ثمَّة تيّار ديني قوي في الداخل الإيراني يريد حربًا مفتوحة مع إسرائيل والغرب، ويرى أنَّ هذه الحرب لا بثدَّ منها، وأنَّها «آتية لا محالة، حتى ولو تسبَّبت في قتْل آلاف الناس، أو حتى لو أفنت نصف سُكّان الكوكب!». وهذا التيّار لا يمارس ضغطا إستراتيجيًا على خصوم إيران، من باب البرجماتية وتوزيع الأدوار داخليًا، بل يعبِّر في الواقع عن قناعات ورؤية إستراتيجية للعالم من حوله، ويرى أنَّ تلك المواجهة تمهيد حتمي لبسط «المنهج الحقّ في الأرض»، وتأسيس «الدولة العالمية» المنشودة، التي هي مقصد من مقاصد «الثورة الإسلامية». وهو ما عبَّر عنه كافَّة فلاسفة ومنظِّري نظام ما بعد 1979م، مثل مرتضى مطهري، وغيره، في بداية الثورة. أمّا اليوم، فقد بات يُخشى الجهر به من باب البراجماتية السياسية والدبلوماسية، التي تقتضي عدم تخويف الإقليم من الخطاب الإيراني، إلّا أنَّ بعض رجال الدين يُصِرّ على تقديم هذا الخطاب والجهر به؛ لأسبابٍ سيُجليها هذا التقرير في محورين رئيسين، الأول: عن إحياء خط «التشدُّد»، وفيه تنويه باقري بأنَّ الحرب ابتلاء لا بُدَّ منه، وتبريره لمقتل المدنيين، والثاني: عن أهداف مدرسة «التشدُّد» وانقسامها إلى أهداف داخلية وخارجية.
أولًا: مير باقري وإحياء خط «التشدُّد»
في حوار لافتٍ لمحمد مهدي مير باقري (درجة آية الله)، أحد أهمّ تلامذة آية الله محمد تقي مصباح يزدي، الذي يُوصَف بأنَّه منظِّر العُنف وفقيهه، أكَّد فيه أنَّ الدولة الإيرانية الحالية هي امتداد للدولة الصفوية، وهي امتداد للإمام الرضا، قائلًا: «في عهد العباسيين الصعب جدًّا، أي عصر هارون والمأمون، غيَّر الإمام -الرضا- جغرافية العالم الإسلامي والعالم بهجرته الكُبرى، وأنشأ واديًا آمنًا لأتباع مدرسة آل البيت. ومن هُنا تشكَّلت الدولة رويدًا رويدًا، وهي الدولة الصفوية، التي استمرَّت حتى الآن، ووصلت إلى هُنا». ووصَفَ مير باقري تأسيس الدولة الصفوية، بأنَّه كان «فتحًا إلهيًا، حينها»، لكنَّه أكَّد على محورين يلخِّصان رأيه وتيّاره من خلفه، في مسألة الحرب القائمة:
١- ابتلاءات لا بُدَّ منها: فالحرب في نظره، هي نوع من أنواع الابتلاءات، التي لا بُدَّ منها، وهو طريق الأنبياء والأولياء، وهي لتمحيص من آمن ومن لم يؤمن. قائلًا: «هذه الابتلاءات تحدُث؛ لأنَّنا على حقّ، وعلينا أن نبقى فيها». وهذا نوع من تثبيت قلوب حواضن التقليد وطُلّاب الحوزة، بأنَّ أهل الحقّ «مُبتَلون»، وأنَّ تلك الحرب سببها الوحيد أنَّهم على «الحقِّ المبين». ثَّم عِمَل على تثبيت «جبهة الحق»، بأنَّ انتصار العدو هو مجرَّد انتصار ظاهري، وليس حقيقيًا، قائلًا: «يأتي الله بمثل هذه المشاهد، ويسمح بعلُو العدو أحيانًا، بل وبتوجيه العدو ضربات لجبهة الحق أيضًا. لذا؛ لا ينبغي أن نسقط في خطأ أنَّه لأنَّنا مؤمنون فيجب أن يكون هناك نصر ظاهري. ومن جهة أخرى، حتى لو تحقَّق نصر ظاهري على الجبهة المقابلة، فهذا لا يعني أنَّ خِطَّة الشيطان قد انتصرت. ينصر الله أحيانًا نظام الشيطان، ليتخيَّلوا أنَّ خِطَّة الله قد فشلت». ويبدو أنَّ ثمَّة امتعاض لدى فئات كثيرة في الداخل الإيراني والحوزوي، خصوصًا إزاء الحرب القائمة، والتناوُش المُتبادَل بين إسرائيل وإيران، فأراد باقري أن يطمئن قلوب «المؤمنين»، مستحضِرًا خطابًا تقليديًا تاريخيًا مذهبيًا؛ لأنَّه يُدرِك أهمِّية هذا الخطاب بالنسبة لطُلّاب الحوزة والجماعات الدينية والعقليات الأيديولوجية.
٢- مقتل المدنيين: أمّا عن رؤيته حول مقتل آلاف المدنيين في تلك الحروب، فلم يُلقِ لها بالًا، بل اعتبرها جزءًا من ضريبة الحق، بقوله: «حتى لو قُتِل أكثر من ذلك؛ حتى لو قُتِل نصف العالم». ثمَّ استدلَّ بكلام الخميني نفسه في ذلك الصدد، قائلًا: «كان الخميني يقول: لنفترض أنَّ القُوى العُظمى ستشنقنا جميعنًا نحنُ “بسيجيو الإسلام”، وستُسبي نساءنا جميعًا؛ فالأمر يستحِقّ من أجل الوصول إلى الهدف». لكنَّه لم يذكر مصدر كلام الخميني أين قاله، وفي أيّ سياق؟ فقط أراد أن يربط فكرته ومقولته بمؤسِّس الدولة، بما له من قُدسية لدى النظام ومعارضته، حيث لا يجرؤ أحد على انتقاد الخميني وفكر. لكن «الإصلاحيين» شكَّكوا في نسبة المقولة للخميني، منوِّهين بأنَّ مير باقري اختلقها؛ لأنَّ الخميني وافق على إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية، فكأنَّ باقري يريد من إيران أن تحارب العالم أجمع؟! والمفارقة هُنا أنَّ منظِّري النظام الإيراني، أو «المتشدِّدين» منهم، تارةً يتكلَّمون عن حماية المستضعفين ونقلهم إلى حياة أفضل، وتارةً يتكلَّمون عن مقتل كل الناس وتشريدهم وتعرُّضهم لفِتَن وابتلاءات لا طاقة لهم بها، مقابل نُصرة القضية.
ثانيًا: أهداف مدرسة «التشدُّد» ومآلاتها
يعتبر البعض مير باقري منظِّر الحرب في إيران، ووريثًا لأستاذه مصباح يزدي، وقد كان على سبيل المثال في عام 2013م بين صفوف أنصار مرشَّح «جبهة ثبات الثورة»، سعيد جليلي؛ المرشَّح الذي اختاره مصباح يزدي، حتى أنَّ مير باقري سافر من أجل الدعاية لجليلي، وألقى خطابًا في مدينة مشهد دعمًا له. وكان في 2017م و2021م بين الداعمين الرئيسيين لإبراهيم رئيسي، وكان يرى أنَّ رئيسي شخصية شعبية وثورية تتمتَّع بقُدرة والتزام كبيرين، وبإمكانه إنقاذ اقتصاد البلاد. كما يرى أنَّ الحكومة الحالية لا تؤمن على الإطلاق بالمفهوم الأساسي لـ «الاقتصاد المقاوم»، وأنَّها جعلت من الاقتصاد رهينة لخِطَّة العمل الشاملة المشتركة الأولى والثانية والثالثة.
ويبدو النظام الإيراني يتعمَّد إظهار «المتشدِّدين» في إعلامه الرسمي، وبسْط مساحة لهم؛ بُغية تحقيق عددٍ من الأهداف في الداخل والخارج، يمكن تبيانها في نقطتين:
١- على مستوى الداخل: داخليًا، يسعى النظام للضغط علي «الإصلاحيين» وحكومة مسعود بزشكيان؛ حتى لا تخرج عن الدوائر، التي يعتبرها النظام خطوطًا حمراء، ورُبَّما لإفشالها تمامًا، والتمهيد لعودة «المحافظين» و«الراديكاليين». ففي مشاركة للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بجامعة طهران، بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد، احتجَّ بعض الطُلّاب وتوتَّرت الأجواء، فدعا الرئيس أحد الطُلّاب -الذي كان يتحدَّث بصوتٍ عالٍ- كي يتحدَّث عن رأيه، وكان هذا الشخص علي رضا صفري، مسؤول «البسيج الطُلّابي» بجامعة طهران وأحد مؤيِّدي سعيد جليلي، فطالب الطالب بمنحهم منصَّة للتحدُّث، والمفارقة أنَّ جميع المنصَّات تقع تحت سُلطة زملائه من طلاب «البسيج». وبعد نشر صوره مع جليلي، تحدَّث كثيرون عن أنَّ المهزومين لا يريدون تقبُّل النتيجة حتى اليوم، ويسعون إلى توتير الأجواء، ووضْع العقبات أمام «الإصلاحيين». ولهم تاريخ في ذلك الأمر، فقد حاولوا من قبل وضْع العراقيل أمام الرئيس الأسبق حسن روحاني، عندما هاجموا سيارته في مطار مهر آباد، ورموه بالسباب والشتائم، إثر عودته من نيويورك في سبتمبر 2013م، وهو ما يحاولون فعله اليوم مع بزشكيان، عبر الهجوم والقصف الإعلامي والتشويه المستمِرّ والاتّهام في النوايا. علمًا أنَّ سعيد جليلي مرشَّح «المتشدِّدين» الخاسر، لا يعتبر فقط «الإصلاحيين» أعداء له، بل يعتبر «الأُصوليين المعتدلين» في خانة الأعداء. لا يؤمن جليلي ولا مير باقري بالواقعية السياسية في الخارج، أو الحوار وتوحيد النسيج المجتمعي في الداخل، وبالتالي يتّهمهم «الإصلاحيون» بخلق مشاكل لإيران؛ بسبب تهوُّرهم وتشدُّدهم، في المقابل، يتّهمون «الإصلاحيين» بالنكوص عن مبادئ الثورة و«فقه الخميني الثوري»، ورُبَّما اتّهموهم أحيانًا بالعمالة للغرب.
٢- على مستوى الخارج: خارجيًا، يُرسل النظام رسالة للغرب، مفادها أنَّ ثمَّة «متشدِّدين» في الداخل يضغطون عليه لاستمرار الحرب، والردّ على إسرائيل والغرب، والدخول في حرب مفتوحة حتى ولو راح ضحيتها نصف سُكّان العالم، وبالتالي، فإنَّ النظام بمعطياته البراجماتية، حتى «المتشدِّدة» منها، يُعتبَر خيارًا مقبولًا لدى الغرب، ويحاول النظام تصدير تلك الصورة للخارج. والغرب وإن أدرك تلك الحقيقة، إلّا أنَّه يدرك أيضًا أنَّ هؤلاء «المتشدِّيين» هم خطر حقيقي على الغرب ومصالحه، وأنَّ النظام حتى مع وجود خلافات كبيرة، لكن يمكن ترويضه وتهذيب سلوكه؛ تارةً بالتهديد المباشر، وتارةً تهذيب سلوكه عبر التفاوض المباشر أو غير المباشر وفتْح منافذ اقتصادية له، تحول دون سقوطه الاقتصادي التام وفُقدان شرعيته أمام شعبه. وبالتالي، يوقن الغرب أنَّ «الإصلاحيين» أو «العلمانيين» و«اليساريين» ليسوا البديل الحتمي للنظام في حال سقوطه، بل يمكن أن يكون البديل هُم مجموعات «التشدُّد» في الحوزة والحرس الثوري، ممَّن يمكلون القوة والنفوذ على أرض الواقع، والتي يعبِّر عنها خطاب أمثال محمد مهدي مير باقري وأضرابه من فُقهاء «التشدُّد».
خاتمة لا شكَّ أنَّ النظام الإيراني متمرِّس في توظيف ثنائية «الإصلاحيين» و«المحافظين»، منذ الثورة وحتى اليوم، بيد أنَّه، وهو المحسوب على «المحافظين الراديكاليين»، يريد من وراء بروز الخطاب «المتشدِّد» اليوم أن يحقِّق هدفين في الداخل والخارج، فيضغط على حكومة بزشكيان حتى لا تخرج عن ثوابت النظام أو ما يسمِّيه ثوابت الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويترك مساحة لـ «المتشدِّديين» للاشتباك معها، مذكِّرًا إيّاها بما حَدَث من بطْشٍ بالمسؤولين «الإصلاحيين» في حكومة محمد خاتمي ثمَّ التحرُّش بهم في حكومة روحاني، ثمَّ أخيرًا محاولات الكبح والتخويف مع حكومة بزشكيان. أمّا في الخارج، فيُرسل النظام رسائل إلى الغرب، أنَّ ثمَّة أجنحة «متشدِّدة» في الداخل لا تمانع من خوْض حرب مفتوحة مع إسرائيل والغرب، بل تحثّ عليها حثًّا، حتي ولو أدَّت إلى مقتل ليس الإيرانيين فقط، بل نصف سُكّان العالم، وبالتالي، يُظهِر النظام نفسه كمدافعٍ عن مصالح الغرب، أو على الأقل كنظامٍ عقلاني يُؤثِر المواجهات المحسوبة مع الغرب، ويسعى إلى التفاوض على حساب أذرعه ببعض الدول العربية، وكأنَّه يذكِّر الغرب بأنَّ «الآرية» تجمعهم، وأنَّ إيران أقرب إلى الغرب من العرب، وبالتالي فلا مانع من التفاوض لتحقيق مصالح الطرفين على حساب العرب وأرضهم وتاريخهم.