مع استمرار تصاعد التوترات في المنطقة وتكثيف الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، ولبنان وسوريا، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بيروت ودمشق في محاولة لإظهار دعم إيران الثابت ومساندتها لحلفائها الإقليمين. وخلال زيارته لسوريا، التقى عراقجي بالرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته بسام الصباغ ورئيس الوزراء محمد غازي الجليلي. وفي زيارته للبنان التقى برئيس الوزراء نجيب ميقاتي، ورئيس البرلمان نبيه بري وكبار المسؤولين في الحكومة. تأتي هذه الزيارات في سياق سعي إيران نحو التواصل مع اللاعبين في المنطقة والتوصل إلى اتفاق لخفض تصعيد التوترات التي تخشى طهران أن تضر بمصالحها الإقليمية وتهدد استقرارها.
ولعل إيران تعي محدودية تحركات الحكومة اللبنانية في الرد على الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان، فالقوات المسلحة اللبنانية ليست مدربة تدريبًا جيدًا وتعاني من شح في الموارد، بينما يستمر «حزب الله» في التفوق عليها عند صد الهجمات الإسرائيلية على الجنوب، مما يعزز اعتماد إيران عليه. ولكن مع نكسات «حزب الله» الأخيرة، أصبحت قدرة الحزب على الردع وضمان الاستقرار في الجنوب مشكوك بها، لاسيما مع استمرار سقوط المزيد من الضحايا المدنيين؛ إذ تشير تقارير وزارة الصحة اللبنانية إلى أن عدد القتلى من القصف الإسرائيلي منذ 08 أكتوبر 2024م وصل إلى 2141 و أكثر من 10 آلاف جريح.
وخلال زيارته الأخيرة، قال عراقجي إن طهران تدعم الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار في لبنان بشرط أن يدعمها «حزب الله» وأن تتزامن مع هدنة في غزة. هذا التصريح يعكس حاجة إيران الملحة لتجنب احتمالية نشوب حرب أوسع نطاقًا، خاصة وأن «حزب الله» و«حماس» واجها في الأشهر الأخيرة خسائر فادحة، مما أدى إلى إضعافهما بشدة. ومن المتوقع أن نشهد تدهورًا أكبر في الوضع الأمني مع شن الجيش الإسرائيلي هجومًا بريًا على جنوب لبنان. وفي الوقت نفسه، زادت إسرائيل أيضًا غاراتها على سوريا إذ استهدفت فيلا في دمشق لشقيق بشار الأسد وقائد الفرقة المدرعة الرابعة النخبوية في الجيش السوري، ماهر الأسد، حسب ما أفادت بعض المصادر.
وتستغل إسرائيل هذا الوضع لتكثيف هجماتها ومواصلة استهداف وكلاء إيران، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد الوضع في سوريا. وتهدف إسرائيل لجر إيران إلى حرب أوسع نطاقًا من شأنها أن تجبر الولايات المتحدة على التدخل؛ وهذا ما يقلق إيران لأنها لا تريد خوض حرب مكلفة في ظل ما تعانيه الآن من ظروف اقتصادية مرهقة. لذلك شددت الردود الإيرانية على توخي الحذر وضبط النفس، بهدف إظهار إيران كجهة فاعلة مسؤولة أمام المجتمع الدولي. وفي مقابلة أجريت مع وزير الخارجية الإيراني الأسبق ونائب الرئيس الحالي للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف، قال: «احتفظت إيران بالحق في الرد في الوقت الذي تختاره، ولم نتخل عن هذا الحق. ومع ذلك، مارسنا قدرًا كبيرًا من ضبط النفس». كان رد إيران حتى الآن رمزيًا إلى حد كبير؛ ولكن إن استمرت التوترات في التصاعد، فإن المسار المستقبلي للصراع سيكون محفوفًا بالغموض.
تهدف الزيارات بالإضافة إلى إزالة اللبس والشكوك والرد على الاستفسار، إلى تعزيز صورة إيران كقائدة لقوى المقاومة الإقليمية؛ فقد كان دائمًا جوهر السياسة الخارجية الإيرانية قائمًا على تعزيز «محور المقاومة» بتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري لوكلائها وحلفائها في المنطقة. ومن ناحية أخرى، دائمًا ما تسعى إسرائيل إلى اقتناص الفرص السانحة لضرب قدرات أذرع إيران في المنطقة وتدمير هيكل القيادة والسيطرة لديهم؛ وهذا ما بدا جليًا من استمرار الغارات الإسرائيلية ضد «حزب الله» و«حماس». وكشفت هجمات إسرائيل على أجهزة «البيجر» التابعة لأعضاء «حزب الله» عن مدى اختراق إسرائيل المنظومة الأمنية للحزب، فقد تمكنت الاستخبارات الإسرائيلية، باستخدام مزيج قدراتها البشرية والالكترونية في الاستخبارات، من اختراق شبكة «حزب الله» رغم تحوط الحزب وتدابيره الأمنية المكثفة. وفي ظل الوضع الأمني المضطرب وصعب التنبؤ في المنطقة، أشارت إيران إلى رغبتها في تهدئة التوترات وتجنب توسيع رقعة الحرب إقليميًا؛ لذا تصب إيران جل تركيزها على التواصل الدبلوماسي لتأمين الدعم السياسي وتجنب التصعيد. ولكن ثمة دعوات متنامية في الداخل الإيراني تطالب بعسكرة الدولة ومراجعة العقيدة النووية، وكلاهما يفضي إلى آثارٍ هدامة لمساعي إيران نحو خفض التصعيد وحشد دعم الدول المجاورة في صراعها مع إسرائيل.