يقوم النظام السياسي الإيراني على مبادئ تأسيسية تُخاطب الداخل والخارج بطريقةٍ مختلفة، ففي الداخل يدّعي النظام استقلاله عن قوى العالم ويرفع شعار «لا شرق ولا غرب»، كما يركّز باستمرار على معارضته للنظام البهلوي السابق.
أما في الخارج -إقليميًا ودوليًا- فقد أبدى النظام الإيراني الخصومة أو العداء لمعظم دول العالم، ورفعَ في أحيانٍ كثيرة شعارات الموت والكراهية، ولكن تعبيره عن الكراهية والعداء تجاه الأطراف الفاعلة الإقليمية والدولية يختلف كثيرًا بحسب كل دولة، ومجمل القول إن عداء إيران يأخذ منحيين سياسي وأيديولوجي، فعداؤها السياسي يتجلَّى في هتافات «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل» التي يردّدها مؤيدو طهران في المنطقة، وفي اليمن ترفع جماعة الحوثي المدعومة من إيران شعاراتٍ مشابهة مثل «الموت لأمريكا»، «اللعنة على اليهود»، «النصر للإسلام».
ويقتصر هذا العداء على مجالات السياسية والخطاب، وتكمُن وراء ذلك أسبابٌ عديدة أبرزها أن إيران وحلفاءها يرغبون في إظهار أنفسهم في خطٍ مجابهٍ للإمبريالية العالمية ولا سيما الغربية، مدركين أن هذا الخطاب سيلقى قبولًا عند بعضٍ من جمهور العالم الإسلامي الذي عانى من آثارٍ كارثية للاستعمار الغربي الذي دام لقرون.
ويستغل النظام الإيراني -في اتّباعِه هذا المسار- مشاعرَ الاستياء السائدة في الإقليم تجاه ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من ظلمٍ منذ عقود وفشل الغرب في إيجاد تسويةٍ عادلة لهذه الأزمة، وكذلك تجاه انحياز الغرب الواضح لإسرائيل، ممّا مكّنَ إيران من تعزيز رسالتها القائمة على الكراهية والعداء تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل.
وجاء في وصيّة الخميني الأخيرة ذِكرُ الولايات المتحدة صراحةً 17 مرة، إذ وصفها بـ«الشيطان الأكبر» الذي يجب محاربته، وفي وثيقةٍ بعنوان «نفخر بعدائنا لأمريكا الإرهابية»، وصف الخميني الأمريكيين بـ«الحيوانات المفترسة» الذين -بحسب قوله- «لا يتورّعون عن ارتكاب أيّ جناية أو خيانة في سبيل تحقيق أهدافهم المشؤومة والجانية»، كما أكّد أن الأمريكيين لا يميزون بين الصديق والعدو طالما أنه يدعم تحقيق «طموحاتهم المهيمنة والشنيعة»، وأن «أمريكا الإرهابية» وحليفتها تجعلان نيران الصراع تشتعل في جميع أنحاء العالم.
غير أن هذا العداء السياسي تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الغرب يختلف عن عداء إيران الأيديولوجي الذي يستهدف في المقام الأول المملكة العربية السعودية أكثر من غيرها، إذ تقوده دوافع أيدولوجية وجيوسياسية، وفي هذا قال الخميني في أحد خطاباته عام 1989م: «حتى لو سامحنا صدام حسين وتنازلنا عن “القدس” وتجاهلنا جرائم الولايات المتّحدة فلن نسامح المملكة العربية السعودية».
كما أن عداء الخميني للمملكة العربية السعودية واضحٌ جدًا لكل من يقرأ وصيته، ووفقًا للدستور الإيراني فإن هدف النظام الرئيس يكمُن في تصدير الثورة الإيرانية إلى الشرق الأوسط أولًا –من لبنان شمالًا إلى اليمن جنوبًا–، ويهدف ذلك إلى تمهيد الطريق لظهور الإمام الغائب التي تتحمَّل إيران –وفقاً لأيديولوجية الخميني– مسؤوليتهُ العقائدية والأيدولوجية.
وبالرغم من حقيقة أن مدارس إيران الفكرية الفقهية والطائفية مختلفةٌ بطبيعة الحال عن باقي الدول الإسلامية يرى المرشد الأعلى الإيراني أنه يقود عموم المسلمين وأن إيران تتزعَّم العالم الإسلامي، ولكن إيران بعيدةٌ عن بلوغ هذا المرام؛ لأن المملكة العربية السعودية تحتضن أكثر الأماكن الإسلامية قداسةً مكة المكرمة و المدينة المنورة، ممّا جعلها تسعى إلى إضعاف المملكة العربية السعودية وزعزعة استقرارها لتتمكن -بصورة أو بأخرى- من السيطرة على الحرمين الشريفين، وممّا يؤكد ذلك عقدها وتمويلها عشرات المؤتمرات والندوات والمظاهرات في مختلف أنحاء العالم للترويج لفكرة أن المملكة العربية السعودية غير قادرةٍ على إدارة الحرمين الشريفين، ومطالبتها المتكررة بإشراف لجنة إسلامية مشتركة عليهما.
كما أقرّت إيران «نظرية أم القرى» التي صاغها محمد جواد لاريجاني في الثمانينات، وتقول النظرية إنَّ إيران -أو ما يسمى بجمهورية إيران الإسلامية-ليست إحدى الدول المسلمة فحسب بل هي أم القرى/دار الإسلام، ممّا يربط انتصار أو هزيمة إيران بانتصار الإسلام أو هزيمته، وتشير النظرية إلى أن إيران ستتولى زعامة العالم الإسلامي، وتؤكد أن على البلد الذي يدّعي بأنّه «أم القرى» أن يتخطّى حدوده الجغرافيّة في القيادة ويذهب أبعد من ذلك، كما تقول النظرية أنّ «أم القرى» ليست إرثًا لأي دولة؛ إذ يمكن أن تحمل دولةٌ مفهومَ أم القرى لمدّة ثم تُجرّد منه بعد فترة، وأنّ إيران أصبحت -بعد انتصار ثورتها- أم القرى/دار الإسلام.
وترى القيادة الإيرانية –التي وصلت إلى القول بأن المملكة العربية السعودية تحتل مكة والمدينة– في هذه النظرية حجةً لتقديم «قُم» (مركز التعاليم والتفاسير الشيعية الإيرانية المتشددة) كمدينة مقدسة مُنافسة لمكة، التي ترى النظرية أنها رهنُ الاحتلال السعودي، فيما لم تلقَ هذه النظرية على الواقع قبولًا عند البلدان الإسلامية بالرغم من الترويج الكبير لها، وبسبب فشلها في هذا المسعى قرّرت إيران التركيز على المشروع الجيوسياسي الشيعي، وبدأت تجنِّد الأقليات الشيعية وتدرِّبهم وتدعمهم بهدف زعزعة استقرار المنطقة التي تُعد المملكةُ جزءًا منها، وأنشأت جماعة «حزب الله الحجاز» ودرّبت عناصرها ودعمتها بالمال والسلاح وأدارت عملياتها الإرهابية داخل المملكة العربية السعودية، ثم بدأت استهداف المملكة بميليشيا الحوثي اليمنية التي تردّد شعار «الطريق إلى القدس يمر بمكة»، المماثل لشعار الخميني أثناء الحرب الإيرانية-العراقية «الطريق إلى القدس يمر بكربلاء».
وكل هذه الجهود تُثبت في مجملها أن النظام الإيراني يقوم على عداء «الآخر» البعيد (الولايات المتحدة) سياسيًا، وعداء «الآخر» القريب (المملكة العربية السعودية) أيديولوجيًا وسياسيًا، ممّا يفسّر السبب وراء دعم إيران للجماعات الإرهابية مثل القاعدة وغيرها واستضافتها لقادتهِم في طهران وتسهيلها لمرور العناصر الإرهابية التي نفّذت هجمات 11 سبتمبر بقصد الإضرار بالعلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتان تكنُ إيرانُ العداء لهما، وإن كان بدرجاتٍ متفاوتة.
ومن ثم فإن أُسس سياسة إيران الخارجية تقوم على أيدولوجية الكراهية والعدوانية ولا سيما تجاه الدول التي تقف في وجه مشروع طهران التوسعي وعقيدة «تصدير الثورة» المزعزعة للاستقرار، وفي هذا المسعى تُعدُّ الرياض وواشنطن القوتين الرئيسيتين القادرتين على منع إيران من تحقيق هدفها.
ولا يجب أن ننسى ما قاله الخميني في وصيته، فهي ليست كلماتٍ تجريدية بل تمثِّل أساسًا وأوامرَ لقادة إيران، إذ قال «وفي هذا العصر عصرُ مظلومية العالم الإسلامي على يد أمريكا والاتحاد السوفيتي وسائر المرتبطين بهما، ومن جملتهم آل سعود فإن من اللازم التذكير بذلك، ولعنهم والتنديد بهم بصورةٍ مؤثرةٍ وفاعلة».
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد