في تطوُّر أمني سيبراني كبير، وعلى مدى يومين متتاليين، شهِدَت مناطق متفرِّقة في لبنان، سلسلةً من الانفجارات المتزامنة، التي استهدفت عناصر حزب الله بشكل مفاجئ. وما جعل المشهد أكثر غموضًا، أنَّ هذه الانفجارات لم تكُن نتيجة قصْف جوِّي أو صاروخي، بل من أجهزة نداء واتصال لاسلكي يحملها منتسبو حزب الله؛ ما أدَّى إلى مقتل نحو 30 شخصًا وإصابة أكثر من 3000 آخرين.
يطرح هذا التطوُّر تساؤلات عديدة، منها ما هو مرتبط بسياقات العملية الزمانية والمكانية، وبالخرق الذي يواجهه حزب الله داخل منظومته في لبنان وسوريا، ومنها ما هو مرتبط بخلفيات تنفيذ إسرائيل هذه العملية الواسعة والمربِكة بالنسبة للحزب، وما إذا كانت مقدِّمةً لحرب واسعة، أم مجرَّد رسالة تندرج ضمن الحرب النفسية، بالإضافة إلى كيفيةِ استجابةِ حزب الله وردِّه على العملية.
أولًا: سياقات وتوقيت الحادثة
أشعلت عمليات التفجير التي حدثت لأنظمة الاتصال والنداء في لبنان، العديدَ من الفرضيات والتساؤلات عن طريقة تنفيذ العملية، وكيف تمكَّنت من اختراق هذه الأجهزة؛ هل فجَّرتها عن بُعد، أم أنَّ الأجهزة كانت ملغَّمةً مُسبَقًا. ومن بين التفسيرات، كانت احتمالية اختراق أجهزة التواصل والنداء، وتثبيت برامج خبيثة تؤدِّي إلى ارتفاع درجة حرارة البطارية بصورة كبيرة تؤدِّي إلى انفجارها. كما يُشير البعض إلى أنَّ الاختراق تمَّ عبر إرسال كمِّيات ضخمة من المعلومات، بالشكل الذي فاق قُدرةَ الجهاز؛ ما أدَّى إلى انفجاره. وهناك رأيٌ آخر يقول إنَّ الأجهزة كانت مزوَّدةً بمتفجِّرات، أو شحنة/فتيل، أو مصنوعة من مواد حسَّاسة للحرارة، والتي يمكن أن تمُرّ عبر فحوصات الأمن، وانفجرت عند إشارة من الخادم.
ولم تتبنَّ أيّ شركة تصنيع طراز أجهزة البيجر، فاليابان قالت إنَّها أوقفت تصنيعها قبل حوالي عشر سنوات، كما نفت شركة «غولد أبولو» التايوانية تصنيعها لهذه الأجهزة، ووُجِّهت أصابع الاتّهام لشركة مجرية، حيث تتمتَّع الأخيرة بعلاقات وثيقة مع روسيا وصربيا وبيلاروسيا، وبما أنَّ سلسلة توريد إيران وميليشياتها محدودة، فقد أصبحت شركة تصنيع أجهزة النداء، التي تتّخِذ من بودابست مقرًّا لها، الخيارَ المفضَّل لطهران. يتمتَّع حزب الله بشبكة ناشئة لغسيل الأموال وتهريب التكنولوجيا والاستخبارات البشرية في أوروبا، والأفضل من ذلك في أجزائها الشرقية. نظرًا لاختراق إسرائيل للبنان وإيران، فقد تتمكَّن من استباق أمر الشحن بالكامل، أو رُبَّما اختراق عملية التصنيع نفسها منذ البداية. وعمومًا، لا تُوجَد سيناريوهات معقولة فحسب، بل هناك عددٌ كبير من السيناريوهات الأخرى المطروحة، ومعظمها مبنيٌ على نظريات المؤامرة، أو بعيدة المنال من الناحية التكنولوجية.
وبغضِّ النظر عن الفرضيات المفسِّرة لهذه الحوادث، تجدُر الإشارة إلى أنَّ حوادث تفجير أجهزة النداء والاتصال اللاسلكي في لبنان، تزامنت مع العديد من الأحداث والسياقات المرتبطة بكُلٍّ من حزب الله وإسرائيل، من بينها:
- ضغط إسرئيلي متواصل على حزب الله
تزامنت حوادث التفجير في توقيتها، مع مسارات عدَّة انتهجتها إسرائيل؛ بهدف الضغط على حزب الله، ومن بينها تكثيف عسكري للضربات الجوِّية الإسرائيلية على بيئة حزب الله، كوسيلة لإجباره على الانسحاب إلى ما قبل نهر الليطاني. بجانب توجيه موجة من التهديدات المتزايدة، والتصريحات حول الاستعداد لشنِّ حربٍ على لبنان، أو توسيع العمليات العسكرية. فمنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر2023م، دأبت إسرائيل على التهديد بتنفيذ عملية عسكرية في لبنان للقضاء على التهديد الذي يمثِّله حزب الله للشمال الإسرائيلي. ومن هُنا، جاء تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في أثناء حديثه مع نظيره الأمريكي لويد أوستن، بأنَّ إسرائيل ملتزمة بإبعاد حزب الله عن الحدود. بجانب ذلك، كان هناك أيضًا مسار تفاوضي ودبلوماسي، دأبت إسرائيل على انتهاجه؛ من أجل استقطاب دعْم دولي للضغط على حزب الله ولبنان. واللافت هُنا أيضًا، أنَّ العملية الإسرائيلية، التي استهدفت أجهزة النداء والاتصال لحزب الله أتت بعد ساعات قليلة من إعلان إسرائيل إحباط مخطَّط يقِف خلفه حزب الله، كان يهدُف إلى اغتيال مسؤول أمني إسرائيلي كبير.
2. جزء من الحرب الإسرائيلية التي تشنّها إسرائيل في لبنان وسوريا وإيران
كذلك تأتي الحادثة في توقيتها كجزءٍ متواصل من الحرب، التي تشنّها إسرائيل في المنطقة، إذ تأتي بعد عمليات استهداف لقيادات مهمَّة للحزب، ومن بينها اغتيال إسرائيل للقائد العسكري الكبير في حزب الله، فؤاد شكر في بيروت في 30 يوليو 2024م، واغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في 31 يوليو 2024م، بالعاصمة الايرانية طهران. كما أنَّها جاءت بعد أيام قليلة من العملية الكُبرى، التي شنّتها تل أبيب في سوريا، باستهدافها مركز البحوث في مصياف السورية. وبالتالي، تشكِّل عملية تفجير أجهزة التواصل الخاصَّة بعناصر وقيادات حزب الله، حلقةً أخرى في مسار التصعيد الإسرائيلي، ليس فقط ضدّ حزب الله اللبناني، بل ضدّ إيران ذاتها؛ ما يضعُ الأخيرة في معضلة كبيرة، من جرّاء سلسلة الاختراقات الاستخباراتية الكبيرة والمحرِجة والمتكرِّرة.
- ضغوط داخلية على الحكومة الإسرائيلية
تتعرَّض حكومة بنيامين نتنياهو لضغوطٍ متزايدة لمعالجة الوضع في الشمال، وترتيب عودة آمنة للنازحين الإسرائيليين. وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤخَّرًا صحيفة «معاريف» العبرية، أنَّ 62% من الإسرائيليين يؤيِّدون شنّ حربٍ حاسمة على حزب الله. وفي إشارة إلى هذا الاحتمال، أشارَ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مؤخَّرًا إلى فتْح جبهة جنوب لبنان على نطاقٍ واسع، هذه الجبهة التي يراهن من خلالها على تغيير الواقع الأمني على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية.
ثانيًا: الرسائل الإسرائيلية من العملية
إنَّ توقيت الحدث الحالي ومدى اتّساع نطاقه، يحمل رمزيةً مهمَّة ودلالاتٍ عدَّة للداخل والخارج اللبناني، ومنها:
- الجانب الإسرائيلي أرادَ وسط الضغوطات الداخلية على حكومته والتهديدات الرسمية، التي يطلقها بتوسيع الحرب والمحاولات الدولية لتبريد الجبهة الجنوبية للبنان، توجيه رسالة واضحة للجميع، بأنَّه قادر على توجيه ضربة قوية لحزب الله، دون تكبُّد خسائر ميدانية كبيرة أو تكاليف عسكرية باهظة.
- كشفت العملية أنَّ تل أبيب أرادت أن ترسل إلى حزب الله تحديدًا، رسالةً إسرائيلية نوعية عن مستوى القُدرات السيبرانية الإسرائيلية، وبأنَّها قادرة على تصعيد الخرق الأمني تجاه الحزب، لا سيّماأنّ حزب الله يواجه تحدِّيات كبيرة في استخدام التكنولوجيا؛ بسبب الاختراقات الإسرائيلية، ما يدفعهُ إلى الاعتماد على وسائل بدائية،كطريقة أقل تقدُّمًا للتهرُّب من إشارات الاستخبارات الإسرائيلية لاعتراض اتصالات الحزب. وكان قائد حزب الله، حسن نصر الله، قد حذَّر في وقت سابق أعضاءَ الحزب من أهمِّية عدم حمْل الهواتف المحمولة، مُدرِكًا أنَّ محادثات الهاتف المحمول يمكن اختراقها وتتبُّعها بسهولة؛ وبالتالي، لخَّص الحادث بأنَّ إسرائيل تمتلك القُدرة على اختراق وسائل الاتصالات البدائية، والتلاعب بأنظمة عادية على ما يبدو وتسليحها، وإضعاف قُدرة الحزب على الالتفاف على القُدرات السيبرانية المتقدِّمة لإسرائيل، وهو ما يعني إعادةً لتعريف قواعد الصراع بين الجانبين، وتفوُّق إسرائيل أمام خصومها.
- على الرغم من أنَّ عمليات التفجير لأجهزة النداء والاتصال اللاسلكي حدثت في معظمها بينأعضاء حزب الله، لكن اللافت أنَّها وقعت في خِضَمّ حياتهم العادية، وفي قلب مجتمعاتهم، وهذا أكثر زعزعةً للاستقرار من سلسلة عمليات القتل، التي نفَّذتها إسرائيل مؤخَّرًا، والتي أودت بحياة مسؤولين ومقاتلين. وبالتالي، أرادت تل أبيب من هذه العملية،تكوين شعور في صفوف منتسبي حزب الله بأنَّه مُخترَق بالكامل من قِبَل الاستخبارات الإسرائيلية؛ وبالتالي إحداث تأثير نفسي وحالة من القلق وانعدام الثقة الداخلية.
- إنَّ امتداد عملية الاختراق لسوريا لتشمل حوادث تفجير متزامنة مع ما حدث في لبنان، بجانب إصابة سفير إيران في لبنان، يساهم بمزيد من التأكيد على قُدرات إسرائيل في كشْف واختراق صفوف حزب الله وارتباطه الهيكلي بإيران.
ثالثًا: سيناريوهات ردّ حزب الله
تترقَّب تل أبيب طبيعةَ وكيفيةَ الردّ، الذي سيقوم به حزب الله تجاه العمليات، التي نفَّذتها إسرائيل في لبنان، والتي خلَّفت قتلى وآلاف الجرحى. وبحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإنَّ حكومة نتنياهو استنفرت قوّاتها ومختلف أجهزتها، تحسُّبًا لمواجهة أوسع نطاقًا مع حزب الله، فيما وضعت أجهزتها الأمنية في حالة انعقاد دائم؛ لبحث كافَّة السيناريوهات المُحتمَلة، التي قد يلجأ إليها حزب الله، خاصَّةً في ظل تهديدات الحزب بالردّ على العملية. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى السيناريوهات المُحتمَلة، التي قد يلجأ إليها حزب الله:
1. السيناريو الأول: ردّ واسع يُفضي لحرب شاملة
وهذا السيناريو يأتي في حال اتّخذَ حزب الله اللبناني قرارًا بتغيير قواعد اللعبة في الصراع مع إسرائيل، بتوسيع نطاق العمليات العسكرية لتطال العُمق الإسرائيلي، وباستخدام صواريخ باليستية بقوَّة تدميرية واسعة وبمديّات عالية، وبانخراط مكثَّف من كافَّة الميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران في كافَّة ساحات النفوذ في توقيت متزامن، بتكثيف ضرباتها ضدّ إسرائيل. كما لا تُستبعَد مشاركة الحرس الثوري الإيراني؛ للانتقام من إسرائيل على استهدافها سيادةَ إيران وهيبتها باغتيالها إسماعيل هنية على أراضيها، لكن هذا السيناريو غير مرجَّح على ضوء عدَّة عوامل، من بينها إدراك حزب الله وإيران والميليشيات المسلَّحة، أنَّ التفجيرات سياسةٌ من نتانياهو نفسه لاستدراج حزب الله لشنِّ هجمات ضدّ إسرائيل لتعطي تل أبيب المبرِّر لشنِّ الحرب على لبنان أمام المجتمع الدولي؛ وبالتالي لن يحقِّق حزب الله لنتنياهو هدفه، وإن شكَّل ذلك إحراجًا لقادة الحزب، كما أنَّ حزب الله وإيران يدركان أنَّه ليس من صالحهم الدخول بحرب شاملة ستكون مُكلِفةً للغاية.
2. السيناريو الثاني: التغاضي عن الردّ لتفويت رغبة نتنياهو في جرِّ حزب الله للحرب
مع ارتفاع وتيرة التوتُّر في الفترة الأخيرة بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله على طول حدود جنوب لبنان، ارتفعت احتمالات شنّ إسرائيل لعملية عسكرية واسعة ضدّ حزب الله. وزادت تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو للبنان، خلال اليومين الماضيين، عندما أكَّد استعداد حكومته لتوسيع العملية العسكرية على الجبهة الشمالية؛ بهدف إعادة سُكّان المستوطنات. هذه التهديدات الإسرائيلية، قد تقود حزب الله للاكتفاء بالتهديد أو التغاضي عن الردّ بهدف تفويت الفُرصة على نتنياهو، الذي يبحث عن ذريعة لتوريط حزب الله في حرب جديدة قد تكون مدمرِّةً للحزب، وكذلك للبنان، الذي يمُرّ بأزمات سياسية واقتصادية.
- السيناريو الثالث: الردّ المحسوب
يُشير هذا السيناريو إلى أنَّ حزب الله على الأرجح لن يتنازل عن الردّ على هذا الهجوم الإسرائيلي، غير أنَّ هذا الردّ سيكون منضبِطًا ومحسوبًا، حيث لا يقود إلى تغيير قواعد الاشتباك الراهِنة؛ وبالتالي من المُحتمَل أن يكون الردّ على غرار ردّ الحزب على عملية الاغتيال، التي استهدفت قادة الحزب والمقاومة في لبنان، خلال الشهور الأخيرة، التي أعقبت حرب غزة. على سبيل المثال؛ الردّ على عملية اغتيال القيادي في حماس صالح العاروري، أو عملية اغتيال القائد العسكري البارز في حزب الله فؤاد شكر، وغيره من القادة البارزين في الحزب. وطبيعة هذا الردّ رُبَّما تتجاوز بشكلٍ محدود الردّ على هذه العمليات، لكنّها لن تكون واسعة النطاق، ورُبّما سيحاول حزب الله أن يؤمِّن لهذه العملية المتوقَّعة الظروف التي لا تسمح بأن يُجرَّ حزب الله أو لبنان إلى حرب شاملة، وذلك من خلال أخْذ وقت، كما جرى في الردّ على شكر، وكذلك اتّباع سياسة إعلامية ترفع من سقْف التوقُّعات. حتى إذا ما جاءت الضربة محدودة، يتِمّ قبولها مع رجوع الطرفين إلى قواعد الاشتباك الراهنة، ورُبَّما ينسِّق حزب الله مع إيران؛ من أجل الردّ على هذا الهجوم، باعتبار أنَّ السفير الإيراني كان أحد العناصر المُستهدَفة، وهو ما تعتبرهُ إيران كاستهداف مباشر لها، كما جرى بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قيادات إيرانية هناك من جانب إسرائيل، والذي استلزم هجومًا مباشرًا لكنّه محسوبٌ بدقَّة من إيران على إسرائيل، حيث لا يجُرّ طهران إلى الحرب الأوسع نطاقًا. ضمن هذا السيناريو، ليس مُستبعَدًا في ظل التوتُّر المتصاعِد أن يُنسَّق هذا الهجوم المحسوب عبر أكثر من جبهة، حتى يتِمّ تفادي تحمُّل الحزب المسؤوليةَ وحده، مع ما يفرضهُ ذلك من عواقب أو استغلال من جانب إسرائيل.
يعزِّز هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا، أنَّ حزب الله سيواجه ضغوطًا من قواعده وجمهوره داخليًا وخارجيًا؛ وبالتالي، فهو مُجبَر على الردّ من أجل شرعيته، ومن أجل استعادة الثقة بين جمهوره وقواعده، كما أنَّ مصداقية زعيمه حسن نصر الله أمام اختبار جديد؛ لأنَّ استهداف عناصر الحزب واحدة من الخطوط الحمراء، فكيف إذا كان الاستهداف بهذا الحجم، فالعملية تُعتبَر واسعةَ النطاق، كما أنَّها اختراق يُشير إلى أنَّ قاعدة بيانات الحزب باتت بيد إسرائيل. فهذا الهجوم السيبراني لم يكشف فقط عن عناصر الحزب، لكنَّه يكشف كذلك عن حصول إسرائيل على قاعدة بيانات ومعلومات بالغة الأهمِّية في مواجهتها مع الحزب، ومالم يرُدّ الحزب ولو رمزيًا، فإنَّ مصداقية الحزب وزعيمه سيكونان على المحك، كما أنَّ الصورة، التي حسَّنها الحزب بعد سنوات من التراجع على صعيد العالم العربي والإسلامي، ستتراجع.
كما أنَّ الردّ المحسوب، هو السيناريو، الذي درَجَ حزب الله على اتّباعه في مواجهته مع إسرائيل، منذ اندلاع حرب غزة؛ فردًّا على العمليات السابقة، دائمًا ما وضع حزب الله في اعتباره العديد من العوامل، أبرزها أنَّ إسرائيل بالأساس ترغبُ في أن توسِّع المواجهة مع حزب الله، أولًا لِما بات يشكِّله الحزب من قوَّة لا يُستهان بها على حدود إسرائيل الشمالية، والتقدير الإسرائيلي بالتآكل الكبير لقوَّة الردع في مواجهة حزب الله، فضلًا عن صعود كبير لجبهة متطرِّفة في إسرائيل تضغط على الحكومة من أجل نقْل المعركة إلى الشمال، وبعض الأصوات، كالوزيرين بن غفير وسمتوريتش، تدعو لضمِّ جنوب لبنان، بل ضمِّه باعتباره ضمن «الأراضي الموعودة».كما أنَّ هناك رغبةً لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه في الهروب إلى الأمام، في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، التي تنادي بوقف الحرب، والدخول في صفقة مع حركة حماس، خصوصًا أنَّ أهدافه في حرب غزة لم تتحقَّق، على الرغم من الدمار الكبير، الذي ألحقهُ بالقطاع. ولا شكَّ أنَّ حزب الله يضع بحسبانه هذه التقديرات الإسرائيلية، فضلًا عن نقْل بعض أُصوله وقوّاته بالفعل من الجنوب نحو الشمال، استعدادًا لمواجهة مُرتقَبة.
فضلًا عن ذلك، فإنَّ حزب الله ينظُر إلى المعركة الراهنة، التي يقودها مع إسرائيل، في إطارها الأوسع بين الكيان الإسرائيلي وجبهة واسعة في المنطقة، أو ما يُعرَف بمحور المقاومة، وأنَّ تصوُّره لهذه المعركة أنَّها حرب استنزاف طويلة الأمد لإسرائيل، وليست حربًا لجبهتي لبنان وفلسطين وحسب، وأنَّه يمكن استثمارها على المدى الطويل في تغيير التوازنات الإقليمية، ففي هذه الظروف والتوقيت ليس من مصلحة الحزب أن يقوم بردِّ فعلٍ انفعالي يمنحُ إسرائيل الشرعيةَ والدعم من أجل شنّ حربٍ شاملة على الحزب أو لبنان، بما قد يحوِّل مسار الصراع عن طبيعته وإطاره الشامل الحالي.
ومن ضمن حسابات حزب الله أيضًا، عدم الرغبة بالدخول في مواجهة شاملة، قد تقود الحزب إلى المصير نفسه، الذي تواجهه حماس في غزة، إذ إنَّ تقديرات الحزب، هي أنَّ أيّ تصعيد شامل أو ردّ يقود إلى تغيير قواعد الاشتباك الحالية؛ فالحرب لن تجعل الحزب في مواجهة إسرائيل وحسب، بل سيواجه تحالُفًا دوليًا وإقليميًا بقيادة الولايات المتحدة، التي لا تزال تحشدُ قوّاتها بالمنطقة، في أكبر حشْد عسكري منذ غزو العراق. وقد تكون الضربة القادمة في هذا السياق قاصمة، تقوِّض قُدرات الحزب وتُعيده سنوات إلى الوراء. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى أنَّ الولايات المتحدة، على الرغم من أنَّها لا ترغب في أيّ تصعيد وتسخِّر كل قوَّتها من أجل عدم اتّساع نطاق الصراع، لا سيّما أنَّ الانتخابات على الأبواب، لكنّها في الوقت نفسه تتفهَّم أن إيران وحزب الله لا يمكنهما أن يمرِّرا هذه الهجمة دون ردّ؛ لهذا فإنَّها تسخِّر دبلوماسيتها إلى جانب قوَّتها الصلبة؛ من أجل ضبْط سلوك حزب الله، وحصر ردوده في إطارٍ رمزي، وكذلك الضغط على إسرائيل لقبول هذا الردّ ما دام غير مؤثِّر.
كذلك، حسابات الداخل اللبناني في حال أيّ تصعيد أوسع نطاقًا، خصوصًا أنَّ اتّساع نطاق الصراع، رُبَّما يقود إلى حربٍ تُفضي إلى تدمير البنية التحتية اللبنانية، وسوف يقلب امتدادُ الصراع إلى كامل الأراضي اللبنانية موازينَ الداخل ضدّ حزب الله، وسوف يستغِلّ خصومُ الحزب هذه المواجهة من أجل تغيير التوازنات الداخلية، التي طالما استند فيها حزب الله إلى سلاحه من أجل الهيمنة على الساحة السياسية والأمنية والعسكرية اللبنانية. ولا يرغب الحزب في تحمُّل هذه التكلفة، أو مواجهة ما يعتبرهم أعداء الداخل، في الوقت نفسه الذي يواجه خلاله أعداءً من الخارج.
ولا يفوت التنويه إلى أنَّ حزب الله يتابع في خياراته في هذا الصراع، سياسةَ إيران، وما يُسمَّى بمحور المقاومة، وهذا المحور الذي تقودُه إيران، يكاد يكون ملتزمًا بسياسة التصعيد المحسوب؛ وذلك لأنَّ توسيع نطاق الصراع قد يؤدِّي إلى خسارة إستراتيجية كبيرة لإيران، إذ قد يؤدِّي إلى تدمير البنية العسكرية لهذه الجماعات التابعة لإيران. كما أنَّ هذا التصعيد من المُحتمَل أن يتّسِع ليطال الأراضي الإيرانية نفسها، وهو أمرٌ حرصت إيران على أن تتجنَّبهُ، من خلال عقيدة الدفاع الأمامي التي تنتهجُها. وهذا التصوُّر الإيراني تتّفق فيه طهران ضمنيًا مع واشنطن، إذ إنَّ كليهما لا يرغب في خروج الصراع عن نطاق السيطرة، وعدم اتّساعه ليشمل ساحات أخرى.
وفي الختام، فإنَّ تفجير أجهزة الاتصال والنداء لعناصر حزب الله، بلا شكّ يمثِّل خرقًا أمنيًا كبيرًا تحقِّقه إسرائيل ضدّ حزب الله، ويكشفُ بشكل لا يحتمِل اللبْس، الفارقَ التقني والاستخباراتي بين الطرفين، ويُعيد للصدارة التأكيد على التفوُّق الإسرائيلي في ميزان القُوى.
ويُدرك حزب الله أنَّه بات أمام خياراتٍ ضيِّقة وضغوطٍ متصاعِدة من قواعده وجمهوره، داخليًا وخارجيًا، فالسيناريوهات الثلاثة جميعها تحملُ اعتبارات وتحدِّيات، تحِدَ من قُدرة الحزب في سلوك أيٍّ منها. كما أنَّ المهم في المرحلة الراهنة بالنسبة للحزب، هو استيعابُ ما حصل عقِبَ أحداث تفجيرات نظام التواصل بين عناصره، وإعادة تشكيل منظومته الاستخبارية والأمنية، وضمان ألّا تصِل الخروقات التي حدثت إلى قياداته العُليا، ونُخَبهِ العسكرية المؤثِّرة.