قمَّتا هيروشيما وشيان.. رسائل المواجهة بين الاقطاب الدولية

https://rasanah-iiis.org/?p=31344

شهدت منطقة الإندو-باسفيك (المحيطان الهندي والهادي) خلال الفترة من 19 إلى 21 مايو 2023م، انعقاد قمّتين عالميتين بين القوى الدولية المتصارعة على القيادة الدولية ومعادلات القوة والنفوذ العالمية، ضمن ما اصطُلح على تسميته بـ«دبلوماسية المبارزة»، الأولى في مدينة هيروشيما اليابانية لدول مجموعة السبع بقيادة أمريكية، والثانية في مدينة شيان الصينية تضم دول آسيا الوسطى والصين بقيادة صينية، وسط أجواء دولية محتدمة للغاية، على خلفية تعقُّد الحسابات الجيوسياسية واحتدام الصراعات الدولية بين الدول الغربية من ناحية وروسيا من ناحية ثانية تجاه الحرب في أوكرانيا، واحتدام الصراع الأمريكي-الصيني على القيادة الدولية وتراتبية القوة في النظام الدولي القادم المحتمل.

توقيت القمَّتين، وإن كانت قمة مجموعة الدول السبع سنوية، يطرح عددًا من التساؤلات الهامة، منها: ما الدلالات والرسائل الأمريكية والصينية من القمّتين المتزامنتين في السياق الحالي للتحولات الدولية؟ وما أهم ما يميز قمة مجموعة الدول السبع خلال عام 2023م عن سابقاتها من قمم دورية ماضية؟ وما تداعيات مضامين بياناتهما الختامية ونتائجهما على مسارات المواجهة بين الغرب من ناحية وروسيا من ناحية ثانية، وبين الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية والصين الصاعدة بقوة على الساحة الدولية من ناحية ثانية؟ كل هذا في ظل مرور الساحة الدولية بحقبة أممية مغايرة تشهد ملامح نظام دولي قيد التشكيل في طريقه للبزوغ يحدّ من الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم.

أولًا: رسائل ودلالات قمة مجموعة الدول السبع

استضافت مدينة هيروشيما اليابانية على مدى ثلاثة أيام متتالية، بقيادة ورعاية أمريكية، الاجتماع السنوي لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (G7)، الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا واليابان (العضو الآسيوي الوحيد في المجموعة). وتعود أهمية المجموعة إلى كونها تضم مجموعة من الدول تشكل مراكزها المالية نحو 60% من حجم الثروة العالمية، ويعيش على أراضيهم نحو 800 مليون شخص، حسب تقديرات 2022م. وفي أثناء تشكيل المجموعة قبل قرابة نصف قرن من الزمان، كانت هذه الدول تشكل الاقتصادات الأكبر في العالم، إنما في وقتنا الراهن يطلقون على أنفسهم الديمقراطيات القوية اقتصاديًّا، لأن العالم الآن يشهد اقتصادات أكبر، كما بنيت مبادئ واقتصادات المجموعة على القواعد الدولية الراسخة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتجمعهم قيم عالمية مشتركة، مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وينسقون في ما بينهم بهدف حماية المصالح وضمان تفوقهم الدولي.

كانت روسيا أحد أعضاء المجموعة، لذا كان يطلق عليها مجموعة الدول الثماني (G8)، لكن بعد أن سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014م، جرى استبعادها من عضوية هذه المجموعة، وأطلق عليها (G7). ومن المفارقات العجيبة أن الصين، التي تتبوأ اقتصاديًّا المركز الثاني عالميًّا بعد الاقتصاد الأمريكي، وعضو ضمن مجموعة العشرين، ليست ضمن أعضاء مجموعة السبع. يرجع بعض المراقبين ذلك إلى تمسك دول المجموعة بمقياس تقدمية الدولة من خلال حساب نصيب الفرد من ثروات البلاد، لقبول العضوية، وعند تطبيقه على الصين بلغة الأرقام فإنها لا تُعتبر من الاقتصادات المماثلة لاقتصادات دول المجموعة -حسب مقياس المجموعة- وتصبح ثرواتها أقل نسبيًّا من أعضاء مجموعة الدول السبع، بناءً على نصيب الفرد من الثروات الصينية، واعتناق دول المجموعة لقيم تعدّها دول المجموعة مغايرة للقيم الصينية ولنظام الحكم الصيني، علاوةً على طبيعة الصراع الدولي المحتدم بين أكبر دولتين بالمجموعة، وهما الولايات المتحدة مع الصين.

يجتمع قادة الدول السبع سنويًّا، منذ قرابة نصف قرن من الزمان، لمناقشة أبرز القضايا العالمية وتنسيق المواقف، بهدف اتخاذ موقف مشترك يحظى بوزن سياسي عالمي بارز، يكون له القول الفصل في القضايا الدولية، لكن قمة هيروشيما استثنائية ومغايرة بكل المقاييس عن القمم السابقة، بالنظر إلى العوامل التالية:

1. ارتفاع مستويات التصعيد تجاه الصراعات الدولية:

انعقدت القمة في ظل بيئة دولية متوترة للغاية، ربما الأعقد خلال السنوات الأخيرة، إذ تشهد مستويات التصعيد الروسي ضد أوكرانيا تفاقمًا كبيرًا على عدة جبهات، كما يجري الحديث عن هجمات أوكرانية معاكسة، ما يعني أن الحرب قد تدخل مرحلة جديدة يطول أمدها، خصوصًا مع تنامي الحديث عن إمكانية لجوء موسكو إلى الأسلحة النووية. ومن هنا تأتي رمزية الاجتماع في مدينة هيروشيما، باعتبارها رسالة لتذكير العالم بمخاطر اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية، مع تنامي الدعم العسكري الأوروبي والأمريكي لكييف بعد السيطرة الروسية على باخموت، للحيلولة دون الانتصار الروسي في الحرب. هذا، فيما يعاني الاقتصاد العالمي بفعل التحولات الدولية من وضع صعب للغاية، وسط هواجس من حدوث ركود عالمي، خلال العام الراهن أو المقبل.

وانعقدت القمة أيضًا فيما ترتفع مستويات التصعيد تجاه تايوان، الأمر الذي قد يتسبب في نشوب حرب لا تُحمد عقباها، وذلك على خلفية زيارة أجرتها رئيستها تساي إنغ ون لواشنطن نهاية مارس 2023م، رغم التحذيرات الصينية، وردّ الجيش الصيني بعد يوم واحد من عودتها لتايبيه بمناورات عسكرية استمرت لثلاثة أيام في مضيق تايوان، في نموذج محاكاة على شن ضربات دقيقة للغاية على الجزيرة لحصارها بالكامل وغزوها، وذلك للمرة الثانية منذ زيارة نانسي بيلوسي لتايبيه مطلع أغسطس 2022م، ما يثير تساؤلًا حول ما إذا كانت بكين قد قررت استرداد الجزيرة بالقوة ردًّا على ما تعتبره استفزازات أمريكية-تايوانية، وما تعده بكين رسائل أمريكية دائمة وخاطئة تشجع تايوان على الانفصال.

2. طبيعة القضايا المشمولة في أجندة اجتماعات القمة:

على خلاف أجندات اجتماعات القمم السابقة، التي اتسمت بالعمومية وعدم السعي لخلق نمط موحد لحصار قوى دولية بعينها، ركزت أجندة اجتماعات قمة هيروشيما على قضيتي التوترات مع روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا، والتوترات مع الصين على خلفية المعركة الكبرى على القيادة الدولية واستمرارية/تغيير القواعد الدولية الراسخة منذ نهاية الحرب الباردة، وأشكال العلاقات الاقتصادية الدولية، وذلك بهدف الضغط على روسيا لوقف الحرب في أوكرانيا من ناحية، ووقف تمدد النفوذ الصيني العالمي من ناحية ثانية.

ثانيًا: التهديدات الواردة بالبيان الختامي للقمة ضد موسكو وبكين:

في ما يخص روسيا، نص البيان الختامي على التعهد بفرض مزيد من العقوبات على موسكو، بما يشمل فرض مزيد من القيود على الصادرات الروسية، وفرض حظر شبه كامل على صادرات التكنولوجيا والمعدات الصناعية الضرورية لاستمرارية الحرب في أوكرانيا، ودراسة إدخال سقف سعري للنفط الروسي، مع تدشين آلية لمراقبة وتحذير الدول التي تساعد روسيا في الالتفاف على العقوبات بتسويق الذهب والألماس والمعادن الثمينة، وذلك بهدف التأثير في دوران ماكينة الحرب في أوكرانيا. وبمجرد انتهاء القمة أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية عن إضافة 71 كيانًا إلى قائمة تجارية سوداء، بسبب دعمها لروسيا.

وكذلك نص البيان على التزام الدول السبع تعزيز الدعم الدبلوماسي والعسكري لكييف مهما طال الزمن، مع التعهد بتسليم أوكرانيا طائرات «إف 16»، على أن تدرّب واشنطن طياريها على قيادتها، وذلك لزيادة تكلفة الحرب على موسكو والدول الداعمة لها. ويحمل حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى القمة رسالة بأن قادتها سيترجمون تعهداتهم عمليًّا، ما يعكس توجهًا غربيًّا ثابتًا وإصرارًا على مواصلة المواقف الداعمة لكييف.

بالطبع، أجاد الروس قراءة رسائل القمة، رافضين التهديدات الغربية، وواصفين إياها بمنبر لإصدار البيانات المعادية لروسيا والصين، ما من شأنه تقويض الاستقرار العالمي، كما حذّر الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف مجموعة السبع بأن اتخاذهم خطوات جادة لحظر تدفق الصادرات إلى روسيا يدفع موسكو إلى إلغاء مبادرة الحبوب، ما من شأنه تفاقم أزمة الغذاء العالمي، وفتح باب التكهنات حول التداعيات الاقتصادية على الاقتصاد العالمي عند إلغاء الاتفاقية. لكن التساؤل المطروح: هل تستطيع الدول الأوروبية المأزومة اقتصاديًّا التضحية بالسوق الروسية؟ وهل ستجد أسواقًا بديلة لتسويق منتجاتها، في ظل المنافسة الصينية الشرسة لمنتجاتها في الأسواق الدولية، حيث تنتج الصين بأسعار تنافسية كبيرة ومقبولة عالميًّا؟

أما في ما يخص الصين، فقد حذّر البيان الصين -دون ذكرها صراحةً- من استخدام قوتها الاقتصادية سلاحًا لفرض هيمنتها الاقتصادية على الدول، وحذّر مما سمَّوه بحالات «الإكراه الاقتصادي» التي يسعى بعض الدول من خلاله إلى استغلال نقاط الضعف الاقتصادي لدى الدول، وتعهدت المجموعة بإطلاق مبادرة لمراقبة حالات «الإكراه الاقتصادي»، واتخاذ تدابير لتقليص التبعية المفرطة في سلاسل التوريد الحيوية للصين، مع مساعدة الدول على محاربته. وهنا يتساءل بعض المراقبين الصينيين: مَن الذي يمارس «الإكراه الاقتصادي}؟ الذي يفرض العقوبات على الدول منذ عقود، أم الذي يسعى لخلق علاقات تجارية واستثمارية بناءة مع دول العالم؟

وكذلك أعلن البيان عن أداة جديدة ستدشن بنهاية 2023م لتنويع شبكات الإمداد العالمية، من خلال خلق شبكة إمداد بديلة لشبكة الإمداد الصينية، عبر تقديم مساعدات مالية للدول ذات الدخل المحدود، وعدم الاكتفاء باستخراج موادها الأولية، بل مساعدتها على تحويلها محليًّا، والحد من مسألة الاعتماد على المنتجات الصينية. وطالب البيان بكين بعدم العمل على تغيير الوضع القائم في تايبيه بالقوة، وأعلنوا اعتراضهم على المناورات العسكرية الصينية في آسيا والمحيط الهادي، مشددين على أن السلام والاستقرار في مضيق تايوان أساسيان للأمن العالمي.

وتحمل القمة رسائل غاية في الأهمية إلى الصين وروسي بأن بين دول المجموعة اتفاقًا على نهج موحد ضد روسيا في أوكرانيا والسياسات الصينية تجاه تايوان، لكن يحد من نتائج القمة أن دولًا أوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، تسعى إلى فتح خطوط من الصين، وهذا ما لا يروق الأمريكيين كثيرًا. وهنا نذكّر بالتصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارته للصين في أبريل 2023م، إذ أثارت جدلًا على جانبي الأطلسي، عندما طالب أوروبا بتطوير دفاعاتها وقدراتها النووية، وتقليل الاعتماد على الدولار، والوقوف على الحياد في ما يخص قضية تايوان، وتجنب مواجهة محتملة مع الصين بشأن تايوان، معتبرًا أن أكبر خطر تواجهه أوروبا يتمثل في التورط في أزمات لا تخصها، مشددًا على وجوب أن تقاوم أوروبا الضغوط التي تسعى لتحويلها إلى قارة تابعة للولايات المتحدة. وأنهى حديثة بتساؤل: هل من مصلحة أوروبا اندلاع حرب في تايوان؟ مجيبًا: بالطبع لا.

ثالثًا: رسائل ودلالات قمة الصين-آسيا الوسطى

في قمة موازية لا يبدو توقيتها مجرد مصادفة بحتة مع قمة هيروشيما التي حمل بيانها الختامي تهديدًا ووعيدًا تجاه الصين، قاد ونظم الزعيم الصيني شي جين بينغ خلال الفترة من 19 إلى 20 مايو 2023م، النسخة الأولى من القمة العالمية المسماة بـ«قمة الصين-آسيا الوسطى» في مدينة شيان الصينية، ضمن سياسة الاستقطاب والحشد الدولي. وضمَّت القمة دول آسيا الوسطى الخمس التي تدور جميعها في فلك النفوذ الروسي، كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، ووصفها الزعيم الصيني بالهامة جدًّا، مضمونًا وتوقيتًا وهدفًا.

تبعث بكين من خلال القمة، التي تدشن حقبة جديدة للغاية من التعاون مع آسيا الوسطى، برسائل للفواعل الإقليمية والدولية بأن لديها خياراتها، من خلال تعزيز حضورها الاقتصادي في آسيا الوسطى، وزيادة استثماراتها في مجال الطاقة، لأن هذه الدول تحظى بثقل جيوسياسي مهمّ بالنسبة إلى الصين (تمثل جوارًا إستراتيجيًّا للصين لكونها ممرًّا رئيسيًّا لطريق الحرير وأنابيب الغاز والنفط من منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين الغني بالموارد باتجاه الصين، وحاجة بكين إلى ضمان خط إمداد ثابت للطاقة)، واقتصادي (موارد الطاقة)، وسياسي (الاستثمار في الانشغال الأمريكي والروسي عن آسيا الوسطى لملء الفراغ فيها بأدوات اقتصادية).

تجلى تزايد أهمية آسيا الوسطى لدى الصين في كلمة الزعيم الصيني في القمة بقوله إن بلاده ترغب في الدخول في عصر جديد من التعاون مع آسيا الوسطى، مطالبًا إياها بضرورة الوقوف بوجه محاولات التحريض لقيام ثورات ملونة، في إشارة إلى المحالات الغربية، لا سيما في ظل ما يتردد بأن هناك محاولات غربية لتأجيج الأوضاع في الداخل الروسي، ما دام الدول الغربية عجزت عن التأثير في روسيا من الخارج، مع التمسك بسياسة عدم التسامح تجاه التيارات الانفصالية. وكشف الزعيم الصيني عن مضي بلاده لمساعدة الدول الخمس للوصول إلى مستوى جديد من التنمية، من بناء شبكات البنية التحتية، إلى تعزيز التعاون التجاري والأمني والدفاعي.

تكتسب القمة أهميتها من ثقل أطرافها ومواقعهم الجيوسياسية للعالم، ومن توقيت انعقادها، ومن اتفاقهم على تعزيز التعاون في كل المجالات البينية، مع إعطاء توقيع عديد من الاتفاقات الأولوية في قطاعات الطاقة والاقتصاد والتجارة الاستثمار والصناعة والزراعة والنقل والجمارك، والعمل على توسيع حجم تجارة النفط والغاز، وتطوير التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتوقيع عديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الهامة، مع الاتفاق على تدشين الطرق والسكك الحديدية، ومناطق صناعية، وأنابيب طاقة تربط بين الصين ودول آسيا الوسطى، ما من شأنه إعطاء دفعة لما بات يعرف بطريق الحرير العملاق، الذي يربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى. كما اتفقت أطراف القمة على انتهاز الفرصة لإنشاء الأمانة العامة الدائمة لآلية الصين وآسيا الوسطى في الصين بشكل رسمي، وستعقد القمة مرة واحدة كل سنتين بالتناوب بين الصين ودول آسيا الوسطى، وستعقد الدورة القادمة للقمة في كازاخستان عام 2025م.

كما تريد الصين من خلال القمة بث رسالة بأنها قوة عالمية يمكنها ممارسة سياسة الاستقطاب والحشد الدولي المضاد للاستقطاب الغربي والأمريكي الهادف إلى تطويق القوة الصينية، وأنها باتت بديلًا دوليًّا يمكن الاعتماد عليه، مع تأكيد أن النظام الدولي المنبثق عن نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن المنصرم في طور التداعي، وأن نظامًا جديدًا ومقاربة جديدة بقواعد عالمية جديدة قيد التشكيل سيقومان على أنقاضه، وذلك ضمن مقاربة صينية تهدف إلى رص الصفوف، واستقطاب الدول المؤيدة لإرساء نظام دولي مغاير للأحادية القطبية في مواجهة المعسكر الغربي، عنوانها الواقعية السياسية والمصالح الاقتصادية. قمة مقابل قمة، ومقاربة لنظام عالمي قديم مقابل مقاربة لنظام عالمي قادم أو في طور الانبثاق، تلك هي رسالة الزعيم الصيني لنظيره الأمريكي وقادة الدول السبع، الذين اجتمعوا في اليابان.

رابعًا: اتجاهات مسارات المواجهة بين كبريات الأقطاب الدولية

تشهد الساحة الدولية مسارين بارزين للمواجهة، ومؤثرين بشكل كبير للغاية في مجريات الشؤون الدولية السياسية والاقتصادية والأمنية، أولها مسار مواجهة بين روسيا الاتحادية من ناحية والقوى الغربية المناهضة للحرب الروسية-الأوكرانية من ناحية ثانية، والثاني مسار مواجهة بين الصين الصاعدة بقوة على الساحة الدولية من ناحية والولايات المتحدة من ناحية ثانية على القيادة الدولية وشكل النظام الدولي. ففيما تتمسك الولايات المتحدة بنظام دولي أحادي القطبية تحت هيمنتها المنفردة، تسعى الصين لإرساء نظام دولي متعدد الأقطاب.

تضمن البيان الختامي لقمّة الدول السبع تحذيرات وتهديدات مباشرة ولهجة تصعيدية ضد اثنتين من كبريات القوى العسكرية بل والنووية في العالم، روسيا والصين، باعتبارهما تشكلان أكبر تحديين -بل أكبر تهديدين مباشرين- يواجهان مجموعة الدول السبع، على حد تعبير عديد من قادتها. كما تبنّى البيان نهجًا أكثر صرامة ضدهما، ما يدخل الصراع الغربي المحتدم مع الدولتين الروسية والصينية مرحلة جديدة من الصراع، خصوصًا في ظل اتهام الغرب للصين بالتواطؤ مع الروس في الحرب على أوكرانيا. وتثير القمة لدى عديد من الفواعل الدولية مخاوف من تحولها إلى نقطة انطلاق لمواجهة بين هذه القوى العالمية، لأنها نصت على فرض مزيد من العقوبات ضد روسيا، مع تعزيز سياسية الحصار والتطويق ضد الصين، وعبروا عن رغبتهم بعلاقات جيدة مع بكين، بحكم وزنها الاقتصادي في هيكل الاقتصاد العالمي وعلاقاتهم التجارية القوية معها.

هذه العلاقات المعقدة تحدّ من تداعيات نتائج قمة السبع، وتجعلها تحت السيطرة، كما أن داخل دول المجموعة تحديات قائمة على خلفية الخلافات بين مواقف أعضائها تجاه مسائل فرض الضرائب على الواردات، والتغيرات المناخية، وتباين المقاربات إزاء الصين وأزمة تايوان بحكم العلاقات التجارية الضخمة معها. فمن بين دول المجموعة دول مواقفها أكثر حدة تجاه العلاقة مع الصين وتساند وجهة النظر الأمريكية ضد الصين في الملف التايواني، وهناك دول أقل حدة تجاه الموقف من الصين وأزمة تايوان، ودول ثالثة محايدة، ودول ترغب في فتح خطوط للتعاون مع الصين، وتطالب بقية دول أوروبا باتخاذ موقف حيادي في ما يخص الموقف من الصين والقضية التايوانية، لكن هناك شبه إجماع بين دول المجموعة على أولوية مواجهة روسيا وحصارها، لكونها قفزت على القواعد الدولية التي أرستها دول المجموعة منذ نهاية الحرب الباردة.

وكذلك تواجه دول المجموعة انتقادات حادة على أدائها غير الملائم بشأن معالجة الأوضاع الاقتصادية العالمية، كما أنها لا تضم بين أعضائها دولًا من جنوب الكرة الأرضية أو من إفريقيا أو من أمريكا اللاتينية، كما تواجه تحديات من الاقتصادات الناشئة سريعة النمو المنضمة إلى مجموعة العشرين، التي قد تتفوق عليها اقتصاديًّا في المدى القريب، مثل الهند والبرازيل، فضلًا عن التحدي الصيني الكبير لدول المجموعة، من جراء مساعي بكين لإرساء نظام دولي مغاير للنظام الدولي القائم، الذي تسيطر على قواعده دول المجموعة. وعلى ما يبدو، قطعت الصين شوطًا كبيرًا، ومدت نفوذها إلى عديد من مناطق العالم، من شرق آسيا إلى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا، وأقامت علاقات تجارية متقدمة مع الدول الأوروبية.

خاتمة تشكل القمّتان، هيروشيما وشيان، ملمحًا جديدًا من ملامح مرحلة الاستقطاب الدولي الحاد و«دبلوماسية المبارزة» بين أكبر قطبين في العالم، الولايات المتحدة والصين، ضمن سياساتهما المتبادلة تجاه المعركة الكبرى على القيادة الدولية. والجديد الذي تضيفه هاتان القمتان في مسارات المواجهة بين أكبر قوتين في العالم، أنهما أكدتا إدراكًا غربيًّا لإصرار صيني وروسي على إعادة تشكيل النظام الدولي بتحدي القواعد الدولية التي أرستها دول المجموعة منذ نهاية الحرب الباردة، وإن كان هناك من يرى أن الصين دخلت عرين النفوذ الروسي بمساعيها نحو آسيا الوسطى، وتدرك دول المجموعة إحداث الصين لتغييرات في أدوات سياستها الخارجية، بعدم التركيز فقط على الأدوات الاقتصادية، وإنما الأدوات السياسية أيضًا، بسعيها ضمن سياسة الاستقطاب المضاد، وإصرارها على المزاحمة ومواجهة الهيمنة الغربية والاستبدال بمناطق النفوذ التقليدية للولايات المتحدة، بتوظيفها الفرصة التي وفرها الانشغال الأمريكي والروسي والأوروبي بالحرب في أوكرانيا لملء الفراغات الإستراتيجية. لذلك، يرى منظرو حقل العلاقات الدولية أن النظام الدولي يمرّ في وقتنا الراهن بمرحة انتقالية نحو نظام دولي مغاير، لن تكون فيه الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم، كما كانت الحال منذ نهاية الحرب الباردة، كما تبدو حدة المنافسة والاستقطاب تنحو نحو التصعيد والتأزم، الذي من المتوقع أن يسود في أجواء العلاقات الدولية على المدى القريب والمتوسط.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير