تداعيات‭ ‬أزمة‭ ‬فاغنر‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الروسي‭ ‬ومسارات‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا

https://rasanah-iiis.org/?p=31722

استيقظت‭ ‬الدولة‭ ‬الروسية‭ ‬صبيحةَ‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬الموافق‭ ‬الرابع‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬عام‭ ‬2023م،‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬أنباء‭ ‬تمرد‭ ‬قوات‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬العسكرية‭ ‬الخاصة‭ ‬التابعة‭ ‬لرجل‭ ‬الأعمال‭ ‬المقرَّب‭ ‬من‭ ‬الكرملين‭ ‬يفغيني‭ ‬بريغوجين‭ ‬ضد‭ ‬النظام‭ ‬الروسي،‭ ‬ودخولها‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬روستوف‭ (‬جنوب‭ ‬غرب‭) ‬روسيا،‭ ‬وتقدمها‭ ‬شمالًا‭ ‬باتجاه‭ ‬العاصمة‭ ‬موسكو،‭ ‬وبرَّر‭ ‬بريغوجين‭ ‬تمرُّده‭ ‬باتهام‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬بقصف‭ ‬معسكرات‭ ‬قواته‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أسفر‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬منهم،‭ ‬متوعدًا‭ ‬بالانتقام‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬الذي‭ ‬يخوض‭ ‬حربًا‭ ‬ضارية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬أزمة‭ ‬التمرد‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬طويلاً،‭ ‬بالإعلان‭ ‬عن‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬بوساطة‭ ‬الرئيس‭ ‬البيلاروسي‮ ‬ألكسندر‭ ‬لوكاشينكو،‭ ‬تعود‭ ‬بموجبه‭ ‬قوات‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مواقعها‭ ‬ومعسكراتها‭ ‬وتمكين‭ ‬عناصرها‭ ‬من‭ ‬الانضمام‭ ‬للجيش‭ ‬الروسي‭ ‬أو‭ ‬التعاقد‭ ‬معه،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬مغادرة‭ ‬زعيمها‭ ‬بريغوجين‭ ‬إلى‭ ‬بيلاروسيا‭ ‬بضمانات‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين،‮ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬طرحت‭ ‬العديدَ‭ ‬من‭ ‬التكهنات‭ ‬والتساؤلات‭ ‬حول‭ ‬أسباب‭ ‬التمرد‭ ‬ودوافعه‭ ‬وتداعياته‭ ‬على‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬انعكاساته‭ ‬على‭ ‬حلفاء‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬وما‭ ‬البديل‭ ‬لقوات‭ ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا؟

أولًا‭: ‬فاغنر‭.. ‬الصعود‭ ‬والمكانة‭ ‬في‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الروسية

خلال‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬تحوَّلت‭ ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬إلى‭ ‬ذراع‭ ‬بوتين‭ ‬الضارب‭ ‬والطويل‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬الروسية‭ ‬عطفًا‭ ‬على‭ ‬الدور‭ ‬الخارجي‭ ‬الممنوح‭ ‬لها‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬وعسكريًا‭ ‬من‭ ‬الكرملين،‭ ‬كما‭ ‬تحوَّل‭ ‬زعيم‭ ‬المجموعة‭ ‬الروسية‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الأثرياء،‭ ‬وبخلاف‭ ‬بقية‭ ‬الجماعات‭ ‬المرتزقة،‭ ‬تمتَّعت‭ ‬مجموعتهُ‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بنفوذ‭ ‬مالي‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬بنفوذ‭ ‬في‭ ‬القوات‭ ‬البرية‭ ‬والجوية،‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬مطلق‭ ‬حرية‭ ‬الحركة‭ ‬والنفوذ‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وليبيا،‭ ‬ودول‭ ‬وسط‭ ‬أفريقيا،‭ ‬وأوكرانيا‭. ‬فيما‭ ‬يلي‭ ‬تحليلٌ‭ ‬لتأسيس‭ ‬وتطوّر‭ ‬فاغنر‭ ‬ومكانتها‭ ‬في‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الروسية‭:‬

1‭. ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭.. ‬التأسيس‭ ‬والتطور

تأسَّست‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬كشركة‭ ‬عسكرية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2013م‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬شخصيتين‭ ‬معروفتين‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬وهما‭: ‬ديمتري‭ ‬أوتكين،‭ ‬ضابط‭ ‬سابق‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬القوات‭ ‬الخاصة‭ ‬الروسية،‭ ‬ويفغيني‭ ‬بريغوجين،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬أعمال‭ ‬روسي‭ ‬مقرب‭ ‬من‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين،‭ ‬وقد‭ ‬سُجِّلت‭ ‬فاغنر‭ ‬كشركة‭ ‬تجارية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الأرجنتين،‭ ‬ولها‭ ‬مكاتب‭ ‬في‭ ‬كلٍ‭ ‬من‭ ‬بطرسبرغ‭ ‬وهونغ‭ ‬كونغ،‭ ‬ومعسكر‭ ‬تدريب‭ ‬في‭ ‬موسكو‭.‬‭ ‬وظهر‭ ‬نموذج‭ ‬الاستعانة‭ ‬بشركات‭ ‬خاصة‭ ‬لتوفير‭ ‬الأمن‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬عالمي‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وفي‭ ‬روسيا‭ ‬بالتحديد،‭ ‬لا‭ ‬تُعد‭ ‬الاستعانة‭ ‬بالجهات‭ ‬الأمنية‭ ‬شبه‭ ‬الحكومية‭ ‬حدثًا‭ ‬فريدًا‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬بوتين؛‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬المجموعات‭ ‬المسلحة‭ ‬المماثلة‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬أوائلَ‭ ‬التسعينات‭ ‬مع‭ ‬تفكُّك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭.‬

أصبح‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الشركات‭ ‬العسكرية‭ ‬الخاصة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬العقد‭ ‬الماضي‭ ‬أداةً‭ ‬رئيسية‭ ‬للسياسة‭ ‬الروسية‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬جيوسياسية‭ ‬وجيواستراتيجية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مناطق‭ ‬النفوذ‭ ‬الروسي،‭ ‬المناطق‭ ‬والأماكن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬فيها‭ ‬موسكو‭ ‬نشر‭ ‬قواتها‭ ‬الرسمية‭ ‬بشكل‭ ‬علني،‭ ‬وقد‭ ‬منح‭ ‬ذلك‭ ‬موسكو‭ ‬درجةً‭ ‬معقولة‭ ‬من‭ ‬الإنكار‭ ‬والإفلات‭ ‬نسبيًا‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬والتطويق‭ ‬الغربي،‭ ‬لاسيما‭ ‬خلال‭ ‬مشاركة‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأزمات‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬أجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬إلى‭ ‬مالي‭ ‬إلى‭ ‬فنزويلا‭.‬‮ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬تغيَّر‭ ‬مع‭ ‬اندلاع‭ ‬أزمة‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬فصنفت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الجماعة‭ ‬كمنظمة‭ ‬إجرامية‭ ‬عابرة‭ ‬للحدود‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬هذا‭ ‬العام،‭ ‬وفُرضت‭ ‬عقوبات‭ ‬على‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬أستراليا‭ ‬وكندا‭ ‬واليابان‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬الأوروبي‭.‬

2‭. ‬تمويل‭ ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬ومصادرها‭ ‬المالية

تستند‭ ‬المجموعة‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬تمويل‭ ‬كبيرة‭ ‬ومتنوعة،‭ ‬تأتي‭ ‬بالأساس‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬كمرتزقة‭ ‬لدى‭ ‬الحكومات‭ ‬وداخل‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬تشهد‭ ‬نزاعات‭ ‬مسلحة‭ ‬في‭ ‬أفريقيا،‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬مؤخرًا‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قائدها‭ ‬بريغوجين‭ ‬هو‭ ‬بالأساس‭ ‬رجل‭ ‬أعمال‭ ‬روسي‭ ‬لديه‭ ‬شركات‭ ‬تعمل‭ ‬بالخارج‭ ‬بالالتفاف‭ ‬على‭ ‬العقوبات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والأوروبية‭ ‬المفروضة‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬يعمل‭ ‬داخل‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬المطاعم‭ ‬والتموين‭ ‬ويمتلك‭ ‬نفوذًا‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬استمدَّه‭ ‬من‭ ‬قُربه‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬ذاته‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية،‭ ‬وتكشف‭ ‬تقديرات‭ ‬غربية‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬تمويل‭ ‬جزئي‭ ‬يقدَّم‭ ‬للمجموعة‭ ‬من‭ ‬الكرملين‭.‬

وتُعد‭ ‬أفريقيا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مصادر‭ ‬التمويل‭ ‬لمجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬نظرًا‭ ‬لنشاط‭ ‬المجموعة‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬عدَّة‭ ‬بلدان‭ ‬أفريقية‭ ‬تشهد‭ ‬صراعات‭ ‬مسلحة‭ ‬مثل‭: ‬مالي‭ ‬والكونغو‭ ‬والسودان‭ ‬وليبيا‭ ‬وأفريقيا‭ ‬الوسطى‭ ‬وموزمبيق‭ ‬ومدغشقر‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وتقوم‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬تقديم‭ ‬دعمها‭ ‬العسكري‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬أموال‭ ‬نقدية،‭ ‬واستغلال‭ ‬ثروات‭ ‬طبيعية‭ ‬كالذهب‭ ‬والنفط‭ ‬واليورانيوم‭ ‬والألماس‭ ‬والأراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬عبر‭ ‬شركات‭ ‬روسية‭ ‬تابعة‭ ‬للمجموعة،‭ ‬وعلى‭ ‬نطاق‭ ‬أضيق‭ ‬يتورَّط‭ ‬أفراد‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬نهب‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬المتواجدين‭ ‬فيها‭.‬

تدفع‭ ‬حكومة‭ ‬مالي‭ ‬الأفريقية‭ ‬قرابة‭ ‬10‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬للمجموعة‭ ‬شهريًا‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬دعمها‭ ‬العسكري،‭ ‬وتستغل‭ ‬الشركات‭ ‬التابعة‭ ‬لفاغنر‭ ‬معادن‭ ‬وثروات‭ ‬نفيسة‭ ‬كالذهب‭ ‬واليورانيوم‭ ‬في‭ ‬مالي‭ ‬وبوركينا‭ ‬فاسو،‭ ‬وفق‭ ‬تقديرات‭ ‬مختلفة‭. ‬وكذلك‭ ‬النفط‭ ‬والذهب‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬والسودان،‭ ‬والأخشاب‭ ‬والأراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬أفريقيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬والألماس‭ ‬في‭ ‬الكونغو‭ ‬وغينيا‭. ‬أيّ‭ ‬أن‭ ‬المجموعة‭ ‬الروسية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬مالية‭ ‬تتنوع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬كمرتزقة‭ ‬لدى‭ ‬الحكومات،‭ ‬والاستثمارت‭ ‬التابعة‭ ‬لشركاتها‭ ‬داخل‭ ‬روسيا‭ ‬وخارجها،‭ ‬واستغلال‭ ‬النفوذ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الأفريقية‭.‬

3‭. ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الروسية

باتت‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬الأداةَ‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬تؤمِّن‭ ‬مصالح‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التورط‭ ‬العسكري‭ ‬الروسي‭ ‬المباشر،‭ ‬فظهرت‭ ‬البوادر‭ ‬الأولى‭ ‬للمجموعة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2014م،‭ ‬عندما‭ ‬ضمَّت‭ ‬روسيا‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬القرم،‭ ‬ولاحقًا‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬عام‭ ‬2015م،‮ ‬بهدف‭ ‬حماية‭ ‬نظام‭ ‬حليفها‭ ‬الإقليمي‭ ‬الرئيسي‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬وتحقيق‭ ‬مكاسب‭ ‬استراتيجية‭ ‬مُهمة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬مشاركة‭ ‬عناصر‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬ضمن‭ ‬المجهود‭ ‬العسكري‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المشاركة‭ ‬بمثابة‭ ‬نقلة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬خبرات‭ ‬المجموعة‭ ‬القتالية،‭ ‬حيث‭ ‬قاتل‭ ‬أفراد‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬نُفذت‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬خاصةً‭ ‬الحملة‭ ‬العسكرية‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬مدن‭ ‬سورية‭ ‬رئيسية‭ ‬كتدمر‭ ‬ودير‭ ‬الزور‭ ‬والرقة‭.‬

وبعد‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬الميدانين‭ ‬السوري‭ ‬والأوكراني،‭ ‬اكتسبت‭ ‬المجموعة‭ ‬خبرةً‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬القتال‭ ‬وممارسة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬الشوارع‮»‬،‭ ‬وعليه‭ ‬لجأت‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬تعظيم‭ ‬مكاسبها‭ ‬والانتقال‭ ‬نحو‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬منها‭ ‬فنزويلا‭ ‬إضافةً‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأفريقية‭ ‬كأفريقيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬وجنوب‭ ‬السودان،‭ ‬ومالي،‭ ‬وموزمبيق،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬الأكثر‭ ‬تنوعًا؛‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬شملت‭ ‬استخدامَ‭ ‬المدرعات‭ ‬وأنظمة‭ ‬الدفاع‭ ‬والطائرات‭ ‬المقاتلة‭ ‬والقاذفة‭. ‬وتأتـي‭ ‬مشاركة‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬بالتحديد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تأمين‭ ‬احتياجات‭ ‬موسكو‭ ‬من‭ ‬الموارد‭ ‬الطبيعية،‭ ‬ومناوءة‭ ‬النفوذ‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الأفريقية،‭ ‬وخاصةً‭ ‬الفرنسي،‭ ‬بجانب‭ ‬دعم‭ ‬علاقاتها‭ ‬الأمنية‭ ‬والعسكرية‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬الأفريقية‭ ‬وتوسيع‭ ‬دائرة‭ ‬نفوذها‭ ‬الاستراتيجي‭.‬

وفي‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الروسية،‭ ‬تعد‭ ‬مشاركة‭ ‬المجموعة‭ ‬منذ‭ ‬اندلاع‭ ‬الأزمة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬بهدف‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الصراع‭ ‬الأوكراني‭-‬الغربي،‭ ‬فاستُعينَ‭ ‬بمقاتلي‭ ‬المجموعة‭ ‬المدربين‭ ‬على‭ ‬حروب‭ ‬الشوارع،‭ ‬لاقتحام‭ ‬مدن‭ ‬وقرى‭ ‬أوكرانية‭ ‬عَصيت‭ ‬على‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬وشارك‭ ‬عناصر‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬وفعّال‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬معارك‭ ‬رئيسة،‭ ‬منها‭: ‬معركة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬سفيرودونيتسك،‭ ‬وعملية‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬بوباسنا،‭ ‬ومؤخرًا‭ ‬عملية‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬باخموت‭ ‬التي‭ ‬استمرَّ‭ ‬القتال‭ ‬فيها‭ ‬لأشهر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭.‬

ثانيًا‭: ‬تطورات‭ ‬أزمة‭ ‬فاغنر‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬الروسية

جاءت‭ ‬التطورات‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وتشديد‭ ‬الإجراءات‭ ‬الأمنية‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬دعوة‭ ‬قائد‭ ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬يفغيني‭ ‬بريغوجين‭ ‬لقواته‭ ‬بالتمرد‭ ‬ضد‭ ‬القيادة‭ ‬العسكريّة‭ ‬الروسيّة،‭ ‬واتهم‭ ‬بريغوجين‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬بقصف‭ ‬مواقع‭ ‬المجموعة‭ ‬العسكرية‭ ‬وذلك‭ ‬عشيةَ‭ ‬الرابع‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬2023م،‭ ‬وردًا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬توعَّد‭ ‬بريغوجين‭ ‬بالانتقام‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬التي‭ ‬حمَّلها‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬تعرَّضت‭ ‬له‭ ‬قواته‭ ‬من‭ ‬قصف‭ ‬وقتل،‭ ‬وهنا‭ ‬تظهر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التحليلات‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬الأزمة‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬بريغوجين‭ ‬ووزير‭ ‬الدفاع‭ ‬الروسي‭ ‬سيرغي‭ ‬شويغو‭ ‬الذي‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬منذ‭ ‬2012م،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬لإبعاد‭ ‬الجيش‭ ‬النظامي‭ ‬الروسي‭ ‬عن‭ ‬التبعات‭ ‬القانونية‭ ‬لما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭.‬‭ ‬ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بريغوجين‭ ‬بالتوعد‭ ‬بالرد‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬عاود‭ ‬مهاجمته‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬قائلًا‭: ‬إن‭ ‬‮«‬الشر‮»‬‭ ‬في‭ ‬القيادة‭ ‬العسكرية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتوقف،‭ ‬ثم‭ ‬تعهد‭ ‬بما‭ ‬سماها‭ ‬‮«‬المسيرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العدالة‮»‬،‭ ‬ونفى‭ ‬بريغوجين‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬التبريرات‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬مسؤولون‭ ‬كبار‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬حول‮ ‬غزوهم‭ ‬لأوكرانيا‮ ‬قائلًا‭: ‬إن‭ ‬‮«‬الأخيرة‭ ‬ومعها‮ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي‮ ‬لم‭ ‬يُخططا‭ ‬لشن‭ ‬هجومٍ‭ ‬على‭ ‬إقليم‭ ‬دونباس‭ ‬وشبه‭ ‬جزيرة‭ ‬القرم‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2022م‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ألقى‭ ‬باللومِ‭ ‬على‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‮ ‬سيرجي‭ ‬شويغو‮ ‬في‭ ‬إخفاقات‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المعركة‭ ‬ووفياتها،‭ ‬مُذكِّرًا‭ ‬أن‭ ‬حرب‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬كانت‭ ‬مقصودة‭ ‬لصالحِ‭ ‬بعض‭ ‬النخب‭.‬

ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬تمرد‭ ‬قوات‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬هو‭ ‬انعكاس‭ ‬وتطور‭ ‬طبيعي‭ ‬لحالة‭ ‬من‭ ‬التوتر‭ ‬المتراكم‭ ‬والصراع‭ ‬الداخلي‭ ‬بين‭ ‬قائد‭ ‬المجموعة‭ ‬ووزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬الروسية،‭ ‬إبّان‭ ‬احتدام‭ ‬معركة‭ ‬باخموت‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬وهي‭ ‬المعركة‭ ‬الأطول‭ (‬استغرقت‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬224‭ ‬يومًا‭)‬،‭ ‬واتصفت‭ ‬بأنها‭ ‬عملية‭ ‬القتال‭ ‬الأشرس‭ ‬والأكثر‭ ‬دموية‭ (‬حوالي‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬بين‭ ‬قتيل‭ ‬وجريح‭) ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬اشتعلت‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا؛‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬بالأساس‭ ‬منطقتي‭ ‬دونتيسك‭ ‬ولوغانسك‭ ‬وامتدادهما‭ ‬الجنوبي‭. ‬حيث‭ ‬طالب‭ ‬بريغوجين‭ ‬بإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬جدوى‭ ‬الغزو‭ ‬الروسي‭ ‬لأوكرانيا،‭ ‬وطالت‭ ‬اتهاماته‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬الروسية‭ ‬عِدة‭ ‬مرات‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬اتهامها‭ ‬بمهاجمة‭ ‬قواعد‭ ‬قواته‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬عبر‭ ‬هجوم‭ ‬صاروخي‭ ‬على‭ ‬معسكراتها؛‭ ‬ممّا‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬عدد‭ ‬ضخم‭ ‬من‭ ‬الضحايا،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬اتهامها‭ ‬بدورٍ‭ ‬ضعيف‭ ‬في‭ ‬تزويد‭ ‬مقاتليه‭ ‬بالذخيرة‭ ‬الكافية،‭ ‬واتهم‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬بالفرار‭ ‬من‭ ‬القتال‭ ‬حول‭ ‬مدينة‭ ‬باخموت‭ ‬الأوكرانية‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يمثل‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ -‬رغم‭ ‬إعلان‭ ‬بريغوجين‭ ‬انسحابَ‭ ‬قواته‭ ‬وتراجعها‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬التمرد‭ ‬المعلنة‭- ‬ضربةً‭ ‬قوية‭ ‬للمؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬المعنوي‭ ‬والاستراتيجي،‭ ‬وباتت‭ ‬ارتدادات‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬حسم‭ ‬معركتها‭ ‬مع‭ ‬أوكرانيا‭ ‬تضغط‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬ضراوةً‭ ‬على‭ ‬الداخل‭ ‬الروسي،‭ ‬بشكل‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬تأثيرات‭ ‬حادة‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬موسكو‭ ‬وقيادتها‭ ‬السياسية‭.‬

ثالثًا‭: ‬تداعيات‭ ‬الأزمة‭ ‬على‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا

عند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تداعيات‭ ‬الأزمة‭ -‬حال‭ ‬غياب‭ ‬أو‭ ‬انسحاب‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭- ‬على‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الروسي‭ ‬الذي‭ ‬يعتمدُ‭ ‬على‭ ‬الدعاية‭ ‬لحشد‭ ‬الدعم‭ ‬للحرب‭ ‬لكسب‭ ‬المعركة‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التساؤلات‭ ‬أهمها‭: ‬هل‭ ‬ستُضعف‭ ‬الأزمة‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬وطموحات‭ ‬موسكو‭ ‬في‭ ‬الحرب؟‭ ‬وهل‭ ‬ستُؤثر‭ ‬الأزمة‭ ‬على‭ ‬المعارك‭ ‬الميدانية‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬متفرقة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬السيطرة‭ ‬والنفوذ‭ ‬وديناميكيات‭ ‬ساحة‭ ‬المعركة‭ ‬حال‭ ‬تأثر‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬للقوات‭ ‬الروسية‭ ‬بانسحاب‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬ظاهرة‭ ‬تمرد‭ ‬مماثلة‭ ‬أو‭ ‬تشجيع‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬التمرد‭ ‬سواءً‭ ‬داخل‭ ‬أروقة‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬القتال؟

بمراجعة‭ ‬الأدبيات‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬وآراء‭ ‬الكتّاب‭ ‬والمتخصصين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬اتجاهين‭ ‬رئيسيين‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬التداعيات‭ ‬المحتملة‭ ‬على‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭:‬

الاتجاه‭ ‬الأول‭:‬‭ ‬يرى‭ ‬أنصاره‭ ‬أنه‭ ‬سيكون‭ ‬للأزمة‭ ‬تداعيات‭ ‬على‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬مع‭ ‬دخول‭ ‬الحرب‭ ‬عامها‭ ‬الثاني،‭ ‬مبررين‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬فاغنر‭ ‬تُشكل‭ ‬رقمًا‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬حيث‭ ‬ساهمت‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬لإحداث‭ ‬تحولات‭ ‬استراتيجية‭ ‬وتغيير‭ ‬المعادلة‭ ‬لصالح‭ ‬الروس‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬بعدما‭ ‬واجهت‭ ‬موسكو‭ ‬تحديات‭ ‬عظيمة‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬بدايات‭ ‬الحرب،‭ ‬وعدم‭ ‬التمكن‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬العاصمة‭ ‬كييف،‭ ‬ثم‭ ‬إعلانها‭ ‬قرار‭ ‬التجنيد‭ ‬الإجباري‭.‬

شاركت‭ ‬‮«‬فاغنر‮»‬‭ ‬في‭ ‬الطليعة‭ ‬على‭ ‬خطوط‭ ‬الجبهات‭ ‬القتالية‭ ‬الأمامية‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المعارك‭ ‬الطاحنة‭ ‬لصالح‭ ‬روسيا‭ ‬منذ‭ ‬انخراطها‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬صفوف‭ ‬القوات‭ ‬النظامية‭ ‬والوحدات‭ ‬العسكرية‭ ‬من‭ ‬دونيتسك‭ ‬ولوغانسك،‭ ‬وساهمت‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬التقدم‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مدن‭ ‬بوباسنا‭ ‬وليسيتشانسك،‭ ‬ثم‭ ‬مدينة‭ ‬سوليدار‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬مقدمةً‭ ‬رئيسية‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬باخموت‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬المعارك‭ ‬دمويةً‭ ‬وأطولها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وتعدها‭ ‬موسكو‭ ‬ضمن‭ ‬الغنائم‭ ‬الثمينة؛‭ ‬لأن‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬تعطي‭ ‬مكانةً‭ ‬متقدمة‭ ‬وأقوى‭ ‬للقوات‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مجمل‭ ‬منطقتي‭ ‬لوغانسك‭ ‬ودونيتسك‭ ‬اللتين‭ ‬تكوّنانِ‭ ‬إقليمَ‭ ‬دونباس‭.‬

لعبت‭ ‬فيها‭ ‬فاغنر‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬وبارزًا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الانتصارات‭ ‬لروسيا‭ ‬بعد‭ ‬قرابة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬أو‭ ‬الهزائم‭ ‬التي‭ ‬مُنيت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬خاركييف‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وشكلت‭ ‬رأيًا‭ ‬عامًا‭ ‬ساخطًا،‭ ‬وأظهرت‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬القتال‭ ‬حرفيةً‭ ‬وانضباطًا‭ ‬ومهارةً‭ ‬قتاليةً‭ ‬فائقة‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬خبرتها‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأساليب‭ ‬القتالية‭ ‬المختلفة‭ ‬لحروب‭ ‬العصابات‭ ‬والمدن‭ ‬والحروب‭ ‬مع‭ ‬الجيوش‭ ‬المتطورة‭ ‬اكتسبتها‭ ‬من‭ ‬خدمتها‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬ساخنة‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتفرقة‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬وامتلاكها‭ ‬إمكانات‭ ‬عسكرية‭ ‬فائقة‭.‬

علاوةً‭ ‬على‭ ‬حصول‭ ‬مقاتليها‭ ‬على‭ ‬تدريبات‭ ‬قتالية‭ ‬متطورة،‭ ‬ومشاركتها‭ ‬بعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المقاتلين‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬تتضارب‭ ‬الروايات‭ ‬حول‭ ‬أعدادهم‭ ‬الحقيقية،‭ ‬ففيما‭ ‬تُقدِّر‭ ‬بعضُ‭ ‬الروايات‭ ‬أعدادهم‭ ‬بنحو‭ ‬من‭ ‬25-‭ ‬30‭ ‬ألف‭ ‬مقاتل،‭ ‬تُقدِّرهم‭ ‬الروايةُ‭ ‬الأمريكية‭ ‬بنحو‭ ‬50‭ ‬ألف‭ ‬مقاتل‭ (‬10‭ ‬آلاف‭ ‬متعاقد‭ ‬و40‭ ‬ألف‭ ‬سجين‭ ‬تم‭ ‬تجنيدهم‭ ‬من‭ ‬السجون‭ ‬الروسية‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬خوَّلها‭ ‬للقيام‭ ‬بمهام‭ ‬قتالية‭ ‬أكثر‭ ‬دقةً‭ ‬وتعقيدًا‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬القتال‭ ‬الشرسة؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬لعبت‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الدعم‭ ‬العسكري‭ ‬والمعنوي‭ ‬للجنود‭ ‬الروس‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬المعركة‭ ‬ومنحت‭ ‬الكرملين‭ ‬فرصةً‭ ‬حقيقية‭ ‬لمواجهة‭ ‬موجة‭ ‬الغضب‭ ‬الشعبية‭ ‬بسبب‭ ‬التعبئة‭ ‬والتجنيد،‭ ‬لاسيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سطع‭ ‬نجمها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬انتصارات‭ ‬في‭ ‬الحرب‭.‬

الاتجاه‭ ‬الثاني‭:‬‭ ‬يرى‭ ‬أنصاره‭ ‬أن‭ ‬تداعيات‭ ‬الأزمة‭ ‬على‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الروسي‭ ‬ستكون‭ ‬متواضعةً‭ ‬رغم‭ ‬اتفاقهم‭ ‬مع‭ ‬أنصار‭ ‬الاتجاه‭ ‬الأول‭ ‬بأن‭ ‬فاغنر‭ ‬وحدة‭ ‬قتال‭ ‬تكتيكي‭ ‬محترفة‭ ‬للغاية،‭ ‬وساقوا‭ ‬مبرراتهم‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬فاغنر‭ ‬ليست‭ ‬مخصصةً‭ ‬لتنفيذ‭ ‬مهام‭ ‬عسكرية‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل‭ ‬عن‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬وغير‭ ‬مجهزة‭ ‬لخوض‭ ‬معارك‭ ‬كبرى‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬خطط‭ ‬روسيا‭ ‬القتالية‭ ‬لا‭ ‬تعتمد‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق‭ ‬على‭ ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬الجبهات‭ ‬الحساسة‭ ‬ومناطق‭ ‬القتال‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬وأن‭ ‬مقاتليها‭ ‬ينتشرون‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬الجبهات‭ ‬القتالية‭ ‬ذات‭ ‬الأصداء‭ ‬الإعلامية‭ ‬مثل‭ ‬باخموت،‭ ‬بينما‭ ‬ينتشر‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬الجبهات‭ ‬القتالية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والمؤثرة‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬الحرب‭ ‬وحسابات‭ ‬التقدم‭ ‬والخسارة‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬الجبهة‭ ‬الشرقية‭ ‬الممتدة‭ ‬حتى‭ ‬خاركيف،‭ ‬والأمر‭ ‬ذاته‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬الجنوبية‭ ‬في‭ ‬خيرسون‭.‬

كما‭ ‬يرى‭ ‬أنصار‭ ‬الاتجاه‭ ‬الثاني،‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬خاضَ‭ ‬حروبًا‭ ‬وصراعات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬ويمتلك‭ ‬خبرةً‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المهارة‭ ‬القتالية‭ ‬العالية‭ ‬وإدارة‭ ‬ساحات‭ ‬المعارك،‭ ‬ولذلك‭ ‬يستبعد‭ ‬عدم‭ ‬امتلاكه‭ ‬خططًا‭ ‬بديلة‭ ‬تعوِّض‭ ‬القوات‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬المعركة‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬انسحاب‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر،‭ ‬علاوةً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬الروسية‭ ‬كانت‭ ‬تشرع‭ ‬في‭ ‬تقليص‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬الدفاع‭ ‬الأمامية‭ ‬منذ‭ ‬تولي‭ ‬رئيس‭ ‬الأركان‭ ‬فاليري‭ ‬غيراسيموف‭ ‬قيادةَ‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬تكرار‭ ‬الخلافات‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬كما‭ ‬قطعت‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬الطريقَ‭ ‬على‭ ‬خطط‭ ‬فاغنر‭ ‬لتجنيد‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬السجناء‭ ‬في‭ ‬جبهات‭ ‬القتال،‭ ‬كما‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬استراتيجية‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬تعوّلُ‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬الأسلحة‭ ‬الجوية‭ ‬والفتاكة‭ ‬من‭ ‬المواجهات‭ ‬البرية‭ ‬لكسب‭ ‬المعركة‭.‬

بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الاتجاهين،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬تمرد‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬جوهرية‭ ‬في‭ ‬الدائرة‭ ‬الضيقة‭ ‬لبوتين‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬بين‭ ‬رموز‭ ‬معادلة‭ ‬القوة‭ ‬الروسية‭ ‬وبخاصة‭ ‬داخل‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬الروسية،‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬بوتين‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬قد‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬قيادات‭ ‬عسكرية‭ ‬حساسة‭ ‬والقيام‭ ‬بعمليات‭ ‬تطهير‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬لمن‭ ‬يشتبه‭ ‬في‭ ‬تعاطفهم‭ ‬مع‭ ‬فاغنر‭ ‬أو‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬التمرد‭ ‬والإقدام‭ ‬على‭ ‬خطوات‭ ‬مماثلة‭ ‬لخطوة‭ ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬توقيت‭ ‬دقيق‭ ‬للغاية‭ ‬يتعلَّق‭ ‬بمستقبل‭ ‬الدولة‭ ‬الروسية‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬بوتين،‭ ‬ويسعى‭ ‬فيه‭ ‬لتحقيق‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الانتصارات‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬تنامي‭ ‬ظاهرة‭ ‬السخط‭ ‬الشعبي‭ ‬الروسي‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬الحرب‭ ‬مقابل‭ ‬الدعم‭ ‬الغربي‭ ‬القوي‭ ‬لكييف‭.‬

كما‭ ‬يشكل‭ ‬استبدال‭ ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬نقص‭ ‬الرجال‭ ‬العسكريين‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المعركة‭ ‬تحديًا‭ ‬لبوتين؛‭ ‬فمجموعة‭ ‬رمضان‭ ‬قديروف‭ ‬مدربة‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬حرب‭ ‬المدن‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬القتال‭ ‬ضد‭ ‬جيش‭ ‬متطور‭ ‬وكبير‭. ‬ويبقى‭ ‬السؤال‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬سيعتمد‭ ‬بوتين‭ ‬على‭ ‬قديروف؟‭ ‬قد‭ ‬يُكلف‭ ‬بمسؤولية‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬المضطربة‭ ‬مثل‭ ‬روستوف‭ ‬أون‭ ‬دون،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬استولت‭ ‬عليها‭ ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬دون‭ ‬مقاومة‭. ‬وقد‭ ‬تضطلع‭ ‬مجموعة‭ ‬قديروف‭ ‬أيضًا‭ ‬ببعض‭ ‬المهام‭ ‬الدفاعية‭ ‬تحت‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬للجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬استشهاد‭ ‬بوتين‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬بما‭ ‬عاشتهُ‭ ‬البلاد‭ ‬سنة‭ ‬1917م،‭ ‬وإسقاط‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬بريغوجين‭ ‬التي‭ ‬بنظره‭ ‬كانت‭ ‬مؤامرات‭ ‬أطاحت‭ ‬بالجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬بوتين‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬ترك‭ ‬المجال‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬فات‭ ‬الأوان‭ ‬وسمح‭ ‬ببروز‭ ‬تحدٍ‭ ‬حقيقي‭ ‬لاستقرار‭ ‬سلطته‭ ‬في‭ ‬روسيا‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬انسحاب‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬المعنوية‭ ‬والنفسية‭ ‬للقوات‭ ‬الروسية‭ ‬مقابل‭ ‬ارتفاع‭ ‬معنويات‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬ما‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬صالح‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬تعريض‭ ‬العملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬برمتها‭ ‬لتداعيات‭ ‬خطيرة‭ ‬حال‭ ‬تدحرجها‭ ‬للداخل‭ ‬الروسي‭ ‬بتسلل‭ ‬الانقسامات‭ ‬للدائرة‭ ‬الضيقة‭ ‬حول‭ ‬بوتين‭ ‬وانضمام‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬قائد‭ ‬فاغنر،‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الاستعدادات‭ ‬الغربية‭ ‬لاستغلال‭ ‬الأزمة‭ ‬ونقل‭ ‬الصراع‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬الروسي‭.‬

رابعًا‭: ‬انعكاسات‭ ‬تمرد‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭ ‬على‭ ‬حلفاء‭ ‬أوكرانيا

يوازنُ‭ ‬حلفاءُ‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬متابعتهم‭ ‬للتطورات‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬بين‭ ‬مسألة‭ ‬الحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬والأسلحة‭ ‬النووية‭ ‬التي‭ ‬تمتلكها‭ ‬روسيا‭. ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬المحددين‭ ‬فإن‭ ‬مقاربتهم‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬بقاء‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬فلادمير‭ ‬بوتين‭ ‬على‭ ‬‮«‬حافة‭ ‬السقوط‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬وضعية‭ ‬تجعله‭ ‬ضعيفًا‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬إنجازات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬بما‭ ‬يُعزز‭ ‬من‭ ‬قوته‭ ‬وطموحاته‭ ‬التوسعية،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يريدون‭ ‬حدًا‭ ‬أدنى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬التي‭ ‬بإمكانها‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬وضمان‭ ‬عدم‭ ‬وقوعها‭ ‬في‭ ‬أيدٍ‭ ‬غير‭ ‬عقلانية،‭ ‬علمًا‭ ‬أن‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬بوتين‭ ‬مُصنفٌ‭ ‬كإرهابي،‭ ‬ويقود‭ ‬مرتزقة؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يتوفر‭ ‬فيه‭ ‬أدنى‭ ‬شرط‭ ‬من‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬تُحبذها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والغرب‭ ‬في‭ ‬قادة‭ ‬المعارضة‭ ‬سواءً‭ ‬كانت‭ ‬انقلابيةً‭ ‬أو‭ ‬سلمية،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬بريغوجين‭ ‬وبوتين‭ ‬بالنسبة‭ ‬للغرب،‭ ‬فكلاهما‭ ‬يشترك‭ ‬في‭ ‬عدائه،‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬بريغوجين‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الحرب‭ ‬نفسها؛‭ ‬بل‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا‭ ‬شُنت‭ ‬الحرب؛‭ ‬هذه‭ ‬مواجهةٌ‭ ‬بين‭ ‬رجلين‭ ‬مختلفين‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تدمير‭ ‬أوكرانيا‭ ‬بطريقة‭ ‬أكثر‭ ‬كفاءة‭. ‬لذلك‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬رجال‭ ‬بريغوجين‭ ‬متوجهين‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬عوائق‭ ‬نحو‭ ‬موسكو،‭ ‬كان‭ ‬الناتو‭ ‬يخشى‭ ‬من‭ ‬وقوع‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أسوأ،‭ ‬أي‭ ‬سقوط‭ ‬روسيا‭ ‬بترسانتها‭ ‬النووية‭ ‬المتطورة‭ ‬والمدمرة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬حاكم‭ ‬أكثر‭ ‬تشددًا،‭ ‬وكلُّه‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬إطلاق‭ ‬الصواريخ‭ ‬النووية،‭ ‬كما‭ ‬أجَّل‭ ‬بايدن‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التشاور‭ ‬مع‭ ‬الحلفاء‭ ‬الأوروبيين،‭ ‬وشدَّد‭ ‬الناتو‭ ‬الإجراءات‭ ‬الأمنية‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬مع‭ ‬روسيا،‭ ‬ووضع‭ ‬قواته‭ ‬الجوية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تأهب‭ ‬قصوى،‭ ‬وستبقى‭ ‬القوات‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لأسابيع‭ ‬قادمة‭ ‬تحسبًا‭ ‬لأي‭ ‬هجوم‭ ‬روسي‭ ‬على‭ ‬أعضائه‭ ‬أو‭ ‬حلفائه‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية؛‭ ‬حيث‭ ‬عبَّر‭ ‬مراقبون‭ ‬مختلفون‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي‭ ‬عن‭ ‬مخاوفهم‭ ‬من‭ ‬عدوان‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬الجيران‭ ‬الأصغر‭ ‬للحلف‭ (‬استونيا،‭ ‬ليتوانيا،‭ ‬لاتفيا،‭ ‬ورومانيا‭)‬،‭ ‬إذا‭ ‬رأى‭ ‬بوتين‭ ‬أنه‭ ‬يفقد‭ ‬قبضته‭ ‬على‭ ‬السلطة؛‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬لن‭ ‬يُراقب‭ ‬الناتو‭ ‬الوضع‭ ‬المتقلب‭ ‬بهدوء‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬بل‭ ‬سيرُسل‭ ‬مختلف‭ ‬أنواع‭ ‬طائرات‭ ‬التجسس‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عناصر‭ ‬الاستخبارات‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬لتكون‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬تطور‭ ‬الأوضاع‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

لم‭ ‬يتحقَّق‭ ‬بعد‭ ‬أفضل‭ ‬سيناريو‭ ‬ترغب‭ ‬به‭ ‬أوكرانيا‭ ‬والناتو،‭ ‬حيث‭ ‬شنَّت‭ ‬مختلف‭ ‬الوحدات‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬هجمات‭ ‬ضد‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬احتواء‭ ‬الوضع،‭ ‬وتفادت‭ ‬موسكو‭ ‬وقوع‭ ‬كارثة‭ ‬كبرى،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثارَ‭ ‬استياء‭ ‬أعدائها‭ ‬ومنحَ‭ ‬بوتين‭ ‬الفرصةَ‭ ‬للعمل‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬هيبته‭ ‬المجروحة،‭ ‬وإحكام‭ ‬قبضتِه‭ ‬على‭ ‬السلطة‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬يبقى‭ ‬ما‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬محاولة‭ ‬قوات‭ ‬فاغنر‭ ‬للتمرد،‭ ‬يخدم‭ ‬مصالح‭ ‬كييف‭ ‬وحلفائها،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬حوَّل‭ ‬الرأيَ‭ ‬العام‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬تغطية‭ ‬مجريات‭ ‬المعارك‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬روسيا،‭ ‬وأعطى‭ ‬للحكومات‭ ‬الغربية‭ ‬خاصةً‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مبررات‭ ‬إضافية‭ ‬لمواصة‭ ‬دعمها‭ ‬لأوكرانيا،‭ ‬وستوظف‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬المعارضين‭ ‬للحرب،‭ ‬والتأكيد‭ ‬على‭ ‬خطر‭ ‬بوتين،‭ ‬والفوضى‭ ‬التي‭ ‬أحدثها‭ ‬بدايةً‭ ‬ببلاده‭. ‬كما‭ ‬تظهر‭ ‬الندية‭ ‬التي‭ ‬أبداها‭ ‬قائد‭ ‬فاغنر‭ ‬يفغيني‭ ‬بريغوجين‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬مع‭ ‬بوتين؛‭ ‬الرئيسَ‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬المرتبك‭ ‬والضعيف‭ ‬وغير‭ ‬المتحكم‭ ‬في‭ ‬زمام‭ ‬الأمور‭ ‬داخل‭ ‬حدوده،‭ ‬لتهدم‭ ‬بذلك‭ ‬صورةَ‭ ‬القائد‭ ‬القوي‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬حول‭ ‬نفسه‭ ‬طيلةَ‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية،‭ ‬لاسيما‭ ‬بعد‭ ‬تصريح‭ ‬بريغوجين‭ ‬الذي‭ ‬شكَّك‭ ‬فيه‭ ‬بمنطق‭ ‬بوتين‭ ‬في‭ ‬شنّه‭ ‬الغزو‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا؛‭ ‬كان‭ ‬تصريحًا‭ ‬غير‭ ‬متوقع‭ ‬بالنسبة‭ ‬للروس،‭ ‬ومُبهجًا‭ ‬للأوكرانيين‭. ‬لقد‭ ‬نُسفت‭ ‬أساطير‭ ‬قبضة‭ ‬بوتين‭ ‬الحديدية‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬ومهَّدت‭ ‬حالة‭ ‬الارتباك‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الطريقَ‭ ‬لشن‭ ‬هجومٍ‭ ‬عسكري‭ ‬تأخَّر‭ ‬تنفيذه؛‭ ‬ففي‭ ‬ساعات‭ ‬الارتباك‭ ‬الأولى،‭ ‬كان‭ ‬بإمكان‭ ‬الأوكرانيين‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬فرصة‭ ‬جمع‭ ‬معلومات‭ ‬استخبارية‭ ‬لا‭ ‬تُقدر‭ ‬بثمن‭ ‬حول‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬وحالة‭ ‬القيادة‭ ‬والسيطرة‭. ‬ورغم‭ ‬تأكيد‭ ‬الكرملين‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تأثير‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬مجريات‭ ‬الحرب‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التأثيرات‭ ‬السلبية‭ ‬لما‭ ‬حصل‭ ‬هي‭ ‬الأرجح‭ ‬على‭ ‬المعارك‭ ‬المحتدمة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الغموض‭ ‬الذي‭ ‬يكتنفُ‭ ‬مستقبلَ‭ ‬فاغنر،‭ ‬وأيضًا‭ ‬لتزامن‭ ‬التمرد‭ ‬مع‭ ‬الهجوم‭ ‬المضاد‭ ‬الذي‭ ‬يشنُّه‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬أشهر‭ ‬الصيف‭ ‬التي‭ ‬تُتيح‭ ‬له‭ ‬مُتسعًا‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬لتحقيق‭ ‬مكاسب‭ ‬قبل‭ ‬قدوم‭ ‬الشتاء،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬الدعم‭ ‬الغربي‭ ‬والأمريكي‭ ‬سيتواصل‭ ‬وربما‭ ‬يتضاعف‭ ‬لتحقيق‭ ‬أكبر‭ ‬قدرٍ‭ ‬من‭ ‬المكاسب‭ ‬في‭ ‬اتجاهين‭ ‬الأول‭ ‬إضعاف‭ ‬بوتين‭ ‬داخليًا،‭ ‬والثاني‭ ‬تقويض‭ ‬إنجازاته‭ ‬العسكرية‭ ‬خارجيًا‭.‬

الخاتمة

على‭ ‬ضوء‭ ‬المعطيات‭ ‬السابقة،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬استمرار‭ ‬أزمة‭ ‬فاغنر‭ ‬وتجدُّدها‭ ‬بحيث‭ ‬تُسبب‭ ‬مشكلات‭ ‬وتعقيدات‭ ‬داخلية‭ ‬للرئيس‭ ‬بوتين‭ ‬دون‭ ‬تهديد‭ ‬بقائه‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تريده‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والغرب‭ ‬لدفع‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬التوصل‭ ‬لتسوية‭ ‬تُعيدُه‭ ‬إلى‭ ‬المربع‭ ‬الأول‭ ‬لما‭ ‬قبل‭ ‬2014م،‭ ‬إذ‭ ‬لن‭ ‬يفوِّتَ‭ ‬الأوروبيون‭ ‬أيَّ‭ ‬فرصة‭ ‬سانحة‭ ‬تأتي‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬حيث‭ ‬سيسعون‭ ‬جاهدين‭ ‬إلى‭ ‬قطف‭ ‬ثمار‭ ‬هذه‭ ‬الفرصة‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وشبه‭ ‬جزيرة‭ ‬القرم،‭ ‬وقد‭ ‬يلجأ‭ ‬بوتين‭ ‬لتحجيم‭ ‬دور‭ ‬مجموعة‭ ‬فاغنر‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬القادمة‭ ‬وإجراء‭ ‬تغييرات‭ ‬قد‭ ‬تطال‭ ‬قيادات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬أمنية‭ ‬وعسكرية‭ ‬حساسة،‭ ‬وربما‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بديل‭ ‬مناسب‭ ‬لقوات‭ ‬فاغنر‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تشكل‭ ‬هاجسًا‭ ‬للقيادة‭ ‬الروسية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حالة‭ ‬السخط‭ ‬الشعبي‭ ‬الكبير‭ ‬جرَّاء‭ ‬التداعيات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للحرب‭ ‬وحالات‭ ‬التذمر‭ ‬من‭ ‬قرارات‭ ‬التعبئة‭ ‬والحشد‭ ‬والتجنيد‭ ‬الإجباري‭.‬

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير