بالكاد يملك المراقبون الإيرانيون إجابة مباشرة عن السؤال التالي: هل يُعَدُّ الاتفاق النووي الإيراني في حُكم الميِّت عمليًّا؟
لقد أصبح هذا اللغز أكثر تعقيدًا منذ هجوم حماس في 07 أكتوبر، والانتقام الإسرائيلي الذي أعقبه. ظلَّت تهديدات إيران ضدّ إسرائيل سطحية، في الوقت الذي يتولَّى وكيلها المفضَّل، حزب الله، أداء تحرُّكات حذِرة ومحسوبة. وتحذو واشنطن حذو تل أبيب بشنّ هجمات على مستودعات ذخيرة وقواعد مرتزِقة مرتبطين بإيران، في شرق سوريا. وفي حال بقِيَت جُل سلاسل الإمداد العسكرية بين طهران ومليشياتها معطَّلة، ستصبح الضربات الانتقامية ضدّ القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا وفي مياه بحر العرب والبحر الأبيض المتوسِّط، أمرًا شائعًا، حتى إنْ حقَّقت نجاحًا جزئيًّا. وفي خِضَم هذه المشاحنات الحامية لن يستأنف الجانبان المحادثات النووية التي خلف الأبواب المغلقة. وسَتُغذِّي الدماء التي تُسفَك خلال المرحلة الأخيرة الصراعَ الإسرائيلي-الفلسطيني، رواية إيران عن «المقاومة» لسنوات قادمة، التي ستجعل طهران أقوى عسكريًّا لحماية سيادتها وقوّتها نيابة عن «المضطهدين»، كما تدَّعي. ومع وجود صواريخ باليستية متوسِّطة المدى متطوِّرة في ترسانتها، كل ما تحتاج إليه إيران هو الردع النووي.
الحسابات النووية
لا تزال الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية عاجزة عن مراقبة وتفتيش بعض المنشآت الرئيسية في إيران، ويعرض تقرير الوكالة في سبتمبر بوضوح تقديراتها حول اختصار إيران الفترة التي تتمكَّن فيها من تجاوُز العتبة النووية والقُدرة على صناعة قنابل نووية، في حال قرَّرت فعل ذلك. ولا تزال طهران تنكث اتفاقاتها المؤقَّتة المُبرَمة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية، الداعية إلى إعادة ربْط المنشآت بمعدَّات الرصد التابعة للوكالة. كما لا تزال طهران تمنع دخول المفتِّشين إلى المناطق المُرادة، ناهيك بامتناعها عن الإجابة عن استفسارات وأسئلة الوكالة المهمَّة.
وفي تقريرها الصادر في سبتمبر، اعترفت الوكالة الدولية بأنَّه، وبسبب رفْض إيران إيجاد حل لانتهاكات الضمانات العالقة، ستتراجع قُدراتها على مراقبة برنامج إيران النووي المعقَّد والمتنامي. فدون كاميراتها المتّصِلة بالإنترنت وزيارات المفتِّشين، لا تستطيع الوكالة الكشف عن نقْل المواد والمعدّات النووية، وغيرها من القُدرات، إلى مرافق غير مُعلَنة. وتُقدِّر الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية أنَّ مخزون إيران البالغ 60% من اليورانيوم عالي التخصيب، يزِن 122 كيلوجرامًا. وأفادت تقارير الوكالة الدولية بأنَّ طهران لا تزال لديها القُدرة، باستخدام 40 كيلوغرامًا من اليورانيوم (60%) عالي التخصيب وثلاث أو أربع مجموعات من أجهزة الطرد المركزية التعاقُبية المتقِّدمة، على «بدء إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المخصَّب المُستخدَم في صُنع سلاح نووي في 12 يومًا».
في الوقت الحالي، تحتاج إيران فقط إلى ثُلث مخزونها الحالي من اليورانيوم المخصَّب بنسبة 60%، لكن «قد يكون من الصعب على الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية الكشف عن هذا الاختراق على الفور، في حال عرقلت إيران وصول المفتِّشين».
وأشارت الوكالة الدولية إلى أنَّه من الممكن لإيران إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المُستخدَم في صُنع الأسلحة، بنسبة نقاء تصل إلى 90%، وذلك من أجل صُنع خمسة أسلحة نووية إضافية خلال الشهر الأول من الاختراق النووي، وبذلك بلغ المجموع ما يكفي من اليورانيوم المُستخدَم لصُنع ستّة أسلحة نووية بدءًا من مايو 2023م.
يُمكن لإيران إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المُستخدَم في صُنع ستّة أسلحة نووية في شهرٍ واحد، وثمانية أسلحة في شهرين، وتسعة أسلحة في ثلاثة أشهر، وعشرة أسلحة في أربعة أشهر. كان مخزون إيران البالغ 60% من اليورانيوم عالي التخصيب 121.6 كجم أو 179.9 كجم من «كتلة سادس فلوريد اليورانيوم»، بدءًا من 19 أغسطس. وحتى فترة إعداد هذا التقرير، لم تكُن إيران تستخدم بعد قُدراتها الكاملة على التخصيب في موقع فوردو.
الوضع خطير، لأنَّه «ولأكثر من عامين ونصف العام، لم تُصدر إيران إعلانات محدَّثة، ولم تتمكَّن الوكالة الدولية من إجراء أيّ تفتيش تكميلي يتعلَّق بإمكانيات الوصول إلى المحطّات النووية في إيران، بموجب البروتوكول الإضافي».
تمتلك طهران القُدرة التقنية على إنتاج اليورانيوم 235 عالي التخصيب إلى مستويات أعلى من 90%، بينما تمتلك مفاعلات الماء الثقيل لتوليد البلوتونيوم (الذي لا يتشكَّل بشكل طبيعي). توجد حقيقة مُوثَّقة أنَّ إيران أجرت أبحاثًا متقدِّمة ومكثَّفة حول صُنع قنبلة نووية من النوع داخلي الانفجار، وأجرت تجارب على متفجِّراتٍ شديدة الانفجار حتى عام 2003م. خلال السنوات القليلة الماضية، فقدت إيران بعض علمائها الرئيسيين في عمليات استهداف، ومع ذلك، لا يزال لديها مخزون معرفي نووي، وفي الوقت نفسه تحلّ مجموعة جديدة من العلماء المبتدئين محلّ أقرانهم، الذين استُهدِفوا. وقد تكون عملية تصنيع وتجميع قنبلة اليورانيوم عالي التخصيب المُستخَدم في صُنع الأسلحة، في أثناء التوقيع على معاهدة عدم الانتشار النووي، تجري على قدمٍ وساق، في منشآتٍ مدنية معروفة أو عسكرية غير معروفة. تحظى إيران بدعم روسيا بشكل عام في هذا الصدد، وتلعب كوريا الشمالية هذا الدور أيضًا، لكن في هذه الحالة، يقع اللوم أيضًا على انسحاب الولايات المتحدة من «خطَّة العمل الشاملة المشتركة».
معادلة التكاليف والفوائد
للوهلة الأولى، يبدو أنَّ لدى إيران قصّة وهمية معقولة لسعيها الدؤوب في سبيل الحصول على التقنية النووية. في يوليو الماضي، أعلنت منظَّمة الطاقة الذريِّة الإيرانية أنَّها تتطلَّع إلى زيادة قُدرتها على توليد الطاقة النووية إلى 20 جيجاوات. بينما تزعم أنَّ أول محطّة للطاقة النووية في البلاد، بوشهر، قد ولَّدَت أكثر من 60 مليار كيلوواط/ساعة. وصرَّح رئيس هيئة الطاقة الذرِّية الإيرانية محمد إسلامي بأنَّ أعمال البناء قد بدأت في محطّة كارون للطاقة النووية في خوزستان، وأنَّ الانتهاء من الوحدتين الثانية والثالثة في محطّة بوشهر «مُدرَجة على جدول الأعمال». وفي ظل مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية وحملة تفتيشها ومراعاة التزاماتها بموجب البروتوكول الإضافي، لن تُثير إيران حولها كثيرًا من الشكوك. وبخلاف ذلك، من المنطقي أن نفترض أنَّ هذه الاستثمارات لا تهدف فقط إلى اكتساب الخبرة في بناء سلسلة إمدادات نووية وتدريب القوى العاملة، بل تهدف أيضًا إلى الاستعداد لليوم التالي للانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي. ومن الجدير بالذكر هُنا أنَّ القيود التي فرضتها خطَّة العمل الشاملة المشتركة على البرنامج النووي الإيراني ستنتهي في أكتوبر 2025م على أيّ حال.
لو افترضنا أنَّ التوتُّرات بين إيران والولايات المتحدة سوف تستمِرّ في التصاعد أكثر، وأنَّ فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة تُعيد فرْض العقوبات، سوف تُنفِّذ طهران تهديدها بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار، وتسلك مسار التسلُّح النووي. وفي حال حاولت الدول الأوروبية الثلاث اتّباع نهجٍ مختلف أقلّ سلبية، فستكون إيران حُرَّة في تخصيب اليورانيوم بنفسها، مثل غيرها من الدول الموقِّعة على معاهدة عدم الانتشار، كما تريد بعد عامين بالضبط. وفي الوقت نفسه، تُخزِّن اليورانيوم عالي التخصيب بكمِّيات أكبر، وبسرِّية.
ولا تزال الدول العربية التي طبَّعت علاقاتها بالفعل مع إيران تواجه تحدِّيًا صارخًا. وفي حال لم تُوقِف طهران التدخُّل في شؤون الدول العربية من خلال مرتزِقتها، أو تلتزم الاتفاق النووي، فإنَّ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ليست بعيدة كل البعد عن امتلاك الخبرة النووية الإيرانية. يبدو أنَّ السعي المتأخِّر نحو الدبلوماسية سيكون لصالح إيران فقط، وسوف يُفتَح صندوق العجائب الجديد حول كيفية ردّ دول الخليج على جارٍ مُعادٍ مسلَّح نوويًّا.
في الوقت الحاضر، من الملائم لطهران المحافظة على وضْع الاتفاق النووي، مع تخزين اليورانيوم عالي التخصيب وتحسين أنظمة إيصالها. يمكن للمنشآت المجهولة المخيفة تصنيع حمولة نووية، إذ لا يزال الغرب غير حاسمٍ في اتّخاذ القرارات المناسبة. تُعَدُّ بلاد الشام الملتهبة في الوقت الحالي بمثابة بوليصة التأمين لتسريع سعي إيران للحصول على أسلحة نووية بهدوء، عِوَضًا عن خيار الانضمام مباشرةً إلى الحرب.