الصراع على المرجعية.. أسباب الخلاف النجفي ومآلاته

https://rasanah-iiis.org/?p=37353

يبرُز كل فترة في النجفِ خلافٌ بين المراجع الدينيين أو أتباعهم، لأسباب علمية في الظاهر، لكن في بعض الأحيان تكون من ورائه أسباب متعددة ومتشابكة لا يمكن حصرها في الديني أو العلمي فقط. فمنذ فترة برز خلاف في النجف بين مُقتدى الصدر وكمال الحيدري، ثم بين الصدر والحائري، ثم بين الصدر ومنير الخباز، ثم اليوم بين اليعقوبي وأتباع المرجع السيستاني، ثم دخل الصدر على خط الأزمة ليدعم المرجع اليعقوبي. في الواقع؛ يُشير هذا الخلاف إلى قضية مهمة تتعلق بترتيبات المرجعية لمرحلة ما بعد السيستاني. لهذا السبب يستمر الخلاف منذ فترة وسيستمر حتى ما بعد مرحلة السيستاني، وذلك نتيجًة للتنافس الشديد بين المراجع وأنصارهم لكسب تأييد الناس وطلاب الحوزة ورجال الدين.    

وكجزء من سلسلة هذا الصراع والتنافس، دخلت النجف بداية الشهر الحالي «مارس 2025م»، في صراع كبير بين أتباع مرجعية «السيستاني»، وهو المرجع الأكبر والأهم في العالم الشيعي، وبين المرجع «اليعقوبي» الذي يَعتبر نفسه أحد تلامذة السيستاني ومحمد الصدر «والد مقتدى». في التقرير التالي، سنقف مع أسباب هذا الخلاف وتداعياته على الحوزة ومآلاته.  

أولًا: أسباب الخلاف ودلالاته

بدأ الخلاف بين المرجعيتين: «السيستاني واليعقوبي»، عندما أرسل أحد المقلدين سؤالًا لموقع السيستاني يسأل عن مدى صحة مدحه لليعقوبي، وخلاصته ما تردد أن اليعقوبي عندما حضر درس السيستاني وقدّم في الأيام الأولى لحضوره بحث تخرج عام 1415هـ، فطالعه المرجع، وأبدى رأيه حوله بـقوله: «لو لا أنك طالب في أول الطريق والمدح يضرّ بك، لأثنيت على البحث بما يستحق، لكنني أقول إنك إذا سرت بهذه الطريقة فإنك ستصبح كالشيخ الأنصاري»! والشيخ الأنصاري هو أهم فقيه وأصوليّ في التاريخ الشيعي، حتى أنه سُمي بـ «الشيخ الأعظم»، ومن ثمّ فإطلاقه على اليعقوبي يعتبر مدحًا كبيرًا وتعزيزًا لحضوره كمرجع مجتهد بين الجماعة الشيعية، مما يخلق حالة من الشياع، وهي شرط التصدر كما هو معروف في العرف الحوزوي. لكن مكتب آية الله السيستاني سارع بالنفي، حيث أكد أن هذا «الادعاء لا أساس له من الصحة»، محذرًا المؤمنين من الاغترار بمثل هذه الدعاوى.     

وسرعان ما جاء الرد من المرجع اليعقوبي شخصيًا، ليؤكد أنه «ليس ممّن يُتاجر بكلمات المدح والثناء، وأنه لو لم يكُن يعلم بأنه صادق لما روى هذه الخاطرة لأنه ليس محتاجًا لها بما منّ الله تعالى عليه من النعم التي لا تُعدُّ ولا تُحصى». ثم أبدى استغرابه من حاشية المرجع السيستاني بقوله: «وقدا استغربنا من مُسارعة المنسوبين إلى مكتب السيد إلى إنكارها ولم يكُن أحدٌ منهم حاضرًا فيها، ومقتضى العدل والإنصاف أن يسمحوا لشهودٍ نثقُ بهم بالاستفسار من سماحة السيد نفسه، وليس بأن يكون الخصمُ هو الحَكَم».  فهو هنا يتهم حاشية المرجعية بأنهم خصومٌ له، ومن ثم ينسبون كلامًا للسيستاني لم يقله، وكأنه يُشير إلى أنهم قلقون من تصدره ومرجعيته سيما في مرحلة ما بعد السيستاني، والتي يتنافس عليها الجميع من اليوم، ويسعون إلى إثبات «فقاهتهم» و «حضورهم» و «شياعهم» و «أعلميتهم»، وتلك شروط المرجعية كما جرى العُرف الحوزوي.  

وثمة خلافات عديدة بين الجانبين، لا تنحصر فقط في مسألة التنافس على المرجعية أو ترتيب مرحلة ما بعد السيستاني، حريٌّ أن نقف عند بعضها حتى تستبين الصورة، ومن أهمها:

  • ولاية الفقيه: يرى المرجع محمد اليعقوبي؛ أنّ نظام الحكم في الإسلام ينبني على ولاية الفقيه الذي يستمد مشروعيته من نيابته عن الإمام المعصوم (وليس من الشعب). وفي نفس الوقت؛ فهو يعتقد أن نظام ولاية الفقيه ليس مناسبًا للعراق فقط في تلك المرحلة، ولكن يمكن تطبيقه بعد إزالة العقبات وتهيئة الظروف، والنجف في رأيه هي من أهم أسباب عرقلة تطبيق ولاية الفقيه، بسبب قول مراجع النجف بعدم الولاية للفقيه. لكن السيستاني لا يرى القول بولاية الفقيه، بل يقول بالدولة المدنية الدستورية، وهو في ذلك امتداد طبيعي لإرث النجف السياسي، منذ الميرزا النائيني ومحسن الحكيم ثم الخوئي ثم السيستاني، وبالتالي لا يرى ولاية الفقيه العامة أو المطلقة على النحو الذي يقرره الخميني أو اليعقوبي. وبالتالي جعل السيستاني مسافة بين المرجعية والعمل السياسي باعتبارها مرشدًا ومتابعًا عن بعدٍ، لكن اليعقوبي اندرج في العمل السياسي وأسس حزب «الفضيلة[ME1] ».  
  • استثنائية الانتخابات: بناء على قول اليعقوبي بمركزية ولاية الفقيه في النظام السياسي الإسلامي، فإن الانتخابات عنده استثنائية وليست أصلًا، وهو يقرر ذلك بقوله: «الانتخابات هي الاستثناء الذي يُلجأ إليه عند وجود المانع من إجراء القاعدة، كأكل الميتة الذي يحل عند الضرورة وحليته هذه لا تعني أن حكم الميتة ذلك بالعنوان الأولي، بل بالعنوان الثانوي، وإدراك هذه الحقيقة مهم وضروري نظريًا وعمليًا؛ لكي لا تختلط علينا الأمور وتضيع معالم شخصيتنا وهويتنا الإسلامية العظيمة التي شيد أركانها أهل البيت عليهم السلام وننساق وراء الأطروحات الغربية البراقة، وحتى نبقى ملتزمين بأن الأصل في العمل السياسي هو طاعة المرجعية، وليس قرار الحزب». لكنّ السيستاني (والإرث النجفي منذ الميرزا النائيني) يرى أن الانتخابات هي الأصل الذي يجب التحاكم إليه لتحديد إرادة الأمة في ظل غياب المعصوم، وذلك حتى ظهور المعصوم، وليس حتى ظهور الولي الفقيه وتغلبه، وبالتالي فثمة فارق كبير بين المنهجين.

وهذا الخلاف قديم وليس وليد لحظة «الغزو الأمريكي» وبروز المرجعية كفاعل رئيسي، بل برز كذلك إبان الثورة الدستورية العام 1905م، عندما برز فريق مدني يدعو إلى ديمقراطية وانتخابات في ظل غياب المعصوم، وفريق آخر يراها كفرًا وتقليدًا غربيًا لا يجوز تفعيله ولا تطبيقه.

ثانيًا: السعي للمرجعية.. الصدر ودعم اليعقوبي 

دخل مقتدى الصدر على خط الأزمة ودعَم المرجع اليعقوبي في دعواه ضد نفي مرجعية السيستاني بمدح اليعقوبي وتشبيهه بالشيخ الأنصاريّ، فنشر حساب «مصلح العراقي» المعروف بوزير الصدر، على موقع «الفيس بوك يوم 25 فبراير 2025م» رسالة ثناء ومدح من المرجع محمد الصدر «والد مقتدى الصدر» لتلميذه اليعقوبي. واللافت أن دخول الصدر على خط الأزمة بين اليعقوبي وأتباع السيستاني هو بمثابة إعلان رسمي من الصدر بدعم اليعقوبي في مواجهة أتباع السيستاني الذين يرون أشخاصًا آخرين لخلافة السيستاني غير اليعقوبي الذي ينفون أعلميته ومرجعيته! وهنا سؤال مهم: ماذا يريد مقتدى الصدر تحديدًا بموقفه الداعم لليعقوبي في معركته مع المرجعية العليا بالنجف، خاصًة وأن ثمة خلافًا قديمًا بين الرجلين؟!

  • الخلاف بين الصدر واليعقوبي: لم يكن الصدر ولا التيار الصدري من مُقلدي اليعقوبي يومًا ما، بل أدى الخِلاف المبكر بينهما إلى الانشقاق، ثم تأسيس اليعقوبي لحزب «الفضيلة»، ومحاولته شق صف التيار الصدري الذي تدارك نفسه خلف مرجعية الحائري. وبالتالي قد يستغرب دعم الصدر لليعقوبي في مواجهة المرجعية العليا بالنجف اليوم. خاصة أنه عندما انشق اليعقوبي عن مقتدى الصدر سنة 2003م، ثم تأسيسه لحزب الفضيلة سنة ٢٠٠٤م [ME2] وحاول أن يستقل بالمرجعية، اعتمد حينئذ على إرث محمد صادق الصدر، وأراد أن يُسيطر على شبكاته المالية والاجتماعية وحواضن التقليد، مُستغلًا فُرصة عدم وجود مرجعية واضحة وكبيرة للتيار الصدري بعد اغتيال محمد الصدر، سيما وأن الخلافات بين كاظم الحائري ومحمد الصدر لم تكن قد نُسيت حينئذ لولا تدارُك ذلك بعقد تحالُف وطيد بين مقتدى الصدر والحائري قضى على آمال اليعقوبي في مُزاحمة الكبار في العقد الأول من القرن الحالي. بيد أن اليعقوبي يعود مرًة أخرى ليُعلن أنه مجتهد وأنه الأعلم، وأن السيستاني مَدحه في محاولة لخلق شرعية في قلب الحوزة والتأثير على حواضن التقليد الكُبرى للمرجعية العليا، بيد أن المرجعية أو حاشية المرجعية، حالت دون ذلك بتبرؤها من مدح اليعقوبي أو الشهادة له بالاجتهاد. فأنكر اليعقوبي أن يكون هذا التبرؤ قد صَدر من المرجع نفسه، بل من حاشيته والمحيطين به ومن ثم يجب سؤال المرجع نفسه، وذلك في محاولة منه لخلق حالة من الجدل لتجاوز تأثير نفي المرجعية، وكذلك لتوصيل رسالة إلى الحواضن الشعبية وجمهور المقلدين أن ثمة من يُريد منعه من التصدُر المرجعي في مرحلة ما بعد السيستاني، لأسباب خاصة بهم، لا تمت للعلم وأعراف الحوزة بصلة.
  • تحالف الصدر-الحائري: في الوقت نفسه الذي انشق فيه اليعقوبي عن التيار الصدري، حصل تحالُف بين الصدر والحائري عندما عيّن الحائري مقتدى الصدر وكيلًا له في العراق في أبريل 2003م، لجمع الخُمس وإصدار بعض الفتاوى الدينية أو بيان وجهة نظر المرجع فيها، في خطوة ذكية وقتئذ للوصول إلى إرث محمد صادق الصدر «والد مقتدى»، والسيطرة على الشبكات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في ظِل التنافُس مع اليعقوبي وغيره ممن يريد الاستفادة من إرث محمد الصدر وعلاقاته المتشابكة. وكذلك في ظل صغر سنّ مقتدى الصدر (ومن ثم فقدانه التأثير الديني داخل الحوزة) حينئذ بما يحول بينه وبين المرجعية الدينية ويحول كذلك بينه وبين تحديد من يخلف والده من المراجع. إذن؛ كان الأمر أشبه بتبادل مصالح بين الطرفين. فالصدر الذي كان صغير السن آنذاك، أراد دورًا مؤثرًا داخل التيار الصدري باعتباره الوريث الشرعي لوالده، لكن الظروف حالت دون تنصيبه أو تمكينه من التأثير الديني داخل التيار بسبب الأعراف الحوزوية والفقهية والتاريخية. وفي المقابل، أراد الحائري استغلال شبكات محمد صادق الصدر واعتراف عائلته بمرجعيته».

والمفارقة؛ أنّ اليوم وبعد أن دبَّ الخلاف بين مقتدى الصدر والحائري وبلغ ذروته سنة 2022م، بعد استقالة الحائري عن المرجعية وإحراجه للتيار الصدري، يعود الصدر ليدعم اليعقوبي (الذي وصفه الحائري بأنه ليس مجتهدًا)، يدعمه في مواجهة النجف التي تَتَرَّسَ بها مقتدى الصدر من قبل لمواجهة الحائري عندما وصفها بأنها «الأصل والمركز» بعد استقالة الحائري التي أراد بها رفع الغطاء المرجعي عن التيار الصدري، واليوم ما عادت أصلًا ولا مركزًا عند الصدر.

ثالثًا: أهداف الصدر الحوزوية

والحقيقة أننا أمام تحالفات دينية وسياسية مُتعددة ومتباينة وسريعة التغير لمقتدى الصدر، تُبين موقفه من المرجعية العليا وبقية المراجع في النجف، بما يخدم مصالحه الحوزوية ومصالح تياره الاستراتيجية، وهي تؤول إلى سيناريوهات معقدة، يمكن تلخيصها فيما يلي من نقاط:

  • استهداف النجف وخلافة اليعقوبي: ربما يريد مقتدى الصدر دعم اليعقوبي بعد السيستاني ليصير مرجعًا من بعده ضد خلفاء السيستاني الطبيعيين، كالشيخ الإيرواني [ME3] (صاحب أكبر درس في النجف اليوم) وآية الله هادي آل راضي، وآية الله علي السبزواري، وغيرهم من المقربين من المرجعية العليا اليوم. في هذه الحالة فمقتدى الصدر يدعم اليعقوبي للخصم من رصيد خصومه في النجف، وحتى يسهل بعد ذلك تصدر مرجعية صدرية نشأت في البيت الصدري على غرار الصدر الأول والثاني، وهو ما صرح به قادة في التيار الصدري كما سيأتي. وإذا صحَّ هذا السيناريو، فإن مقتدى يُريد تقوية اليعقوبي وتقويض-كبح-خصومه. لأن الجهاز المرجعي لليعقوبي ليس بنفس قوة الجهاز المرجعي الحالي للسيستاني، والذي هو الامتداد الرسمي لمرجعية الخوئي ومن قبله محسن الحكيم، وشبكات العلاقات والموارد والوكلاء.  

وينبغي هنا لحظ تاريخ العِلاقة القلقة بين الصدر والنجف «مرجعية السيستاني» منذ الغزو الأمريكي للعراق، وليست خلافات مُستحدثة، بل قد ورث ذلك الخلاف عن والده محمد الصدر الذي كان على خلاف دائم مع مرجعيات النجف وكان دائم النقد لهم بسبب تقليديتهم وبُعدهم عن الشأن العام أو ما سماه بـ «الحوزة الصامتة» مقابل «الحوزة الناطقة» المُتمثلة في مرجعيته. وفي المقابل، كان مراجع النجف يجردونه من مرجعيته وأعلميته، ولا يزال هذا الخلاف قائمًا مع اختلاف المسببات والأدوار.     

  • استهداف الحائري وإيران: أيضًا استهدف مُقتدى الصدر من وراء دعمه لليعقوبي، مرجعية كاظم الحائري الذي يُنكر مرجعية اليعقوبي واجتهاده، فقد سُئل الحائري (المدعوم إيرانيًا) من قبل عن تقليد اليعقوبي فأجاب: «لا يجوز تقليد الشيخ محمد اليعقوبي، ولا يجوز تسليم الحقوق إليه بعنوان مُجتهد ولا يُمكن الاعتماد على فتاويه لأنّه غير مجتهد».  وإذا كانت استقالة الحائري في أغسطس 2022م وتنحيه عن أمور المرجعية، قد فُهمت حينئذ على أنها ضرب للصدر والتيار الصدري وإنهاء له، فكأن الصدر بإظهاره رسالة والده المادحة لليعقوبي، كأنه أراد التأكيد على استمرارية مدرسة والده وأنها لم تنته باستقالة الحائري وتنحيه عن التصدي للمرجعية، وبالتالي يُمكن للتيار الصدري اللجوء إلى تلك المرجعية عند اللزوم! مع أن الصدر نفسه صرح في أغسطس 2022م، بعد استقالة الحائري، أن «النجف هي المركز وهي المقر الأكبر والأهم للمرجعية»، وقد استعمل تلك المفردات حينئذ للتحصن بها ضد مرجعية الحائري القويّ والمدعوم من إيران، أما اليوم فهو يتحصن ببيان والده ومرجعية اليعقوبي ضد النجف.  
  • التحضير لمرجعٍ صدريٍّ يخلف السيستاتي: دخل الصدر في جَدل كبير منذ فترة مع المرجع كمال الحيدري، ثم مع منير الخباز، ثم مع الحائري وأخيرًا مع النجف نفسها، وفُهِمت تلك المعارك الدينية على أنها تحضير لمرحلة ما بعد السيستاني، حتى ذهب البعض إلى أن الصدر يُرتب نفسه ليصير مرجعًا بعد السيستاني، بِيد أن أحد قادة الصدريين قال في لقاء إعلامي: إن «التيار الصدري يُجهز مرجعًا من أبناء التيار سيتم الإعلان عنه قريبًا، سيكون هو المظلة الشرعية للتيار الصدري». ومن المحُتمل أن التيار الصدري يُؤجل إعلان هذا المرجع لمرحلة ما بعد السيستاني حتى يُمكنه المنافسة في حالة الفراغ التي ستُخلق بعد السيستاني. وبغض النظر عمن هو؟ إلا أن عملية تحضير المرجع، أيّ مرجع، بتلك الطريقة يضع علامات استفهام حول استقلاليته وقُدرته على مواجهة التيار السياسي أو الديني الذي ينتمي إليه، اللهم إلا إذا كان مرجعًا حزبيًا يعمل لصالح تيار أو حزب أو جماعة دون عموم الجماعة الشيعية.

رابعًا: الأثر السياسي لتفاعلات التنافس على المرجعية

يبدو ذلك التنافس والسباق على ترتيب مسألة المرجعية في مرحلة ما بعد السيستاني مفهومًا في سياق الظرف الإقليمي الراهن، وكذلك في إطار محاولة التيار الصدري المشاركة الفاعلة في إيجاد بدائل لمرحلة ما بعد السيستاني، فقد غابت المرجعية عن «الصدريين» منذ غياب الصدر الأول «محمد باقر الصدر» والصدر الثاني «محمد الصدر»، وبالتالي فإن «الصدريين» اليوم يسعون إلى تغيير أوراق ترتيبات ما بعد السيستاني التي يتولاها البعض، فدعم الصدرُ اليعقوبيَّ باعتباره تلميذًا لوالده وتتجاوز مؤقتًا عن الخِلافات القديمة بينهما، والصدر نفسه هو الذي دعم الحائري من قبل ضد اليعقوبيّ.

وهنا ينبغي أن يُفهم موقف طهران من ذلك الخلاف؟ فاليعقوبيّ وإن كان يؤمن بولاية الفقيه، إلا أنه يُخالف الخميني في تفاصيلها وجزئياتها، مثل القول بشموليتها دون مراعاة قبول الناس، والقول بلا محدوديتها جغرافيًا وهو أيضًا ما يُخالف اليعقوبيُّ الخمينيَّ فيه ومثل قول الخميني إن للولي الفقيه أن يتصرف في نفوس الناس وأموالهم وأعراضهم إذا اقتضت المصالح ذلك، وهو ما لا يستسيغه اليعقوبي، إذ يرى إمكانية تعدد الولي الفقيه باعتبار تعدد البلدان وقرار أهل الحِل والعَقد «وهم أساتذة الحوزة في نظره». أما المرجعية العليا الممثلة في مرجعية السيستاني والإرث النجفي الممتد مذ زمن النائيني ومحسن الحكيم والخوئي، فهو رفضُ ولاية الفقيه الشاملة وحصرها في الأمور الحسبية فقط، وبالتالي تسعى النجف للاستمرار على نفس الخطّ وتحاول توريث خط المرجعية لمن هم على نفس النمط وذات المقاربة مثل باقر الإيرواني أو السبزواري ونحوهما.   

أما الصدر، فأهدافه متعددة ومتقلبة، فرغم خلافه القديم مع اليعقوبي إلا أنه دعمه هذه المرة في خلافه مع النجف، ورغم اتفاقه القديم مع الحائري إلا أنه اشتبك معه بعد استقالته من المرجعية ودعم النجف في مواجهته. أيضًا رغم هجومه العنيف على السيد منير الخباز في يونيو من العام الماضي 2024م، لدرجة تشكيكه في تشيعه وأهليته ومرجعيته، إلا أنه عاد والتقى به منذ أيام «مارس 2025م» في بيته بالنجف، وصدر بيانٌ عن مكتب الصدر يفيد بالتواصل بين الطرفين، ومما جاء فيه: «ضرورة التواصل الودي والعلاقات الطيبة»، في المقابل شكر الخبازُ الصدرَ على «حفاوة الاستقبال». وخرجت تسريبات تُفيد أن الخباز نقل رسالة للصدر من السيد محمد رضا السيستاني (ابن المرجع)، وتنبأت بعض التقارير أنها بخصوص مجمل العملية السياسية في العراق، وأنه من المحتمل أن تكون من باب حثّ الصدر على المشاركة في الانتخابات المقبلة ودعم المرجعية له، لكن يبقى هذا كله في إطار التكهنات. بيد أن الذي لا يمكن تجاهله أن ثمة حِراكًا داخليًا في النجف، فربما أراد الصدر أن يضغط على المرجعية العُليا بعد دعمه لليعقوبي حتى ينال دعمًا منها في الانتخابات المقبلة، أو للوصول لتسوية تضمن فاعليته في المشهد السياسي مقابل دعمه للمرجعية ضد خصومها. إذا صحت هذه الفرضية فنحن أمام مصلحة متبادلة وتخادم مصلحيّ متغير وفقًا للظرف والسياق، ولسنا في صدد تحالفات استراتيجية طويلة الأمد.

في كل الأحوال تبدو حِظوظ طهران صعبة في ذلك التنافس الجاري، ذلك أن كل المتنازعين في النجف لهم خلافات سياسية وفكرية مع طهران، إلا أن إيران تفرض ميليشياتها «الولائية» المسلحة كواقع في المشهد السياسي العراقي لتستبدله بضعفها، وبالتالي فالسؤال المهم في هذا السياق هل يمكن لتلك الميليشيات والأذرُع أن يكون لها دور فاعل في تحديد اسم المرجع القادم؟ الجواب قطعا لا، لأن عملية اختيار المرجع ومؤهلاته وشروطه متعلقة جميعها بالمسألة الفقهية والأهلية العلمية والقبول الحوزوي، ومن ثم يمكن لإيران أن تضغط من خلال مراجع موالين لا من خلال الميليشيات والأذرع، وأولئك المراجع الموالين أو المقربين لطهران ليسوا اليوم في وضع يسمح لهم بمنافسة النجف وخط المرجعية، ومن هنا يمكن فهم التحالفات المستمرة والمتغيرة للنجف والصدر واليعقوبي وغيرهم من الفاعلين.

خاتمة: مآلات الخلاف في الحوزة   

يمكن القول إن الخلاف الدائر اليوم في النجف هو محاولات حثيثة من كافة الأطراف لترتيب مرحلة ما بعد السيستاني، وضمان دور حوزوي فاعل، وتلك التحالُفات القائمة هي تحالفات براغماتية تكتيكية في الحقيقة، وليست تحالفات استراتيجية أو مبنية على رؤى واحدة ومصالح قطعية، وبالتالي فهي دائمة التبدل والتغيُر وفقًا للظروف والمعطيات، وليست ثابتة طوال الوقت. كذلك فإنّ ملء الفراغ الحوزويّ بعد السيستاني ليس سهلًا، بل أمرٌ معقد ومتشابك، في ظل وجود خلفاء محتملين من ذات مدرسة السيستاني أقوياء ولهم قبول وشياع لدى عموم الجماعة الشيعية. وما يحصل اليوم من خِلاف يصل حد التراشق والاتهامات في الأعلمية والفقه وأحيانًا في الذمم المالية، ربما يتفاقم بعد غياب المرجعية العُليا الضابطة والمانعة دون تفاقُم الخلافات وانزلاقها إلى مستويات أكبر. إذ ستسعى جميع الأطراف للهيمنة الفاعلة على المشهد الحوزوي بُرمته وتحاول التأثير في عموم طلبة العلوم الشرعية وجماهير الشيعة وحواضن التقليد، والسيطرة على عصب اقتصاد الحوزة وشبكات المصالح في الداخل والخارج. ولذا؛ فإنه من المتوقع أن تكون مرحلة ما بعد السيستاني هي المرحلة الأصعب بالنسبة للحوزة في العصر الحديث، لكن المؤكد أن حظوظ طهران في ترتيب مشهد ما بعد السيستاني ضعيفة وفقًا للفاعلين المتنازعين اليوم في قلب النجف باعتبار خلافهم جميعًا مع طهران.


 [ME1]يذكر أن الحزب تأسس عام 1991

 [ME2]حسب المنشور والمؤرخ على جوجل فإن الحزب تأسس في عام 1991م

 [ME3]الشيخ محمد باقر الإيرواني

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير