طموح لا غنى عنه.. هل تمنع القيود الدينية إيران من حيازة سلاح نووي في المستقبل؟

https://rasanah-iiis.org/?p=34713

في تصريح مثير بشأن ملف إيران النووي، أكَّد عضو هيئة التدريس بمركز العلوم الإسلامية، محمد فاكر ميبدي، في 23 مارس 2024م، حاجة إيران إلى أسلحة نووية، باعتبارها وسيلة عصرية مناسبة لردع الخصوم. وعلى الرغم من أنَّ هذا التصريح يتناقض مع فتوى المرشد الإيراني، علي خامنئي، المشكوك فيها، بتحريم حيازة الأسلحة النووية، التي لا يزال النظام يؤكِّد أنَّها العقيدة التي تحدِّد سلوكه في هذا الملف، غير أن تجاوُز هذه الفتوى بات مسألة مطروحة بين حينٍ وآخر، من جانب عديد من القيادات الدينية والسياسية. ومن ثمَّ، ليس من المُستبعَد في أيِّ مرحلة أن يغيِّر النظام من نهجه النووي المُعلَن، لا سيّما أنَّه لا يوجد ما يمنع ذلك، وفقًا لأيديولوجيا النظام نفسه. كما أنَّ الواقع قد يفرض هذا التغيير، باعتبار أَّن حيازة هذا السلاح تمنح إيران قوَّة الردع اللازمة لمواجهة الخصوم، كما توفِّر عليه جهدًا كبيرًا في طريق تحقيق طموحاته الخارجية.

فما أهمِّية هذا التصريح في المرحلة الراهنة؟ وكيف تُقرأ دلالاته وتداعياته على برنامج إيران النووي؟ وهل بالفعل يمكن أن يغيِّر النظام نهجه النووي في المستقبل؟

أولًا: مرحلة نووية حرِجة

من المعروف أنَّ الملف النووي الإيراني دخل باعتباره قضية حيوية في العلاقات بين إيران والقُوى الدولية، وتحديدًا الولايات المتحدة والغرب، منذ عام 2002م. ومنذ تلك اللحظة، يمكن القول إنَّ إيران امتلكت ورقة مهمَّة في ما يتعلَّق بعلاقاتها مع الغرب، كما نجحت بعد الحرب الإيرانية-العراقية في أن تجعل من تطوير برنامجها الصاروخي قوَّة ردع لحمايتها من أيِّ هجوم مماثل، كالذي أجراه العراق ضدّها في الثمانينيات من القرن الماضي. وكذلك وسَّعت حضورها خارج حدودها، من خلال المليشيات في دول الجوار، ونقْل معاركها خارج حدودها، وخلْق خط دفاع في عدد من الدول، وجعلت من الملف النووي قضية أساسية للصراع، وورقة تضغط بها من أجل تخفيف الضغوط التي قد يتعرَّض لها نظام الحكم فيها.

وقد كان تعاطي إيران مع مسألة الطاقة النووية أمرًا مثيرًا للانتباه، إذ ظلَّ النظام يبرِّر برنامجه النووي على أنَّه مدفوع بأغراض سِلْمية، وأنَّ ذلك مبدأ يعتنقه النظام بناءً على فتوى من المرشد الحالي، خامنئي، تجرِّم حيازة السلاح النووي. وقبل نحو ثلاثة أشهر، سأل أحد المذيعين، رئيس منظَّمة الطاقة الذرِّية الإيرانية محمد سلامي، بأنَّ إسرائيل مُسَلَّحة بالسلاح النووي ورئيس وزرائها يهدِّد إيران بشكلٍ مباشر، «ألم يحِن الوقت لامتلاك إيران أسلحة نووية أو إجراء تجربة نووية واحدة على الأقلّ؟ وفي معرض ردِّه على هذا السؤال، قال سلامي إنَّ «إيران تتّبِع إستراتيجية الردع النشِط، وإنَّ امتلاك أسلحة الدمار الشامل لم يكُن له مكان على الإطلاق في عقيدة إيران الأمنية والدفاعية»، كما أكَّد أنَّه حسب فتوى المرشد خامنئي، التي تحرِّم استخدام الأسلحة النووية، فإنَّ «قضية الحصول على السلام النووي ليست مُدرَجة في إستراتيجية إيران الوطنية».

مع ذلك، فإنَّ نيَّات إيران النووية ليست مُخفاة، خصوصًا أنَّ البرنامج بدأ سرِّيًّا، وكان بالأساس يستهدف الوصول بإيران إلى صفوف القُوى النووية، ناهيك بأنَّ أنشطة إيران المتعلِّقة بهذا البرنامج تتجاوز حدود السِّلْمية، لا سيّما إذا أخذنا بالاعتبار سلسلة طويلة من التطوُّرات الفنِّية الخاصَّة بالبرنامج النووي الإيراني، منذ الكشف عنه عام 2002م. ويُشار هُنا تحديدًا إلى المُنعطَف الذي اتّخذته إيران على صعيد البرنامج النووي، منذ أن انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018م، إذ خفضت إيران التزاماتها النووية، بما في ذلك متابعة تركيب مزيد من أجهزة الطرد المركزي المتطوِّرة، وتخصيب اليورانيوم بمعدل 20%، ثمَّ 60%، حتى تجاوز مخزونها من اليورانيوم المخصَّب النِّسَب المسموح بها دوليًّا، وفي الوقت نفسه، قيَّدت جهود الرقابة الدولية على منشآتها النووية. وعلى الرغم ممّا يبدو من وجود تفاهُمات ضمنية بين إيران والغرب، بموجبها تلتزم إيران عدم تجاوُز الخط النووي الأحمر، الذي رسمته الولايات المتحدة لإيران، غير أنَّ تقرير الوكالة الدولية الأخير بشأن أنشطة إيران يُشير إلى أنَّها تقطع شوطًا كبيرًا نحو الاقتراب من العتبة النووية.

وعلى الرغم من القيود الأيديولوجية حسب فتوى خامنئي، فإنَّ التطوُّرات الراهنة تُشير إلى أنَّ إيران تواجه الوضع المعقَّد بشأن الاتفاق النووي، عبر متابعة سياسية تُوائم بين الانفتاح والغموض مع كسْب الوقت. وهي سياسة تُظهِر من خلالها إيران نياتها السِّلْمية من أجل تفادي مزيد من الضغوط والعقوبات، ورُبَّما الاتّساق مع التفاهُمات الضمنية، ومجاراة التوافُقات الجزئية وفْق سياسة «القليل مقابل القليل»، وهي السياسة، التي يبدو أنَّها الحاكمة لهذا الملف المعقَّد، منذ تولِّي الرئيس الأمريكي الراهن جو بايدن السُّلطة في مطلع 2021م. لكن الإشكالية أنَّ إيران تستغِلّ الفجوات في هذه السياسة، والظروف الدولية والإقليمية المحيطة، وتحاول تعزيز مكتسباتها ومعرفتها النووية التقنية، كلَّما تهيّأت الظروف، فضلًا عن تعزيز إمكانياتها المادِّية، التي يمكن أن تخدم عملية التحوُّل من الوضع السِّلْمي إلى الأمر الواقع العسكري، في أيِّ وقت، متى سنحت الظروف بذلك، مستفيدةً من تعقيدات المنافسة الدولية والصراع الإقليمي، الذي اندلع بعد حرب غزة، ومن انسداد أُفُق الدبلوماسية.

وقد تكون إستراتيجية إيران بالأساس هي متابعة سياسة مرِنة غايتها الوصول في النهاية إلى النادي النووي، حتى ولو كان النظام ينفي ذلك، ورُبَّما من المفيد هُنا الإشارة إلى ما قاله الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرِّية، رافائيل غروسي، مؤخَّرًا، في معرض ردِّه على سؤال حول الوقت، الذي قد تحتاج إليه إيران من أجل حيازة سلاح نووي، إذ أجاب بقوله: «لا تمتلك إيران حاليًّا أسلحة نووية»، لكنه استطرد قائلًا: «إنَّ إيران تُكدِّس كمِّيات هائلة من اليورانيوم عالي النقاء، وهذا أمر يلفت انتباهنا بالتأكيد، لأنَّه لا تُوجَد دولة تُجري التخصيب بهذا المستوى دون أن تمتلك أسلحة نووية».

ثانيًا: دلالات وتداعيات صعود الدعوات بامتلاك سلاح نووي

يُعطي هذا التصريح عددًا من الإشارات والدلالات المهمَّة، كما أنَّه قد يدفع بترتيبات وتداعيات خطيرة، أهمُّها:

  1. زخم داخل النظام لمراجعة فتوى خامنئي: لا يُعتبَر تصريح محمد فاكر ميبدي الأول من نوعه، فقد سبقه تصريح للنائب بمجلس الشورى محمد رضا صباغيان، في أغسطس 2022م، قال فيه إنَّ «على العدو أن يعلم أنَّه إذا استمرَّ في وقاحاته وتهديداته، فسوف نطلب من المرشد تغيير الإستراتيجية وفتوى إنتاج الأسلحة النووية، وهذا سهل جدًّا للشباب الإيراني». وخلال السنوات القليلة الماضية، تحدَّث مسؤولون سياسيون وعسكريون رفيعو المستوى في النظام الإيراني مِرارًا وتَكرارًا، بشكل مباشر وغير مباشر، عن قُدرة النظام على صُنع قنبلة ذرِّية. وكان التصريح الأبرز من جانب وزير الاستخبارات الإيراني السابق محمود علوي، في فبراير 2021م، عندما قال إنَّ «إيران قد تُطِّور سلاحًا نوويًّا، في حال ما أبقت الولايات المتحدة والغرب الضغط الاقتصادي والعقوبات على طهران». وفي نوفمبر 2021م کشف عضو البرلمان الايراني والرئيس السابق لمنظَّمة الطاقة الذرية، فريدون عباسي دواني، عن أنَّ مساعد وزير الدفاع السابق والشخص، الذي كان يعمل خلف الكواليس في برنامج إيران النووي، محسن فخري زاده، الذي اُغتيل في 2020م، قد أنشأ نظامًا لإنتاج السلاح النووي، على الرغم من فتوى المرشد خامنئي بتحريم إنتاج وتخزين واستخدام هذا السلاح. تهديدات المسؤولين الإيرانيين لم تتوقَّف عند هذا الحد، وفي هذا الصدد، هدَّد السكرتير السابق لمقرّ حقوق الإنسان في السُّلطة القضائية الإيرانية محمد جواد لاريجاني، بقوله: «إذا أردنا صُنع قنبلة ذرِّية، فلن يستطيع أحد أن يمنعنا». ومن ثمَّ، يبدو وجود اتّجاه مخالف لرأي خامنئي المُعلَن بشأن حيازة إيران سلاح نووي، وعديد من التصريحات تُشير إلى وجود أطراف من العناصر المحسوبة على النظام، بل بعض قياداته، تطالب وتلوّح بهذا الإجراء.
  2. 2.    اتّجاه ينسجم مع رؤية الخميني: عندما حاول مؤسِّس «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، الخميني، في عام 1987م، أن يبرِّر قبول إيران قرار الأُمم المتحدة رقم 598، الذي دعا إلى وقْف فوري لإطلاق النار بين إيران والعراق وإعادة أسرى الحرب إلى وطنهم، وانسحاب الطرفين إلى الحدود الدولية، ذكر في رسالة سرِّية أنَّ قِلَّة الإمكانات شكَّلت عائقًا للوصول إلى أهداف النظام الإسلامي. وأشار الخميني في تلك الرسالة إلى أهمِّية الأسلحة النووية والأسلحة الموجَّهة بالليزر، ويبدو أنَّه كان يؤكِّد أهمِّية هذه الأسلحة في مستقبل النظام الإيراني. وبعد فترة وجيزة، بدأت إيران سرًّا برنامجها النووي، إلى أن جرى الكشف عنه في 2002م. الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني، كان قد عرض رسالة الخميني على وسائل الإعلام، لكن حُذِفت منها كلمة «الأسلحة النووية». وهذا ما فعلته وسائل الإعلام الإيرانية مع تصريح محمد فاكر ميبدي، عندما حجبت وكالة أنباء «مهر» ذلك الجزء من تصريح ميبدي حول «السلاح النووي»، واستبدلت به عبارة «سلاح جديد»، وذلك في محاولة لتجنُّب أيّ اتّهام لإيران في الوقت الراهن بتغيير إستراتيجيتها القائمة على عدم الحديث عن كل ما من شأنه أن يُثير العالم ضدّها، خصوصًا خلال الوقت الراهن، الذي تحاول فيه إيران الخروج من مأزق العقوبات الأمريكية، واحتمالية عودة دونالد ترامب -المعروف بمواقفه المتشدِّدة تجاه الطموحات الإيرانية- إلى البيت الأبيض.

3. دعوة لعسكرة البرنامج النووي: يمثِّل التصريح دعوةً صريحة للنظام من أجل المُضي قُدُمًا في حيازة سلاح نووي، والنظام بدوره لا تُنكِر قياداته أنَّها باتت لديها المعرفة والتقنيات اللازمة من أجل الوصول إلى ذلك. ولا شكَّ أنَّ تواتُر التصريحات الداخلية وانتقالها من المجال الديني إلى السياسي، يمكن أن يخلق في لحظة حرِجة إجماعًا داخليًّا بالمُضي قُدُما نحو تغيير النهج النووي المتَّبَع، بما في ذلك فتوى خامنئي، لا سيّما أنَّ طموح إيران النووي قديم وله طابع وطني يتجاوز الأيديولوجيا، كما أنَّه مصلحة وطنية وقومية. وبالتالي، لا يُستبعَد أن تأتي لحظة تفرض الظروف فيها ضرورة امتلاك سلاح نووي، خصوصًا أنَّ تصريحات عديد من المسؤولين الإيرانيين تؤكِّد قُدرة إيران وقتما شاءت على امتلاك سلاح نووي. كما أنَّ التصريح يُشير إلى أنَّ كرة الثلج تتدحرج بشأن هذه المسألة، وهو ما يعكس المزاج العام المتزايد بشأن تغيير النهج النووي لإيران من مساره السِّلْمي الراهن إلى المسار العسكري.

4. وضْع حدّ للقيود المرتبطة بالملف النووي: إنَّ البعض داخل إيران قد يرى أنَّ البرنامج النووي بوضعه الراهن جعل البلاد عالِقةً في مربَّع العُزلة، ومن ثمَّ بدلًا عن تقديم مزيد من التنازلات النووية والجري خلف ابتزازات الغرب، فإنَّه قد يكون من المناسب حيازة سلاح نووي، ووضع حدٍّ للموقف الحالي، الذي يجعل البلاد والشعب الإيراني رهنًا لهذه القضية، التي طال أمدها، وفرْض واقع جديد على المجتمع الدولي، خصوصًا أنَّ كل التصريحات، التي عبَّرت عن الرغبة في امتلاك إيران سلاح نووي، قد كانت مبرِّراتها مجابهة الضغوط الغربية والأمريكية، التي تواجهها إيران، وأنَّها أعقبت الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. كما عبَّرت عن خيبة الأمل بشأن إعادة إحيائه خلال فترة بايدن، وهو الأمر الذي كانت له تأثيراته الاقتصادية في الداخل، ومن ثمَّ قد يتغيَّر نهْج إيران، في إطار رفْض الضغوط الأمريكية، والرغبة في وضْع حدٍّ للواقع المتدهور.

5. توفير قوَّة ردْع هائلة لمواجهة التحدِّيات: تواجه إيران الضغوط والعقوبات والعُزلة الدولية منذ أكثر من أربعة عقود، بل يواجه أمنها وأمن حدودها تحدِّيات جسيمة. ولا شكَّأنَّالسلاح النووي يوفِّر قوَّة ردْع قد تحمي لها مصالحها، وقد تغنيها عن الجهود المتعدِّدة، التي تبذلها من أجل الحفاظ على نفوذها الإقليمي وحماية أراضيها من التعرُّض للغزو أو الهجوم الخارجي. وفي الوقت الذي تواجه فيه إيران خصومًا يتمتَّعون بتفوُّق عسكري كبير، وتتعرَّض فيه لهجمات من الخارج تستهدف علماءها، وقياداتها، فضلًا عن منشآتها النووية وبنيتها التحتية، فإنَّ المُضي قُدُمًا في حيازة سلاح نووي قد يردع هذه المخاطر، ويدفع الأطراف المنافسة إلى مراجعة ترتيباتها وتوجُّهاتها نحو إيران.

ثالثًا: أيّ مستقبل لفتوى خامنئي ونهْج إيران النووي؟

في ظل صعود بعض المطالب بحيازة إيران سلاحًا نوويًّا، يمكن التنبُّؤ ببعض السيناريوهات المتوقَّعة على النحو الآتي:

1. سيناريو الصبر الإستراتيجي: حتى لو أرادت إيران التخلِّي عن الطابع السِّلْمي المُعلَن لبرنامجها النووي، فإنَّها لن تفعل ذلك صراحةً، وستبقى توظِّف فتوى خامنئي من أجل درء المخاطر، وتأكيد نيَّاتها لتفادي العُزلة والضغوط. وعلى الأرجح، ستتابع إيران في المرحلة الراهنة سياسة نووية تُوازن بين التصعيد والتهدئة، مع الاحتماء بفتوى تحريم حيازة الأسلحة النووية، إذ تصعِّد إيران إجراءاتها النووية في مقابل أيّ تصعيد في الضغوط من جانب الولايات المتحدة. وتُعزِّز ذلك خبرة إيران الطويلة في هذا الملف، التي تُشير إلى أنَّ أولويتها هي الحفاظ على النظام، وحمايته من الانزلاق نحو مواجهة قد تكلِّفه بقاءه، لا سيّما أنَّ الولايات المتحدة أخذت على عاتقها حرمان إيران من امتلاك سلاح نووي، وجعلت ذلك أحد خطوطها الحمراء، التي لن تسمح بتجاوزها، لكن مكمن الخطورة في هذا الإطار أنَّ إيران تستغِلّ مراحل التصعيد من أجل تعزيز قُدراتها النووية، وتخفض التزاماتها، التي تقرِّبها من تخطِّى العتبة النووية. وبالتالي، فإنَّ هذا المسار قد ينتهي إلى فرْض أمر واقع نووي إيراني على العالم، وقد تساعد ذلك، المنافسة الدولية الحالية والانشغال الأمريكي بالصراع مع القُوى، التي تهدِّد مكانتها الدولية، وهو التطوُّر الذي قد يُغري إيران ويعزِّز طموحها في امتلاك قوَّة الردع النووي.

2. سيناريو الانفتاح والتفاهم: على الرغم من أنَّ الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية قد عبَّرت عن قلقها من التطوُّرات، التي يشهدها برنامج إيران النووي، في ظل غياب الرقابة الكاملة من الوكالة الدولية، وفي ظل تعمُّد إيران إخفاء بعضٍ من أنشطتها، يبدو أنَّ الولايات المتحدة ودول الغرب لديهم خطوط اتّصال مفتوحة مع إيران، تجعل من البرنامج النووي الإيراني من وجهة نظر الغرب تحت السيطرة، وإلّا ذهب أيٌّ من الدول الأوروبية بالتوافق مع الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن، واستخدم حقّه في استعادة العقوبات تلقائيًّا على إيران خلال الفترة الماضية. وهذا يعني أنَّ الأطراف ليست بعيدة عن تفاهُمات يمكن أن تُفضي في النهاية إلى استعادة العمل باتفاق 2015م، خصوصًا في ظل وجود خطوط اتّصال غير مباشرة مفتوحة بين طهران وواشنطن، أو إدخال بعض التعديلات علي الاتفاق، وفي ظل انقضاء آجال بعض بنوده. لكن يبدو حتى الآن أنَّ مسار الدبلوماسية يواجه تحدِّيات كبيرة، أولها هو الخلافات حول التنازلات المتبادلة من أجل العودة إلى ما قبل يوم 8 مايو 2018م، وهو يوم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وثانيها، المواجهة غير المباشرة، التي اتّسع نطاقها بعد دخول إيران على خط الحرب الروسية على أوكرانيا، وكذلك المواجهة المتصاعدة بين طهران وواشنطن في الشرق الأوسط بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وأخيرًا الانتخابات الأمريكية، التي تفرض قيودًا كبيرة على بايدن بشأن العلاقة مع إيران، ورُبَّما لو جاء ترامب بعد الانتخابات المزمع عقدها في نهاية العام الجاري أن تتغيَّر أولويات إيران النووية.

3. سيناريو تبنِّي عقيدة جديدة: حسب الاستخبارات الأمريكية، «قد تلجأ إيران إلى تركيب أجهزة طرْد مركزي أكثر تقدُّمًا، أو زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصَّب، أو تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 90%، ردًّا على العقوبات الإضافية عليها أو الهجمات أو الانتقادات لبرنامجها النووي»، وذلك لكونه خطوة نحو حيازة سلاح نووي. وهذا السيناريو ليس مُستبعَدًا، ليس بسبب العقوبات والضغوط فحسب، بل لأنَّ إيران بالفعل قطعت شوطًا نوويًّا مُهمًّا، وأصبحت لديها التقنيات والمعرفة والإمكانيات -حسب ما يصرِّح به مسؤولوها- لامتلاك سلاح نووي، كما أنَّها تواجه مخاطر وتحدِّيات جسيمة تهدِّد أمنها وحدودها، الأمر الذي قد يدفعها إلى تغيير عقيدتها النووية.

في هذا السياق، يمكن القول إنَّ فتوى خامنئي، التي لم تظهر للعلن إلّا عام 2003م، في أوج المواجهة الإيرانية مع الغرب بعد الكشف عن البرنامج النووي الإيراني، لا تُعتبر عائقًا أمام تغيير إيران نهجها النووي باتجاه العسكرة، إذ إنَّ أيديولوجيا إيران نفسها تبرِّر إمكانية هذا التغيير. كما أنَّه وفقًا لمبادئ النظام نفسه، فإنَّه عند ظهور عدم توافُق، فإنَّ الاعتبارات السياسية (بقاء «الجمهورية الإسلامية») لها الأسبقية على الاعتبارات الدينية، وبالتالي يمكن للاتّجاه المُنادي بحيازة سلاح نووي أن يجد له صدى، وقد تدفع الظروف والمتغيِّرات نحو هذا الاتّجاه. ليس هذا فحسب، بل إنَّ حيازة السلاح النووي أمر مهم لدى القيادة الإيرانية، فإيران تنظر إلى مسألة حيازة سلاح نووي على أنَّها وسيلة فعّالة من أجل أن تحفظ الدولة أمنها، في ظل نظام دولي فوضوي البقاء فيه للقوي، إذ تمثِّل حيازة أسلحة دمار شامل نووية أو كيميائية أو بيولوجية قوَّة ردْع تحول دون الاعتداء عليها. وفي هذا الإطار، يجادل خامنئي بأنَّ الولايات المتحدة لا تعارض البرنامج النووي الإيراني من أجل الحدِّ من الانتشار، ولكن بسبب الاستقلال المُحتمَل والنفوذ الاقتصادي، الذي يمكن أن تستمِدّه إيران منه. وهُنا يؤكِّد قادة إيران -بمن فيهم خامنئي- أنَّ خيار الاستقلالية مُكلِف، لكنَّه استقلال يستحِقّ دفع ثمنه، فمن أجل الحصول على الاستقلال وتحقيق السيادة والشرف الوطنيين، يجب على أيّ دولة دفْع ثمن معيَّن.

وقد تسرِّع هذا الاتّجاه، التهديدات المتعلِّقة بالقضاء على النظام الإيراني وحل نظام آخر محله، على أن يكون متوافقًا مع السياسات الغربية، خصوصًا أنَّ سياسات الولايات المتحدة تمثِّل هاجسًا كبيًرا للنظام الإيراني، وبالتالي فإنَّ أيّ تحرُّك أمريكي يهدِّد بقاء النظام قد يقود إيران لتغيير حساباتها، ويزيد رغبتها في التحرُّك بسرعة نحو صناعة الأسلحة النووية بهدف زيادة منْع أيّ هجوم عسكري ضدّها، أو زيادة قوَّة الردع وموازنة القُوى لحماية نفسها من أيّ هجمات مُحتَملة. ورُبَّما لو انتهت حرب غزة بهزيمة كبيرة لفصائل المقاومة الفلسطينية، أن تواجه خطر خسارة نفوذها الإقليمي في بعض الساحات، ومن ثمَّ فإنَّها تحتاج إلى قوَّة ردع هائلة لموازنة التهديدات المُحتمَلة.

خلاصة هل يجوز القول إنَّ كل المسارات باتت تقود إيران نحو العتبة النووية؟ قد يكون ذلك صحيحًا، مع اختلافات بسيطة في وتيرة العمل وسرعة الوصول إلى تلك المحطَّة الفارقة. فإذا قُلنا إنَّ إيران ستعود إلى التفاهم مع الولايات المتحدة والغرب، وقد تضع برنامجها النووي تحت أعين الرقابة الدولية من جديد، فهل ذلك يزيل الشكوك بشأن طموح إيران في امتلاك قوَّة الردع النووية في المستقبل؟ على الأغلب هذا ليس صحيحًا، لأنَّ الاتفاق النووي صُمِّم بالأساس لتأجيل مسار إيران النووي ووضعه تحت الرقابة لآجالٍ محدَّدة، فما بالنا وقد استغلَّت إيران ظروف تعليق الاتفاق وقطعت شوطًا مهمًّا في تعزيز قُدراتها على التخصيب بنِسَب مرتفعة. وبالتالي، إذا ما توفَّرت الظروف، فالأغلب لن تتردَّد طهران، حتى ولو كانت خاضعة للرقابة، في حيازة قوَّة الردع النووي، التي يرى النظام أنَّها مهمَّة لخدمة مصالحه. أمّا إذا نظرنا إلى الواقع الراهن وما يجرى الآن، فهو ينتهي إلى النقطة ذاتها، ويحقِّق غاية النظام من وراء هذا البرنامج، إذ توجد تفاهُمات ضمنية غير مُعلَنة، لكن دون رقابة فعلية. ومن ثمَّ، تستمِرّ إيران في متابعة سياسة موازنة الضغوط وكسب النقاط، باعتبار ذلك أنسب الطُرُق المُتاحة لتجسير الفجوة المعرفية والتقنية والإمكانيات اللازمة للتمركز من بُعدٍ خطوة قريبة من حيازة السلاح النووي، وهي سياسة تتوافق بطبيعتها مع عقيدة الصبر الإستراتيجي، التي يتابعها النظام في ملفّاته الحرِجة والحسّاسة كافّة. ووتيرة العمل الراهنة تقرِّب طهران مع مرور الوقت من الوصول إلى العتبة النووية، لكن في وقت أقلّ، ودون تحمُّل عواقب كبيرة تهدِّد بقاء النظام، أو تهدِّد المكتسبات النووية. وحتى إذا تغيَّر النهج المناهض لطموح إيران النووي من أجل وضْع حدٍّ لهذا التهديد، سواء من خلال ضربات محدودة للمواقع النووية، أو تعزيز الجهود لتغيير النظام، فقد لا يقود ذلك إلّا إلى تسريع النظام جهوده لحيازة سلاح نووي، مستفيدًا من التراكم المتسارع لليورانيوم المخصَّب وللمعرفة التي يراكمها، والدعم الذي قد يتلقَّاه من بعض حلفائه. وأغلب الظن أنَّ الفتوى الدينية لن تكون عائقًا أمام تحقيق هذه الغاية، لأنَّ النظام عبر عقود أثبت أنَّه مصلحيٌّ أكثر من كونه أيديولوجيًّا.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير