الصين والولايات المتحدة في سباق محموم نحو القمر

https://rasanah-iiis.org/?p=35235

نشهد الآن بداية سباقٍ محموم نحو الفضاء؛ في هذا المضمار، لا تتّبِع بكين تقنية الهندسة العكسية، ولا تسير حتى على خُطى الولايات المتحدة والدول المتقدِّمة الأخرى. فقد أدلت الصين بتصريحاتٍ جريئة، لا سيّما بعدما حقَّقت عددًا لا يُستهان به من  الخطوات الاستباقية، ضمن فترةٍ زمنية فرضتها هي على نفسها، على عكس منافستها العملاقة «ناسا» الأمريكية، وبقية الدول المتقدِّمة. 

في 3 مايو، انطلقت المركبة الفضائية الصينية «تشانج-6»، من موقع إطلاق المركبات الفضائية «نانتشانغ» في جنوب الصين، متّجِهةً نحو الجانب المظلم من القمر، في مهمَّةٍ تستغرق 53 يومًا. لقد أصبحت الهند في أغسطس الماضي، رابع دولة تُجري هبوطًا بالقُرب من القطب الجنوبي للقمر. إلّا أنَّ الرحلة الصينية الأخيرة نحو القمر اتّخذت خطواتٍ أبعد قليلًا، بتنفيذ أهدافٍ أخرى للحصول على عيناتٍ تحتوي على موادٍ مستخرجة من طبقاتٍ تحت سطح القمر، سعيًا منها لاستنباط أفكارٍ وتصوُّرات عن تاريخ الكون. ستدرُس بكين أقطاب الشمس من الجانب البعيد للقمر، وتبحث عن كواكب أخرى، من خلال تركيب عدد من التلسكوبات. وتأمل الصين ليس فقط بالبحث عن الماء وآثار الكون المبكِّر، لكن أيضًا العثور على بعض المعادن، خصوصًا النادرة منها؛ وذلك لأنَّ الجانب البعيد يختلف عن السطح، وهو أكثر سُمكًا من الناحية الجيولوجية. وقد طُرِحت بالفعل، فكرة إنشاء الممرّ الاقتصادي بين القمر والأرض.

لا تزال تعقيدات العملية، التي تحيط بعملية تسليم العيّنات من القمر إلى منطقة منغوليا الداخلية، من وحي الخيال العلمي. سوف تنفصل مركبة الهبوط عن المركبة المدارية باتّجاه الحافّة الجنوبية من فوَّهة أبولو، التي تقع على الجانب البعيد من القمر، حيث من المتوقَّع أن تهبِط في أوائل يونيو المقبل. وسيجمع المسبار باستخدام أداة الحفر، لاستخراج وجمع المواد الموجودة تحت وفوق سطح القمر، من حوض «أيتكين» في القطب الجنوبي، وهو فوَّهة صدمية على القمر، يبلغ قطرها 2,500 كيلومتر تقريبًا، ويعود تاريخها إلى المرحلة المبكِّرة للكون. وبعد ذلك، سوف تنطلق المركبة نحو مدار القمر، بواسطة كبسولة الصعود. وستكون العملية مؤتمتة بالكامل، أو مبرمجة مُسبَقًا؛ نظرًا لوجود بعض المشاكل، التي تتعلَّق بالاتصالات. وستلتقط المركبة المدارية الكبسولة، مثل كرة البيسبول، التي تسقط في قفّاز اللاعب، وهي تسير بسرعة 1.68 كيلومتر في الثانية، بمجرد وصولها إلى مدار القمر. وعند وصول العيّنات إلى الطريق نحو الأرض، تنتظر تلك العيّنات معضلة أخرى، تتمثَّل في إعادة دخولها إلى الغلاف الجوي.

لن تبوح الصين، مثلها مثل أيّ دولة أخرى كما هي العادة، بكامل التفاصيل لمساعيها في مجال الأبحاث والمواد والبيانات، التي سوف تجمعها. وعلى سبيل المثال، اكتشف الخبراء عربة جوّالة تركب على مركبة الهبوط مشابهة لمركبة الفضاء «تشانغ-6»، والتي قد تكون مجهَّزة بجهاز تصوير طيفي يعمل بالأشعة تحت الحمراء. وبعد عودة مركبة الهبوط، سوف تُفحَص عيّنات التربة النموذجية في معاهد مختلفة في الصين. ولا يمكن لاحد أن يخمِّن ما إذا كانت بكين ستشارك غبار القمر مع وكالة الفضاء الأوروبية، أو «ناسا»، أو أيٍّ من وكالات الفضائية الأخرى. استغرق المسبار القمري «تشانغ-اه 5» المخصَّص للأبحاث العالمية عامين ونصف العام، بعد رحلة هبوطه في عام 2019م لإحضار العيّنات.

على الرغم من أنَّ الضغط الأمريكي يُقيِّد من التعاون الأوروبي مع الصين، إلّا أنَّ «تشانغ اه-6» يحتوي على تقنية فرنسية؛ للكشف عن أماكن إطلاق غاز الرادون من سطح القمر، والذي سيوفِّر معلومات عن الغلاف الجوِّي للقمر. أرسلت السويد ومحلِّل الأيونات السالبة على سطح القمر (NILS)، وهو جهاز طُوِّر في السويد بدعمٍ من وكالة الفضاء الأوروبية، ويهدُف لدراسة تأثير الرياح الشمسية. واحتوت المركبة الفضائية الصينية أيضًا على كيوبسات «إي-كيوب كيو» من صُنع باكستان، على متنها.

تُخطِّط الصين لإرسال مركبة مأهولة، بها ثلاثة روّاد فضاء إلى القمر في عام 2029م، كجزءٍ من احتفالات الذكرى 80 لجمهورية الصين الشعبية. وفي حال نجحت مهمّتها إلى الفضاء والقمر، فإنَّ بكين تُخطِّط، بناءً على ما تحقَّق سابقًا، لإرسال «تشانغ اه-7» في عام 2026م، و«تشانغ اه-8» قبل المهمَّة ذات المستوى العالي، وسوف يشمل ذلك إجراء اختبارات باستخدام التربة القمرية؛ من أجل صُنع طوب بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، استعدادًا لإنشاء قاعدة مأهولة.

أثبتت بكين مِرارًا وتكرارًا قُدرتها منذ عام 2019م، على إطلاق المركبات الفضائية من منصّات إطلاقٍ عائمة باستخدام غازٍ مضغوط بارد، ومزوَّدة بفئات حمولة متفاوتة. ومع تزايُد المنافسة بين شركات الإطلاق الخاصة، تتّجِه الصين نحو إدخال إنتاج مركبات الإطلاق الفضائية بصورة تجارية، وغيرها من الأدوات؛ لتلبية احتياجات الشُركاء المحلِّيين والدوليين، لضبط احتدام المنافسة بين شركات الإطلاق الخاصَّة. وتُعَدُّ الصين إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، ثالث دولة تدير محطّتها الفضائية «تيانجونج»، التي يمكنها أن تستضيف ثلاثة روّاد فضاء لفترة ستة أشهر في كل مرَّة. ومن المقرَّر أنَّ وكالة الفضاء الوطنية الصينية، التي تعمل منذ عام 2021م، ستُضيف وحدتين أخريين؛ الأمر الذي يسهم في مضاعفة عدد روّاد الفضاء المقيمين. وعلى الرغم من صغر حجم قاعدة الفضاء الصينية، إلّا أنَّها قادرة تمامًا على تحقيق الأهداف الطموحة للبلاد. ويوازي «نظام بايدو للملاحة بالأقمار الاصطناعية» الصيني، أيضًا، «نظام تحديد المواقع العالمي» الأمريكي.

بعد مرور نصف قرن على الهبوط الأول على سطح القمر، قد تتمكَّن الصين من أن تترك بصماتها على القمر، باستخدام مركبة إطلاقٍ فائقة الثقل، وكبسولة عودة إلى الغلاف الجوِّي، ومركبة قمرية للهبوط والصعود. وقد تمكَّنت بكين بالفعل من إنجاز جميع ما سبق ذكره، باستثناء إرسال كبسولة مأهولة.

وعلى عكس إسرائيل والهند واليابان، التي حظِيَت جميعها بدعمٍ علمي وتقني كامل من وكالة «ناسا»، إلّا أنَّ الصين تقوم بتطوير التقنية الفضائية بمفردها. أمّا روسيا، فلا تستطيع مؤسَّسة «روسكوزموس» الحكومية للأنشطة الفضائية الروسية، إجراء هبوطٍ على سطح القمر بنجاح؛ بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ غزوها لأوكرانيا.

في حال اكتشفت الصين الماء على سطح القمر، سيصبح السباق نحو الفضاء على أوجّه لتقييم كمِّيات المياه على سطحه، وتطوير طُرُق الاستخراج ضمن الجاذبية القمرية، وإمكانية فصْل الهيدروجين والأكسجين لتغذية الصواريخ وللاستهلاك البشري. وتتوفَّر بالفعل أجهزة لقياس الزلازل والبراكين، وتسجيل درجة حرارة التربة. وتُجري الصين بشكلٍ منفرد أبحاثها الخاصَّة على الجانب البعيد من القمر، منذ عام 2019م.

لطالما تجاهلت الولايات المتحدة القمر، بينما عمِلَت على تطوير المعرفة والتقنيات من أجل دراسة المريخ والكويكبات وتاريخ الكون. ومن المقرَّر أن تستأنف «ناسا» المهام المأهولة في عام 2025م، تليها الصين ووكالات الفضاء الأوربية واليابان. ويمكن أن يؤدِّي اكتشاف خزّانات المياه على سطح القمر، إلى بدء منافسةٍ جديدة في مجال الموارد الفضائية والقوَّة العسكرية.

ونظرًا للأهمِّية الإستراتيجية والتكلفة المالية المتصاعدة، لن تتوفَّر قاعدة في الفضاء أو الأجرام الكوكبية للبحث العلمي. ويعني وجود المؤسَّسات ذات الاستخدام المزدوج، منافسةً حادَّة للتنقيب عن المعادن والقوَّة العسكرية.

اتفاقيات «أرتميس» المُبرَمة عام 2020م، هي ترتيبات ثنائية بين حكومة الولايات المتحدة والدول الأخرى، للتداول بشأن معايير الفضاء الخارجي، التي من بين أعضائها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، كما تشجِّع الصين في الوقت نفسه المشاركة في المحطَّة الدولية لأبحاث القمر منذ عام 2023م، التي من بين أعضائها روسيا وتركيا ومصر وباكستان. 

وعلى الرغم من أنَّ الولايات المتحدة، تحتفظ بالعديد من المحطّات الأرضية للاتصال بالفضاء العميق، فإنَّها تنظر بقلقٍ إلى محطَّة «إسباسيو ليجانو» الصينية، في نيوكوين بالأرجنتين. وتقع محّطتا بكين الأُخريين على أراضيها.

في خِضَمّ تجدُّد المنافسة العالمية في الفضاء الخارجي والاستقطاب السياسي غير المسبوق، منذ نهاية الحرب الباردة، يبدو أنَّ إنشاء فريق عامل تابع للأُمم المتحدة مختصّ بالمسائل القانونية، والمكلَّف بوضع المبادئ لاستغلال موارد الفضاء بحلول عام 2027م، يبدو أنَّه بعيد المنال. تستغِلّ الكيانات الخاصَّة والجِهات الفاعلة الحكومية القفزات في المجال التقني، وقد يزيد ذلك من تفاقُم  وجود تهديد التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، وفي الوقت نفسه فقد عفا الزمن على «معاهدة الفضاء الخارجي» لضيق نطاقها.

إذا كان القمر ميدان اختبار للمريخ، فسيكون أيضًا نموذجًا للمصانع لبناء الأسلحة، وإنشاء محطّاتٍ للتشويش على الأقمار الصناعية لتصفية الحسابات على الأرض. وقد أظهرت الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند بالفعل، القُدرة على إطلاق الأقمار الصناعية من الأرض، وفي حال اختارت إحدى الدول أن تُجرِّب تقنيةً معيَّنة في القمر، فسيحذو الآخرون حذوها.

يعمل التقدُّم، الذي وصلت إليه الصين في الوقت الحالي بمجال استكشاف القمر، على رفْع وتيرة منافسات القُوى العُظمى على الأرض. وفي حال تمكَّنت بكين من استخراج عيّنات التربة من سطح القمر، فسوف تحاول تجربة نفس الشيء على المريخ أيضًا، وهي المهمَّة التي لم تتمكَّن «ناسا» ووكالة الفضاء الأوروبية من تحقيقها حتى الآن.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير