أثار التصعيد العسكري الأخير بين «حزب الله» وإسرائيل، إلى جانب جهود الوساطة بقيادة الولايات المتحدة، النقاشات مجددًا حول مستقبل الجماعة الشيعية في لبنان. من جانبه، أكَّد الأمين العام لـ «حزب الله» نعيم قاسم في خطابه بتاريخ 20 نوفمبر، على مطلبين رئيسين، وهما: وقْفٌ دائم لإطلاق النار، والحفاظ على سيادة لبنان. وفي خطابه الثالث كقائد للحزب، أعلن قاسم، أنَّ «الحزب» راجع مقترح وقْف إطلاق النار، الذي طرحته الولايات المتحدة، وأرسل ردّ «الحزب» عبر رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري. وبعد المحادثات بوساطة مبعوث الولايات المتحدة عاموس هوكشتاين، الذي أكَّد أنَّ الحل أصبح قريبًا في «متناول اليد»، تعهَّد قاسم بالاستمرار في القتال، إلى حين التوصُّل لوقف إطلاق تام لجميع أعمال العنف، وهدَّد أيضًا باستهداف «وسط تل أبيب»، ردًّا على القصف الإسرائيلي على بيروت. وكانت تصريحاته ردًّا على تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكنيست بتاريخ 18 نوفمبر، حينما صرَّح أنَّ إسرائيل «ستواصل عملياتها ضدّ حزب الله، حتى بعد توقيع اتفاقية مع لبنان».
وأخيرًا، توصَّلت إسرائيل ولبنان في 26 نوفمبر 2024م إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار لإنهاء الصراع في لبنان، يدخل حيِّز التنفيذ في 27 نوفمبر في تمام الساعة 2:00 صباحًا بتوقيت غرينتش. وبعد 13 شهرًا من القتال بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وبموجب الاتفاقية، يتعيَّن على حزب الله الانسحاب من جنوب لبنان، ويُكلَّف الجيش اللبناني بتفكيك جميع البنية التحتية العسكرية غير التابعة للدولة، ومنْع إعادة تسليح «حزب الله»، وتولِّي المسؤولية الأساسية عن الأمن في المنطقة.
ويتضمَّن اتفاق وقْف إطلاق النار بندًا للدفاع عن النفس، يسمح لإسرائيل بالتحرُّك ضدّ «حزب الله»، «إن لزِم الأمر». ووصَفَ الرئيس الأمريكي جو بايدن الاتفاق، بأنَّه إطار «لوقف دائم للأعمال العدائية بين حزب الله وإسرائيل». وبما أنَّ لبنان وإسرائيل همُا فقط طرفان رسميان في الاتفاق، فإنَّ العبء أصبحَ على الدولة اللبنانية؛ لضمان امتثال «حزب الله» بالاتفاق. وستُشرف لجنة مستقِلَّة، بدعمٍ من الولايات المتحدة وفرنسا تعمل جنبًا إلى جنب مع قوَّة المراقبة التابعة للأُمم المتحدة المتواجدة في جنوب لبنان، على الالتزام بالاتفاق. وقبل إبرام اتفاق وقْف إطلاق النار، لم تعُد تل أبيب تعارض وجود فرنسا في اللجنة الدولية، التي تشرف على تنفيذ الاتفاق والقرار 1701. لكن لم يوضِّح نص اتفاق وقْف إطلاق النار بالتفصيل الهيكل المحدَّد للجنة المراقبة، وتضمَّن رسالةً من الولايات المتحدة تؤكِّد فيها دعْم أيّ عمليات إسرائيلية مستقبلية مطلوبة لمواجهة انتهاكات «حزب الله».
وعلى الرغم من أهدافـها، تواجه اتفاقية وقْف إطلاق النار تحدِّيات جسيمة في تنفيذها؛ فالاعتماد على الحيش اللبناني ومراقبي الأُمم المتحدة لتأمين جنوب لبنان ومراقبة مدى امتثال الحزب بها، يعكس إطار قرار الأُمم المتحدة رقم 1701، الذي أنهى حرب الـ 2006م في لبنان بين إسرائيل و «حزب الله». فلم يُظهِر الجيش اللبناني ولا قوّات الأُمم المتحدة على مدار التاريخ، قُدرتهم أو رغبتهم لمنع «حزب الله» من إعادة التموضع في جنوب لبنان، وبناء بنية تحتية عسكرية جديدة.
وفي 26 نوفمبر، أعلن وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، أنَّ الجيش اللبناني مستعِد لنشر ما لا يقِلّ عن 5000 جندي في جنوب لبنان. كانت وحدات الجيش اللبناني موجودة في المنطقة منذ عام 2006م، لكنّها دئمًا تفشل في منْع «حزب الله» من استخدامها كقاعدة لشنِّ هجمات ضدّ إسرائيل.
وتعني هذه الصعوبات في التنفيذ، أنَّ «حزب الله» وإيران قد يتعافيان من النكسة، إذا عجِزَت الولايات المتحدة وإسرائيل عن فرْض شروط الاتفاق بفعالية ومنع انتهاكها. ويتضمَّن اتفاق وقْف إطلاق النار بين إسرائيل و «حزب الله» وقْف إطلاق نار مبدئي لمدَّة شهرين، وخلال هذه الفترة تنسحب القوّات الإسرائيلية من لبنان، ويُوقِف «حزب الله» وجوده المسلَّح في منطقة الحدود الجنوبية جنوب نهر الليطاني. وتعكس هذه الظروف إستراتيجية «حزب الله» الأوسع نطاقًا للحفاظ على ثقلهِ السياسي السياسية، أثناء سيرهِ في مشهد إقليمي ومحلِّي معقَّد.
يعمل «حزب الله» كمنظَّمة مسلَّحة وكيان سياسي داخل لبنان، وتبقى هويّته كجماعة مقاوِمة ضدّ إسرائيل لُبّ أيديولوجيته وقبوله بين قواعد دعمه الشعبية. لكن مع دوره المتنامي في السياسة اللبنانية منذ تسعينيات القرن العشرين، الذي بلغ ذروته في تأمين نفوذ برلماني ضخم، يجب على «الحزب» الموازنة بين طموحاته العسكرية وتحدِّيات حُكم دولة تعاني انقسامات عميقة وهشاشة اقتصادية. ويفتح الصراع المستمِرّ مع إسرائيل لـ «حزب الله» نافذةً لتعزيز سرديته حول المقاومة، لا سيّما في مواجهة الانتقادات المحلِّية لدوره في الصراعات الإقليمية، مثل سوريا واليمن. وفي الوقت نفسه، تتطلَّب مشاركة «الحزب» في السياسة اللبنانية، اتّباع نهْجٍ حذِر لتجنُّب تفاقُم الاضرابات في لبنان؛ ما قد ينفِّر شرائح من دائرته الانتخابية المحلِّية.
وتعقِّد أزمة لبنان الاقتصادية موقف «حزب الله» أكثر، خصوصًا بعد توقُّف الموارد المالية للحزب؛ بسبب العقوبات الأمريكية وتراجُع الدعم من حليفه الرئيس؛ إيران، في ظل الصعوبات الاقتصادية، التي تعاني منها الأخيرة. ويتصاعد الاستياء في الأوساط الشعبية من النُّخبة الحاكمة في لبنان، لا سيّما «حزب الله» في خضم الظروف الاقتصادية المتدهورة في البلاد. ويبقى مستقبل «حزب الله» مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باستراتيجية إيران نحو المنطقة، ولأنَّه أقوى أذرعها في المنطقة، يقوم «الحزب» بدور محوري في مواجهة إيران لإسرائيل وفي نفوذها الأوسع في العالم العربي. لكن هذا الاعتماد على إيران يُحِدّ من استقلالية «حزب الله»، ومع أيّ تحوُّل في موقف إيران الإقليمي، أكان ذلك بسبب الضغوطات أو لتغيُّر الديناميات في علاقاتها مع القُوى العالمية، يمكن أن يؤثِّر هذا تأثيرًا كبيرًا على قرارات «حزب الله» الإستراتيجية.
وفي الشهور المقبلة، قد يركِّز «حزب الله» على تعزيز سرديته في المقاومة، لتعويض عن نكساته العسكرية. وحسب مصادر إسرائيلية، قُتِل قرابة ثلاثة آلاف عنصر من «حزب الله» في الصِراع، واستمرَّت عملية إسرائيل العسكرية «سهام الشمال» لـ 65 يومًا، قُتِل خلالها 70 جنديًا إسرائيليًا. ونظرًا لدور الجيش اللبناني المتصاعِد بعد اتفاقية وقْف إطلاق النار، قد يلجأ «حزب الله» إلى اظهار نفسه كقوَّة مكمِّلة للجيش اللبناني لا مُنافس له. وبالتركيز على هويَّة المقاومة، يمكن أن يطالب «الحزب» في أن يحتفظ بدور استشاري أو خاص، مثل جمع المعلومات وتكتيكات العصابات الدفاعية للتصدِّي للتهديدات المُحتمَلة. وحتى بعد وقْف إطلاق النار، من غير المُحتمَل أن يُحَلّ «حزب الله» أو يتخلَّى تمامًا عن سلاحه، خصوصًا أنَّ جوهر هويّته مرتبطٌ بحركة المقاومة. لكن يُمكن أن يُعيد تأطير سرديته، بالتركيز على الدفاع عن لبنان من الأخطار المُحتمَلة في المستقبل، مثل انتهاك إسرائيل وقْف إطلاق النار، أو امتداد الإضرابات الإقليمية إلى الأراضي اللبنانية.
قد يسعى «حزب الله» المدفوع إيديولوجيًا، إلى أن ينجو بنفسه سياسيًا لمدَّة طويلة، على الرغم من اضمحلال ثِقله العسكري داخليًا، وكقوَّة ردْع ضدّ إسرائيل لدعم طموحات إيران الإقليمية. ويمكن أن يُعيد «الحزب» توجيه خطاب المقاومة تجاه أشكال معارضة غير مُسجَّلة، مثل مُناصرة حقوق الفلسطينيين، والتصدِّي للنفوذ الغربي المُتصوَّر في لبنان. وقد يحافظ «حزب الله» على البنية التحتية العسكرية لكن بالخفاء، والعمل كقوَّة ظل، والسماح شكليًا للجيش اللبناني ومراقبي الأُمم المتحدة للإشراف على جنوب لبنان. وعلى الرغم من أنَّ اتفاقية وقْف إطلاق النار ستحِدّ حراك «حزب الله» العسكري علنيًا، لن يتخلَّى «الحزب» تمامًا عن سلاحه، بل قد يحوِّله إلى احتياطٍ استراتيجي، واستخدامه عندما يُستعدَى الأمن الوطني أو الحالات الطارئة مستقبلًا.
وثمَّة رأيٌ آخر يقول إنَّ «حزب الله» قد يسعى إلى الموازنة بين دوره العسكري ومسؤولياته السياسية، وذلك من خلال دعمه تنفيذ وقْف إطلاق النار، لكن مع عدم التخلِّي عن السلاح، أو القيام بتنازلات كبيرة. وأخيرًا، ثمَّة احتمال آخر، وهو اجتثاث نفوذ «حزب الله» من لبنان والمنطقة، لا سيّما أنَّ استمرار الأزمة الاقتصادية، التي طال أمدها في لبنان والسخط الشعبي المتنامي والضغوطات الدولية، قد تُضعِف نفوذ «حزب الله» مع الوقت، وتُجبره على إعادة ضبْط دوره في الساحة السياسية لبنانيًا وإقليميًا.
إنَّ تقوية الجيش اللبناني، بدعمٍ دولي، قد يتحدَّى احتكار «حزب الله» للقوَّة العسكرية. وقد يضطرّ «حزب الله» إلى التفاوض على دوره ضمن الإطار الأمني اللبناني، رُبَّما كقوَّة مساعدة «شبه عسكرية». وقد يعمل إطار المراقبة القوي، خاصَّةً الذي يشمل الولايات المتحدة وفرنسا، على تقييد تحرُّكات «حزب الله» وتقليص قُدرته على العمليات عبر الحدود. وقد يدفع هذا الوضع «حزب الله» إمّا على التكيُّف مع استراتيجيات سرِّية، أو زيادة تركيزه على القضايا المحلِّية. وفي النهاية، إذا أصبح يُنظَر لـ «حزب الله» على أنَّه قوَّة مُزعزِعة للاستقرار تعوق تعافي لبنان أو تقوض سيادته، حينها قد يواجه معارضًة متزايدًة من داخل المجتمع اللبناني، حتى من قاعدة دعمه التقليدية.
ومن المرجَّح أن يتطوَّر دور «حزب الله» المستقبلي إلى نموذج «هجين»؛ حيث يحتفظ ببعض القُدرات العسكرية، مع توسيع نفوذه السياسي والاجتماعي. وسيسعى «الحزب» إلى التكيُّف مع بيئة ما بعد وقْف إطلاق النار، من خلال الحِفاظ على هويّته الأساسية، مع التعامل مع الضغوطات من المراقبين الدوليين والجيش اللبناني ودائرته الداخلية. وسواء ًكان هذا سيؤدِّي إلى مزيد من التكامل مع الدولة اللبنانية أو استمرار التوتُّرات، فهذا يعتمد على مدى فعالية تطبيق اتفاق وقْف إطلاق النار، وكيف يوازِن «حزب الله» بين أدواره المزدوجة كفاعلٍ سياسي وحركة عسكرية.