زيارة روحاني إلى العراق.. الدلالات والأبعاد

https://rasanah-iiis.org/?p=16225

مقدمة
أجرى الرئيس الإيراني حسن روحاني زيارة تاريخية ومرحلية بكل المقاييس للعراق تدفع بالعلاقات الإيرانية-العراقية نحو آفاق عهد جديد، استغرقت 3 أيام خلال الفترة 11-13 مارس 2019، بعد مضي أكثر من خمسة أعوام من تولِّيه سدة الحكم في إيران، لتشكّل الزيارة الرئاسية الثانية لبلاد الرافدين خلال أربعين عامًا، بعد مضي أحد عشر عامًا من الزيارة الرئاسية الإيرانية الأولى للعراق منذ انتصار الثورة الإيرانية مطلع ثمانينيات القرن العشرين أجراها الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد للعراق خلال العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، تحديدًا في مارس 2008.
أُجرِيَت الزيارة في وقت شديد الضبابية والغموض تموج فيه المنطقة بتحولات سياسية وانسحابات استراتيجية وصراعات نفوذ مصيرية لرسم الأدوار المستقبلية في المعادلتين الإقليمية والدولية وتحديد ساحات النفوذ الاستراتيجية بما يضفي ثقلًا وقوة إضافية لأي فاعل إقليمي يطمح إلى مدّ نطاق نفوذه وتعظيم مكانته وقوته في معادلة القوة والنفوذ في المنطقة الشرق أوسطية، وفي وقت تشهد فيه إيران ضغوطًا وتحركات أمريكية مكثفة للحشد والتعبئة الدولية بغية إجبار القوى الإقليمية والدولية على التزام العقوبات الأمريكية القاسية ضدّ إيران التي ألقت بظلالها السلبية على الاقتصاد الإيراني، إلى جانب نُذُر حرب إقليمية على الساحة السورية تكون إيران أحد طرفيها أو أطرافها.
وبالتزامن مع المساعي الأمريكية لإحكام الحصار الشديد على إيران ضمن استراتيجية أمريكية تهدف إلى تعديل سلوك النظام الإيراني بالضغط على أهم مستوردي النفط الإيراني في آسيا وإفريقيا وأوروبا لالتزام العقوبات لتخفيض عائدات النفط وعشية انتهاء مهلة الإعفاءات لاستيراد النفط الإيراني، اتسعت هوة التباينات الروسية-الإيرانية التي وصلت إلى حد المواجهات المسلحة على الأراضي السورية بين قوات موالية للروس وأخرى موالية للإيرانيين نتيجة انتفاء المصالح المشتركة بين موسكو وطهران في سوريا بتحولات المعركة على الأرض لصالح نظام بشار الأسد، والتحول في السياسة الروسية بالتنسيق مع تل أبيب وواشنطن وأنقرة على حساب مصالح الإيرانيين الذين قدموا أثمانًا مادية وبشرية هائلة قدرت بأكثر من 2000 مقاتل إيراني ونحو 20 مليار دولار لمساندة الأسد طيلة سنوات الأزمة في سوريا.
وفي وقت تَحوَّل فيه العراق إلى ساحة تنافس محموم بين واشنطن وطهران بسعي كلا الطرفين لشدّ العراق إلى دائرة حلفائه في سياق سياسة شد الأطراف لإدراك الطرفين بمدى تأثير استقطاب العراق لصالحه في ما يتعلق بالعقوبات ضدّ إيران، فالولايات المتحدة تدرك أن العراق يشكل بوابة تمكّن إيران من التحايل على العقوبات، لذلك توالي ضغطها على الحكومة العراقية لالتزام العقوبات، وأدرجت الخارجية الأميركية حركة النجباء بقيادة أكرم الكعبي الموالية لإيران على لائحتها للتنظيمات الإرهابية، وتصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل الجنود الأمريكيين بعد الانسحاب من سوريا إلى العراق، وتأكيده أن الولايات المتحدة ستراقب إيران من الأراضي العراقية، مما أثار امتعاض الحكومة العراقية وجعل التحالفات السياسية الموالية لإيران في العراق تدفع نحو إقرار البرلمان العراقي مشروع قانون لإخراج القوات الأجنبية من العراق وغالبيتها قوات أمريكية، 5500 جندي من إجمالي 8000 جندي أجنبي.
ولا يمكننا تجاهل أن زيارة روحاني تأتي بينما تتسع هوة الخلافات في الدوائر الضيقة للنظام الثيوقراطي نتيجة صعود دور الحرس الثوري في تنفيذ أجندة السياسة الخارجية وحضوره الطاغي على معظم الملفات في الداخل والخارج، على حساب دور وزارة الخارجية المعنية بإدارة الشؤون الخارجية، مما آثار امتعاض كل من الرئيس روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف في الآونة الأخيرة، ولاح في الأفق بعد أن فاض الكيل وطفح بتقديم ظريف استقالته من منصب وزير الخارجية قبل العدول عن قراره بالاستمرارية في منصبه على خلفية زيارة الرئيس السوري لإيران برفقة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ولقائه المرشد على خامنئي دون أدنى اعتبار لكل من روحاني وظريف.
وفي السياق ذاته، تدرك الحكومة الإيرانية وخارجيتها مدى طغيان اللون العسكري بقيادة الحرس الثوري على العلاقات العراقية الإيرانية منذ أكثر من عقد ونصف من الزمان، على حساب العلاقات الرسمية بين حكومتي الدولتين، إذ أشارت تقارير إعلامية إيرانية إلى مراجعات في الداخل الإيراني لنتائج السياسات الإيرانية في التعاطي مع الملف العراقي في مرحلة ما بعد سقوط صدام حسين، وتطورت هذه المراجعات أسرع بعد واقعة إضرام المحتجين العراقيين بالمحافظات الجنوبية النيران في القنصلية الإيرانية في البصرة سبتمبر 2018، وتحطيم عديد من مقرات الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، فضلًا عن تصويت العراقيين لصالح تحالف سائرون العابر للطائفية في العراق، وما غياب حضور الجنرال قاسم سليماني عن مشهد ومراسم زيارة روحاني للعراق إلا دليل على ذلك.
وهيأت تلك المتغيرات البيئة المناسبة لزيارة روحاني لتحقيق عدة أهداف في إطار سياسة احتواء دول الجوار كخيار استراتيجي لإيران، أولها الالتفاف على العقوبات والحد من تأثيرها على الاقتصاد الإيراني، إذ بات العراق أهمّ متنفس لإنعاش الاقتصاد الإيراني وخيارًا استراتيجيًّا نحو العبور إلى العالم الخارجي من ناحية، وتوفير فرص للاقتصاد الإيراني لتخفيف وطأة العقوبات من ناحية أخرى، من خلال «جني الثمار» بتحقيق مكاسب تجارية واقتصادية هائلة برفع حجم التبادل التجاري من 12 مليار دولار سنويًّا إلى 20 مليار دولار، واستمرارية استيراد العراق للغاز والكهرباء الإيرانية وسداد الديون المستحقة على العراق نظير استيراد الكهرباء والغاز، وكذلك السيطرة على السوق العراقية، ومد خط سكة حديد خرمشهر-البصرة مع إلغاء التأشيرات للزائرين العراقيين والإيرانيين.
لذلك التقى روحاني في العراق الرموز كافة المؤثرة في المشهد، بدءًا بلقاء الرئاسات الثلاث، ثم لقاء بعض زعماء القوى السياسية المؤثرة أمثال زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، وذلك بعد زيارته مرقد الأمام الكاظم ببغداد في مستهل زيارته للعراق، ثم توجه روحاني إلى النجف لزيارة العتبات المقدسة ولقاء المرجع الديني الأعلى علي السيستاني في أول لقاء يجمعه برئيس إيراني.
ويتمثل ثاني الأهداف في دفع البرلمان العراقي للتصويت على مشروع قانون إخراج القوات الأجنبية من العراق بما يسفر في النهاية عن إخراج القوات الأمريكية وإغلاق قاعدة عين الأسد الجوية بما يحرم الولايات المتحدة من مراقبة أو اعتراض أي عمليات تهريب ونقل للأسلحة إلى الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في سوريا بوقوع هذه القاعدة الأمريكية غربي العراق على الطريق الرئيسي الذي يربط بغداد بالقائم السورية، بينما يدور ثالث هذه الأهداف في تحقيق التوازن لصالح الدبلوماسية الإيرانية في تنفيذ أجندة السياسة الخارجية بالحد من هيمنة الحرس الثوري على الأدوار المنوط بها وزارة الخارجية، وما تصريح ظريف في أثناء زيارة روحاني للعراق «تأكد اليوم أن وزارة الخارجية هي المسؤول الرسمي في إيران عن السياسة الخارجية» إلا دليل كافٍ على ذلك، بخاصة أنه جاء بعد تكريم سليماني في أجواء وصفت بالـ«وداعية».
أما الهدف الرابع فيتمثل في ضمان استمرارية العراق ضمن دائرة النفوذ الإيراني بعيدًا عن محيطه العربي كبوابة نحو العالمين العربي والإسلامي، كذلك دون سيطرة إيرانية كاملة على العراق لم تستطِع إيران تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في ربط طهران بالمتوسط، إذ كشف عديد من تصريحات المسؤولين في إيران عن هذا الهدف الاستراتيجي من بينها تصريح القائد السابق للحرس الثوري المستشار العسكري للمرشد الأعلى يحيى رحيم صفوي «حدود بلاده الحقيقية ليست كما هي عليه الآن، بل تنتهي عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط»، ثم تصريح علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني في مارس 2015 «إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليًّا».
يُقاس نجاح الزيارات الرئاسية لدولة من الدول بحجم المكاسب التي يجنيها الطرفان من وراء الزيارة، وهذا ما يفتح باب التساؤلات والنقاشات حول حجم المكاسب التي حقَّقَتها إيران مقارنة بحجم المكاسب التي سيجنيها العراقيون من وراء الزيارة في وقت تشهد فيه إيران حصارًا دوليًّا بينما تشهد العراق التي تحتضن ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالَم بعد السعودية أوضاعًا اقتصادية متردية نتيجة مأسسة الفساد في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق، ويمكننا تحديد مكاسب كل من إيران والعراق من زيارة روحاني من البيان المشترك الإيراني-العراقي الصادر بتاريخ 2019/3/13:

أولًا: مكاسب إيران من الزيارة
1- تنفيذ اتفاق الجزائر 1975: أحد أهم الإنجازات والمكاسب التي حققتها إيران في تاريخ علاقاتها الحديثة والمعاصرة مع العراق بالنظر إلى عدم قدرة إيران منذ الصراع الفارسي-العثماني على تحقيق السيطرة على شط العرب مطلع القرن التاسع عشر، كما فشلت إيران في تحقيق مطامعها التاريخية في شط العرب خلال حقبة العهد الملكي العراقي مرورًا بالجمهوريات العراقية في عهد عبد الكريم قاسم وعارف والبكر وصدام حسين -رغم توقيعه اتفاقية الجزائر 1975- وحتى الحكومات العراقية المتعاقبة على الحكم في مرحلة ما بعد صدام حسين ومن بينها حكومة أقرب المتحالفين مع إيران نوري المالكي رفضت التنازل عن أي حقوق عراقية لإيران في شط العرب، لما له من آثار مجحفة على حقوق العراق التاريخية بحكم التاريخ والجغرافيا بين العراق وإيران.
وبنَصّ البيان المشترك على: «الطرفان أعلنا عزمهما الجاد على تنفيذ اتفاقية الحدود بين العراق وإيران المؤرخة في 13 يونيو 1975 والبروتوكولات والاتفاقات الملحقة بها.. تبقى منصة العمية منصة عراقية كما كانت، من دون أن يؤثر ذلك على مباحثات الطرفين في تحديد الحدود البحرية بين البلدين» نكون أمام اتفاق إيراني-عراقي تاريخي بكل المقاييس تنازل بموجبه العراق عن حقوقه التاريخية والجغرافية والسيادية على شط العرب، بتنازله عن الحدود التي رسمتها معاهدة 1937، والتي أعطت العراق السيادة شبه الكاملة على شطّ العرب، والتي ألغتها إيران من جانب واحد عام 1969، وبتنازلها أيضًا عن الإجراءات الواجب اتباعها وفق اتفاقية الجزائر ذاتها في حال ظهور أي خلافات تتعلق بتفسير الاتفاقية أو تطبيقها وفقًا لبنود ونصوص الاتفاقية، كطلب المفاوضات الثنائية، أو طلب المساعي الحميدة لدولة ثالثة أو اللجوء إلى التحكيم الدولي، وكذلك تنازل العراق عن الاحتكام إلى نصوص اتفاقية الجزائر المتعلقة بمعالجة التغيرات الطبيعية كالترسبات الواقعة في السنوات الأخيرة التي أدت إلى تغيير خط التالوك نفسه لصالح إيران، وحققت بموجبه إيران أيضًا مطامعها التاريخية في شط العرب.
تنفيذ هذه الاتفاقية سيُفقِد العراق نصف حقوقه الموروثة تاريخيًّا في شط العرب بنص الاتفاقية على «تقسيم شط العرب مناصفة بين العراق وإيران وفقًا لخط القعر (خط التالوك)» أو خط المنتصف كما يتضح من الخريطة أعلاه، وبذلك يحقّ لإيران قانونًا فرض السيطرة على نصف شط العرب طوليًّا حتى مدخله جهة الخليج العربي، ومن ثم استغلال ما تحت المياه من ثروات وموارد واستغلال ما فوقها من جوّ بتحليق الطيران الإيراني فوق سماء هذا النهر العراقي الأصيل، مما يعني انتقاص مساحة عرض وعمق شط العرب بالنسبة إلى العراق لصالح إيران ذات السواحل الواسعة على طول الخليج العربي.
ومِن ثَمَّ صار وضع إيران القانوني في المياة العراقية العربية الأصيلة بمثابة الشريك في السيادة والسيطرة على نصف شط العرب، مما يمنح إيران مكاسب إضافية، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن السيطرة الكاملة على شط العرب ستكون في يد إيران وميليشياتها المعاونة في العراق مستقبلًا، ومِن ثَمَّ سيفقد شط العرب هُويته واسمه العربي ليصبح في الخرائط الدولية باسمه الإيراني «أروند رود».
وقد أشار الكاتب العراقي يحيى الكبيسي في مقالة له بصحيفة القدس العربي نشر بتاريخ 14 مارس 2019، إلى أن قبول الجانب العراقي بمفهوم «منصة العمية» بدلًا من «ميناء العمية» يعني القبول بالتغيرات التي وقعت في شط العرب بما يعني الاعتراف بملكية المنصة لا السيادة على الميناء الذي يضمّ هذه المنصة، ومن ثم عدم التزام الجانب العراقي نصوص البروتوكول المتعلق بالحدود النهرية.
ولمن لا يعلم، وُقّعت الاتفاقية بين عراق صدام حسين وإيران الشاه عام 1975، نتيجة ضغط الشاه على صدام حسين بورقة تسليح الحركات الكردية المسلَّحة بإقليم كردستان العراق ضدّ الدولة المركزية، في وقت يسعى فيه العراق لبناء المجتمع وتثبيت أركان الاستقلال، بينما كان الشاه يمارس دور الشرطي في المنطقة، وهو ما أسفر في النهاية عن توقيع صدام للاتفاقية مقابل أن يوقف الشاه دعم تلك الحركات الانفصالية شمالي العراق، وعندما تغيرت الظروف الإقليمية والدولية وأتيحت الظروف لصدام انسحب من الاتفاقية، وكان ذلك قبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية بأيام قلائل في سبتمبر 1980 وبعد سقوط حكم الشاه باندلاع الثورة الإيرانية، الأمر الذي أشعل حرب الخليج الأولى، لكونها اتفاقية مجحفة بحقّ العراق وقّعها العراق تحت ضغوط الشاه.
وتأتي مساعي إيران الحثيثة لتنفيذ الاتفاقية في سياق رغبة النظام الإيراني نقل ملف متابعة وتنفيذ السياسة الإيرانية المتعلقة بالملفات الخارجية لا سيما في العراق من الحرس الثوري إلى وزارة الخارجية المنوط بها صناعة وتنفيذ السياسة الخارجية الإيرانية، وهو توجُّه استراتيجي للنظام الإيراني كنقطة تحوُّل من مرحلة قديمة أدَّى فيها الحرس الثوري وفيلق القدس الدور المركزي في تحقيق انتشار مليشياوي واسع النطاق في المناطق الجغرافية المختلفة بما يؤمّن لإيران مناطق نفوذ استراتيجية في العراق بعد مواجهة التحديات للتمدد الإيراني، إلى مرحلة جديدة يكون فيها لوزارة الخارجية الدور المركزي في تنفيذ السياسة الإيرانية في العراق عنوانها «حصد المغانم وجمع المكاسب وقطف الثمار»، ويعكس ذلك غياب سليماني عن مشهد الزيارة وتكريم المرشد الأعلى في إيران له.
وقد يعود هذا التوجه الاستراتيجي للنظام الإيراني بنقل الملف للخارجية إلى انتهاء مهمة الحرس الثوري في العراق بتحقيق انتشار إيراني واسع النطاق في ربوع الدولة العراقية والسيطرة وتأمين وجود إيراني في المناطق المحررة من تنظيم داعش في المحافظات السنية العراقية، وبتحقيق مكاسب سياسية تمثلت في حصول أقرب حلفاء إيران في العراق على عدد كبير من المقاعد البرلمانية والحقائب الوزارية في حكومة عادل عبد المهدي، بما يتيح لإيران القدرة على تمرير سياساتها في العراق، وبالحيلولة دون انفصال إقليم كردستان العراق عن الدولة المركزية بأداء فيلق القدس وميليشيات الحرس الثوري دورًا مركزيًّا في السيطرة على المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة المركزية ومساندة الحكومة العراقية في إحكام الحصار على إقليم كردستان بما أدَّى إلى تراجع قيادات الإقليم عن الانفصال.
كذلك يبدو أن النظام الإيراني أدرك انتفاء الأهمية الاستراتيجية لتولِّي الحرس الثوري ملف الخارجية بتحقيق مهمته، بخاصة في وقت تشهد فيه إيران موجة حصار دولي شديدة الصعوبة على الاقتصاد الإيراني، التي من أهدافها وقف إيران نشاطاتها الإقليمية بالامتناع عن حشد المقاتلين العسكريين وغير العسكريين في دول الصراعات، ويريد النظام الآنيّ بهذا التوجُّه الجديد بنقل الملف للخارجية إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي بأن إيران تتعامل مع الدول في إطار الدبلوماسية الدولية والعلاقات الدولية المشروعة، وذلك بعد أن حققت مكاسب سياسية وتجارية وعسكرية في العراق تمكّنها من تمرير سياساتها دون أي دواعٍ استراتيجية لإدارة الحرس الثوري لسياسات إيران في العراق.
2- إلغاء تأشيرات الدخول: ثاني أبرز مكسب للجانب الإيراني من زيارة روحاني في ظل مرحلة الحصار الخانقة التي تمر بها إيران، إذ ورد في البيان المشترك «تسهيل منح التأشيرات لرجال الأعمال في كلا البلدين، علمًا بأن الطرف الإيراني سيلغي رسوم التأشيرات للمواطنين العراقيين اعتبارًا من 1 أبريل 2019، كما أعلن الطرف العراقي المعاملة بالمثل بالتزامن مع الطرف الآخر».
يتضح المكسب الإيراني من إلغاء التأشيرات إذا ما علمنا أن أكثر من 12 مليون إيراني يدخلون العراق سنويًّا، وخلال زيارات أربعينية الإمام الحسين في كربلاء يزور العراق 6-7 ملايين إيراني، مقابل عدد ضئيل من العراقيين يدخلون إيران، وأن قيمة الحصول على التأشيرة العراقية للإيراني تقدر بـ40 دولارًا، ومِن ثَمَّ يُحرم العراق مبلغًا يصل إلى 140-200 مليون دولار سنويًّا حسب تقديرات عراقية، ومِن ثَمَّ بات دخول هؤلاء الإيرانيين مجانًا بزعم التعامل بالمثل رغم علم الحكومة العراقية بأن الزوار العراقيين لإيران لا يتجاوزون 5% من إجمالي عدد الإيرانيين الزائرين للعراق، ومن ناحية أخرى سيسهل على ضباط الحرس الثوري حرية التنقل ودخول الجانب العراقي دون تأشيرة إذا لزم الأمر.
3- الاتفاقيات التجارية والاستثمارية: تمثل المكسب الإيراني الثالث من زيارة روحاني، إذ وقّع الجانبان عديدًا من مذكرات التفاهم في القطاعات الاقتصادية والتجارية المختلفة، مثل النفط والتجارة والصحة والنقل لإنشاء السكك الحديد بين الشلمجة والبصرة، وإنشاء منافذ حدودية جديدة بينهما، وإقامة مدن صناعية مشتركة، وتنفيذ النقل المباشر للبضائع بين البلدين دون تفريغها على الحدود، ومضاعفة التبادل في مجالات التجارة والاستثمار والاقتصاد والخدمات الفنية والهندسية والصناعية، مع أداء الجانب الإيراني دروًا محوريًّا في عمليات إعادة إعمار العراق.
حتمًا المستفيد الأول والأخير من هذه الاتفاقيات هو إيران، لكونها المصدر الرئيسي للعراق (الأغذية، والمنتجات الزراعية، والأجهزة المنزلية، ومكيفات الهواء، وقطع غيار السيارات)، بقيمة تصل إلى 12 مليار دولار، ويستهدف البلدان الوصول بحجم المعاملات التجارية خلال العامين المقبلين إلى 20 مليار دولار حسب تصريحات روحاني، إذ يُعَدّ العراق من أكبر المستقبلين للبضائع الإيرانية، في حين لا يمتلك العراق شيئًا لتصديره إلى إيران، وهو ما يفاقم العجز في الميزان التجاري لصالح إيران ويعظّم فرصها التجارية في العراق، كما يحدّ من أي فرص أو محاولات لإنعاش الإنتاج الصناعي أو الزراعي العراقي، ويقلّص فرص الدول الأخرى الطامحة إلى تعزيز وجودها في السوق العراقية كالدول الخليجية.
ورغم هذه المكاسب التي حقّقها روحاني من زيارته للعراق لا يمكن تجاهل تصريحات السيستاني الرافضة للسياسات الإيرانية على مستويين، الأول رفضه الواضح والصريح لعدم احترام إيران للسيادة العراقية وانتهاكها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول بتقديمها الدعم العسكري والمالي الإيراني للميليشيات الشيعية الموالية لها في العراق، مطالبًا الرئيس روحاني بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، في إشارة غاية في الأهمية والدلالة إلى ضرورة أن تتوقف إيران عن دعمها العسكري للميليشيات لما لهذا الدعم من بقاء العراق في دائرة العنف والفوضى وعدم الاستقرار بقوله: «السيادة العراقية يجب أن تُحترم وأن تبقى الأسلحة في يد الدولة».
الثاني اعتراضه على سياسة النظام الإيراني تجاه العراق، الطامحة إلى بقائه ضمن دائرة النفوذ الإيراني بعيدًا عن محيطه العربي بتشديده على «ضرورة أن تتّسم السياسات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة الحساسة بالتوازن والاعتدال، لتجنّب شعوبها مزيدًا من المآسي والأضرار».
هذا الموقف غاية في الأهمية والتأثير في المعادلة العراقية، إذ يُعَدّ السيستاني أهمّ مرجع شيعيّ في العالَم يحظى بشعبية وتأثير كبيرَين داخل العراق وخارجه، ويعكس ذلك تلبية آلاف دعوتَه بالانخراط لمحاربة داعش، ونسبة تصويت الناخبين الأقل خلال انتخابات 2018، والتي تعود في أحد أسبابها إلى تحذير مكتبه جميع الأحزاب بالامتناع عن استخدام صورة أو مقتطفات من خطاباته في دعايتهم الانتخابية مقابل نسبة التصويت الكبيرة خلال انتخابات 2005 بعد دعوته إلى المشاركة في الانتخابات.

ثانيًا: مكاسب العراق من الزيارة:
ضئيلة جدًّا، إذ إن هذه الزيارة ركزت على ما ستجنيه إيران من العراق وتجاهلت ما يخص العراق، إذ تناولت الأوساط الإعلامية نبأ رفض روحاني مناقشة إعادة الطائرات العراقية الحربية والمدنية المحتجَزة لديهم منذ عام 1991، ولم يتباحث حول مسألة تقسيط ديون الكهرباء المستحَقَّة على العراق، كما لم يقدّم أي تعهدات حول مياه الكارون ولا نهر ألوند ولا وقف منع المياه عن ديالى ولا إعادة 11 رافدًا لدجلة إلى مسارها، كما لم تتطرق المباحثات إلى مخلَّفات المعامل الإيرانية التي تلقيها إيران في شط العرب، والتي تسببت في ارتفاع نسبة الملوحة والسرطان في المحافظات الجنوبية وإهدار عشرات آلاف الهكتارات الزراعية، كما تجاهلت البضائع الإيرانية الفاسدة ومسألة تهريب المخدرات الإيرانية للعراق عبر الحدود العراقية الإيرانية.
أغفلت الزيارة أيضًا إحدى أهمّ المشكلات العالقة بين الجانبين بالنسبة إلى العراق منذ عام 2009، وهي أزمة الحقول النفطية المشتركة، البالغ عددها 23 حقلًا نفطيًّا، إذ تواجه إيران اتهامات عراقية باستغلال بعضها من طرفها، بخاصة حقل الفكة، ففي منتصف عام 2018 أعلنت وزارة النفط الإيرانية أن العائدات النفطية من الحقول النفطية المشتركة مع العراق بلغت نحو 5 مليارات دولار خلال العامين الماضيين، وأن الإنتاج النفطي من هذه الحقول بلغ نحو 300 ألف برميل يوميًّا.
بذلك يكون روحاني اختتم زيارة للعراق بتحقيق «حصاد تاريخي غير مسبوق بكل المقاييس لإيران نظامًا وحكومة وشعبًا» يشكّل نقطة تحوُّل في تاريخ العلاقات بين الدولتين نحو بناء الشراكة الشاملة بتحقيقه إنجاز تاريخي يعوِّل عليه أمام سطوة الحرس الثوري، تَمثَّل في تنفيذ اتفاقية الجزائر المجحفة بحقّ العراق وشعبه وأرضه بعد ما يقارب 45 عامًا (2019-1975) من الرفض العراقي، وهي بمثابة امتيازات منحتها الحكومة العراقية لإيران لم تقدّم مثلها حكومة دولة في العالَم، وتوقيع أكثر من 20 مذكرة تفاهم واتفاقية، وتقنين موقف العراق الرافض للعقوبات الأمريكية بتجديد اتفاقيات مدّ العراق بالغاز والكهرباء، والاتفاق على إلغاء تأشيرات الدخول للبلدين.
ويردّد بعض المراقبين أن ما وقَّعَته إيران ليست اتفاقيات بل مجرَّد مذكّرات تفاهم غير ملزمة للجانبين العراقي والإيراني، وهذا صحيح، ولكنه خطوة كبرى على خط إبرام وتوقيع الاتفاقيات، تجعل العراق كجدار شرقي للعالَم العربي والإسلامي ساحة نفوذ حقيقية لإيران وتتيح لإيران بقاءً طويل الأمد في العراق رسميًّا وبقبول عراقي. يقول روحاني في أثناء زيارته: «لا يزال أمامنا طريق طويل من أجل الوصول إلى الأمن والاستقرار الكامل في المنطقة والقضاء على الإرهاب»، مشددًا على أن «إيران قد عقدت العزم على توسيع العلاقات مع العراق وزيادة حجم التجارة من 12 مليار دولار إلى 20 مليار دولار»، بما سيجعل العراق بوَّابة حقيقية لإيران نحو العالَم الخارجي، وحتمًا هذه الاتفاقيات ستضرّ بالعراق حكومة وشعبًا في ظلّ حالة عدم التوازن بين الطرفين.
بذلك أراد روحاني توصيل عدة رسائل، الأولى إلى الداخل الإيراني بأن الحكومة الإيرانية ودبلوماسيتها الخارجية قادرة على إنجاز الاتفاقيات التاريخية للأمة الإيرانية وتحقيق المكاسب وحصد المغانم، والثانية إلى الدول العربية بأن العراق سيظلّ ضمن دائرة النفوذ الإيراني إلى أبد الآبدين، والرسالة الثالثة والأهمّ إلى الإدارة الأمريكية بأن العراق دولة حليفة لا دولة فاصلة كما تريد الولايات المتحدة بين حلفاء الروس وحلفائها، وساحة نفوذ إيرانية وستبقى على الدوام على الرغم من المساعي الأمريكية لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق، ثبت ذلك بحجم ما جنته إيران من الزيارة من مكاسب ومغانم نظير ما قدّمته من أثمان مادية وبشرية في العراق خلال فترة ما بعد صدام حسين، وهو ما يكشف عن مشكلة الولايات المتحدة في العراق بتركها الساحة العراقية دون تحويلها إلى ساحة مصالح، فلم تدشّن شبكة علاقات اقتصادية قوية مع العراق قبل وبعد قرار الانسحاب العسكري 2011، كما لم تحافظ على حلفاء عراقيين من القوى السياسية العراقية المؤثرة في دوائر صنع القرار العراقي كما فعلت إيران بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003، ومِن ثَمَّ لم تستطيع تحويل العراق إلى ساحة نفوذ وحليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو ما يصبّ في النهاية في صالح سيناريو ارتفاع منحنى النفوذ الإيراني في العراق خلال العام 2019.

 

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير