لا يعبِّر عن إستراتيجيات الحزب ومقولاته التأسيسية. كذلك، فإنَّ الحزب الذي يقول للبابا إنَّه يقِف مع الجيش والشعب، يهدِّد في الوقت نفسه الجيش والشعب، إذا حاولوا مجرَّد المحاولة نزْع سلاح الحزب، ومن ثمَّ فالحزب لا يقِف مع الشعب ولا مع الجيش؛ لا على المستوى السياسي والإستراتيجي، ولا حتى على المستوى الأيديولوجي، كما أنَّ الجماعة الشيعية نفسها كانت موجودة قبل الحزب، وجذورها ضاربة في التاريخ اللبناني؛ فجاء الحزب يريد الوصاية على الشأن الشيعي أولًا، ثمَّ على الشأن اللبناني برُمّته ثانيًا، وهو ما يرفضه اللبنانيون اليوم.
2- لبنان المرتبك وحلول البابا السياسية: بشكلٍ مباشر لا يحتمل التأويل، طالَبَ البابا «حزب الله» بترك سلاحه، واللجوء إلى الحوار، قائلًا: «إنَّ الفاتيكان يدعو جميع الأطراف المتصارِعة إلى التخلِّي عن السلاح والعُنف، واللجوء إلى طاولة الحوار، ونقترح على حزب الله ترْك السلاح والانخراط في الحوار». أمّا عن الردّ المباشر على رسالة «حزب الله»، فقد قال البابا: «اطّلعتُ على رسالة «حزب الله»، وأفضِّل عدم التعليق». ويبدو أنَّ البابا غير معني أصلًا برسالة «حزب الله»، فلم يعلِّق عليها، ولم يأبه بها، وطالب الحزب بترك سلاحه واللجوء إلى الحوار، بدلًا من تهديد الرُفقاء بالسلاح، وبدلًا من الرسائل الإنشائية وتضليل المجتمع الدولي. في لبنان ثمَّة رسائل لاهوتية أهمّ تشغل عقل البابا، يريد إيصالها إلى الطوائف المسيحية في لبنان والشرق، ثمَّ تأتي الرسائل السياسية لاحقًا، وبعدها تأتي مسألة «حزب الله» في ترتيبٍ متأخِّر ضمن أولويات البابا. فيبدو أنَّ الخلاف المسيحي-المسيحي هو أهمّ ما يشغل عقل البابا ويؤرِّقه، ويريد فتْح قنوات تواصُل بين الطوائف المسيحية. ووجود لبنان آمِن ومستقرّ سياسيًا يصُبّ في مصلحة المسيحية اللبنانية، ومسيحيي المنطقة برمتها، وكذلك لصالح أمن المنطقة والإقليم، وهو هدف إستراتيجي أيضًا للفاتيكان، وللبابا نفسه كداعية «محبَّة وسلام»، إذ أكَّد ميْله إلى السلام العالمي، ورفضه للنزاع والحروب. في المقابل، تنتظر النُّخَب اللبنانية من البابا أولًا التدخُّل لكبح الغارات الإسرائيلية على لبنان، ورُبَّما المساهمة في دعْم دولي للبنان اقتصاديًا وسياسيًا، بما يؤدِّي إلى نجاح الحكومة اللبنانية، وزيادة الضغط على «حزب الله»، وثانيًا الضغط على «حزب الله» لنزع سلاحه، وتفويت الفرصة على الإسرائيليين لمهاجمة لبنان. إذن، فثمَّة رسائل سياسية أيضًا تريدها الحكومة اللبنانية من البابا، بيْد أنَّها مغايرة في مقصدها وأهدافها لرسائل «حزب الله»، بل رُبَّما تكون متعارِضة.
في السياق نفسه، طالب البابا الشباب اللبناني بالبقاء في لبنان، على الرغم من التحدِّيات والظروف، ودعا كافَّة الطوائف الدينية في لبنان إلى الوحدة، والحرب من أجل السلام. وبقاء الشباب اللبناني في لبنان هو أمرٌ جوهري للفاتيكان، فزيادة نسبة المهاجرين بعد تفجير مرفأ بيروت، وهيمنة «حزب الله» على القرار اللبناني، ثمَّ الدخول في حرب مع إسرائيل، ساهَمَ في زيادة هجرة الشباب اللبناني، وهو ما أرَّق الفاتيكان من تآكُل أكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط والعالم العربي، تمثِّل في الوقت نفسه تهديدًا للتعدُّدية الدينية والمذهبية والتنوُّع الثقافي.
3- رسائل تركيا والأهداف الإستراتيجية: أمّا بخصوص تركيا،فتركيا يوجد فيها طائفة مسيحية من أصغر الطوائف في العالم (33 ألف كاثوليكي من عدد سُكّان يبلغ 88 مليون نسمة). أمّا الأرثوذكس فهُم أقلّ من 01% من مجمل سُكّان تركيا، لكن البطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية «المسكونية» لها مكانة روحية وتاريخية في العالم، وهي المنافس الرئيس لبطريركية الكرازة المرقسية في الإسكندرية. وهذه المكانة رُبَّما تقلق النُّخَب الحاكمة التركية، فقد صرَّح وزير خارجية أنقرة؛ هاكان فيدان، في يوليو الماضي (2025م)، بأنَّ «اللقب المسكوني الذي تستخدمه البطريركية، لا يحمل أيّ معنى قانوني أو سياسي بموجب القانون التركي أو الدولي». ويعكس هذا الموقف تحفُّظًا تركيًّا على التطلُّعات السياسية للكنيسة؛ ففي السنوات الأخيرة، لعِبَت البطريركية المسكونية دورًا واسعًا في الشؤون المسيحية الأرثوذكسية عالميًا، حين منحت الاستقلال للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (عن نظيرتها الروسية)، وهي خطوة أثارت غضب روسيا. رُبَّما كذلك القلق التركي بسبب التجاذب السياسي بين الحكومة والمعارضة، إذ تتَهِم المعارضة السياسية زيارة بابا الفاتيكان واستقباله الرسمي بأنَّها تهدِّد علمانية البلاد. وحتى المعارضة الدينية رفضت الزيارة، فقبل انطلاق فعاليات الاحتفال بمجمع نيقية، نظَّم حزب «الرفاه من جديد» التركي المعارض، الذي يرأسه فاتح أربكان؛ نجل رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان (مهندس الحركة الإسلامية التركية)، مسيرة للاحتجاج على زيارة البابا، وإقامة قُدّاس في نيقية. وانتقد رئيس فرع الحزب في ولاية بورصة؛ محمد كايغوسوز، زيارة البابا، عادًّا أنَّها «خطوة سياسية، وليست دينية». وحذَّر كايغوسوز، في بيان ألقاه خلال المسيرة، الحكومة التركية من أنَّ لقاء البابا مع بطريرك الروم الأرثوذكس؛ برثلماوس (الزعيم الروحي لنحو 260 مليونًا من المسيحيين الأرثوذكس حول العالم)، هو «محاولة لاستهداف سيادة تركيا»، قائلًا إنَّ الزيارة ليست «حجًّا أو فعالية سياحية»، بل إنَّ الفاتيكان خطَّط لها كمناورة سياسية.
لكن الحكومة، وإن تحفَّظت بشكلٍ معقول على عمل البطريركية عمومًا، بسبب هواجس تاريخية وجيوإستراتيجية، إلّا أنَّها عمِلَت في الوقت نفسه على الاستفادة القصوى من وراء تلك الزيارة، فقدأرادت تركيا أن تُبدي نفسها كدولة إسلامية سُنِّية رائدة، وأنَّها مركز لحوار الأديان، ومعبر بين الشرق والغرب. ففي لقاء لزوجة الرئيس رجب طيِّب أردوغان؛ أمينة أردوغان، مع البابا في الفاتيكان يوليو الماضي (2025م)، قالت: «إنَّ تركيا كانت على مدى قرون أرضًا تعايشت فيها الأديان والثقافات بسلام»، مؤكِّدة أنَّ «المجتمعات المسيحية جزء أصيل من النسيج الحضاري التركي»، ومشيرة إلى تعديلات قانونية أعادت ملكيات للأقلِّيات الدينية، في السنوات الأخيرة. ويرى الأتراك أنَّهم جسْر بين الشرق والغرب، وأنَّهم يمثِّلون العالم الإسلامي أو إرثه القريب المتمثِّل في الدولة العثمانية، التي جاورت الأوروبيين لقرون، وبالتالي فتريد أنقرة أن تُوصِل رسالة إلى البابا الجديد، أنَّه يمكن الاعتماد عليها كساحة للحوار بين الأديان، وجسْر حضاري ودبلوماسي بين الشرق والغرب، وهو ما ردَّده البابا في كلمته في المجمع الرئاسي في أنقرة، حيث شدَّد على أنَّ تركيا، بما لها من موقع جغرافي وتعدُّد ثقافي وديني «جسْر طبيعي بين الشرق والغرب، وملتقى حضارات». وأكَّد البابا أنَّ هيمنة لون واحد على المجتمع التركي قد تضُرّ بتعدُّديته، مشدِّدا على أنَّ «المجتمع لا يحيا إلّا بالتعدُّدية»، كما دعا إلى احترام كرامة جميع السُكّان، بمن فيهم النساء والأجانب والفئات الفقيرة.
وتأتي رسالة تركيا إلى البابا؛ لتعزيز قوَّتها الناعمة، وحضورها في العالم كقوَّة حوار حضارية، وتغيير الصورة الذهنية عنها في الغرب، أو في كثير من الدول الغربية، وتأتي كذلك للتنافس مع قُوى إسلامية ومشرقية، تمثِّل قوَّة تاريخية وثقافية ودينية في العالم الإسلامي، مثل إيران التي تعتبر نفسها «أُم القرى» وتريد منذ عقود الهيمنة على العواصم الإسلامية، ومثل القاهرة التي تتبنَّى قراءة للدين متمثِّلة في الأزهر (هي نفس القراءة الدينية للأتراك، إلّا أنَّ ثمَّة تنافُس سياسي ينعكس على الجانب الديني)، ومثل السعودية حيث الحرمين الشريفين، ومنبع الإسلام ومهبط الوحي، والإرادة القوية في العقد الأخير للقيادة والريادة. وبالتالي، أرادت تركيا تقديم نفسها سريعًا للفاتيكان، على أنَّه يمكن الاعتماد عليها لبناء جسْر بين الشرق والغرب؛ بين المسيحية والإسلام.
ثانيًا: دلالات الزيارة ونتائجها
بدأ البابا زيارته لتركيا ببلدة إزنيك «نيقية- Iznik» (محافظة بورصة شمال غرب تركيا)، للاحتفال بذكرى مرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية الأول، الذي أقرَّ صيغة قانون الإيمان، الذي لا يزال معظم مسيحيي العالم يتّبعونها حتى اليوم. وندَّد البابا بالعُنف على أساسٍ ديني في فعالية مع قادة مسيحيين من جميع أنحاء الشرق الأوسط، وحثَّهم على تجاوُز الانقسامات الحادَّة القائمة منذ قرون. وفي حديثه إلى كبار رجال الدين من دول من بينها تركيا ومصر وسوريا، وصَفَ ليو عدم توحُّد مسيحيي العالم البالغ عددهم 2.6 مليار مسيحي بالفضيحة.
1– لماذا إزنيك/ نيقية: كانت نيقية هي مقرّ أول اجتماع كنسي يضُمّ أساقفة من كل أنحاء العالم سنة 325م، ولم يُعقَد ذلك الاجتماع بدعوة من القساوسة، بل بدعوة من الإمبراطور قسطنطين؛ لتنظيم العمل والهياكل الإدارية للكنيسة، وكذلك لمحاولة إنهاء الانقسام اللاهوتي بين رجال الدين؛ لا سيّما بين الكاهن آريوس من الإسكندرية وبابا الإسكندرية ألكسندروس الأول، وقد تمحور الخلاف –حينذاك- حول طبيعة المسيح هل هو من جوهر الله ذاته (مذهب ألكسندروس)، أم أنَّه ليست له أزلية الله، وأنَّه كان ثمَّة وقت لم يكُن فيه المسيح موجودًا، بمعنى أنَّ الأب كان موجودًا وحده في البدء ثمَّ أوجد الابن (آريوس). وفي اختتام نقاشات المجمع، صدَرَ قرار بتحريم تعاليم آريوس ونفيه مع أبرز أتباعه، تنفيذًا لأمر الإمبراطور، الذي أمر أيضًا بحرق كتاباته ومعاقبة من يُخفيها. لذا، فإنَّ زيارة بابا الفاتيكان وحديثه عن الوحدة وإنهاء الانقسام من قلب «نيقية»، هي رسالة إلى المسيحيين جميعًا، من كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت، بإنهاء الانقسام والتوحُّد، رُبَّما يقصد تحت قيادة الفاتيكان الكنيسة الأكبر والأهمّ في العالم المسيحي. فإنَّ الهدف الرئيس من جولة البابا هو «تعزيز الحوار المسكوني ووحدة الكنائس في ذكرى مجمع نيقية»، كما جاء على لسانه نفسه.
2- وحدة العالم المسيحي: ركَّز البابا في جولتيه في تركيا ولبنان على مسألة وحدة الكنيسة المسيحية، لا سيّما بين الأرثوذكس حيث الكنائس الشرقية والكاثوليك. ويبدو أنَّ هذا الأمر يمثِّل نهجًا وهاجسًا لدى البابا، حيث دعا بعد تولِّيه مباشرة للتقارب مع الإنجليكانيين. فقد التقى أيضًا في أكتوبر الماضي بالملك البريطاني تشارلز، في أول صلاة مشتركة تجمع رأس الكنيستين منذ خمسمئة سنة، وبدأت المراسم بتلاوة الصلاة باللغة الإنجليزية داخل أروقة كنيسة سيستينا؛ أكبر كنائس القصر الباباوي، في مشهدٍ رمزي يعكس التقارب والوحدة بين الكنيستين الإنجليزية والكاثوليكية بعد قرون من الانقسام. وقال بيان صادر عن المتحدث باسم الملك تشارلز، إنَّ العلاقة الأقوى بين الطائفتين المسيحيتين «تُعَدُّ سدًّا منيعًا في وجه من يروِّجون للصراع والانقسام والاستبداد». لذا، فيمكن القول إنَّ مسألة التقارب شغلته منذ تولِّيه المنصب. وفي تركيا، زار بطريركية القسطنطينية المسكونية، واستُقبِل بترحيب حار خلال القُدّاس الإلهي، الذي أُقيم في كنيسة القديس جاورجيوس البطريركية بمناسبة عيد القديس أندراوس الطوباوي؛ مؤسِّس كنيسة القسطنطينية. وحضَرَ القُدّاس، الذي ترأّسه البطريرك المسكوني برثلماوس بمشاركة ثيودور الإسكندري، أساقفة من الكنيستين، وممثِّلون عن طوائف مسيحية أخرى، ودبلوماسيون ومسؤولون بينهم نائب وزير الخارجية اليوناني يانيس لوفيردوس، إضافة إلى «حشْد من المؤمنين».
وأكَّد البطريرك برثلماوس والبابا ليو الرابع عشر خلال الاحتفال، على عزمهما بذْل كل جهد ممكن لضمان أن يسود الوئام والوحدة بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية. وفي كلمة له بعد القُدّاس، وصَفَ البطريرك برثلماوس البابا بـ «الأخ الحبيب»، مشيرًا إلى أنَّ الاحتفال المشترك بالذكرى الـ 1700 للمجمع المسكوني الأول في نيقية قد عزَّز الوحدة الكنسية. كما أعاد طرح اقتراحه بالاحتفال بعيد الفصح في تاريخ مشترك، مبيِّنًا أنَّ القسطنطينية وروما تبحثان سُبُل تحقيق ذلك. وشدَّد البطريرك المسكوني على أنَّ الوحدة، هي حاجة مُلِحَّة «خاصَّةً في الزمن الذي نعيشه» مع الحروب وأشكال التمييز الناجمة عن رغبة البعض في الهيمنة. وذكَرَ بشكل خاص الحرب في أوكرانيا قائلًا: «لا يمكننا أن نكون متواطئين في سفْك الدماء، الذي يجري في أوكرانيا». من جانبه، أعرب البابا ليو الرابع عشر عن دعمه للحوار بين كنيستي روما والقسطنطينية، معترفًا بأنَّه «كانت هناك صراعات في الماضي، تمامًا كما تُوجَد اليوم عقبات تمنعنا من المُضي قُدُمًا نحو الشركة الكاملة»، لكنَّه أضاف: «لا ينبغي علينا أن نتوقَّف عن الكفاح، بل يجب أن نستمرّ في اعتبارنا إخوة وأخوات». وأكَّد أنَّ هدفه هو حماية المجتمع والوحدة، وخلُص إلى أنَّ على الكنائس في هذه الأوقات، التي تتَسِم بالصراعات وسفْك الدماء، أن تقوم بدور صانعي السلام.
ونلحظ هُنا أنَّ أدبيات التقارب لم تأتِ من الفاتيكان فقط، بل جاءت على لسان البطريرك برثلماوس أيضًا، ولم تكُن الكنيسة المصرية «الإسكندرانية»، حاضرة في المشهد؛ ما يعني أنَّ الفاتيكان رُبَّما أدرك حجم العقبات، التي تواجه التقارب مع بطريرك الكنيسة المرقسية في الإسكندرية، فلجأ إلى بطريركية القسطنطينية، التي رُبَّما لا تواجه أجنحة متشدِّدة داخلها، أو تملك المساحة السياسية الكافية للتحرُّك نحو الفاتيكان.
ثالثًا: الفرص والتحدِّيات.. إنهاء الانقسام الديني والسياسي
1- الانقسام المسيحي: لا شكّ أنَّ مسألة انقسام أو وحدة العالم المسيحي والكنائس الثلاث، هو أمرٌ بالغ الأهمِّية للعالم ككُلّ، وللشرق الأوسط على وجه الخصوص، حيث مهد المسيحية واليهودية والإسلام. ولا يزال الصراع دائرًا حتى اليوم في فلسطين ولبنان، وهو صراع ديني وسياسي في الأساس، ولا تزال العلاقات الإسلامية المسيحية مهمَّة ومركزية في الشرق الأوسط، وهي سبب مباشر في استعمار بعض الدول، أو التدخُّل في شؤونها في القرن الثامن عشر، بيْد أنَّ السؤال المهمّ ُهنا: هل يمكن بالفعل إنهاء الانقسام الديني اليوم بين طوائف المسيحية المختلفة؟ ومع التسليم بإنهاء هذا الانقسام اللاهوتي والسياسي التاريخي؛ ماذا سيشكِّل من أثر على منطقة الشرق الأوسط؟
يبدو إنهاء الاختلاف ووحدة الكنائس، في عالم اليوم، مستحيلًا وليس صعبًا فقط، لاختلاف رؤية كل فريق لطبيعة المسيح نفسه، بل ثمَّة خلافات أيضًا داخل الفرقة الواحدة نفسها، كالخلاف بين الروم الأرثوذكس والأقباط الأرثوذكس، (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هي كنيسة الإسكندرية التي تأسَّست على يد القديس مارمرقس، بينما كنيسة الروم الأرثوذكس تتّبِع بطريركية القسطنطينية، وتنتشر أكثر في اليونان وبلاد الشام وروسيا). والفرق بين الأقباط الأرثوذكس والروم الأرثوذكس ليس مجرَّد «مسار لاهوتي تشكَّل عبر التاريخ»، بل هو خلاف عقائدي جوهري، أدَّى إلى انقسام الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية عام 451م. والاختلاف العقائدي ليس مجرَّد «وجهة نظر»، بل هرطقة من وجهة نظر الكنيسة القبطية؛ فالإيمان بـ«الطبيعتين المنفصلتين»، الذي أقرَّه مجمع خلقيدونية تعتبره الكنيسة القبطية انحرافًا عن الإيمان المستقيم. كذلك، فإنَّ البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، لم يحضر احتفالات مرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية، وبالتالي لم يلتقِ ببابا الفاتيكان، وعلَّل ذلك بقوله: «لن أتمكَّن من الحضور لأسباب ظرفية». لكن المتابع لتطوُّرات كنيسة الإسكندرية، يدرك الضغوط من الجناح المتشدِّد على البابا تواضروس؛ للكفّ عن محاولات التقارب مع الفاتيكان، بل وكاد بعض المتشدِّدين داخل الكنيسة أن يتّهِمه بـ«الهرطقة»، وهو اتّهام يشبه التكفير في العقيدة الإسلامية، خاصَّةً بعد الاتفاق الذي تمَّ بين الإسكندرية والفاتيكان سنة 2017م حول «سرّ المعمودية»، ووصفهم البابا تواضروس بالمتشدِّدين، أو الجاهلين، لكنَّه في الوقت نفسه استجاب لأصواتهم المؤثِّرة في الكنيسة المصرية، وأبطأ من عملية التقارب مع الفاتيكان. سياسيًا، فإنَّ الأمن القومي التركي يقتضي أن تبقى كنيستها محلِّية بعيدة عن وحدة مُحتَملة، أو علاقة إستراتيجية مع ما وراء الحدود مع الفاتيكان، أو غيره، رُبَّما تؤثِّر على عمل الحكومة التركية وهيمنتها على المجال العام، يخشى كذلك العلمانيون الأتراك على علمانية تركيا، ويخشى الإسلاميون على تركيا «المسلمة» أو محاولات العودة إلى الإرث المسيحي. في مصر حيث كنيسة الإسكندرية العريقة، يخشى المصريون أيضًا من تحوُّلات جوهرية في علاقة الكنيسة المصرية بالفاتيكان، أو القسطنطينية، فالكنسية المصرية اليوم تلعب دورًا سياسيًا بارزًا في بعض الملفات التي تخدم الأمن القومي المصري، خصوصًا في أفريقيا (السودان وأثيوبيا). وعلى الرغم من أنَّها عالميًا تُعتبَر كنيسة صغيرة وغير مركزية مقارنةً بالمسيحية العالمية، إلّا أنَّ النظام المصري يعتبرها أداه من أدوات الدولة وقوَّتها الناعمة، أمّا بخصوص الكنيسة الإنجليكانية فلقاء الملك البريطاني ببابا الفاتيكان لا يكفي وحده لحل مشكلة قرون ممتَدَّة وضارِبة بجذورها في التاريخ، أيضًا ثمَّة يمين متشدِّد ويمين شعبوي داخل الكاثوليكية نفسها، لا يؤمن بالتقارب مع الكنائس الشرقية أو المخالِفة، بل بعضهم يؤمن بتفوُّق العرق الأبيض ونبْذ الهجرة، وينظر بعين الريبة لملفات حقوق العُمّال وأجور الموظَّفين، ونحو ذلك. لذا، فإنَّ مشكلة الكنيسة العالمية، وإن كانت مشكلة لاهوتية في الأساس، إلّا أنَّ عوامل كثيرة تداخلت فيها، كالسياسي والديني والاقتصادي والمصلحي والشخصي، والبحث عن نفوذ ومصالح ونحو ذلك، كسائر المؤسسات الدينية والطبائع البشرية، كل ذلك يحول دون إنهاء الانقسام.
2- فرص إنهاء النزاعات السياسية: تأتي زيارة البابا إلى لبنان وتركيا في لحظة يتقاطع فيها المحلِّي بالإقليمي، وتتداخل فيها خطوط النار جنوبًا مع خطوط الانقسامات السياسية والطائفية داخليًا؛ ما يجعل تقييم قُدرتها على إنهاء النزاعات السياسية عملية معقَّدة، تتجاوز الطابع الديني أو البروتوكولي للزيارة. فقد أظهرت لحظة وصول المرجعية الكنسية إلى بيروت، أنَّ هذه الزيارة ليست حدثًا تقليديًا، بل محطَّة تحمل دلالات تتجاوز الرمز، ونافذة نادرة لإعادة طرح أسئلة الدولة والعيش المشترك، في ظلّ تهديدات إسرائيلية متزايدة، ورسائل أمريكية ضاغِطة، تُعيد التذكير بإمكانية توسُّع الحرب في الجنوب.
في هذا السياق، وفَّرت الزيارة فرصة مؤقَّتة لتخفيف منسوب التوتُّر، إذ سُجِّل تراجُع ملحوظ في الضربات والمسيّرات الإسرائيلية خلال فترة الزيارة، كما بدت مؤسسات الدولة اللبنانية أكثر حرصًا على إظهار تماسكها، من خلال كلمات رسمية تُعيد التأكيد على فكرة لبنان كبلدٍ تكوَّن «من أجل الحرِّية ولأجلها»، لا لصالح جماعة بعينها. ومع أنَّ هذه اللحظة أكَّدت أنَّ لبنان لا يزال يحظى باهتمامٍ ديني ودولي، إلّا أنَّها في الوقت نفسه أعادت إبراز حجم الانقسام الداخلي، خصوصًا مع الرسالة المفتوحة، التي وجَّهها «حزب الله» إلى الفاتيكان، والتي أثارت ردود فعل مندِّدة، رأت فيها محاولة لمنح شرعية روحية لسلاح يتجاوز الدولة.
وعلى الرغم من أنَّ الخطاب البابوي ركَّز على السلام والمصالحة واحترام السيادة، وتضمَّن إشارات موجَّهة إلى الشباب اللبناني بضرورة البقاء وعدم الاستسلام، إلّا أنَّ تأثير هذه الرسائل يظلّ في إطار «القوَّة الرمزية» التي لا تمتلك أدوات تنفيذية لتحويل الدعوة إلى خطوات عملية. فالقضايا الخلافية الكُبرى -مثل سلاح «حزب الله»، والسيادة الوطنية، وحدود الدولة، وخيارات الحرب والسلم- لا يمكن للزيارة وحدها أن تغيِّرها، في ظلّ هيمنة ميزان قُوى غير متكافئ، وانقسام سياسي عميق، ودور إقليمي مباشر لإيران وإسرائيل في تحديد سقْف أيّ تهدئة داخلية.
وتعزِّز المعطيات الميدانية هذا التقييم؛ إذ تؤكِّد القراءات العسكرية أنَّ إسرائيل مستمرَّة في أهدافها المُعلَنة بتفكيك البنية العسكرية لـ«حزب الله»، وأنَّ التصعيد الجوِّي مستمرّ بوتيرة أعلى، على الرغم من التهدئة الظرفية، التي رافقت الحدث. كما أنَّ الديناميات التركية الداخلية -التي سعى أردوغان من خلالها إلى استثمار الزيارة في تحسين صورته الخارجية، وإظهار التزامه بحماية التنوُّع الديني- تبقى جزءًا من «شرعية رمزية» لا تنعكس بالضرورة على السياسات الأساسية، أو على ملفات النزاع الإقليمي الأكثر تعقيدًا.
من هذا المنظور، تبدو الزيارة لحظة مهمَّة لإعادة فتْح النقاش السياسي، ورفْع مستوى الوعي العام حول المخاطر الوجودية، التي يواجهها لبنان والمنطقة، لكنَّها لا تشكِّل بحدِّ ذاتها مسارًا لإنهاء النزاعات؛ فهي قادرة على خلْق مناخ أكثر ملاءمة للحوار، وإعادة تذكير القُوى اللبنانية بأنَّ الحفاظ على الدولة يستلزم توافقًا داخليًا، ورُبَّما تساهم في دعْم بعض القرارات الدولية في اتّجاهات معيَّنة، لكنَّها غير قادرة في الوقت نفسه على فرْض حلول أو إعادة توزيع موازين القُوى، ما دامت المعادلات الإقليمية -من التصعيد الإسرائيلي إلى الدعم الإيراني- تتحكَّم بسقف الخيارات اللبنانية.
وبذلك، يمكن القول إنَّ الحدث يفتح نافذة رمزية مهمَّة، لكنَّها تبقى نافذة تحتاج إلى إرادة لبنانية داخلية، ودعْم إقليمي ودولي حقيقي؛ لتحويلها من مناسبة احتفالية إلى نقطة انطلاق لمسار سياسي جديد. أمّا في وضعها الحالي، فهي تمنح -لا سيّما للبنان- لحظة استقرار معنوي أكثر مما تمنحها حلولًا سياسية قابلة للتطبيق.
سياسيًا بالنسبة لتركيا، تشكِّل زيارة البابا فرصة لتعزيز دورها كدولة راعية للحوار والتسامح الديني، وإظهار التزامها بحماية الطائفة المسيحية على أراضيها؛ ما يعزِّز صورتها الدولية. ويمكن فهْم الدافع التركي من جوانب عدَّة؛ فهي تسعى إلى التمركُز الإقليمي والدولي، عبر إبراز نفسها كدولة مسؤولة قادرة على إدارة حوارات دينية وسياسية مع الفاتيكان؛ ما يمنحها نفوذًا إضافيًا على الملفات الإقليمية، التي تتقاطع فيها الديانات والسياسات، كما في لبنان وسوريا والعراق. كذلك تسعى إلى تحقيق مكاسب رمزية ودبلوماسية، عبر إظهار التزامها بحماية التنوُّع الديني؛ ما يعزِّز رصيدها السياسي والأخلاقي، ويُتيح لها استقطاب التأييد الدولي لمواقفها في النزاعات الإقليمية، وملفات أخرى، مثل اللاجئين والتعاون مع الاتحاد الأوروبي. كذلك، يمثِّل استثمار العلاقات مع الفاتيكان، من خلال فتْح قنوات تواصُل مباشرة، غاية تركية في منحها أدوات دبلوماسية إضافية للتأثير في القضايا الإقليمية، واستغلال البُعد الرمزي للزيارة لدعم صورة تركيا كوسيط قادر على التوفيق بين الأديان والشعوب؛ ما يعزِّز موقعها في الساحة الدولية، ويُتيح لها مساحة أكبر لتوجيه ملفات النزاع الإقليمي بما يتوافق مع مصالحها.
مع ذلك، لا يعني هذا أنَّ الزيارة خالية من أيّ تبِعات سياسية على تركيا، أو المشهد السياسي الداخلي فيها؛ فقد تنظر بعض الأحزاب المعارضة أو الفاعلين السياسيين غير المتوافقين مع سياسات أردوغان إلى الزيارة باعتبارها محاولة لاستثمار الحدث، لتعزيز موقع أردوغان على الصعيد السياسي والشخصي؛ ما قد يفتح بابًا لجدل داخلي حول أولويات الدولة، وطريقة توظيف الرمزية الدينية في الملفات الإقليمية الحسّاسة.
خاتمة
تجسِّد الجولة البابوية، التي شمِلَت تركيا ولبنان، محاولة واضحة من أحد أهمّ المراجع الدينية العالمية لدفع المنطقة نحو تهدئة أوسع، عبر خطاب يركِّز على الحوار، ورفْض منطق السلاح، وضرورة حماية التنوُّع الديني؛ الأمر الذي يطمح من خلاله الفاتيكان إلى زيادة دور الكنيسة، واستعادة سيطرة المجتمع الكاثوليكي على الخطاب المسيحي، من خلال دعوات توحيد مراكز النشاط الديني المسيحي. غير أنَّ قُدرة هذه الزيارة على إنهاء النزاعات الدينية والسياسية تبقى محدودة؛ فعلى مستوى المحطَّة التركية من الجولة، بدا الحضور الفاتيكاني محاطًا بحساسية سياسية واضحة، إذ تعاملت أنقرة مع مؤسسة الكنسية ضمن حسابات سيادية دقيقة، لذلك، لا يُتوقَّع أن تُسهِم الزيارة هناك في إحداث اختراق ديني أو سياسي، بل شكَّلت إطارًا بروتوكوليًا يعبِّر عن رغبة مُتبادَلة في إبقاء قنوات التواصل مفتوحة، دون المساس بثوابت الدولة التركية.
وعلى صعيد قُدرة هذه الزيارة في إنهاء الخلافات السياسية في لبنان تبقى محدودة، فالعُقَد الأساسية، التي تُعيق الاستقرار، ليست داخلية فقط، بل تتداخل فيها حسابات إقليمية معقَّدة، تشمل إيران وإسرائيل، وسياقات الصراع الأوسع في الشرق الأوسط. لذلك، يبقى تأثير التحرك الفاتيكاني رمزيًا في المقام الأول، يوفِّر غطاءً معنويًا ويحرِّك النقاش العام، لكنَّه لا يمتلك أدوات ضغْط تُحدِث تغييرًا مباشرًا في موازين القُوى.
وبناءً على ذلك، تحمل الجولة قيمة سياسية وروحية مُعتبرَة، لكنَّها لا ترقى -وفق المعطيات الحالية- إلى مستوى إحداث اختراق حقيقي في النزاعات اللبنانية، ما لم تُستكمَل بخطواتٍ دولية وإقليمية أوسع تعالج جذور الصراع.