فوز بزشكيان بالرئاسة في إيران.. التداعيات والتحديات

https://rasanah-iiis.org/?p=35553

في تحول لافت لسلوك النظام الإيراني منذ سنوات لهندسة منصب رئاسة الجمهورية في قبضة المحافظين، بما يحمله ذلك من دلالات وتداعيات بالغة الأهمية على المستويين الداخلي والخارجي، أعلنت وزارة الدخلية الإيرانية، صباح السادس من يوليو 2024م، فوز مرشح التيار الإصلاحي، مسعود بزشكيان، بمنصب الرئاسة في الجولة الثانية من الانتخابات الرابعة عشرة، بحصوله على 16.4 مليون صوت مقابل 13.8 صوت، على منافسه المحافظ المتشدد، سعيد جليلي.

ويطرح فوز بزشكيان، في ظل الظروف الداخلية والخارجية التي تمر بها إيران، عددًا من التساؤلات:

ما مفسرات فوز بزشكيان وعوامل تفوقه على جليلي للفوز بمنصب الرئاسة؟ وما أبرز التداعيات والتحديات المحتملة أمام الرئيس التاسع لإيران، لا سيما سياساته الخارجية تجاه دول الجوار الإقليمي والدولي؟

أولاً: مفسرات ودلالات فوز بزشكيان بمنصب الرئاسة

بمراجعة متغيرات البيئة الداخلية وظروف إجراء الانتخابات الرئاسية على خلفية رحيل الرئيس إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرته، وتصريحات رموز النظام في إيران، وما تضمنته برامج المترشحين في المناظرتَين التي أُجريتا قبل انعقاد انتخابات الجولة الثانية، تبرز مجموعة من المتغيرات التي لعبت دورًا في فوز بشكيان بمنصب الرئاسة، وهي كالتالي:

1. تراخي النظام في هندسة الانتخابات لصالح المحافظين

وظَّف النظام الإيراني التوقيت الضاغط، الذي أُجريت فيه الانتخابات الرئاسية، لصالح تراخيه في هندسة العملية الانتخابية في اتجاه المحافظين، وذلك مقارنة بالانتخابات الثالثة عشرة التي سعى خلالها النظام بشدة لهندسة تأمين وصول رئيسي إلى الحكم، ما أدى إلى تراجع فرص المحافظين مقابل إتاحة الفرصة المواتية للإصلاحيين للفوز بالمنصب الرئاسي، ولربما كان ما آلت إليه الدولة الإيرانية من أزمات واتساع الهوة بين النظام والمواطنين، على نحو أسفر عن توالي الجولات الاحتجاجية التي أرّقت النظام وأوجدت حالة من اليأس والإحباط المجتمعي، مماثل لما شهدته إيران قبل الثورة، وكان السبب في تساهُل النظام في هندسة الانتخابات لصالح المحافظين، إذ صرح المرشد علي خامنئي بأن الانتخابات المقبلة «تُعتبر ظاهرة مليئة بالإنجازات وإن شاء الله إذا عُقدت بشكل جيد وعظيم فإنها ستكون إنجازًا كبيرًا للشعب الإيراني. وبعد هذا الحادث المأساوي يجتمع الناس ويصوتون بصوت عالٍ لاختيار المسؤول القادم، وستكون أصداء ذلك في العالم رائعة. ولذلك فإن هذه الانتخابات مُهمة جدًّا.. فملحمة الانتخابات هذه تُعتبر مكمّلة لملحمة تشييع الشهداء.. وهذا العمل يُعتبر مكمّلًا للعمل الذي أديتموه في تشييع الشهداء»، حسب قوله، ما يشير إلى احتمالية توصل خامنئي إلى اتفاق مع الإصلاحي الأصولي بزشكيان لاختيار حكومة تحقق مستهدفات الثورة وتفتح أفق حوار جديد مع الغرب بشأن الملفات العالقة.

2. تأثير المتغيرات الداخلية في فرص الإصلاحيين

لعبت المتغيرات الداخلية وتعدد الجولات الاحتجاجية خلال الأعوام الأخيرة، بخلاف العقود السابقة من ناحية، واستمرارية منحنى المشاركة في الانتخابات الرئاسية في النزول (المقاطعة الانتخابية) بشكل لافت من ناحية ثانية، جراء تنامي حالة الاحتقان لشريحة مجتمعية كبيرة من سياسات النظام وهيمنة المحافظين، دورًا كبيرًا في التأثير في مقاربة النظام، التي كانت ترمي إلى الإقصاء الكلي للإصلاحيين وهيمنة المحافظين على مؤسسات الدولة، وإن كان نجح في ذلك رسميًّا، غير أنه أخفق شعبيًّا في تحويل الكتلة الشعبية الإصلاحية إلى مؤيدة للمحافظين، بل على العكس من ذلك، دفع بها إلى اليأس من الحلول السياسية داخل النظام، إذ بات من الصعب على الإصلاحيين تعبئة قواعدهم وإقناعها بالإصلاح عبر الصندوق، وبات يراهن فقط على الحد من استمرار تردي الأوضاع وتفاقم الأزمات في حالة استمرار سيطرة المحافظين على الرئاسة.

3. تشتيت الأصوات الانتخابية للمحافظين

توزعت الأصوات الانتخابية لتأمين المنصب الرئاسي للمحافظين باختيار مجلس صيانة الدستور 5 مترشحين من التيار المحافظ خاضوا الجولة الأولى، مقابل مرشح إصلاحي وحيد عوّل في فوزه بالرئاسة على تعدد منافسيه المحافظين في تحقيق اختراق في المعركة الانتخابية، ما تسبب في تشتيت الأصوات الانتخابية بين المحافظين وتوحيد أصوات الناخبين لصالح المرشح الإصلاحي.

4. دور الأصوات الرمادية في فوز بزشكيان

وجود فرصة مواتية أمام الإصلاحيين للفوز بمنصب الرئاسة حفَّز الأصوات الرمادية والكتلة الصامتة إلى التصويت في الجولة الثانية لصالح بزشكيان، الذي تحدث بلسان المحبَطين وعبَّر عن حال المكتوين بنار الأزمات في مناظراته، بدليل ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات، التي كانت متوقعة في الجولة الثانية بنسبة 49.9%، مقارنة بنسبة المشاركة في الجولة الأولى، 40%.

5. رؤية بزشكيان لمعالجة القضايا الداخلية والخارجية

طرح بزشكيان، في أثناء مناظراته مع جليلي، رؤية متكاملة أشبه بخارطة طريق واضحة لمعالجة الأزمات وتذليل العقبات على الصعيدين الداخلي والخارجي، بتأييده المرشد مقابل تحميله مسؤولية امتناع تصويت نحو %60 من المواطنين في الجولة الأولى إلى فشل الحكومات في معالجة الأزمات وتحقيق الإنجازات، وإبدائه الرغبة في ضرورة الانفتاح والحوار مع الغرب لرفع العقوبات باعتبار ذلك أولوية.

وقد لامست رؤية بزشكيان هموم المواطنين وعبّرت عن أحوالهم المأساوية جراء تردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية بالبلاد بفعل سياسات النظام الداخلية والخارجية، وإن كانت تِركة الأزمات كبيرة مقارنة بما طرحه بزشكيان لتسويتها، مقابل عدم طرح جليلي أي أطروحات لمعالجة الأزمات وتمسُّكه بسياسات متشددة مع الغرب، ما من شأنه استمرارية السياسات المحافظة التي لم تفلح في معالجة الأزمات.

6. مواقف المرشد من المرشحين للرئاسة

تصريحات المرشد علي خامنئي قبل يومين من التصويت لربما كان لها تأثير في نسبة المشاركة التي صبّت لصالح بزشكيان، فقد أقر خامنئي بالمشاركة الضعيفة في الجولة الأولى، وحثّ المواطنين على المشاركة في الجولة الثانية، مع رفضه وصف عدم المصوتين كلهم بـ«المعارضين»، إذ ردَّ عدم المشاركة إلى انشغالهم. يعكس استجداء المرشد للإيرانيين للتصويت سعي النظام لترميم شرعيته داخليًّا وخارجيًّا، وتخوفه من استمرار اتساع الفجوة بينه وبين المواطنين، وبالتالي تزايد احتمالات العنف السياسي عبر الاحتجاجات، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبار تصريح المرشد إشارات طمأنة للمتخوفين من احتمالات التزوير لصالح المرشح المحافظ، مما حفّز الناخبين المحسوبين على التيار الإصلاحي للتصويت.

ثانيًا :التداعيات المحتملة لفوز بزشكيان

فوز مرشح إصلاحي بمنظومة فكرية مغايرة للمنظومة المحافظة بالرئاسة الإيرانية من شأنه احتمالية عدد من التداعيات على الصعيدين الداخلي والخارجي، على النحو التالي:

1. على الصعيد الداخلي

أ. تجدد صراع الثنائية في مؤسسات الحكم

يعزز فوز بزشكيان فرص عودة أزمة الثنائية، المحافظين والإصلاحيين، في مؤسسات الحكم، وذلك بتعزيز زخم عودة تأثير التيار الإصلاحي -الذي أثبت امتلاكه قاعدة شعبية وحضورًا سياسيًّا يُعتد به في الداخل، في المعادلة الإيرانية، على غير أطروحات المحافظين، ما يُعيد الصراع بين التيارين، الذي تمكَّن النظام في السابق من إنهائه بتأمينه وصول الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي إلى سدة الحكم في إيران، وذلك من خلال هندسته العملية الانتخابية لتأمين فوز رئيسي، وبالتالي قد يؤدي فوز بزشكيان على سبيل المثال إلى عودة الانقسام وصراع الأجنحة بين مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية من جهة، وبيت المرشد والحرس الثوري من جهة أخرى، كما كان الحال في أثناء مرحلة الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني.

ب. عودة قضية خلافة المرشد إلى الواجهة

تولي الإصلاحي مسعود بزشكيان مقاليد السلطة التنفيذية في إيران يُعيد إلى الواجهة قضية خليفة المرشد، التي أسهم النظام في تراجعها بشكل كبير بوصول الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي إلى سدة الحكم في إيران، فقد اعتبر كثيرون أن تأمين وصول رئيسي إلى سدة الحكم من النظام لا يعني فقط توليه مهام الرئاسة، وإنما لإعداده بوصفه خليفة للمرشد والمُضي على خطى وتوجيهات ولاية الفقيه تجاه الداخل والخارج، لا سيما في ظل تقدم سنّ المرشد علي خامنئي.

ج. إجراء محاولات التغيير والإصلاح الداخلي

رغم وجود تركة ثقيلة من الأزمات في إيران تتجاوز حدود أي رئيس لمعالجتها، فإن تصريحات بزشكيان حول وجود حزمة من الأزمات أدت إلى امتناع تصويت نحو 60% من المواطنين في الجولة الأولى، ورغبته، حسب حديثه في مناظراته، في السعي لمعالجتها، لربما تسفر عن تغييرات وإصلاحات في الداخل تفيد في إعادة ترميم العَلاقة بين النظام والمواطنين من جديد من ناحية، والسعي لإعادة رأب الصدع في البيت السياسي الداخلي من ناحية أخرى، فقد صرح في أول حديث له بعد إعلان فوزه بمنصب الرئاسة بقوله: «سأمد يد الصداقة إلى الجميع وسأشرك الجميع في تنمية البلاد.. المنافسون هم إخوتي».

د. إمكانية تداعي الصدامات مع المعسكر المحافظ

لن يخلو الملف الاقتصادي من بعض الصدمات الداخلية بين الرئيس الإصلاحي الجديد وبين المحافظين في كثير من الملفات، لعل من أبرزها رؤيته ضرورة انضمام إيران إلى مجموعة العمل المالي الدولي لمكافحة غسْل الأموال وتمويل الإرهاب، من أجل تسهيل جذب الاستثمارات إلى إيران وتحسين وضع البلاد في مؤشرات الشفافية ومواجهة الفساد، وهو ملف يعارضه مجلس تشخيص مصلحة النظام منذ سنوات، خشية اكتشاف تعاملات إيران المالية الخارجية مع شبكات الالتفاف على العقوبات أو مع الجماعات المسلحة في دول، مثل سوريا ولبنان واليمن. ولديه ملف تدخلات المؤسسة الدينية والحرس الثوري في الاقتصاد، الذي ظهرت معارضة بزشكيان له في مناظراته الانتخابية، بينما عمليًّا لن يكون تطبيق هذا الأمر ممكنًا، نظرًا لتوغل هذه المؤسسات في الاقتصاد على مدى أربعة عقود من قيام الثورة ووجود جماعات مصالح لن تسمح بفقدان نفوذها ومكتسباتها، كما لم تنجح محاولات بعض الرؤساء السابقين لاحتواء هذا التدخل، مثل محمد خاتمي وحسن روحاني. 

2. على الصعيد الخارجي

بموجب ما أعلنه بزشكيان في مناظراته تجاه العالم الخارجي، الدائرتين الإقليمية والدولية، يمكن القول إن بزشكيان يؤمن بسياسة الانفتاح على العالم الخارجي، وأقرب إلى المزج بين المسارين: مسار روحاني ومسار رئيسي وبالتزامن، وذلك بحديثه بوضوح عن ضرورة الانفتاح على الغرب من ناحية، وإيلائه الأولوية للدائرة الإقليمية من ناحية ثانية، وذلك على النحو التالي:

أ. تعزيز فرص الانفتاح على العالم الخارجي

بموجب مناظراته، يرى بزشكيان أن الانفتاح على العالم الخارجي وتسوية القضايا الخلافية مع العالم من خلال مسار الجلوس على مائدة المفاوضات ينعكس إيجابًا على معالجة القضايا الداخلية العالقة في إيران، إذ يسهم الانفتاح على العالم الخارجي في خلق بيئة مواتية لتحسين الأوضاع المعيشية المتردية وتعزيز النمو الاقتصادي ووقف مسار الهجرة لإعادة بناء الدولة الإيرانية، متسائلًا: «لماذا لا يستطيع تجارنا السفر بسهولة إلى أوروبا؟ ماذا فعلنا لكي يتعامل معنا العالم على هذا النحو؟ في جوارنا، لماذا لا تمنحنا تركيا أموالنا؟ لماذا لا تُعيد الصين دولاراتنا؟ لماذا لا تنفذ اتفاقية الـ25 عامًا؟»، مؤكدًا أن سياسات الانغلاق تسببت في عدم تحقيق سياسات المرشد المتمثلة في تحويل إيران إلى المرتبة الأولى إقليميًّا بحلول عام 2025م، وذلك في مفارقة واضحة عن إدراكه أن الخطوط العريضة للسياسة الإيرانية يحددها المرشد وليست من صلاحيات الرئيس دستوريًّا.

ب. ارتفاع حظوظ العودة إلى الاتفاق النووي

من شأن تصريحات بزشكيان في مناظراته حول الاتفاق النووي ارتفاع حظوظ عودة إيران إلى المفاوضات النووية مع الغرب، إذ حسب منطوق بزشكيان فإن الدبلوماسية الاقتصادية وتحسين العلاقات الاقتصادية مع الفواعل الإقليمية والدولية لإفقاد ورقة العقوبات جدواها لن تثمر ولن تفلح في التخفيف من وطأة العقوبات وتحسين الأحوال المعيشية وتراجع الاحتجاجات لأن الدبلوماسية الاقتصادية يمكنها أن تفيد لكن على المستوى بعيد المدى، إنما الأزمات الإيرانية تتطلب حلولًا سريعة فورية، ولن يجري ذلك إلا برفع العقوبات.

ج. إيلاء الأولوية لدائرة دول الجوار الإقليمي

أولى بزشكيان الأولوية في انفتاحه على العالم الخارجي، من خلال مناظراته، لدائرة دول الجوار الإقليمي بوصفها مقدمة للانفتاح على العالم الخارجي، وتشكل الدول الخليجية والعربية غالبية أعضاء تلك الدائرة، ما من شأنه المُضي على خطى رئيسي تجاه الدائرة الإقليمية في تعزيز العلاقات مع الدول العربية والخليجية، لكن في الوقت ذاته تعكس أطروحاته في مناظراته إمكانية مُضيه على خطى روحاني في الانفتاح على الغرب بشكل متزامن مع الدائرة الإقليمية، وإن كان قد صرّح في المناظرة الأولى للجولة الثانية بمعارضة الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل الاتفاق النووي، لكنه في المقابل أبدى امتعاضه من مشاركة الذين أضرموا النيران في المقار الدبلوماسية السعودية قبل سنوات في حملة جليلي، ما يعكس أن الاتفاق بين الرياض وطهران يظل أولوية لدى بزشكيان على ضوء منظومته الفكرية نحو موقفه تجاه المملكة في ما يخص الاتفاق النووي.

د. عودة جدل الدبلوماسية والعسكرة الخارجية

كان الانسجام والتناغم بين الخارجية والحرس الثوري هو المسيطر بشكل كبير في تنفيذ السياسة الخارجية تجاه المجالات الحيوية عامة، ودول ساحات التمدد والنفوذ خصوصًا، خلال حقبة الراحل رئيسي. لكن بفوز بزشكيان يتوقع عودة الجدال والصدام مجددًا بين الخارجية والحرس الثوري في إعادة تكرار سيناريو فترة روحاني-ظريف (الذي تحدث في السابق في تسجيل صوتي مسرب) عن تدخلات الحرس الثوري في تنفيذ السياسة الخارجية لإيران المنوطة بجهات الدبلوماسية.

ثالثًا: التحديات المواجهة للرئيس الإيراني الجديد

يواجه الرئيس الإيراني الجديد كثيرًا من التحديات المتشابكة داخليًّا وخارجيًّا، سياسيًّا واقتصاديًّا، وسيتوجب عليه انتهاج الموازنة بين الأبعاد السياسية والاقتصادية التي تأتي ضمن أولويات الإيرانيين:

1. التحديات السياسية والأمنية

يتسلم بزشكيان الرئاسة في إيران في ظل ظروف داخلية وخارجية معقدة تفرض عليه كثيرًا من التحديات، إذ ستكون عليه صياغة مقاربات توفّق بين توجهاته بوصفه إصلاحيًّا وبين القوى المحافظة المهيمنة على مؤسسات الدولة، وفي الوقت نفسه تقديم تنازلات تقود إلى التوصل إلى حلول للقضايا الخلافية مع الغرب، أو على الأقل تهدئتها، وهي القضايا التي قد تصطدم هي الأخرى بوجود قيادات سياسية لها معارضة شديدة لسياسات إيران، خصوصًا في الإدارة الأمريكية المقبلة على انتخابات رئاسية في نوفمبر 2024م.

أ. التحديات الداخلية

ستكون ثنائية «الدولة والثورة» هي الملمح العام لمختلف التحديات التي سيقابلها بزشكيان خلال رئاسته، وذلك باعتبار التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه، يمثل توجهات الدولة في مختلف الأصعدة، في حين يتمترس التيار المحافظ خلف «مؤسسات الثورة»، وفي مقدمتها المرشد والحرس الثوري، التي مكَّنته من الهيمنة على البرلمان، وبذلك تفقد الرئاسة أهم مؤسسات الدولة.

ويمكن إجمال أهم التحديات الداخلية في ما يلي:

  • الصدام مع المرشد: غني عن التذكير هيمنة المرشد على مؤسسات الدولة دستوريًّا وعمليًّا في مقابل محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية، ولكن هذا لا ينفي قدرة الرئيس على التحرك ضمن المنطقة المتداخلة بينه وبين المرشد، وصناعة القرار الذي يتوافق مع رؤيته القضايا التي يمكن أن تتعارض مع المرشد، وعادة ما تحدث خلافات بين المرشد والرئيس بغض النظر عن خلفية الأخير، سواء كان إصلاحيًّا مثل خاتمي، أو محافظًا مثل نجاد، أو معتدلًا كروحاني، وقد تبقى تلك الخلافات محدودة في إطار الدوائر المغلقة، وقد تتطور إلى صدام مباشر تكشفه مخرجات دوائر الحكم، خصوصًا على مستوى وزارة الخارجية أو المؤسسة العسكرية، وتحديدًا الحرس الثوري. وقد يكون وزير الخارجية الأسبق، محمد جواد ظريف، أول اختبار لهذه العلاقة في حالة تكليفه بأي دور سياسي، ومن جانب آخر فإن ترتيبات خلافة المرشد تبقى مستمرة، ومن الممكن أن تكون من أسباب الخلاف إذا ما عرقلها بزشكيان، إذ سيدخل في مواجهة مع بيت المرشد والقوى النافذة المرتبطة به، على غرار ابنه مجتبى و«الحرس الثوري». 
  • تعطيل البرلمان عمل الرئاسة: غياب الظهير البرلماني للرئيس الجديد سيكون ضمن أبرز الصعوبات التي سيواجهها، فوفق الدستور الإيراني سيحتاج بزشكيان إلى ثقة البرلمان بوزراء حكومته، كما سيكونون مهددين بسحب الثقة منهم، بل وحتى الرئيس نفسه، وأي اتفاق جديد لا بد أن يمر على البرلمان للتصديق عليه، ونظرًا إلى هيمنة المحافظين على البرلمان فبكل تأكيد سيكون الأمر في غاية الصعوبة، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن البرلمان قد يكون من أدوات المرشد لتطويع الرئيس الجديد، إذ يتوقف حجم الصدام بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان على علاقة الرئيس بالمرشد، ففي حالة توتر العلاقة بين الطرفين سيكون ذلك محفزًا إضافيًّا للبرلمان المحافظ في زيادة حدة الهجوم على الرئيس وتعطيل برنامجه، أما في حالة التوافق النسبي، فإن ذلك سيدفع البرلمان إلى الحد من انتقاداته استجابة لتوجيهات المرشد المباشرة أو غير المباشرة.
  • الأدوار الخارجية للحرس الثوري: قد تكون أنشطة الحرس الثوري الخارجية من أهم التحديات التي تواجه الرئيس الجديد، فوفق التجارب السابقة للإصلاحيين في الحكم وُجد تنافسٌ في صنع القرار الخارجي بين وزارة الخارجية والحرس الثوري، فعادة ما يتحرك الحرس بعيدًا عن الوزارة انطلاقًا من السُّلطة التي يمنحها إياه المرشد، ولعل قضية الهجمات على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق ردًّا على اغتيال قائد «فيلق القدس» السابق قاسم سليماني، الذي قُتل في مطلع يناير 2020م، وأبلغ بها الحرس الأمريكيين عن طريق رئيس الوزراء العراقي دون معرفة الرئاسة والخارجية الإيرانية، من النماذج التي تعكس اضطراب العلاقة بين الطرفين، ومن المحتمل أن يتكرر هذا السلوك نتيجة لتجذر ازدواجية الحكم في إيران وهيمنة قوى الثورة على مفاصل الدولة.

ب. التحديات الخارجية

السياسة الانفتاحية التي يتبنَّاها الرئيس الجديد ستجد في البيئة الخارجية أيضًا بعض التحديات التي قد تحول دون تجسيدها، وتصعّب من مهمة الرئيس داخليًّا..

وتتمثل أبرز التحديات الخارجية في ما يلي:

  • عودة ترامب إلى الإدارة الأمريكية: تشير تقديرات عديدة إلى تزايد فرص الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في العودة إلى الإدارة الأمريكية، خصوصًا بعد الأداء الضعيف للرئيس الحالي جو بايدن في المناظرة الرئاسية الأولى، وتصاعد الأصوات من داخل الحزب الديمقراطي التي تطالبه بالانسحاب وتقديم مرشح بديل عنه، وفي حالة نجاح ترامب فإنه إذا تبنى خيارات صدامية مع إيران أو رفع حجم المطالب للعودة إلى الاتفاق النووي أو تفضيله المواجهة العسكرية في إدارة الخلافات الاقليمية مع إيران، فإن ذلك سيعرقل بكل تأكيد جهود بزشكيان الذي يحكمه في النهاية سقف المرشد الأعلى في سياساته.
  • احتمالية تطور حرب غزة إلى مواجهة إقليمية: أثبتت الأشهر التسعة من الحرب الإسرائيلية على غزة، التي تخللتها مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، أنه لا توجد أي رغبة من طهران للتصعيد مع إسرائيل، غير أن هذا السيناريو لا يزال مطروحًا في ظل استمرار المعارك في غزة، وارتفاع حدة التصعيد الإسرائيلي تجاه لبنان، وإذا حدث ذلك، ومن الأرجح أنه سيكون رد فعل إيرانيًّا على تصعيد إسرائيلي، فإنه في هذه الحالة سيفقد الرئيس الجديد أي قدرة على تجسيد برنامجه الانفتاحي على الغرب، كما سيسهم ذلك في تعزيز أدوار «الحرس الثوري» والتيار المحافظ داخل مؤسسات الدولة والمجتمع الإيراني.
  • تعقيدات الملف النووي والصاروخي الإيراني: يدرك بزشكيان حجم التعقيدات التي تواجه ملفين: النووي والباليستي، التي تزايدت في السنوات الأخيرة مع رفع إيران نسبة التخصيب وتأزم علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتصعيد الأوروبي في هذا الموضوع نتيجة الدعم الإيراني لروسيا، فكل هذه التراكمات شكّلت هوة واسعة بين المطالب الغربية وبين المصالح الإيرانية وضمانات حقيقية لالتزام أي اتفاق جديد، سيكون على الرئيس الجديد التوصل إلى تسوية لهذه المعادلة المركّبة، التي تحتاج إلى وقت أطول في حين تحتاج إيران إلى رفع العقوبات بشكل عاجل.

2. التحديات الاقتصادية والاجتماعية

يجدد فوز الرئيس الجديد الأمل لدى قطاع عريض من الإيرانيين في مواجهة عديد من التحديات الاقتصادية المتراكمة منذ ما يزيد على ستة أعوام، خصوصًا في ما يتعلق بتجدد فرص إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات وإعادة انفتاح الاقتصاد الإيراني أمام التجارة والاستثمار، وبالتالي تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي. ولا شك في صعوبة هذه المهمة أمام بزشكيان، نظرًا إلى التركة الاقتصادية التي خلفها الرئيس إبراهيم رئيسي، التي تراكمت على مدى سنوات وتكشف عن صعوبات الواقع وتحديات المستقبل أمام الرئيس الجديد.

أ. تحديات داخلية

من بين أبرز التحديات في الملف الاقتصادي، تلك المتعلقة بخفض التضخم وتحسين النمو الاقتصادي واستقرار قيمة العملة وانضباط سوق الصرف، كما تبرز ملفات مهمة مثل صادرات النفط والدعم ومكافحة الفساد والفقر. إذ عانى النمو الاقتصادي، إما من ركود أو انكماش، أو من نمو محدود خلال السنوات الست الماضية، وحتى عندما وصل إلى 5.7% العام الماضي وفق البيانات الرسمية، فإنه جاء بعد سنوات من الركود والانكماش، وبالتالي لم يعوض النمو الأخير تخلّف الناتج المحلي الإجمالي ورجوعه إلى الوراء طوال السنوات الماضية، ومعه نصيب الفرد من الناتج ورفاهية المجتمع الضائعة، كما أنه اعتمد بنسبة 22% على زيادة إنتاج النفط.

ورغم الوعود الانتخابية لم تنجح الحكومة السابقة في تحقيق هدف خلق مليون فرصة عمل في العام، أو في خفض التضخم إلى رقم واحد أو حتى بمقدار النصف، بل حلّق التضخم قبل عامين متجاوزًا 50% ومحطمًا الأرقام القياسية للتضخم منذ قيام الثورة، وحتى مع تراجع التضخم في الأشهر الأخيرة إلى مستويات حول 35% تقريبًا، فلا يزال في وضع بعيد عن المستهدف البالغ 20%.

وبجانب ارتفاع نمو السيولة في إيران إلى معدلات 40% كمتوسط في العام، فقد كان للقرار الحساس برفع دعم الدولار عن منتجات حيوية في مايو 2022 دور كبي في تغذية التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين في آخر عامين بعد رفع الدعم المخصص لاستيراد الدقيق وتحرير أسعار القمح والحليب والبيض والدواجن والزيوت، وبطبيعة الحال زادت مستويات الواقعين تحت خط الفقر لتشمل -في بعض التقديرات المحلية- ثُلثي المجتمع الإيراني على الأقل.  

أما العملة المحلية، فتشهد تراجعًا كبيرًا أمام العملات الأجنبية منذ ثلاثة أعوام تحديدًا، إذ ارتفع سعر الدولار بنسبة 160% في الأشهر الأربعة والثلاثين الأخيرة. ويظل تراجع قيمة العملة من بين أهم معززات التضخم حاليًّا ومستقبلًا، ويرتبط هذا ارتباطًا وثيقًا باستمرار العقوبات الأمريكية. بينما تحسنت صادرات النفط، المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي الإيراني، وارتفعت إلى معدل تصدير يومي تجاوز حاجز مليون و400 ألف برميل، مقارنة بأقل من 500 ألف برميل يوميًّا في أواخر عهد روحاني، لكنها مع ذلك تظل أقل من معدلات تصدير ما قبل العقوبات التي تجاوزت 2 مليون و300 ألف برميل في اليوم.

إضافة إلى وجود تحديات اقتصادية أخرى ستواجه الرئيس الجديد لا تقل أهمية عما سبق ذكره، مثل: مكافحة الفساد، وبيئة الأعمال الطاردة للاستثمارات المحلية والخارجية، وسطوة ونفوذ المؤسسة الدينية والحرس الثوري على الاقتصاد بنسب لا يستهان بها، وعجز الموازنة وارتفاع الديون الحكومية الداخلية، وانقطاع الكهرباء بسبب نقص إمدادات الغاز المحلية، وأزمة ندرة المساكن وارتفاع أسعارها.

ب. تحديات خارجية

يتمثلالتحدي الاقتصادي السياسي الأكبر، وهو رفع العقوبات عن الاقتصاد الإيراني، بجانب رفض انضمام إيران إلى مجموعة العمل المالي الدولي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتحسين علاقات البلاد السياسية مع الجوار والعالم الخارجي.. وهي بالطبع تحديات ستواجه الرئيس الإصلاحي الجديد بزشكيان، الذي يرى أنه من الضروري -لإحداث تنمية اقتصادية- رفع العقوبات عن إيران، وقبول توصيات مجموعة العمل المالي، ويرى أنه من الضروري تطوير علاقات سلمية مع العالم، بجانب تأييد رؤى إصلاحية داخلية، مثل عدم تدخل المؤسسات الحكومية والعسكرية في الاقتصاد، أو تقييد الإنترنت، بجانب ضرورة معالجة الفساد، وإرساء العدالة الاجتماعية، وخلق حوافز لتنمية المناطق المحرومة والحدودية، وهي رؤى سيكون لها مردود اقتصادي واجتماعي جيد بلا شك، لكن إذا ما استطاعت تجاوز عتبة التحديات، والتحول إلى حقيقة.

الخاتمة

بفوز بزشكيان ستتجاوز إيران المرحلة الانتقالية المفاجئة التي نجمت عن وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي، ما يرسم بداية مرحلة جديدة يُفسَح فيها المجال للتيار الإصلاحي للعودة بقوة بعدما ظفر مرشحه مسعود بزشكيان بالرئاسة في الجولة الانتخابية الثانية. وكانت هذه الانتخابات فرصة اختبار للنظام الإيراني وشرعيته من خلال قياس نسبة المشاركة التي سجلت أضعف نسبة في تاريخ إيران الانتخابي. تضع هذه المخرجات النظام الإيراني أمام خيارَيْن أساسيَّين، فإما مواصلة سياسة الانفتاح والتنافس بين الإصلاحيين والمحافظين مع ما يرافقها من احتمالات تعقيد مهمة المرشد في الموازنة بينهما والحفاظ على نفوذه المطلق، والحد من هيمنة المحافظين على مؤسسات الدولة وحتى إمكانية إعادة النظر في طبيعة النظام السياسي، وإما الرجوع إلى سياسات الإقصاء السابقة مع ما يصحبها من الخصم من شرعية النظام ومخاطر الانزلاق نحول الاحتجاجات والعنف في إدارة العلاقة بين الدولة ومجتمع بات مندفعًا نحو الاحتجاجات نتيجة سياسات النظام وإخفاقاته.

ويمكن القول إن تولي بزشكيان، وهو الإصلاحي المعتدل الذي ينتمي إلى التكنوقراط وصاحب الممارسة البرلمانية الجيدة، مرحلة جديدة قد يشهدها الإيرانيون في موازنة الرئيس الجديد بين الحفاظ على خيط رفيع بين رضا المرشد والمحافظين للتنسيق في قضايا تخدم المصلحة الإيرانية في ظل الظروف الداخلية والخارجية الحرجة التي تحيط النظام.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير