خطط ترامب المستقبلية بشأن أوكرانيا وتأثيرها على العلاقات عبر الأطلسي

https://rasanah-iiis.org/?p=37210

خلال حملته الرئاسية، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصريحاتٍ جريئةٍ حول قُدرته على حل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، مُشيدًا بمهاراته التفاوضية وأنها من أساسيات الحل. وأكد ترامب مرارًا وتكرارًا أنه قادرٌ على إنهاء الصراع في غضون 24 ساعًة إذا أُعيد انتخابه، وهو الوعد الذي أثار قدرًا كبيرًا من الاهتمام والشكوك. إن دراسة هذه التصريحات وتداعياتها المحتملة وكيف قد تُعيد تشكيل العلاقات عبر الأطلسي أمر بالغ الأهمية لفهم المشهد الجيوسياسي في ظل إدارة ترامب الثانية.

وبعيدًا عن الديناميات الثنائية للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن الاجتماع بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسالة إلى الرئيس ترامب تُفيد بأنه لن يستطيع أن «يدق إسفين بين البلدين». وفي حين قد يُهدد ترامب روسيا بتنفيذ عقوبات جديدة إذا فشلت محادثات السلام في غضون 100 يوم، فإن القضية الحقيقية ليست قدرته على الضغط على بوتين بل استعداد بوتين للتجاوب معه. إن الهدف الاستراتيجي الشامل لترامب هو «فصل» روسيا عن الصين، على غرار مساعي نيكسون لإبعاد الصين عن الاتحاد السوفييتي في السبعينيات. وهذا يجعل من غير المُرجح أن يُصعد ترامب بقوة الضغوطات الاقتصادية على روسيا في الأمد القريب لاسيما أنه يُريد أن يُعطي جهوده الدبلوماسية المُباشرة مع موسكو فرصًة للنجاح. ناهيك أن نفوذ الولايات المتحدة في روسيا محدود؛ ففي عام 2021م، بلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين نحو 29.7 مليار دولار، وبحلول عام 2023م، انخفض هذا الرقم إلى نحو 4.9 مليار دولار. ورغم إمكانية فرض عقوبات جديدة تستهدف النفط الروسي أو «شركة روس آتوم»، إلا أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى عواقب غير مرغوبة، مثل ارتفاع أسعار النفط العالمية، وهي النتيجة التي تحرص إدارة ترامب الجديدة على تجنُبها.

ومع فرض المملكة المتحدة والولايات المتحدة عقوبات جديدة تستهدف صادرات النفط الروسية وسعي دول مجموعة السبع إلى تشديد سقف أسعار النفط الذي فرضته على روسيا، يأمل بعضُهم أن تتقلص عائدات موسكو الحيوية من «الهيدروكربونات» بشكل أكبر، مما يؤدي إلى تفاقم خسائر روسيا الناجمة عن انهيار صادراتها من الغاز إلى أوروبا وتراجُع مبيعات الفحم. ومن الواضح أن أحد الخيارات الماثلة هو أن تُشدد الولايات المتحدة العقوبات على أسطول «الظِل» الروسي الذي يُساعد موسكو في التهرب من الالتزام بسقف أسعار النفط الذي فرضتُه مجموعة السبع. الجدير بالذكر هنا، أنّ «الهيدروكربونات» قد تُشكل 27% من عائدات الميزانية الروسية في عام 2025م، أي أقل من 53% وهو الرقم الذي حققته في عام 2018م، لاسيما أن روسيا أصبحت أقل اعتمادًا على «الهيدروكربونات»، وهي ثورة تُديرها بهدوء ويتجاهلها الغرب؛ وفي هذا المسعى أصبحت روسيا تستخدم الهند وأذربيجان ودول آسيا الوسطى مراكز رئيسية للالتفاف على العقوبات الغربية، وخاصًة في تسهيل تَصدير مُنتجاتها من النفط والغاز إلى الأسواق الغربية.

ومن جانبه، هنأ بوتين الرئيس الأمريكي الجديد وأعرب عن انفتاح بلاده للحوار، رغم تأكيده على أن المحادثات «ليست غاية في حد ذاتها»، وعلى ضرورة مُعالجة أسباب الصراع الجذرية. والسؤال المهم هنا هو متى قد تجرى مكالمة هاتفية مباشرة بين ترمب وبوتين. أما أوروبيًا، فقد كانت الوفود الأوروبية والأوكرانية في دافوس متخوفًة من احتمال إجراء مناقشات مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا؛ فمن منظور الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، قد يُهمشان في حال استُبعد ممثليهما من أي جهود دبلوماسية جديدة يقودها ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

الآن، تُعطي إدارة ترامب الجديدة الأولوية لـعقد «صفقة» تنهي القتال في أوكرانيا؛ لذا من المتوقع أن يوقف ترامب الدعم الأمريكي أو يهدد بقطعه للضغط على كييف لقبول مثل هذه الصفقة. ومن المؤكد أن تشمل هذه الصفقة تنازلات عن أراض وقد يشمل أيضًا مطالب أمريكية بأن يأخذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) موقف الحياد وإرجاء عضوية أوكرانيا في الحِلف، لكن أشار ترامب أيضًا إلى أنه قد يَزيد من دعمه لأوكرانيا في حال رفض بوتين التفاوض. وعلى الرغم من هذا، فمن المُرجح أن يكون ترامب مُتعاطفًا مع وجهة النظر الروسية بشأن المُقترحات وأكثر ميلًا على تحقيق حلٍ سريعٍ بدلًا من الخروج بنتيجة أفضل لكييف. ومع ذلك، فإن إدارة ترامب تُريد صفقًة يُمكن تأطيرها على أنها ناجحة، مما يعني أن كييف ستحتفظ ببعض النفوذ في المفاوضات.

وتُشير تصريحات ترامب إلى اتخاذه نهجًا مُغايرًا كُليًا عن استراتيجية إدارة بايدن المتمثلة في الدعم العسكري والمالي الثابت لأوكرانيا، فهو يتبع نهجًا أكثر عمليًة وواقعيًة، مؤكدًا على الحوار مع كييف وموسكو. ولم يعرض خِططًا مُفصّلة، ​​لكن تصريحاته تُشير إلى أنه قد يضغط على أوكرانيا لدفعها لتقديم تنازلات عن أراض لتحقيق وقف إطلاق النار. كما ألمح إلى أن تقليص التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي وتقليص المشاركة في البنية الأمنية الأوروبية قد يكون مطروحًا على الطاولة.

 ويتماشى هذا الموقف مع نهجه الأوسع في السِياسة الخارجية المُتمثل في إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية على الالتزامات المتعددة الأطراف؛ رغم أنه انتقد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، لكنه لم يصف بوتين بأنه «مجرم حرب»، بل أشار إلى أن تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا قد يكون مُفيدًا.

إن استراتيجية ترامب تجاه روسيا اختبارٌ لمدى تماسك حلف شمال الأطلسي، وخاصًة إذا اشترط دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا بتحمل الدول الأوروبية حصة أكبر من العبء. فخلال فترة ولايته الأولى، انتقد ترامب حلفاء الناتو مرارًا وتكرارًا لفشلهم في الوفاء بالتزامات الإنفاق الدفاعي، ومن الممكن أن يُؤدي تشديده المُتكرر على تقاسُم الأعباء إلى تفاقُم التوترات. وقد يُؤدي خفض الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا الدول الأوروبية إما إلى زيادة مساهماتها أو مواجهة احتمال أن تصبح الاستجابة الجماعية للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا ضعيفة.

وقد يرى الحلفاء الأوروبيين في نهجه تقويضًا لسيادة الأراضي الأوكرانية وسلامتها، وهذا هو أساس الاستجابة الغربية للأزمة الأوكرانية. وإذا سعى إلى اتباع استراتيجية يُنظر إليها على أنها لصالح روسيا أو تضر بمطالب أوكرانيا في أراضيها، فقد يؤدي ذلك إلى فُقدان الثقة بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين، مما قد يترتب عليه عواقب طويلًة الأجل على العِلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والتعاون عبر الأطلسي في قضايا حاسمة أخرى، مثل التجارة وتغير المناخ والأمن العالمي.

إن المفاوضات التي يقودها ترامب التي تجمع بين التنازلات الكبيرة والضغوطات ضد روسيا قد تُشكل سابقة لمعالجة الصِراعات من خلال الإكراه، وهذا من شأنه أن يُثير قلق دول أوروبا الشرقية، التي قد يختلف تعريفها لـمفهوم «النصر الأوكراني» عن تعريف إدارة ترامب. وينطبق هذا خاصًة على الدول الأوروبية المتاخمة لروسيا، وقد يدفعها إلى البحث عن ترتيبات أمنية بديلة، مما قد يؤدي إلى تفتيت التحالف الحالي عبر الأطلسي.

ولمواجهة احتمالية تقليص واشنطن مشاركتها الدفاعية، قد تُسارع الدول الأوروبية إلى تَسريع الجهود الرامية إلى تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية، وقد تكتسب مبادرات مثل «سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي | CSDP» زخمًا مع سعي أوروبا إلى الحد من اعتمادِها على الدعم العسكري الأمريكي. وفي حين قد يؤدي تعزيز اعتماد أوروبا على نفسها إلى تعزيز الأمن الإقليمي في الأمد البعيد، فقد يفضي أيضًا إلى تحالف غربي أكثر تفتُتًا إذا تباينت الأولويات عبر الأطلسي. وعلى الصعيد العالمي، قد تُعيد سياسات ترامب المقترحة تشكيل التحالفات الجيوسياسية؛ فقد ترحب البلدان في الجنوب العالمي، التي تبنت العديد منها مواقف مُحايدة بشأن أزمة أوكرانيا، بخفض التصعيد في التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا. ومع ذلك، قد ينظُر حلفاء الولايات المتحدة التقليديون في أوروبا وآسيا إلى مثل هذه التحركُات على أنها تراجُع عن دور الولايات المتحدة في قيادة العالم. وحتى لو كان ثمة تفاؤلٌ حَذِر بين بعض الحلفاء الأوروبيين بشأن النهج المباشر الذي يتبناه ترامب لإنهاء الصراع، إلا أن هناك أيضًا مخاوف كبيرة بشأن العواقب طويلًة الأجل على الأمن الأوروبي إذا ضغطت الولايات المتحدة على أوكرانيا لتقديم تنازُلات عن أراضيها. إن التعامل مع هذا السيناريو المعقد يتطلب من ترامب أن يوازن بين خطابه «السلام من خلال القوة» وحقائق الدبلوماسية الدولية على الأرض. لذا قد تفضي خططه إما إلى وقف سريع للأعمال العدائية أو إلى تعجيل إعادة تشكيل ديناميات القوة في أوروبا الشرقية وخارجها.

وأخيرًا، تُخيم الضبابية على المستقبل المنظور للعلاقات عبر الأطلسي؛ فإما أن تتحد أوروبا لتعويض تراجُع مشاركة الولايات المتحدة أو تصطدم معها بشأن نهجها تجاه أوكرانيا. وللتخفيف من مآلات هذا الخطر، يعمل الاتحاد الأوروبي على تعزيز مشاركته مع شركائه الرئيسيين مثل المملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، بهدف تأمين دعمهم لأوكرانيا والمساعدة في سد الفجوة التي خلفها تراجع الالتزام الأمريكي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير