اليمن على حافة الهاوية.. تداعيات التصعيدات الأخيرة

https://rasanah-iiis.org/?p=38511

أطلقَ المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن مؤخرًا عملية «المستقبل الواعد»، مُحققًا تقدمًا عسكريًا ملموسًا عبر محافظات حضرموت وشبوة والمهرة. وفي ظل تزايد وتيرة القلق وتراكم الملفات العالقة، أحدث هذا التحرك تحولًا جذريًا في المشهد الداخلي للبلاد؛ إذ تُشير المعطيات الراهنة إلى بروز بيئة أمنية شديدة التعقيد، تتفاعل في خضمها ديناميكيات إقليمية متسارعة وتوازنات قوى محلية هشة، مما يضع مستقبل الاستقرار في اليمن أمام اختبار عسير.

حضرموت هي أكبر محافظات اليمن مساحةً، وتضم في جنباتها معظم البنية التحتية النفطية الحيوية للبلاد؛ لذا يُعزى التصعيد الأخير في المقام الأول إلى صراع داخلي محتدم حول إدارة شؤون الحكم والأمن، وفرض السيطرة على الموارد الإستراتيجية والمنشآت النفطية. وتُشير التقارير إلى أن هذا التصعيد قد تفجَّـر في ظل «هُدنة هشة» كانت قائمة بين تحالف «قبائل حضرموت» والسلطات المحلية. من جانبه، برر المجلس الانتقالي الجنوبي تحركه العسكري بكونه استجابةً للتهديدات الأمنية المتنامية، لا سيما مع اتساع نطاق طرق التهريب، وانتشار شبكات تجارة الأسلحة والمخدرات، وتنامي أنشطة عناصر تنظيم «القاعدة» في المنطقة. في المقابل، تنظر الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وهيئتها التنفيذية «مجلس القيادة الرئاسي»، إلى تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفها «إجراءات أحادية الجانب»، تقوض مصداقية الاتفاقات المُبرمة سلفًا. وفي هذا السياق، وصف الرئيس رشاد العليمي استقدام قوات من خارج حضرموت بأنه «خرق للأطر التوافقية»، مُشددًا على ضرورة أن تُتخذ القرارات الأمنية السيادية بالإجماع داخل مجلس القيادة. كما حذَّر العليمي من أن هذه التحركات غير المنسقة تُهدد بتقويض السلطة القانونية للدولة وتشتيت مركزية القرار الوطني في هذه المرحلة الحرجة؛ وخلال مباحثاته مع المحافظ الجديد، أكد الرئيس على ضمان التمثيل العادل لأبناء حضرموت، وتفعيل آليات تمكن المكونات المحلية من إدارة مواردها. وقد لاقت هذه التصريحات صدىً واسعًا لدى القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني في المحافظة، والتي بادرت بدورها بإطلاق دعوات للتهدئة وخفض التصعيد. وتظل الحكومة الشرعية هي الكيان الوحيد المعترف به دوليًا، مما يجعلُ أي دعوات أُحادية للانفصال عاملًا لتعقيد السلام، إذ إن فرض الواقع الميداني بالقوة سيحمل تداعيات سلبية حتمية على مستقبل أي ترتيبات سياسية شاملة. ومع تصادم السرديات المتنافسة، بلغت الهشاشة الميدانية ذروتها؛ إذ انفجرت حـدَّة التوترات في منطقة «وادي حضرموت» بين «تحالف قبائل حضرموت» بقيادة الشيخ عمرو بن حبريش، والتشكيلات المسلحة التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي. وفي تحرك استباقي، أحكم مقاتلو القبائل سيطرتهم على قطاعات شركة «المسيلة» للنفط في أواخر نوفمبر، مبررين ذلك بالتصدي لمحاولات تقدم القوات الموالية للمجلس الانتقالي نحو الوادي. وفي المقابل، عززت قوات «النخبة الحضرمية» المتحالفة مع الانتقالي نفوذها بسرعة، مسيطرةً على منشآت حيوية في سيئون، شملت مقر المنطقة العسكرية الأولى والمطار والقصر الرئاسي. ولم يقتصر هذا التحول الدراماتيكي في موازين القوى على حضرموت، بل امتد أثره إلى محافظة المهرة، حيث وسع المجلس الانتقالي نطاق تمركزه وسيطرته الميدانية في مدينة الغيضة. وقد أفضت هذه الإجراءات غير المسبوقة إلى شلل شبه كامل في عمليات إنتاج النفط والغاز، حيث اضطرت شركة «بترومسيلة» لتعليق الإنتاج في عدة قطاعات حيوية نتيجة تفاقم المخاطر الأمنية، مما تسبب في عجز حاد في إمدادات الوقود المخصصة لمحطات توليد الطاقة في عموم المنطقة. وبالتوازي مع ذلك، عزز المجلس الانتقالي الجنوبي وجوده العسكري في العاصمة المؤقتة عدن، مقر الحكومة المعترف بها دوليًا، مما أضفى مزيدًا من التعقيد على المشهد. وقد كشفت هذه التداعيات المباشرة عن مدى هشاشة المحافظات النفطية أمام أي اضطراب في البيئة الأمنية؛ لاسيما وأن حقول حضرموت تُمثل الثقل الأكبر في خارطة الإنتاج اليمني، وهو ما يجعل أي توقف (ولو كان مؤقتًا) يُطلق سلسلةً من التأثيرات السلبية التي تطال الخدمات الأساسية وتُنهِك الاقتصاد المحلي الذي يُعاني بالأساس. تتلاحق هذه الأحداث في ظل خلفية إقليمية ودولية بالغة التعقيد؛ إذ تضع القوى الكبرى استقرار اليمن تحت مجهر الرصد الدقيق، نظرًا لموقعه الإستراتيجي المشرف على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهي ممرات ملاحية حيوية لا تتحمل ارتدادات أي هزات أمنية. لذا، فإن أي تصعيد في هذا المنطقة (مهما كان محدودًا) يحمل بذور الانفجار الشامل الذي قد يُعطل سلاسل التوريد العالمية، مما يجعله مصدر قلق دولي دائم يصعب احتواؤه حال خروجه عن السيطرة. وفي هذا الإطار، لا يمكن فحص التوترات الداخلية في حضرموت بمعزل عن الديناميكيات السياسية والأمنية التي عصفت باليمن في السنوات الأخيرة؛ فبينما لا يزال «الحوثيون» يسيطرون على صنعاء، إلا أنهم واجهوا ضربات أمريكية عنيفة أدت إلى تقويض قدراتهم العسكرية وأجبرتهم على إعادة صياغة حساباتهم الإستراتيجية في مواجهة التحولات الإقليمية الجديدة. وفي السياق ذاته، تتصاعد المخاوف من تكريس الانقسام الداخلي؛ إذ يشهد اليمن حاليًا تشكُل ثلاثة مراكز رئيسية للسلطة، يفتقر اثنان منها للشرعية الدولية. هذا الواقع يُعزز من احتمالات قيام القوى المتنافسة بترسيخ هياكل حكم موازية، مما يُفاقم أزمة الثقة ويُضاعف مخاطر «سوء التقدير» الميداني. علاوةً على ذلك، فإن مُضي المجلس الانتقالي الجنوبي في بلورة مشروع سياسي طويل الأمد يتمحور حول «الحكم الذاتي» للجنوب، يُضيف تعقيدًا بنيويًا للمشهد، حيث يضع القوى الدولية والإقليمية أمام تساؤل جوهري حول كيفية صياغة عملية سياسية مستقبلية قادرة على استيعاب هذه الرؤى المتصادمة، مع ضمان الحيلولة دون انزلاق البلاد نحو جولات جديدة من الصراع الشامل.

يأتي التصعيد الميداني الأخير في وقتٍ تقود فيه القوى الإقليمية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، جهودًا حثيثة لترسيخ دعائم الاستقرار وإحياء الحوار السياسي اليمني. وتتجسَّـد هذه التوجهات في المبادرات التنموية النوعية التي يضطلع بها «البرنامج السعودي للتنمية وإعادة إعمار اليمن»، حيث تُعد مشاريع تعزيز قدرات الطاقة في عدن والمكلا وسيئون وتعز، خطوةً إستراتيجية لمعالجة الاختلالات الهيكلية في الخدمات الأساسية، وركيزةً لا غنى عنها لتحقيق استقرار مُستدام. وفي حضرموت تحديدًا، تعكس مشاريع البنية التحتية (توسعة طريق العبر، وتأهيل منفذ الوديعة الحدودي)، التزامَ المملكة الراسخ بتحسين شبكات الربط اللوجستي، ودعم مرونة الاقتصاد اليمني وتعزيز قدرته على الصمود في وجه الأزمات المتلاحقة.

ومع ذلك، تظل استدامة أي استقرار رهينةً بقدرة الفاعلين المحليين (بمن فيهم التحالفات القبلية، وسلطات المحافظات، والمجلس الانتقالي الجنوبي، والمؤسسات الحكومية)، على توحيد أولوياتهم الأمنية، والحيلولة دون انزلاق الخلافات البينية نحو مواجهات شاملة. وبحكم جغرافيتها الإستراتيجية وثقلها الاقتصادي وتعقيدها السياسي، تُمثل حضرموت حجر الزاوية في المشهد اليمني؛ حيث تتردد أصداء أي تطور فيها عبر مفاصل الدولة الهشة، مما قد يٌفاقم الانقسامات ويعطل مسارات المصالحة الوطنية والمبادرات الإقليمية. إن إدارة هذا المشهد المتأزم لا تتطلب مجرد تهدئة عارضة أو خفضًا مؤقتًا للتصعيد، بل تستوجب بذل جهدًا حقيقيًا لترسيخ هيكل أمني متماسك وشامل؛ يُلبي التطلعات المحلية المشروعة، ويصون المؤسسات الوطنية السيادية، ويحافظ على التوازن الإقليمي الدقيق في المنطقة.

اتخذت المبادرة الدبلوماسية الأخيرة للمملكة العربية السعودية، بقيادة اللواء محمد القحطاني، مسارًا عمليًا وفاعلًا، حيث قادت الرياض ترتيبات أولية لتخفيف حدة التوتر، شملت التنسيق مع السلطات المحلية وتحالف «قبائل حضرموت»، لضمان حيادية منشآت شركة «بترومسيلة» واستمرارية عملياتها. وقضت هذه الترتيبات بانسحاب التشكيلات العسكرية، بما فيها وحدات المجلس الانتقالي الجنوبي، وإحلال وحدات حضرمية تحت الإشراف المباشر للمحافظة؛ وهو ما يُكرس دورَ المملكة العربية السعودية كوسيط إقليمي رئيسي وقوة ضامنة للاستقرار. وفي سياق متصل، يواصل المجلس الرئاسي حشد الدعم من القوى الدولية المؤثرة، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أن محاولات فرض الأمر الواقع عبر السيطرة الميدانية تظل قاصرة، إذ إن الشرعية لا تُستمد من السيطرة الجغرافية فحسب، بل من الاعتراف الإقليمي والدولي الذي يفتقده المجلس الانتقالي في المرحلة الراهنة. إن تداعيات المشهد اليمني تتجاوز الجغرافيا المحلية، فأي تدهور أمني سيمارس ضغوطًا قصوى على الممرات البحرية الحيوية، ويمنح للفاعلين من غير الدول والجماعات الإرهابية ثغرةً لاستغلال الفوضى، مما يُهدد في المحصلة منظومة الأمن والاستقرار على المدى الطويل. وفي نهاية المطاف، تبرز ضرورة الالتزام المطلق بالاتفاقات المُبرمة سلفًا وصون وحدة الصف داخل مجلس القيادة الرئاسي، إذ يظل المجلس الرئاسي اليمني القناة الشرعية الوحيدة القادرة على تفعيل الآليات المالية واستقطاب المساعدات التنموية والإنسانية الدولية. إن غياب الإدارة الحكومية المنسقة والتعثر في إحداث تحسينات ملموسة في الواقع المحلي، يضع اليمن أمام خطر محدق بتفاقم الأزمة الإنسانية المتجذرة؛ مما يخلق بيئة خصبة لنمو الاضطرابات، وترسيخ هياكل السلطة الموازية، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى تآكل فُرص التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ مستدامةٍ تنهي معاناة الشعب اليمني.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير