مُستَقبل المشروع الجيوسياسي الإيراني على ضوء التطوُّرات الإستراتيجية الإقليمية

https://rasanah-iiis.org/?p=37143

د. عبد الرؤوف الغنيمي

أ. نورة السبيعي

مُقدِّمَة

تَمرُّ منطقة الشرق الأوسط بمرحلة إعادة تشكيل جيوسياسي جديدة، مُنيت فيها إيران بخسائر جيوسياسية تاريخية، على خلفية تلقي ما يسمى بـ «محور المقاومة» -والذي يُعد بمنزلة رافعة المشروع الجيوسياسي الإيراني الإقليمي- ضربات حاسمة أدت إلى إنهاكه، وكَشفت عن ضعف قُدراتِه وسوء تقديراته، سواءَ من خلال إخراج «حزب الله» في لبنان من مُعادلة الصراع، والرضوخ للهدف الإسرائيلي المتمثل في «عزل الساحات» بدلًا من مبدأ «وحدة الساحات»، عبر تدمير قُدراته وتصفية قياداته وإرباكه بأدوات تكنولوجية حديثة ضمن ما يسمى بـ «إستراتيجية الحروب الهجينة»، أو من خلال خروج سوريا عن خدمة المشروع الإيراني، نتيجة لإضعاف إسرائيل لـ «حزب الله» بالجبهة اللبنانية، والذي أدى دورًا رئيسًا في سيطرة الرئيس السوري السابق بشار الأسد على المشهد السوري، وساهم في تأمين مناطق نفوذه وبقائه حتى فراره في الثامن من ديسمبر 2024م، حيث ترتّب على إضعاف الحزب رفع الغِطاء عن تأمين بقاء الأسد في الحُكم، ووفر فرصةً تاريخيةً لفصائل المعارضة السورية للسيطرة على الحكم، أو من خلال رسم معادلة ردع شرق أوسطية جديدة، وقد تمكّنت فيها إسرائيل من تَعرية سوء التقدير الإيراني في افتراض عدم قدرة تل أبيب على خوض «حرب متعددة الجبهات»، وذلك من خلال وضع إيران في حالة دفاعية بعدما ظلّت لفترات طويلة في حالة هجومية، والتأثير الأبرز على الحالة النفسية السائدة لدى قادة ومُقاتلي الميليشيات المسلحة المرتبطة بإيران، وقدرتها على الدعم والمساندة.

تطرح التطوُّرات الإقليمية تساؤلات غاية في الأهمية حول مستقبل «محور المقاومة» لما لها من انعكاسات جوهرية على الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وعلى أنماط معادلات القوة والصراع داخله، وعلى اتِجاهات أوزان القوة الإقليمية، والصراع على المصالح وموقع الريادة الإقليمية، وعلى مُستقبل القضايا العالقة في الشرق الأوسط، لعل من أبرز هذه التساؤلات: ما حجم الخسائر الحقيقية التي مُنيت بها إيران فيما يسمى بـ «قوة محور المقاومة»؟ وإلى أي مدى تخصُم مآلات هذا الوضع من التَمدُّد الجيوسياسي الإيراني في الشرق الأوسط؟ وما الأخطاء التي ارتكبتها إيران-سوء التقدير الإيراني-في التمَدُّد لتمرير مُخططاتِها الجيوسياسية، وجعلت مشروعها الذي سعت لبنائه على مدى عقود من الزمان، ودفعت في سياقة أثمانًا ماديةً وبشريةً هائلةً، أن يتهاوى بسرعة غير متوقعة في فترة وجيزة؟ وما هي الانعكاسات على «محور المقاومة» في بقية ساحات التمدُّد؟ بل والتداعيات على النظام والداخل الإيراني ذاته، والذي لطالما ترددت منه أصوات في العديد من الجولات الاحتجاجية الحاشدة بشعارات «لا غزة لا لبنان روحي فداء إيران»، في إشارة إلى رفض المشروع التوسُّعي الذي كبّد إيران خسائر مالية كانت يمكن أن تُحدث تنميةً كبرى في إيران، وتُحسِّن أوضاع المواطنين الساخطين؟ وهل سيلجأ النظام الإيراني إلى طرح مقاربات بنّاءة على ضوء التطوُّرات الإقليمية تفضي إلى إيران الجديدة المُندمجة والمُتصالحِة مع إقليمها ودول جوارها؟ أم سيكون الفكر الإيراني متحجّرًا وجامدًا، ويسعى لتحقيق الفُرصة لإعادة التمدد من جديد؟ خاصةً أن المُراجعات ذات الأبعاد الإستراتيجية تتطلب الكثير من الشجاعة، حيث تستوجب من النظام إعادة النظر في المواد الدستورية المُتعلقة بالتوسع عبر تصدير الثورة ونُصرة المستضعفين، وفي هذه الحالة؛ هل تمتلك إيران أدوات القدرة على التمدُّد من جديد في الساحات التي خسرتها؟ وما هي النوافذ للعودة الجيوسياسية من جديد؟ وكيف ستُقنع الداخل الإيراني بسلامة نهجها بعد أن أصبح في وضع مكشوف أمام الإنجازات المنافسة؟

أولًا: الخسائر الإيرانية في ساحات محور المقاومة

على مدار عقودٍ عديدة تمكّنت إيران من بناء شبكة من التحالفات العسكرية في لبنان واليمن والعراق وسوريا كرافعة لمشروعها التوسعي، والذي بدأت في تنفيذه بشكل فعلي منذ سقوط نظام صدام حسين، بفعل الغزو الأمريكي للعراق قبل نحو أكثر من عقدين من الزمان، وقد شكَّلت هذه التحالفات العمود الفقري للمشروع الإيراني؛ حيث تُمثل خطوط إمداد حيوية تؤمن لها النفوذ والتأثير في معادلات القوة الإقليمية والدولية، إلى درجة تفاخُر القيادات والمسؤولين الإيرانيين بسيطرة بلادهم على أربع عواصم عربية، وأنها تمكنت من بناء مصدات عسكرية ومذهبية تمنع الخصوم من تقديم ضربات للميليشيات ولإيران، ولكن واقعيًا، خسرت إيران في أول اختبار حقيقي لقدرتها وقوة وكلائها، وبسرعة غير متوقعة، حيث منيت بخسائر كبرى كالتالي:

1. إضعاف «حزب الله» في جنوب لبنان

شَنت إسرائيل حملةً عسكريةً مُركزةً على مواقع الحزب، استهدفت خلالها قياداته العليا ومخازن أسلحته، وتفكيك هياكله العسكرية تحت وطأة الضربات الإسرائيلية؛ مما أجبر الحزب-بندقية إيران في لبنان-إلى مُغادرة جنوب الليطاني وكسر قوته، وإخراجه من معادلة الصراع، وقبوله الانفصال عن جبهة غزة، وبقية الجبهات الصراعية، ما يُعد أبرز الخسائر الإيرانية الإقليمية حتى في التقديرات الإيرانية ذاتها[1]، إذ لطالما قدمت إيران الدعم المالي والعسكري للحزب بمليارات الدولارات منذ ولادته قبل أكثر من أربعين عامًا؛ مما ساهم في تحويله من مُجرد جماعة محلية مسلحة إلى قوةٍ عسكريةٍ تمتلك ترسانةً من الأسلحة والصواريخ، ليُصبحَ أحد دروع إيران الدفاعية الرئيسة، ورأس الحربة لمشروعها الجيوسياسي على كافة الأصعدة العسكرية والسياسية بل والعقائدية، والعمود الفقري للمشروع الجيوسياسي الإيراني، ما أكسبه دورًا مركزيًا في صراعات المنطقة، من سوريا واليمن إلى العراق ولبنان. لكن حالة الانهيار التي شهدها الحزب خلال العام 2024م، وتراجُع قُدراته العسكرية على وقع الانكشاف الأمني والاختراقات والأدوات التكنولوجية والضربات الإسرائيلية، والاستهداف الإسرائيلي المُمَنهج لقياداته، وضع «حزب الله» في مواجهة مباشرة مع أزمات داخلية مُتصاعدة، لاسيَّما وأن هُناك نقاشات بدأت تطل برأسها في المجتمع اللبناني، يُرافقها مُراجعة نقدية حول دور الحزب والتكلفة التي تكبدتها لبنان نظير تنفيذ الحزب للأجندة الإيرانية على حساب المصالح اللبنانية، ومدى جدوى مغامراته وتدخلاته في سوريا على مدى يقترب من العقد ونصف العقد من الزمان، وخسارة آلاف الشُّبان الشيعة اللبنانيين لأجل تأمين بقاء نظام الأسد، فضلًا عن الضغط الدولي المُتزايد لنزع سلاحه وعودته كحزب سياسي ضمن المُعادلة السياسية الجديدة في لبنان، والتي تَرتّب عليها انتهاء حالة الفراغ الرئاسي التي دامت لأكثر من عامين، وبدء مرحلة جديدة في الحياة السياسية اللبنانية بانتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية في التاسع من يناير 2025م، وإعلانه خارطة سياسية جديدة للبنان بتأكيده على سيادة لبنان وحق الدولة في احتكار السلاح، وسياسة الحياد الإيجابي وتحقيق التوازن مع العالم الخارجي وعودة لبنان لمحيطه العربي.

2. إخراج سوريا من المشروع الجيوسياسي

يُعد خروج جغرافية سوريا من دائرة المشروع الجيوسياسي الإيراني بسقوط نظام الأسد، ثاني الخسائر الإيرانية الإقليمية، لما تُمثله سوريا من حَجر الزاوية في الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية، حيث أدلى أحد الضباط السابقين بالحرس الثوري الجنرال بهروز أسباتي: أن «إيران خسرت خسارة فادحة في سوريا»[2]، ومن أبرز الخسائر الإيرانية في سوريا، ما يلي:

أ. فُقدان حلقة الربط الرئيسة للمشروع الجيوسياسي: يُمثل سقوط الأسد وخروج سوريا من دائرة المشروع الجيوسياسي الإيراني خسارة لجغرافيا محوريّة وحلقة أساسية بين إيران ولبنان وفلسطين عبر العراق، أو ما يسمى إيرانيًا بـ «نظرية الجيوبوليتيك الشيعي» و«الهلال الشيعي» و «الكوريدور الإيراني»، فلم يَعُد هُناك وجود فعلي لهذه المسميات، فالجيوبوليتيك يبدو لم يَعُد شِيعيًا، والهلال لم يعد هلالًا بعدما تقطعت أوصاله، و«الكرويدور» لم يَعُد إيرانيًا، بفقدان المشروع لأبرز حلقة ربط جيوسياسي: الساحة السورية، حيث إن سوريا كانت بمنزلة القلب النابِض للمشروع، والضَامِن لربط حلقاته، بتوسطها بين العراق ولبنان، كما أن مكانتها الإقليمية وقُدرتها على الحِفاظ على محورها ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالسيطرة على سوريا وإبقائها كقناة محورية لربط حلقات مشروعها.

ب. انهيار خطوط الإمداد الإيراني العسكري واللوجستي: فُقدان إيران لخطوط الإمداد العسكري واللوجستي الضَامِنة لوصول العتاد العسكري الإيراني من طهران إلى الميليشيات الموالية لها في سوريا ولبنان عبر سوريا، حيث كانت سوريا ممرًّا لتهريب الأسلحة، بل ومنصةً لإنتاج الأسلحة، وتُعَدّ إيران صاحبة الانتشار العسكري الأكبر والأوسع في سوريا، مقارنة ببقية القوى الأجنبية المُنتشرة فيها، بامتلاكها ما يقارب من 295 موقعًا عسكريًا[3]، وحشدت عشرات الآلاف من المقاتلين الشِيعة سواء الإيرانيين أو الأجانب من أفغانستان وباكستان والعراق لدعم قوات النظام، ما مَنحها مساحةً واسعةً من النفوذ والسيطرة يفوق في كثير من الأحيان نفوذ وسيطرة القوات النظامية، وبالتالي يُتوقع صعوبة أو بُطء عملية إعادة بناء القدرات العسكرية لـ «حزب الله» اللبناني المُدمَرة بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، نتيجةً لخروج سوريا عن خدمة المشروع الإيراني، ولذلك فقدت إيران القُدرة على تنسيق العمليات العسكرية المُشتركة بين وكلائها وأذرعها الإقليمية، وإنهاء ربما لعقود، التواجد الميداني للميليشيات الموالية في سوريا.

ج. خسارة حليف إقليمي إستراتيجي: مثّلت سوريا عبر نظام الأسدين حليفًا إستراتيجيًا لإيران في مواقفها وصراعاتها الإقليمية والدولية، خاصة في مواجهة ما تصفهم طهران بخصومها الإقليميين، إذ لطالما بارك النظام السوري المخططات الإيرانية سواء في لبنان أو في سوريا، لأجل مصالح النظام ذاته وبقائه واستقراره، وليس مصالح المواطنين الذين عانوا ويلات سياساته حتى فراره إلى روسيا.

د. فُقدان مصدة مذهبية جوهرية: بين عِدة مَصدات سَعت إيران لتدشينها كمصدات للدفاع عن الدولة المركزية في المشروع، وكخط دفاع أمامي مع عِدة خطوط دفاعية أمامية لتطويق إسرائيل وحصارها، بذلت إيران جهودًا مُضنيةً لإجراء تَغيير ديمُغرافي ممنهج في سوريا، لبناء اتصال مذهبي شيعي يضمن لإيران بقاءً طويل الأمد في سوريا، عبر تجريف السُكان الأصليين بموجب ما أسمته بـ «اتفاقات التهجير» مقابل توطين مجتمعات شيعية تُعيد تشكِيل البنية السكانية، وإنشاء ممراتٍ جغرافية مذهبية تربط مكونات المشروع الإيراني من بغداد لدمشق لبيروت.

وفي هذا السياق، لم نجد أبلغ من حديث رجل الدين الإيراني-المُقرب من المُرشد علي خامنئي-مهدي طائب في التعبير عن أهمية سوريا للمشروع التوسعي، ومدى تأثير فُقدانها على مستقبل الدولة ذاتها بقوله: «سوريا تمثل المحافظة 35 لإيران، وإذا هاجمنا الأعداء وكانوا يريدون أخذ إما سوريا أو محافظة خوزستان، فإن الأولوية هنا المحافظة على سوريا، فإذا حافظنا على سوريا معنا، فإن بإمكاننا استعادة خوزستان أيضًا، ولكن إن فقدنا سوريا، لا يُمكننا أن نحافظ على طهران»[4]، عِلمًا بأن عدد المحافظات الإيرانية 31 محافظة، اعتبرها طائب 34 بِعَدِه سوريا المحافظة الـ 35، وذلك لاعتبار العقلية الإيرانية أن العراق والبحرين واليمن هي المحافظات الثلاث المتممة للـ 35 محافظة[5].   

هـ. إفِقاد إيران القُدرة على تَحقيق الهَدف المذهبي المُتمثل في قطع المحور السُّني: الممتد من المملكة العربية السعودية حتى تركيا عبر السيطرة على سوريا، والذي كان يُفترض-حسب الفكر الإستراتيجي الإيراني-أن يُحول إيران إلى قوةٍ إقليميةٍ متحكمة بالمنطقة ومستقبل قضاياها[6]، أو وضع العراقيل أمام أيّة محاولات عربية تسعى لتشكيل تكتُّل سُني يُهدد إيران ومشروعها في مجالاتها الحيوية.

و. حِرمان إيران من موطئ قدمها على البحر المتوسط: حيث تمكنت إيران خِلال فترة الأسد من توقيع اتفاقيات مع الحكومة السورية لتطوير مرفأ على شواطئ طرطوس، إلا أن تقارير سورية أشارت إلى أن مساعي إيران للحصول على ميناء اللاذقية كبديل عن تطوير مرفأ على شواطئ طرطوس لاقت قبولًا من نظام الأسد آنذاك، يُتيح موطئ قدم وإشرافًا إستراتيجيًّا أكبر لإيران على البحر المتوسط من مرفأ طرطوس[7]، حيث يُوفر الموقع السوري بوابةً ساحليةً على أهم بحر دولي، وامتلاك ورقة ضغط على حركة التجارة الدولية، والتأثير على مصالِح القوى الإقليمية والدولية المنافسة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا قررت قوى البحر «المحور الأطلسي» ممثلةً في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا واليابان– وهي الأطراف في نظرية قلب الأرض Heartland[8]– حِصَار قوى البر «المحور الأوراسي» ممثلةً في روسيا الاتحادية اليوم، فعليها في هذه الحالة التفكير الإستراتيجي نحو السيطرة على الدول الساحلية المحيطة بالقوى المُستهدفة، ومواقع نفوذِها ومصالِحها الإستراتيجية، وتُعد سُوريا من بين الدول الساحلية المهمة جيوسياسيًا لقوى البحر والبر على السواء، حيث يُتيح الموقع السوري حِصارًا لقوى البر عبر الشريط الساحلي السوري شرق المتوسط، وهو ما يُؤدي بدوره إلى الاستنزاف التدريجي لقوى البر، وهذا يُقدم تفسيرًا منهجيًا وردًّا منطقيًا على التساؤل: لماذا تبوَّأت سوريا أهمية كبرى في إستراتيجيات الإمبراطوريات والدول الاستعمارية، التي اعتبرتها مفتاحًا لسقوط المنطقة واحتلالها منذ ما قبل الميلاد وعلى مَر العصور المختلفة.

ز. خسائر جيواقتصادية واقتصادية: تترافق الخَسائر الإستراتيجية والجيوسياسية التي تعرَّضت لها إيران نتيجةَ سقوط الأسد، مع خسارات جيواقتصادية واقتصادية مُماثلة منها:

  • –  حِرمَان إيران من تَأمين ممر لنقل الطاقة في المستقبل إلى أوروبا عَبر سوريا، وقَطع الطريق على مرور خطوط الغاز المُنافسة عَبرَ سوريا، ولذلك لن تتمكن إيران، بخسارة سوريا، من تنفيذ مشروع الخط «الفارسي» أو «الإسلامي بطول 2000 كم»[9]، والذي يربط إيران بالأسواق الأوروبية عبر سوريا والعراق، ولم يُكتب النجاح لتنفيذ الخط خلال فترة الحضور الإيراني في سوريا حتى سقوط نظام الأسد، نتيجة عدم استقرار سوريا، وفرض العقوبات على الدولتين الإيرانية والسورية، وفي المُقابل قد يُوفر خروج إيران من سوريا الفرصَة لخطوط نقل الطاقة المُنافسة للمرور عبر الأراضي السورية، مما يجعل الخسارة الإيرانية مضاعفة.
  • –  تكبدت إيران خسائر مالية باهظة، بخسارة سوريا، تتراوح ما بين 30-50 مليار دولار كديون إيرانية قدمتها إيران لتسليح الميليشيات في سبيل السيطرة على المشهد السوري إبان إندلاع أزمة 2011م، لدعم نظام الأسد[10]، كما خسرت كافة العقود طويلة الأمد التي أبرمتها مع نظام الأسد في مجالات الطاقة والبنية التحتية ومحطات الهواتف المحمولة والنقل والكهرباء والفوسفات والبتروكيماويات بمئات الملايين من الدولارات، وباتَ مَصير هذه الديون والعقود الإيرانية بعد سقوط الأسد غامضة وضبابية، لا سيَّما في ظِل علو الأصوات السورية المُطالبة بتقديم إيران تعويضات مليارية لسوريا والسوريين نظير ما اقترفته إيران وميليشياتها من جرائم إنسانية وإبادة جماعية بحق هذا البلد وشعبه، ودعمها لنظام بشار الأسد في ارتكاب الجرائم بحق شعبه.

3. إضِعاف فصائل المقاومة الفلسطينية

حافظَت إيران مُنذُ فترةٍ طويلةٍ على علاقةٍ عمليةٍ مع العديد من الفصائِل الفلسطينية بما يتجاوز الاختلافات الفكرية والطائفية، وتُعد «حماس» عُنصرًا رئيسًا وحاسمًا بالنسبة لشبكة التحالف الإقليمي الأوسع لطهران في العالم العربي. إضافة إلى ذلك، تزايدَت أهمية «حماس» بالنسبة لـ «محور المقاومة» بعد عملية «طوفان الأقصى» وأدائها في حرب غزة المستمرة، إلا أن ما تعرضت له «حماس» من إضعاف هياكلها وتصفية قادتها، لاسيَّما اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في طهران، يُمثل نكسة ًكُبرى لإيران ومشروعها بأكمله وليس على «حماس» وحدها، كما أن «حماس» التي تَعُدها إيران ضِمن محورها تعرضت لضربات إسرائيلية أنهكت قواها وقدراتها، ودمَّرت القطاع بشكل كامل، وأفقدته كل مقومات الحياة، وتحوَّل القطاع لثكنةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ، تتحدث العديد من التقارير الإسرائيلية عن إمكانية ممارسة سياسة استيطانية في شمال القطاع.

4. الهزيمة النفسية لقادة ومقاتلي الميليشيات وحواضنها

يسود في ساحات التمدُد الإيراني جَدلٌ حول مدى ما تركته الهزائم الإيرانية من حالةٍ سيكولوجيةٍ سيئة في أذهان قادة ومُقاتِلي الميليشيات، إلى حد استشراف العديد من المراقبين لإمكانية إبداء انفصالها أو اتخاذها مسافةً من إيران، ولاسيَّما في ظِل الانتقادات التي وُجِّهَت لإيران حِيال إدارتها للصراع مع إسرائيل، وتركها «حزب الله» في حالة التباس تجاه اتخاذ قرار بالتصعيد في الوقت المناسب أمام الضربات الإسرائيلية المتتالية، التي أربكته وأودت بقدراته وشلَّت تحركاته، وتنامي التساؤلات حول حجم الاختراقات الاستخباراتية الإسرائيلية الكبير لإيران ولقيادات «حزب الله» إلى درجة تمكن إسرائيل من تصفية كافة القيادات النافذة والمؤثرة في قرارات الحزب وعلى رأسهم الأمين العام، وكشف هشاشة وضعف بنية الحزب الاستخبارية وانكشافه الأمني، بل وإحراج إيران ذاتها في ترددها وعدم قدرتها على تأمين غطاءٍ للحزب، وتركها فراغًا عنيفًا ومؤثرًا في كل ما راكمته واستثمرته في لبنان وفي البيئة الجيوسياسية، التي شكَّلتها خلال عقدين من الزمان بين سوريا والعراق، لاسيَّما بعدما صرَّح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بعدم قدرة «حزب الله» اللبناني على البقاء بمفرده في مواجهة إسرائيل[11]، ما زاد من طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تحقيق مزيدٍ من الانتصارات، وتغيير موازين القوى في الجبهة الشمالية، والإطاحة بسرديات «قوة الردع» التي روج لها قادة «حزب الله».

تزداد الحال السيكولوجية السيئة لقادة ومقاتلي الميليشيات وحواضنها سوءًا بعدما تركت إيران أقوى ذراع مُسلح موالٍ لها أمام لحظة وجودية تاريخية تتزايد فيها الخسائر، وتتراوح فيها التهديدات أمام ما تبقى من قوة الحزب، ما بين غياب الحليف السوري القريب جغرافيًا، بل ووجود إدارة جديدة معادية لإيران وللحزب ذاته، لما اقترفته أيادي مقاتليها ومقاتليه من جَرائم في الساحة السورية ستظلُّ عالقةً في أذهان السوريين ووجدانهم وعقولهم لعقود وأجيال قادمة، وما بين اتجاه النظام الإيراني الذي مال إلى عَدم التصعيد العسكري ضد إسرائيل في الجولة النهائية، وفضَّل الاتجاه إلى منطق المساومات، تجنُبًا لأية جولة تصعيدية تُدخل إيران في حرب مباشرة جديدة مع إسرائيل تزيد من خسائرها أو ربما تطيح بالنظام ذاته. وبالتالي تسود في الدوائر العليا للميليشيات مشاعر الخوف والريبة من زرع العملاء والجواسيس للإطاحة بالقادة والمقاتلين المؤثرين، وتنظر الحواضن الاجتماعية لهذه الميليشيات بحسرة وقلق كبيرين على سُرعة تهاوي هذه الميليشيات وما تكبدته من خسائر وأثمان باهظة، إضافة إلى اتساع الشرخ بين الميليشيات وراعيتها إيران، وزعزعة الثقة المُطلقة بالدعم، التي كانت تُمثل وقود الميليشيات وقوة استمرارها.

5. تراجُع النفوذ الإقليمي في مواجهة الصعود التركي

يُمثل سقوط الحليف السوري مُقابل صعود نظام سياسي جديد معارض لإيران، وموالٍ لتركيا، خسارةً فادحةً في مِيزان المشروع الجيوسياسي الإيراني، إذ من شأنه أن يُعطّل توازُن القوى الإقليمي الذي سعت إيران لبنائه منذ عهد الأسد، عبر الوجود الإيراني المُكثف في الدولة السورية، ويمنح أنقرة فرصة لتحِل مَحل طهران وموسكو، باعتبارها القوة الخارجية الفاعلة في سوريا ما بعد الأسد. وهُناك بالفعل مخاوف مُتزايدة في إيران من أن تركيا، التي شجعها موقف طهران الضعيف، قد تسعى الآن إلى زيادة نفوذها، على حساب إيران، في ساحات التنافُس الأخرى بينهما كما في العراق ولبنان وجنوب القوقاز. وفي العراق، سعت الحكومة التركية خلال العام 2024م إلى تعزيز تواجدها وتمتين علاقتها مع الحكومة العراقية. وفي جنوب القوقاز، يُهدد دفع تركيا لإنشاء ما يسمى ممر «زنغزور»ــ وهو طريق عبور إستراتيجي يربط تركيا بأذربيجان عبر الأراضي الأرمينيةــ بقطع وصول إيران البري إلى أرمينيا، وهي شريكة إستراتيجية حاسمة للحِفاظ على موطئ قدم طهران الإقليمي وطُرق التجارة في القوقاز، وهو ما يؤدي إلى عزلها اقتصاديًا وجيوسياسيًا.

إجمالًا، أُصيب المشروع الجيوسياسي الإيراني، والذي بنته إيران على مدى عدة عقود، بضربات وهزائم تاريخية قوية، جعلته يتهاوى سريعًا في غضون أشهر قليلة من التصعيد الإسرائيلي، على نحو يصعب تعويضه على المدى المنظور، حيث تعرَّض العمود الفقري للمشروع «حزب الله اللبناني»، لضربة نوعية قاضية قوضت قُدراته وأجهزت على قياداته وبثت الخوف من التواصل بين قواته، كما توقف أحد الشرايين الرئيسة «سوريا» عن الخدمة، والأخطر قدوم إدارة سورية جديدة غير راغبة في التعامل مع إيران، وبالتالي توقف تدفُق الدماء إلى بقية شرايين المشروع الإيراني، وحال طالت فترة إيقاف تدفُق الدماء لبقية أوصال المشروع، يُتوقع إصابة بقية أجزاء الجسد بمُضاعفَات وسكتاتٍ دماغيةٍ من شأنها الشلل التام تمهيدًا للوفاة، باستثناء حدوث سيناريو الفوضى الذي يُتيح لإيران عمليات إنعاش للقلب، أو مَد شرايين صِناعية تُعيد الأمل لضخ دماء جديدة للمشروع على المديين المتوسط أو البعيد على أقل تقدير، لاسيَّما في ظل تنامي المخاوف من الدوائر الضيقة للنظام الإيراني من ضربة إسرائيلية للنظام ذاته، خاصة بعد أن حقَّق نتنياهو إنجازات ومكاسب تاريخية في معادلة الصراع مع إيران، ولعل أبرزها معالمها:

  • – كسب معركة الحرب مُتعددة الجبهات والطويلة المدى، التي روّجت إيران لعدم قدرة إسرائيل على خوضها واستمراريتها.
  • – إخراج «حزب الله» من مُعادلة الصراع وإجباره على قبول فصل الجبهة اللبنانية عن جبهة غزة.
  • – إفشال المبدأ الإيراني المسمى بـ «وحدة الساحات» وتراجُع هجمات بقية الساحات باستثناء الساحة اليمنية.
  • – رسم مُعادلة صراع جديدة جعلت إيران في حالة دفاعية بعدما كانت هجومية ضد إسرائيل.

ه. إزاحة الخطر الإيراني والميليشياوي في لبنان إلى شمال نهر الليطاني، وتأمين المناطق الحدودية وعودة النازحين الإسرائيليين، وإزاحته بشكل كامل من الشمال الإسرائيلي، باقتلاع جذور الميليشيات من الساحة السورية، بل واحتلال أراضٍ سورية جديدة تحظى بقيمة إستراتيجية كبيرة بالنسبة لإسرائيل.

  • – سحب أوراق إيران التفاوضية المهمة في صراعها مع إسرائيل والقوى الغربية، إذ تعمل إسرائيل بشكل مُكثّف على نزع هذا التهديد من يد إيران، وذلك عبر إضعاف وكلائها عسكريًا وتقويض دورهم السياسي في الساحات المختلفة.
  • – تمكُّن إسرائيل -نتيجة انكشاف القوة الإيرانية وسوء تقديراتها- من إرساء صورة جديدة عن قوة إسرائيل وقدراتها العسكرية والتكنولوجية الهائلة، على نحو يفيدها في المرحلة اللاحقة في إقناع بعض الدول بالانضمام إلى قطار التطبيع.

ثانِيًا: الأخطاء الإيرانية المفسِّرة لسرعة انهيار «محور المقاومة»

تكشف سرعة انهيار «الأوتاد» الرئيسة والعمود الفقري للمشروع الإيراني، الذي يُعد بمنزلة أول اختبار حقيقي لما يسمى بـ «وحدة الساحات» وقوة الردع الإيرانية الإقليمية في الصراع مع إسرائيل، خلال فترة زمنية قليلة للغاية، عن جملة من الأخطاء ارتكبتها طهران في تمرير مشروعها التوسعي، وتفرض عليها إعادة النظر في طرح مقاربات إقليمية بنَّاءة تُفضي إلى التراجُع عن نظرتها الجيوسياسية بعدما أصبح مُستقبل نِظامها على المحك، هي كالتالي:

1. أولوية التأثير الأيديولوجي (المذهبي على المدني) المُعاصر

أولى الأخطاء الإيرانية تتمثل في العلاقة السَلبية بين الدول ومجتمعاتها، التي أرستها إيران في ساحات التمدد الجيوسياسي، نتيجة إعادة تكرارها تنفيذ تجربتها القائمة على صبغ الأيديولوجيا والمذهب على علاقة الدولة بالمجتمع في تلك الدول «العراق وسوريا ولبنان واليمن»، والتي لم يُكتب لها النجاح في إبراز إيران على أنها الدولة الأسوة لتلك الدول في ذلك النموذج المؤدلج، الذي لم يعد يُلامس الواقع في كثير من منطلقاته وأدواته وأهدافه ونتائجه، لكونه نموذجًا يميل للانغلاق والتخندق الأيديولوجي والمذهبي، ويؤدلج المجتمع من أعلى لأسفل مع كثافة الخطاب الأيديولوجي لتكريس الطائفية[12]، ويُعلي من نمط الاحتكار السلطوي والحكم الثيوقراطي الشمولي المحتكر لكافة مصادِر القوة، ومن دوران الدولة بكافة مؤسساتها وأجهزتها حول فلك المذهب المهيمن على السلطة، ومن تمثيلها لذلك المذهب بمفرده دون تمثيل غيره من مذاهب وتيارات المجتمع المختلفة، بل ومن إعادة تشكيل المجتمعات لخدمة ذلك المذهب، وبالتالي تعثُّر مؤسسات تلك الدول عن أدوارها المنوطة بها تجاه المجتمع ومواطنيه، لتُصبح أدوات بيد النظم السياسية الشيعية الحاكمة فيها، مثل الحالة العراقية والسورية أو بيد الميليشيات الشيعية الطامحة في الهيمنة على الحكم مثل الحالتين اللبنانية واليمنية، وآليات لتنفيذ سياساته وحماية شعاراته وتمرير أطروحاته والحِفاظ على بقائه واستمراره ضمن منظومة فكرية يلتف حولها.

أخضعت مؤسسات الدول الرسمية القانونية في الدول الأربعة لطمس ملامح الدول الوطنية، التي قوامها الحُكم المؤسسي القانوني والمواطنة، وضمان التعددية المذهبية والعرقية، والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وإنهاء الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، والقرارات الوطنية التي تعمل لخدمة مصالح الدولة لا مصالح الأجندات الخارجية، مع إرساء احتكار وهيمنة المذهب الشيعي للحكم، وسيطرة داعميه من الأذرع السياسية والعسكرية على القرارات الداخلية والخارجية لمؤسسات الدولة العراقية والسورية واللبنانية واليمنية، وعلى المصالح الرئيسة في اقتصاديات تلك الدول للسيطرة على الحصة الأكبر من اقتصادياتها، مع اجتثاث وإقصاء وقمع وتهميش كافة الحركات والتيارات المُناهِضة للمذهب الشيعي المتحكم في النظام، ما أدى بدوره إلى فرض هيمنة ووصاية رجال الدين على المجتمعات.

يُضاف لذلك ترسيخ نموذج «الدولة الوصية أو الأبوية» التي تسعى لإعادة صياغَة أفكار المجتمع في الدول الأربعة، وتشكيل قواه وتوازناته بموجب المنظومة الفكرية للمذهب الشيعي، ولذلك لعبت دورًا بارزًا في ترسيخ المُحاصصة في الدستور العراقي كبوابة للهيمنة على الحُكم، وفي سوريا لعبت دورًا بارزًا في عمليات التغيير الديموغرافي لتغيير الهوية السورية، إلى جانب تمكين الرئيس السوري السابق من إعادة السيطرة على زمام النظام في سوريا، وفي لبنان دعمت «حزب الله» بما يُمكنه تمهيدًا للدخول في مرحلة فرض الوصاية على مؤسسات الدولة بما يخدم الأجندة الإيرانية.

وكما أخفقت مركزية الأيديولوجيا والمذهب في خلق «المجتمع الأسوة»[13] في إيران على مدى أكثر من أربعة عقود ونصف العقد من الزمان، أخفقت أيضًا في الدول الأربعة، فلم يُسفر ذلك النموذج في إيران والدول الأربعة سوى عن دول تموج مؤسساتها ما بين الهشاشة والفشل، وتُعاني من ضعف في مُقدراتها المادية وغير المادية، وانكشافها الأمني أمام التهديدات الخارجية، وسيادة الفوضى وانتشار الفساد، وغياب العدالة الاجتماعية وسطوة المؤسسات الموازية على المؤسسات القانونية والمنتخبة، ودعم المكون الشيعي ضد المكونات السنية وغير السنية، واختراق النسيج الاجتماعي وتبني النظام الشيعي سياسة تقوم على القمع والتنكيل والاعتقال والتصفية للمعارضين، وإقصاء الأقليات كما يسود في إيران ذاتها[14]-سجن صيدنايا السوري نموذجًا-ما أدى بدوره إلى خلق التوتر بين الدولة والمجتمع، لأنه عادة ما يصطدم خطاب الأيديولوجيا الثابت مع الواقع المجتمعي المتغير، وإخفاق الانظمة الشيعية التي تُعلي من الهوية الفرعية على حساب الهوية الجماعية في التجاوب مع التغيرات المجتمعية وتسوية الأزمات الداخلية، وخلق واقع صعب أمام قطاعات عريضة من الجماهير، وتفاقُم الصراعات السياسية والطائفية لمساعي تكريس المذهبية والهيمنة السياسية، وخلق «الزبائنية» المعتمدة على الأتباع والموالين، وتحويل أجزاء واسعة من بعض الدول الأربعة إلى ملاذات آمنة للتنظيمات الإرهابية، وفرض الميليشيات ضمن الإطار الرسمي لبعض الدول، مثل إدماج فصائل الحشد الشعبي في الجيش العراقي، وارتفاع مُعدلات النزوح والهجرة نتيجة السياسات الطائفية، التي أرست دعائم الظلم الاجتماعي والفقر والفوارق الطبقية والمذهبية، وبالتالي انهيار الدولة الوطنية وإدخالها في حالة عدائية مع العالم الخارجي المُناهِض للمشروع الإيراني القائم على مركزية الأيديولوجيا والمذهب، بما أسفر عن مجتمعات ناقمة محتقنة ضد الطائفية، ومعادية للحكم الشيعي المذهبي من الخارج. 

2. أولوية النهج العسكري-الميليشياوي على السياسي

ثاني الأخطاء يتمثل في إعطاء إيران الأولوية للأبعاد العسكرية الميليشياوية على المؤسسات السياسية القانونية والمنتخبة، في تنفيذ سياساتها وتوجهاتها الخارجية بتقديم «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» على وزارة الخارجية والدبلوماسية الإيرانية بالنسبة لإيران، عبر دعم قُدراته التسليحية والمالية وبسط يده وسيطرته في كافة أنشطة ومجالات الدولة، وتنفيذ سياسته التوسعية على نحو أدى إلى تغوُّلِه وتحوُّلِه إلى الكتلة الأكبر قوةً وتأثيرًا في المعادلة الإيرانية، أو في تنفيذ أجندتها التوسعية في ساحات التمدُّد بتقديم الميليشيات المُسلحة الموالية لها على الأذرع السياسية حتى الموالية لها وعلى الأنظمة السياسية الشيعية الحليفة، عبر تمويلها وتسليحها وتدريبها لتُصبح الرقم الأصعب في القرارات الداخلية والخارجية في ساحات التمدُّد، وما حديث وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف في مارس 2021م، الذي ذكر فيه: «أنه كلما نويت إجراء مفاوضات كان سليماني يُملي مطالبهُ لعرضها في المفاوضات.. ضحينا بالدبلوماسية من أجل الميدان»[15]، إلا أحد الأدلة على أولوية النهج العسكري على السياسي في الإستراتيجية الإيرانية، ما أدى إلى تحكُم الميليشيات في الدول الأربعة على قراراتِها لتَمرير الأجندة الإيرانية، وبالتالي توالي الانتقادات الإقليمية والدولية لـ «العسكرة» الإيرانية في الدول الأربعة المُستهدفة، واتِباع الدول المُعادية للأجندة الإيرانية سياسات من شأنها تضييق الخِناق والحِصَار ضد إيران وميليشياتها في الدول الأربعة، والحد من فُرص التعاون الإقليمي والدولي مع تلك الدول، وإعاقة عملية الجذب الاستثماري، وإعاقة تقديم المساعدات العربية والإقليمية والدولية لتلك الدول، مع إمكانية أن تطالها العقوبات الدولية، التي من شأنها أن تُفاقِم تحدياتها وتُعقد أزماتها، الأمر الذي من شأنه توالي الاحتجاجات ضد إيران وميليشياتها، لما تكبدته دولهم من معاناة وفقر نتيجة التوغل الإيراني فيها، وأساليبها الدافعة نحو الاقتتال و«الاحتراب» الأهلي، وسيطرة الميليشيات على قرارات دولهم ومصالحها.

3. أولوية حكومة اللون الواحد على الألوان المتعددة

ثالث الأخطاء يتمثل في إعطاء إيران الأولوية لتشكيل حكومات من اللون الواحد في دول التمدد الجيوسياسي، من المكونات والتيارات الشيعية الحليفة، بغض النظر عن القواعد الدستورية المُنظِمة لعملية تشكيل الحكومات المُتعاقِبة في الدول الأربعة، فعلى سبيل المثال بمجرد انتهاء الانتخابات البرلمانية في العراق تُهرول إيران، باعتبارها فاعلًا مؤثرًا في المعادلة العراقية، إلى تفعيل القاعدة التوافقية لتشكيل حكومات إيرانية الهوى، وتضرب بعرض الحائط القاعدة الدستورية التي تُتيِح للتكتل الأكثر عددًا أحقية تشكيل الحكومة. وفي سوريا، سعت لحفاظها على الحكم الشيعي العلوي لعقود من الزمان، وأثناء الأزمة السورية التي بدأت مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية العربية عام 2011م، سلَّحت ودرَّبت مُقاتلين للقتال إلى جانب صفوف الأسد للحيلولة دون سقوطه، واستمر ذلك الدعم حتى رحيله. وفي لبنان، سعت لـ «استئساد» «حزب الله» على المعادلة اللبنانية تمهيدًا لسيطرته على الحكم حتى إضعافه. وفي اليمن، دعمت جماعة أنصار الله «الحوثيين» ضد الشرعية للاستيلاء على السلطة الوطنية إلى أن سيطر «الحوثيون» على العاصمة صنعاء في أغسطس عام 2014م، ما خَلق حالة عدائية بين الشيعة وبقية المذاهب الناقمة على حكمهم في الدول الأربعة، بل وتغذية حالات الاحتقان الطائفي المفضي إلى الاحتراب بما يُهدد أمن الجماعة الوطنية، وتصاعد مشاعر الكراهية والعنف ضد المكون الشيعي.

4. أولوية الفاعلين من غير الدول على الدول

أما رابع الأخطاء يتمثل في إيلاء إيران الأولوية للفاعلين من غير الدول من الميليشيات المُسلحة المُنفلتة في ساحات التمدد الجيوسياسي على حساب الفاعلين من الدول الوطنية، بهدف إعدادها وتجهيزها للتحكم في قرارات تلك الدول ومصائرها ومُقدراتها، بما يخدم تنفيذ أجندتها التوسُعية، وذلك الطريق لم يخدم إيران؛ لأن الفاعلين من غير الدول لا يكترثون بمفردات الدول الوطنية القائمة على حِماية الأمن القومي، والهُوية الجماعية، والجيوش الوطنية، وحماية مُقدرات الدول وثرواتها ووحدتها الترابية ومستقبل شعوبها، بل ينطلقون من تصور يخدم في المقام الأول مصالح الراعي على حساب المفردات الوطنية للدول، وذلك من شَأنِه تهديد أمن الدول وتفكيك هويتها الجماعية وإضعاف جيوشها الوطنية وتبديد مواردها الطبيعية، بما يخلق الفوضى بين المكونات السياسية والعِرقية والمذهَبية إلى حد الاقتتال، وهو ما حدث في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبالتالي دخلت تلك الدول في طور التفكك أو الانهيار أو الهشاشة، وتبددت ثرواتها ومقدراتها، وضاع أمنها واستقرارها، وتشرد أبناؤها إما في نزوح داخلي غير منظم أو لجوء خارجي، فأصبحت الدول ذاتها عاجزة عن مواجهة تغوّل الفاعلين من غير الدول، وبيئات مُهيئة ومُجهزة للإطاحة بها والقضاء عليها.

إضعاف قدرة الدول الوطنية تسبب في نتيجة عكسية على إيران وتهديد أمنها، حيث إن الهجمات الإسرائيلية على إيران كانت عبر الأراضي السورية والعراقية، التي أضعفتها إيران لدرجة أنها لم تستطع أن تُقدم الحماية والدفاع عن أراضيها والأراضي الإيرانية، وأصبحت فضاءات تلك الدول مُستباحة من قبل إسرائيل.

5. أولوية الخارجي على الداخلي

يدور خامس الأخطاء حول إعطاء إيران الأولوية الأولى والأخيرة لمصالحها دون أدنى اعتبار للمصالح السورية واللبنانية واليمنية والعراقية، وأمنها القومي وعلاقاتها الإقليمية والدولية، في سبيل تحقيق مشاريعها التوسعية، ما أدى إلى تقويض وضرب مصالح الدول الأربعة في المحيطين الإقليمي والدولي، لأن كثيرًا من الدول المُعادية والمُناهِضة للمشروع الإيراني الإقليمي باتت تخشى على تعزيز أو حتى استمرارية مصالحها مع الدول الأربعة نتيجة الهيمنة الإيرانية، بل وسيطرة الميليشيات الموالية لإيران على القرارات العراقية لصالح الأجندة الإيرانية، حيث باتت تخشى العديد من الدول على استثماراتها من سطوة الميليشيات المُسلحة أو من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي خلفتها الميليشيات في الدول الأربعة، ومن ثم تقويض مَصالِح الدول الأربعة، وتعقيد أزماتها الداخلية والخارجية وتفشيها، وتراجُع ترتيبها في المؤشرات الرئيسة الدولية، التي تَقيس مستويات الهشاشة والفساد والتنمية وقوة الاقتصاد والبطالة.. إلخ.

6. سوء التقدير للمُقدرات الذاتية وقدرات المتضررين

يتمثل سادس الأخطاء في تبني إيران نهج غير عقلاني في بناء مشروعها التوسعي في الدول الأربعة، ولذلك سارعت بالتفاخر بالسيطرة على أربع عواصم عربية، وأنها قادرة على فرض معادلة ردع إقليمية جديدة تُحدِث تحولًا في قوتها، لتتحول إلى قوة فوق إقليمية وفقًا لما جاء في ميثاق «الأفق العشريني»[16]، دون أن يكون لديها نموذج أسوة ناجع يُحتذى به في الدول الأربعة، ودون توافر حالة نجاح واحدة من حالات الدول الأربعة، غير أن جميعها بات في عِداد الدول الهَشة بفعل التدخُل الإيراني، ودون أن تمتلك المُقدرات وأدوات القوة اللازمة لتأمين مناطق نفوذها مثل الحالات الجيوسياسية المعروفة تاريخيًا، والتي آلت حتى ولو بعد عقود، إلى السقوط والتفكُك بالطبع في نهاية المطاف رغم امتلاكها المقدرات، لتأمين مناطق تمددها لفترات طويلة من الزمن، ما يعكس سوء تقدير إيراني لحجم القدرات المُتاح، عَطفًا على حجم الالتزامات التي يتطلب تأمينها مُقدرات كبرى، وسوء تقدير لقُدرات الآخرين ومواقفهم وقدراتهم، ودول الجوار المؤثرة والفاعلة في النظامين الإقليمي والدولي، وقدراتها ومصالحها المُهددة نتيجة المشروع الإيراني، بل وفي قدرتها على وقف وصد الاندفاعة الإيرانية بمختلف الأدوات، أما مسألة استغلال إيران للأزمات العربية المتتالية منذ عام 2003م، وتداعياتها في التدخل، فبالطبع ذلك سوء تقدير من نوع آخر عند مُقارنة أعداد الشيعة بالسنة في المنطقة العربية، ونجاح حُكم السنة مقارنةً بحكم الشيعة في التاريخ المعاصر، ما يفرِض على إيران إعادة النظر في دستورها، الذي ينص في مادته 154 على تصدير الثورة[17]، فباتت تلك المبادئ الثورية غير مقبولة، وثبت فشلُها عند التطبيق الفعلي، نتيجة اللاعقلانية الإيرانية في التقدير بين المقدرات والقدرات والطموحات، ونتيجة لعدم النجاح في خلق حالة نجاح واحدة تجذب الأنظار للمشروع الإيراني، والذي لم ينجح خلال 45 عامًا من عمر الثورة في التحوُّل من فكر الثورة لفكر الدولة، التي تتعايش في وئام مع محيطها وضمن المجتمع الدولي.

7. سيادة الجمود الفكري على المرونة

أما سابع الأخطاء وأخطرها، والتي تنخر في جوهر بناء المشروع الإيراني، ذلك الجمود الفكري لحد التحجر في العقل الإستراتيجي لصُناع القرار الإيرانيين، بانتهاج أفكار أيديولوجية باتت عقيمة غير خلَّاقة وغير قادرة على مواكبة التطوُّرات المجتمعية المُعاصرة، وليست ملائمة للأفكار العصرية والتكنولوجية لدى الشرائح الشبابية والمجتمعية في الدول الأربعة، وغير قابلة للمُعالجات والمُراجعات وطرح المُقاربات البنّاءة، حيث لم تستفد إيران من الاحتجاجات الشعبية الحاشدة، التي اندلعت في قلب الحواضن الشيعية في المحافظات الجنوبية بالعراق ولبنان منذ العام 2019م، والتي دقت ناقوس الخطر على مستقبل مشروعها، ولاسيَّما عندما هتف المحتجون في العراق «إيران بره بره.. عراق تبقى حرة». وفي لبنان، هتفت الجماهير «كلن يعني كلن نصر الله واحد منن»، وأضرم المحتجون النيران في صور المرشد وسليماني، بل وفي المقار الدبلوماسية والقنصلية الإيرانية واستهداف مقار الميليشيات، ولم تُطرح مُقاربات ومُعالجات، كما لم تقرأ إيران الدرس عندما تلقت تحالفاتها السياسية ضربات مدوية في الانتخابات البرلمانية في الساحتين العراقية واللبنانية، بعدم تصويت العراقيين واللبنانيين لتحالفاتها السياسية، وظلّت أيضًا جامدة لم تطرح مقاربات، كما لم تقرأ الدرس عند تصفية قاسم سليماني العقل المُدبر ومهندس مشروعها الجيوسياسي الضامن للوحدة والانسجام، وظلت تُكابر وتُعانِد وتستمر في التمدد، رغم ظهور تداعيات تصفية سليماني باندلاع الصراعات بين ميليشياتها الولائية في العراق وسوريا، وخروج بعضها عن «بيت الطاعة» الإيراني، لدرجة سيادة مفهوم «الميليشيات المتمردة» في وقت من الأوقات، حيث كانت تطمح في السيطرة على السلطة والمصلحة والنفوذ، والتي بات لديها مصالح خاصة تجنيها من التجارة السوداء في المناطق الحدودية.

كذلك بعد تلقيها خسائر كُبرى في صِراعها الأخير مع إسرائيل، تكاد تؤدي بمشروعها الجيوسياسي برمته، بل وبإمكانية أن تَطال تداعياتها أركان النظام ذاته، لا يزال كبار مسؤوليه وبينهم المرشد ذاته، يُكابرون ويخفون حقيقة الهزائم التي تلقتها إيران، حيث خاطب خامنئي الإسرائيليين في 22 ديسمبر 2024م، قائلًا: «أنتم لستم منتصرين، بل مهزومون». لنتساءل ما هي معايير الهزيمة إذًا؟ مُضيفًا أن: «التقدم دون مقاومة ليس نصرًا، وبلا شك سيقوم الشباب الشجعان والغيارى في سوريا بطردكم من هناك»، مُبديًا توقعه: بأن تظهر «قوة شريفة في سوريا». وأضاف: «الجمهورية الإسلامية ليس لديها قوات نيابية، اليمن (الحوثيون) يقاتل لأنه مؤمن، (حزب الله) يقاتل لأن قوة إيمانه تدفعه إلى الساحة، (حماس) و(الجهاد) تقاتلان لأن عقيدتهما تدفعهما إلى ذلك، هؤلاء لا يقاتلون نيابةً عنا»[18]. وتأتي هذه التصريحات متناقضة مع المواقف الإيرانية السابقة في هذا الشأن، من قبيل التفاخر بالسيطرة الإيرانية على أربع عواصم عربية، والتبجح بإرسالها مقاتلين إلى الدول الأربعة، ولعل ذلك يقودنا إلى القول بأن التجارب التاريخية أثبتت عدم استفادة النظام من العِبر والعِظات التاريخية، بل وعجزه عن طرح أفكار ومقاربات جديدة تُعيد دمجه في النظامين الإقليمي والدولي بما يخدم مصالح إيران والإيرانيين، ويَقي دول الجوار في الشرق الأوسط من شرور ومخاطر الأفكار الأيديولوجية الضيقة والعبثية.

ثالِثًا: تداعيات الخسائر الإيرانية

يفرض حجم الخسائر التي مُني بها «محور المقاومة» بشكل غير متوقع وسريع للغاية، عدد من التداعيات الإقليمية على بقية ساحات النفوذ، لكون الخسائر لا تقتصر على تراجُع النفوذ في ساحات محددة، بل تمتد لتشمل تأثيرات أوسع على تماسُك المحور برمته، ما يُثير الشكوك لدى أذرُعِها المُسلحة في العِراق واليمَن ولبنان، حول قدرتها على مواصلة دعمهم وضمان مصالحهم واستمراريتهم، وكذلك يفرض تداعيات أيضًا على الداخل الإيراني، والذي لطالما احتشد مواطنوه ضد المشروع الجيوسياسي، وذلك على النحو التالي:

1. التداعيات على ساحات «محور المقاومة»

تُشكّل سوريا ولبنان، ركيزتين أساسيتين في المشروع الجيوسياسي الإيراني لتعزيز نفُوذها الإقليمي وتحقيق أهدافها الإستراتيجية الكبرى، ومع سقوط نظام الأسد وكسر قوة «حزب الله»، تجد إيران نفسها في مواجهة تحديات غير مسبوقة تُهدد بتفكيك شبكتها الإقليمية الممتدة عبر الشرق الأوسط؛ إذ إن هذه التحوُّلات لا تقتصر آثارها على سوريا ولبنان فحسب، بل تمتد لتطَال التمدُد الإيراني في العراق واليمن، حيث تعتمد إيران على ميليشياتها ووكلائها المحليين لتحقيق مصالحها، ولذلك تُثير تلك الخَسائِر تساؤلات حول قدرة طهران الحِفاظ على بقية نفوذها وسط تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية، ويُصبح من الضَروري استعراض التداعيات الإستراتيجية لسقوط نظام الأسد وإضعاف «حزب الله» على المشروع الإيراني، وخصوصًا في العراق واليمن، حيث تتضح معالم مأزق «محور المقاومة» بصورة غير مسبوقة.

أ. إثارة الشكوك داخل المحور نفسه تجاه النوايا الإيرانية: أصابت الخسائر الإيرانية المتسارعة في سوريا ولبنان، الميليشيات المُسلحة في العِراق واليمن بصدمة كبيرة، ودارت تساؤلات جِدية بين بقية أطراف المحور تتعلق بالأسباب التي جعلت إيران تمتنع عن التدخُل السريع والمباشر في الصِراع، مع إدراكها لحجم الآثار والأبعاد السلبية للنتائج التي قد تؤدّي إليها، لاسيَّما وأن الفرصة كانت سانِحة أمام القيادة الإيرانية لتفعيل إستراتيجية «وحدة الساحات» بشكل أكبر وأقوى ضد إسرائيل. وبدأ التشكيك أيضًا في مدى مصداقية إيران كقائد «لمحور المقاومة»، وفي مدى جدوى ونجاعة الاعتماد على إيران، إذ إن تمدُد إيران، وعجزها عن حماية مصالحها في سوريا ولبنان، قد يواجِه تحديات مشابِهة في الساحة العراقية واليمنية، فالملف العراقي يتميز بتعقيداته الكبيرة، التي تشمل التوازنات السياسية المتقلبة، والتحالفات المتباينة بين الفصائل الشيعية المُختلفة، والضغوط الناتجة عن التدخُلات الخارجية المتعددة. كما أن «الحوثيين» في اليمن قد يواجهون ضغوطًا أكبر، وإن كانوا مستمرين في توجيه الضربات ضد إسرائيل، لبثّ الرسائل بعدم القدرة على القضاء على المحور، خاصة إذا تراجعت إيران عن تقديم دعمها الكامل لهم، في إطار تقليل انخراطها في الأزمات الإقليمية واتجاهها نحو إبرام المساومات والصفقات، وبالتالي باتت تنظُر الفصائل العراقية واليمنية إلى حتمية عدم اقتصار تداعيات هذا التراجع في النفوذ الإيراني على الساحتين السورية واللبنانية، بل ربما ستكون بمنزلة سقوط متتابع لأحجار دومينو هذا المحور مُستقبلًا.

قد تجد هذه الفصائل نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير في خياراتها والاستفادة من درس الخسائر التي مُنيت بها إيران، حيث ظهر جليًا انكفاء إيران عن دعم حلفائها بشكل كامل، ولذلك يُتوقع أن تستمر الميليشيات الولائية في العِراق في ولائها للنظام الإيراني، أما الميليشيات غير الولائية البراغماتية قد تلجأ إلى الابتعاد مسافة عن إيران والاعتماد على قوتها الذاتية للبقاء على الساحة، لاسيَّما في ظِلّ إدراكِها تداعيات الضربات القوية التي تعرضت لها إيران في الساحة الإقليمية على تقديم الدعم للميليشيات المُسلحة في العراق، وقد تتحدد توجهات الميليشيات المسلحة الولائية وغير الولائية في الساحة العراقية خلال المرحلة المُقبلة، بناء على تطوُّرات الساحة الداخلية والضغوط المتوقع أن يُمارسَها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الميليشيات في العراق، التي ظلت طويلًا تضرب الأهداف الأمريكية في العراق. أما «الحوثيون» في اليمن، والذين برز دورهم بشكلٍ كبيرٍ في الصراع مع إسرائيل، يُتوقع استمراريتهم في الضربات ضد إسرائيل أو في البحر الأحمر ضد المِلاحة والتجارة الدولية، لبثّ الرسائل على استمرارية «مِحور المقاومة» عبر توظيف عوامل الموقع وأدوات التأثير على الملاحة والتجارة الدولية، وإن كان لديهم مساحة تحرك مُستقلة عن إيران، مُقارنةً بالمسافة التي تربط إيران بالميليشيات في بقية ساحات التمدُد الجيوسياسي، إلا أن فائدة اليمن لإيران ومن ورائها موسكو، قد تُستثمر في استغلال المكوّن «الحوثي» للضغط على الغرب، خصوصًا في ظلّ احتمالية انتقال العديد من القيادات الإيرانية من الساحة السورية واللبنانية إلى اليمن، لتعزيز المحور الذي تفصله مساحة بعيدة عن الاستهدافات الإسرائيلية.

ب. تراجُع الدعم المقدم للميليشيات في العراق واليمن: من المتوقع أن يُحدث سقوُط الأسد وإضعاف «حزب الله» في لبنان آثارًا سلبية في المشهدين العراقي واليمني؛ إذ عمل الأسد لسنوات كحليف إستراتيجي للميليشيات العراقية و«الحوثية»، وجمعهم تعاون تاريخي وثيق تأسس في سياق المشروع الجيوسياسي الإيراني، ومهدت الجغرافيا السورية كطريق عبور المقاتلين والسلاح من لبنان إلى بغداد وطهران والعكس عبر سوريا. كذلك لعب «حزب الله» دورًا محوريًا في تدريب ودعم الميليشيات العراقية و«الحوثيين» في اليمن، بما في ذلك التدريب على استخدام الأسلحة المتطورة، والتكتيكات القتالية التي استُخدِمَت في عمليات مُتعددة داخل العراق واليمن وخارجهما[19]، كذلك استفادت الميليشيات العراقية والحوثية من الدعم الشامل الذي امتدّ إلى ما هو أبعد من المساعدة العسكرية، ليشمل الأبعاد السياسية والأيديولوجية والإعلامية، عبر استخدام «حزب الله» قنواته الإعلامية وخطابات قادته السياسية لدعم الميليشيات في كل من العراق واليمن، وقد عزّز هذا الدعم بشكل كبير الموقف السياسي لـ«الحوثيين» وقدراتِهم في ساحات المعارك. وبالتالي يُشكّل غياب أو تراجُع هذا الدور من الأسد أو من «حزب الله» ضربةً قاسيةً لبقية الفصائل والميليشيات الإيرانية في العراق واليمن، ورغم أن التأثير قد لا يكون فوريًا، فإنه سيؤدي بلا شك إلى تأخير أو تراجُع قدرات الأخيرتين على تحديث وتسليح قواتهما، وبالتالي الحد من فعاليتها في المواجهات العسكرية المستقبلية. كذلك تفاقُم الضغوط في مناطق توزيع وسيطرة الميليشيات في العراق أو في اليمن، ما يخلق تأثيرًا نفسيًا على قادة الميليشيات وأنصارهم في الساحتين اليمنية والعراقية بشكل أكبر؛ مما قد يجعلهم يشعرون بالضعف والارتباك من أن يَستلهم خصومهم السياسيون والمذهبيون والسكان الخاضعين لسيطرتهم من مثل هذه الحركات التي سيطرت في سوريا، ويشنون هجمات ضدهم على ضوء الإخفاقات والاحتقان المتنامي من سياساتهم وتوجهاتهم الخادِمة للأجندة الإيرانية لا للمصالح الوطنية في العراق واليمن، مما يجعلهم يكافحون للحفاظ على الظهير الشعبي، لاسيَّما في قلب الحواضِن الشيعية الموالية.

وكذلك من شأن ذلك تعزيز فُرص المكون السُني في المعادلة العراقية، وإعادة تمكينه مرحليًا ضمن الأدوات الضاغِطة على النظام الشيعي العراقي لأجل المصالح العراقية لا الإيرانية، وربما تَعزيز مكانة السُنة للعودة إلى التأثير في الحكم وتوجهات الدولة، لاسيَّما أن العراق على مَقربة من الانتخابات البرلمانية، ولكن يتطلب ذلك الأمر توحيد الموقف السُني؛ لكي يكون فاعِلًا في أي إستراتيجية لإضعاف تأثير إيران وأذرُعِهَا في الساحة العراقية.

2. الانعكاسات على الداخل الإيراني

يرتبط المشروع الجيوسياسي ارتباطًا وجوديًا وعقائديًا ومصلحيًا بالنظام الإيراني، وبالتالي فأية خسائر في المشروع والمحور بالطبع تكون أولى انعكاساتها على النظام ذاته، وفيما يلي أبرز الانعكاسات على الداخل الإيراني:

أ. تحوُّل إمكانية الإطاحة بالنظام إلى حقيقة ممكنة: ترتب على الهزائم الإقليمية لإيران جراء سقوط نظام الأسد وإضعاف «حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في فلسطين، التغيير في الاتجاهات التحليلية تجاه مُستقبل النظام الإيراني بالحديث عن إمكانية الإطاحة به وتحوُّل هذا الأمر إلى حقيقةٍ ممكنة، بعد أن تقلصت مكانة إيران الإقليمية بشكلٍ كبير، حيث تتوالى التقارير الغربية والإيرانية على أن سقوط النظام الإيراني لم يعُد احتِمالًا بعيد المنال، بل أصبح واقعًا مُحتملًا، فقد وصفت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية مسألة سقوط النظام الإيراني بأنه «حقيقة ممكنة»، وأن سقوط الأسد خلق موجةً من الأمل بين الإيرانيين، بأنه من الممكن أن يواجه النظام الإيراني مصيرًا مُشابهًا، وأشار المحلل الأمريكي الشهير روبين رايت في مقال له نشرته مجلة «نيويوركر» إلى أن: «النظام الإيراني بات في وضعية حَرجة». وأفاد تقرير لوكالة «رويترز» أنه: «بعد هزيمة حماس وحزب الله وسقوط الأسد، قد يكون الهدف المُقبل لإسرائيل هو إيران». وقد تحدث السيناتور الجمهوري الأمريكي تيد كروز: أن «النظام الإيراني أصبح ضعيفًا وخائفًا، وأن التغيير قادم لا محالة»، وأكد أن «هذا التغيير قد يكون سريعًا لدرجة تُثير دهشة الكثيرين»[20].

وشهد الكونغرس الأمريكي اجتماعًا في 26 ديسمبر 2024م، حضرتُه رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية مريم رجوي وممثل الرئيس المنتخب دونالد ترامب لشؤون روسيا وأوكرانيا الجنرال كيث كيلاغ تحت عنوان: «مسؤولون أمريكيون يرون سقوط الأسد فرصة لتغيير النظام في إيران»، للبحث عن بدائل للنظام الإيراني[21]. كذلك تُفيد التقارير والمقالات الإيرانية أن بعض الخبراء والمسؤولين الإيرانيين من مُختلف التيارات السياسية ربما باتوا على قناعة أن خطر سقوط النِظام نتيجة الضغوط والتطوُّرات الخارجية صار أمرًا جديًا، لكنهم اختلفوا حول كيفية مواجهة ذلك الخطر إلى قسمين، ما يعكس عُمق الأزمة داخل النظام الإيراني، الأول: يدعو إلى مزيد من المرونة في السياسة الخارجية لتخفيف حِدة خطر التهديدات الخارجية. والثاني: يرى ضرورة الاستمرارية في نهج الصمود والمقاومة، بل واتباع إجراءات مُضادة مثل المُضي في صِناعة قنبلة نووية، والانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي. وتكشف كل هذه الآراء، عن دخول مُستقبل النظام الإيراني مرحلة الغموض والضبابية، مع إمكانية حدوث تغييرات كبيرة في إيران أسرع حتى مما هو متوقع.

ب. مأزق التيار «المُحافظ»: تَضع الهزائم الإيرانية «المحافظين» المهيمنين على مفاصِل الدولة في مأزق كبير، ولاسيَّما في توقيت يسعى فيه المرشد لتأمين خليفته، لأن ما بنته إيران من مناطق تمدد جيوسياسي على مدار عقدين من الزمان في الشرق الأوسط كنتيجة لسياساتهم، خسرته في أقل من أسبوعين في سوريا وفي شهور قليلة في لبنان، فالانتقادات التي كانت تُكال ضد سياسات «المحافظين» التوسعية من داخل التيار نفسه ومن التيارات المنافسة باتت واقعية، حيث لطالما طالب العديد من رموز النخبة بالابتعاد عن سياسة التوسع والانكفاء على الداخل، لترميم الجبهة الداخلية المفككة بفعل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

ج. تعزيز فُرص «الإصلاحيين»: بتلك الخسائر أُتيحت فرصة جديدة لرؤية التيار الإصلاحي تجاه القضايا الداخلية والخارجية، والتي تعززَّت منذ وصول الرئيس مسعود بزشكيان إلى رئاسة السلطة التنفيذية، حيث يطرح الرئيس بزشكيان ضرورة الانفتاح على الغرب، وتسوية أزمة الاتفاق النووي مع القوى الكبرى، بهدف رفع العقوبات عن إيران كحل أنجع لمعالجة الأزمات الإيرانية، التي تسببت فيها رؤية التيار «المُحافظ»، مع إمكانية أن تدفع التطوُّرات الإقليمية رموز التيار «المُحافظ» إلى تقديم مزيدٍ من المرونة والتنازلات للرؤية «الإصلاحية» في الداخل تجاه بعض المطالب السياسية والدستورية، لاسيَّما فيما يخص التوجهات والمبادئ الجيوسياسية الخارجية للدولة.

د. تصاعُد فُرص الانفجار الشعبي: يَنظُر الإيرانيون للخسائر الضخمة التي تكبدتها إيران بفعل سياساتها التوسعية وانخراطها غير المُبرر في الصِراعات الإقليمية بسخطٍ شديد، الأمر الذي من شأنه تعزيز فُرص انفجار شعبي واسع مُحتمل في أي لحظة تُشعل الجبهة الداخلية، حيث لم تَجنِ إيران من نظرتها الجيوسياسية سوى الخسائر بكافة أنواعها، وارتفاع مستويات احتقان وغضب الشعب الذي عانى كثيرًا بفعل الطموحات الجيوسياسية للنظام، إما لجهة تقديم أمواله ومصادر قوته لصالح مشروعات طائفية، أو لجهة الوقوف وراء العقوبات القاسية التي أسفرت عن أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة أضافت أعباءً إضافية على كاهل المواطن الإيراني.

رابِعًا: التكتيكات والبدائل الإيرانية لترميم «محور المقاومة»

بالنظر إلى مبادئ وتوجهات النظام الإيراني تِجاه المجالات الحيوية، وإبداء كبار المسؤولين الإيرانيين توقعاتهم بعدم تحقُق الاستقرار في سوريا بعد رحيل الأسد، وحجم الخسائر المالية والبشرية التي تكبدتها إيران في الساحات التي خسرتها في الشرق الأوسط، وطبيعة المرحلة الضبابية التي تنتظر مُستقبل سوريا ولبنان وغزة في ظلّ التحوُّلات الإقليمية، والشهية الجيوسياسية المفتوحة لإسرائيل بعد تحقيق الانتصارات على الجبهات الإيرانية، والتي من شأنها عدم الاستقرار في سوريا، حال خروج بعض الجماعات المتحالفة مع «الشرع» عن نهجه في التعاطي مع التوسع الإسرائيلي في سوريا، على نحو يوفر الفُرص لإحداث الفوضى التي تُسهم بدورها في إمكانية العودة الإيرانية.

تتوقف العودة الإيرانية للساحات الجيوسياسية التي خسرتها لترميم «محور المقاومة» على مُستقبل تلك الساحات، ومدى استقرارها من عدمه، فنجاح التيارات السياسية في لبنان في إرساء معادلة حُكم مدنية جديدة، ونجاح الإدارة الجديدة في سوريا في تحقيق الأمن والاستقرار، وذلك يتطلب الاستمرارية بمنطق الدولة لا الجماعة، مع دعم عربي وإقليمي ودولي كبير، ونجاح الجهود العربية والدولية لوقف إطلاق النار في غزة، وتوقف إسرائيل عن تمددها الجيوسياسي، من شأن كل ذلك تعقيد الأمور أمام العودة الإيرانية. أما فشل تلك التجارب الجديدة في تحقيق الأمن والاستقرار ودخولها في سيناريو الفوضى، يتيح لإيران العودة كما تُشير التجارب التاريخية، وهناك عدَّة نوافذ يمكن لإيران العودة من أحدها أو خلالها جميعًا للساحات التي خسرتها حال تحقق سيناريو الفوضى:

1. الأكراد

يجمع إيران بتنظيم «قوات سوريا الديمقراطية»-قسد-عامة، وبأكراد «عفرين» السورية خاصة علاقات جيدة، حيث يضم التنظيم آلاف المقاتلين الأكراد المتحالفين مع حزب «العمال الكردستاني» بينهم مقاتلين إيرانيين وأتراك وعراقيين، ويجمع قوات «عفرين» علاقات قوية بمقاتلي الحرس الثوري الإيراني منذ انتشارها في شمال حلب على مقربة من بلدتي نبل والزهراء، اللتين كانتا تحت سيطرة الميليشيات الإيرانية في سوريا[22]، كما أن «قسد» باتت تنشط ضمن تحالف وثيق مع حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني» الذي يتزعمه بافل طالباني، وهو الآخر مدعوم من إيران[23]، كما تتطابق وجهات نظر الطرفين الإيرانية والكردية/ السورية ضد الهيمنة التركية على الساحة السورية عامة والكردية خاصة، لاعتبارات تخُص كل طَرف، فإيران تُدرك الرغبة التركية في الحصول على موقع الريادة الإقليمية، ومساعي أنقرة للحد من الطموحات الجيوسياسية الإيرانية في سوريا والحصول على موطئ قدم إيراني على البحر المتوسط، ولذلك سبق أن عارضت إيران الوجود التركي في «عفرين»، والعمليات العسكرية التركية ضد الأكراد في الشمال السوري، وبالتالي لـ «قسد» تموضع ضمن المحور الإيراني في سوريا، وذلك من شأنه توفير فرصة للتعاون خلال المرحلة الراهنة، لكن هُناك تحديات أمام تلك الفرصة تتمثل في مخاوف «قسد» من عملية عسكرية تركية جديدة، والعلاقات الجيدة التي تجمع الرئيس ترامب بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، وتوالي تصريحات مسؤولي إدارة الرئيس ترامب الدالة على دعمها للإدارة السورية الجديدة، وهناك الدعم الأمريكي لقوات «قسد»، الأمر الذي يُشتت التوجهات الكردية ويحدّ من تناغمها مع إيران بشكل كامل.

2. تنظيم داعش

يكشف تحذير وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من عودة الإرهاب إلى سوريا[24]، عن نافذة يُمكن أن تستغلها إيران للعودة إلى الساحات التي خسرتها، رغم الاختلافات العقدية بين النظام الإيراني وتنظيم «القاعدة»، غير أن التجارب التاريخية تكشف أن النظام الإيراني لطالما دأب على التحالف مع التنظيم من منطلق براغماتي، بداية من علاقته الجيدة مع التنظيم، ولاسيَّما بعد أحداث 11 من سبتمبر، وعلاقة «حزب الله» اللبناني الجيدة بالتنظيم، منذ قبوله تدريب عناصر التنظيم في معسكراته أثناء فترة الراحل عماد مغنية الذي جمعته علاقات جيدة بالظواهري ذو العلاقات الجيدة مع إيران. ساهم ذلك التقارُب في تنفيذ بعض العمليات المشتركة ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية بحسب التقارير الغربية[25]، ولعل اعتراف الجنرال المتقاعد في الحرس الثوري الإيراني سعد قاسمي: «قاتلنا إلى جانب القاعدة»[26] يؤكد ذلك، مرورًا بالسماح الإيراني لمقاتلي التنظيم بالمرور عبر الأراضي الإيرانية نحو أفغانستان والعكس، والعلاقات غير المتوترة التي جمعت الطرفين في الساحة العراقية خلال الفترة من 2014م-2017م، قبل أن يُشارك الحشد الشعبي العراقي المدعوم من إيران في عمليات محاربة «داعش» عندما اقتضت المصلحة ذلك، وصولًا إلى اعتراف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو بأن: «تنظيم القاعدة يتخذ من إيران قاعدة لعملياته»، وما كشفته التقارير الغربية عن احتمالية وجود قائد التنظيم الجديد سيف العدل في الأراضي الإيرانية[27]. ما يعني أن إيواء الإرهابيين يُعَد ديدن النظام في إيران، ولذلك فهناك فرصة للتعاون والتنسيق بين الطرفين في سوريا والعراق وغيرها، ولاسيَّما أنه لازال لهذا التنظيم حضور منظور وحاضنات شعبية، وتمركز قيادات ومقاتلين في طول وعرض البادية السورية وفي مناطق وادي حوران، فضلًا عن مخيم «الهول» في شمال الحسكة بالشمال السوري قرب الحدود السورية العراقية، والذي يضم أفرادًا من تنظيم «داعش» وأسرهم فروا من نينوى والأنبار خلال محاربة التنظيم في العراق 2017م.

3. المجموعات الشيعية وفلول النظام السابق

معلومٌ أن الشيعة يمثلون المكون المجتمعي الأصغر في سوريا، ويتمركزون في قرى دمشق ودمشق القديمة بأحياء الجورة والخراب وحلب وإدلب ودرعا وحمص، لكن ربما تعبر إيران إلى الساحة السورية من تلك النافذة عبر؛ أولًا: الزوار الشيعة للمزارات الشيعية المنتشرة في دمشق والرقة وحلب ودير الزور، حيث يزورها سنويًا نحو 50 ألف شيعي إيراني[28]، غير الآلاف من الشيعة العراقيين واللبنانيين. ثانيًا: الشيعة الاثنا عشرية المنتشرون في دمشق وحلب وإدلب وحماة وحمص ودرعا، والعلويون المنتشرون في اللاذقية وطرطوس، لاسيَّما حال تعرضوا لمضايقات شديدة من الإدارة السورية الجديدة. ثالثًا: إمكانية أن تكون هناك خلايا شيعية مُسلحة نائمة موالية لإيران في المحافظات التي تضم الشيعة الاثني عشرية والعلويين وفلول النظام السابق. وهناك من يرى بأن إيران غير قادرة على العودة من بوابة العلويين؛ لكونهم يغلب عليهم الطابع العلماني بالأساس، ولا يعتمدون على الدين في حياتهم اليومية، كما أن سقوط النظام السوري الذي كان يلعب دورًا في التقريب بين إيران والعلويين سيحدُّ من التقارب في المستقبل، ولاسيَّما إدراكهم خلال المراحل السابقة أن إيران كانت تستغل المراقد والمراكز الدينية الخاصة بهم؛ لاختراق نسيجهم المجتمعي بقصد التمدد[29]، والتأثير على التركيبة العلوية وتحويلهم إلى المذهب الاثني عشري.

4. التكدُّس «الميليشياوي» على الحدود السورية

تُشير الأوساط الإعلامية إلى أن غالبية عناصر الميليشيات المسلحة، التي كانت مُنتشرةً في سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، فرّت بعد سقوطه إلى العراق ولبنان، الجزء الأكبر من هؤلاء العناصر تكدّسوا في مدينة القائم العراقية الحدودية مع سوريا، مثل مقاتلي ألوية «أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وذو الفقار وعمار بن ياسر وكتائب سيد الشهداء، إضافةً إلى ألوية فاطميون وزينبيون وحيدريون»، والمقاتلين الذين كانوا في صفوف الجيش السوري مع الأسد، حيث موّلت وجنّدت ودرّبت إيران ما يُعرف بـ «قوات الدفاع الشعبي NDF» وعددهم نحو 100 ألف مقاتل شيعي[30]، وكانوا يعملون تحت إشراف وإمرة الحرس الثوري الإيراني، وتُشير التقديرات إلى أن عدد المقاتلين العسكريين «التابعين للحرس الثوري» وغير العسكريين «من الذين جلبتهم إيران من أفغانستان وباكستان والعراق وغيرها» بلغ نحو 20 ألف مقاتل[31]، في حين قدرت منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية المعارضة عددهم بنحو 70 ألف مقاتل، بينهم 20 ألفًا من الميليشيات العراقية ومثلهم من الأفغان، إلى جانب 7 آلاف من باكستان، ونحو 10 آلاف مسلح من ميليشيات «حزب الله»[32]. وقد أشارت تقارير إلى فرار نحو 1000 ضابط وجندي من الجيش السوري عبر معبر القائم إلى العراق، كذلك كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: أن «بعض الوحدات الموالية لإيران غادرت دون قتال إلى لبنان، وبعضها إلى العراق، وأن بلاده أجلت نحو 4 آلاف مقاتل إيراني إلى طهران عبر قاعدة حميميم العسكرية الروسية بناءً على طلب السلطات الإيرانية»[33]، ويُشكل وجود هؤلاء على الحدود العراقية خطرًا كبيرًا يمكن توظيفه عندما تتوفر الفرصة لإيران في الساحة السورية.

5. الطموحات الجيوسياسية لنتنياهو

استمرارية التوسع الجيوسياسي الإسرائيلي في سوريا من شأنه توفير الفُرص لإحداث سيناريو الفوضى في سوريا، ذلك السيناريو الذي يُتيح لإيران تحقيق مآربها، خاصة إذا ما اتخذت الإدارة السورية الجديدة، ردة فعل تجاه ما تقوم به إسرائيل بما يُعزز عدم الاستقرار، حيث استغلت إسرائيل حالة الارتباك التي تَمُر بها سوريا عند الإطاحة بالأسد، وأقدمت على احتلال «جبل الشيخ» الإستراتيجي وعِدّة مواقع في الجولان السوري المحتل الواقعة ضمن المنطقة العازلة منزوعة السلاح المسماة «جبل الشيخ»[34] بين سوريا وهضبة الجولان، وأعلنت إسرائيل انهيار اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا 1974م، كما توغلت في قريتي جملة ومعربة بحوض اليرموك في محافظة درعا، بعد سَيطرتها على قريتي مزرعة بيت جن ومغر المير التابعتين لمحافظة ريف دمشق، وأقرت إسرائيل خطةً لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في هضبة الجولان الإستراتيجية، ومن أعلى قمة «جبل الشيخ» أعلن نتنياهو يوم 17 ديسمبر 2024م، عن تحقق وعود إسرائيل بتغيير وجه الشرق الأوسط، وأن السبب في تغيير الأوضاع في سوريا يعود إلى الدور الإسرائيلي في إضعاف «حزب الله» وتدمير قدراته وخروجه من الساحة السورية.

يحظى «جبل الشيخ» بأهمية إستراتيجية وأمنية كبيرة لدى إسرائيل، لكونه يُمكّن إسرائيل من رؤية العاصمة السورية دمشق بسهولة، فالمسافة بين الجبل ودمشق 45 كيلو مترًا فقط، ويوفر نقطة مراقبة مُتقدمة بحكم إطلالته على سوريا ولبنان والأردن، وإشرافه على العديد من المناطق الإستراتيجية في سوريا، مثل العاصمة دمشق ذاتها، كما يُمكّن المحتل من مشاهدة جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع، وجزء من الحدود الشمالية الأردنية والفلسطينية خاصةً جبال الخليل ومحافظة إربد وبحيرة طبرية، ما يُمكن إسرائيل من نشر أنظمة دفاعية متقدمة وبناء محطات رادار بعيدة المدى في منطقة إستراتيجية تُعزز من قدراتها في جمع المعلومات الاستخباراتية ومراقبة التحركات العسكرية، بما يُعزز من أمن المستوطنات الإسرائيلية في الخليل الأعلى ومرتفعات الجولان، وبالتالي من شأن ذلك إثارة امتعاض الإدارة الجديدة في سوريا، بل والدول المجاورة؛ لأن ما فعلته إسرائيل في سوريا يتجاوز مُجرد تحقيق الأمن الإسرائيلي، ويبدو أنه مخطط جيوسياسي يهدف لإعادة تشكيل الخارطة الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط.

6. الأردن

تدفع مُجريات المُتغيرات الإقليمية، وقطع خطوط الإمداد اللوجستي الإيرانية لحلفائها عبر سوريا إلى مساعٍ إيرانية للبحث عن ممرات أو ساحات بديلة لتعويض الساحات التي خسرتها، ويبرُز في هذا السياق الأردن كأحد الساحات البديلة المُحتملة، التي قد تستغلها طهران في تعويض خسارتها للمنفذ السوري. ومن هنا؛ يُمكن لإيران استغلال قنوات غير تقليدية كـ «شبكات الجريمة المنظمة والجماعات المسلحة»، لتهريب الأسلحة إلى وكلائها في لبنان وفلسطين عبر الأراضي الأردنية مرورًا بالعراق[35]، ولاسيَّما أن الأردن سبق وأن شَهد بالفعل محاولات لاختراقه أمنيًا، وزعزعة استقراره السياسي عبر تواجد ميليشيات مقربة من إيران على حدوده مع العراق وسوريا، وتصعيدًا للأنشطة الأمنية المرتبطة بالتهريب عبر الحدود الأردنية لدول مجاورة لها.

7. تعزيز قدرات «الحوثيين» والتعافي التدريجي في بقية المحاور

يُمكن أن تُركز إيران أيضًا خلال الفترات القادمة على الجانب البراغماتي في تعاطيها مع الخسائر الإقليمية، وقد يكون ذلك باستمرار دعم متعدد المسارات لـ «الحوثيين» في اليمن، والذي يُعد حاليًا خيارًا مهمًا لضمان التوازن في النفوذ الإقليمي ولتعويض خسائره، ومن المُرجح أن تُقلص إيران من المُشاركات العسكرية الخارجية لـ «حزب الله» مع تعزيز جهودها الدبلوماسية، لدمج الحزب بشكل أكثر ثباتًا على الصُعد السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، وفي حين أن «حزب الله» يمارس بالفعل صلاحيات ونفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا داخل النظام السياسي اللبناني، إلا أن إيران قد تدفع بالحزب نحو تَبني نهج أكثر تصالحية تجاه المكونات السياسية الأخرى في لبنان، مثل هذه الخطوة تهدف إلى تأمين مكانة الحزب وإيران معًا في لبنان مُستقبلًا، وتضمن بقاء التمثيل السياسي الشيعي قويًا. ومع ذلك، فإن مسار إعادة إحياء قوى «حزب الله» على الصُعد السياسية والاقتصادية والأيديولوجية يواجه عقبات جوهرية، فالتطوُّرات الجيوسياسية المُتسارعة والتغييرات الإستراتيجية في الشرق الأوسط، والتحوُّلات في لبنان على خلفية إضعاف «حزب الله» وانتخاب رئيس جديد للبنان ذو توجهات نحو المحيط العربي للبنان، تُشير إلى احتمالية تَحوُّل الحزب إلى كيان سياسي منزوع السلاح في لبنان خلال الأمد المتوسط، لكن ذلك يرتكز في جوهره على عدة عوامل مؤثرة من بينها: أهمية التطبيق الدقيق للقرار 1701، بجانب مسار الضغوط الدولية والمتغيرات الإقليمية الأوسع.

خامِسًا: تحديات عودة إيران إلى إعادة ترميم ساحات النفوذ

يقف أمام أيّ نوايا إيرانية للعودة إلى الساحات التي خسرتها أو أُضعفت فيها، عدة تحديات داخلية وإقليمية ودولية على النحو التالي:

1. الشؤون الداخلية الإيرانية

تُعاني إيران من أوضاعٍ اقتصاديةٍ معقدة، نتيجةً لسياسات وطموحات نظامها النووية والباليستية والتوسعية في ساحات التمدد الإستراتيجية، التي لطالما تسببت في تبديد الثروات وإضِعَاف القُدرات، والوقوع تحت طائلة العقوبات والضغوطات والعزلة الدولية التي أنهكتها، كما أن عودة النظام الإيراني على المدى القريب إلى الساحات التي خسرها تَزيد سخط الشارع الإيراني، الذي ضاق ذرعًا في ظلّ حالات السَّخط والاحتقان الشعبي التي امتدت لتطال شرائح مُجتمعية مُختلفة كانت في وضع أفضل، وذلك نتيجة المليارات التي خسرها في الشرق الأوسط، والتي كانت يُمكن أن تُحدث نقلةً تنمويةً واقتصاديةً كُبرى في الداخل، كما يخشى أيضًا الاستمرارية في تقديم الدعم للساحات المتبقية لما يسمى بـ «محور المقاومة»، حيث ترتفع أولوية وتأثير المُتغير الاحتجاجي في حساباته مقارنة بالمرحلة السابقة على هزائمه الإقليمية، بما يجعلهُ في مقدمة التحديات أمام قرار عودة النظام لترميم ساحات النفوذ.

ولطالما نادى المحتجون في العديد من الجولات الاحتجاجية السابقة التي شهدتها إيران، بضرورة التوقف عن تبديد الثروات والقُدرات في مشروعات خارجية عبثية لم تجنِ منها البلاد سوى العُزلة والحصار، مقابل التركيز على مُعالجة الأزمات الداخلية والخارجية، ولذلك رُبما يُقدر النظام مدى سخط الشارع، واحتقانه من حجم الخسائر المالية الهائلة التي ذهبت أدراج الرياح، وبات النظام يَخشى من انفجار شعبي يُطيح بأركانه، حيث وصف العديد من رموز التيار «المُحافظ» الخسائر الإقليمية بـ «الخطأ الإستراتيجي الفادح» منتقدين الحكومة علنًا على الشاشات الإعلامية الرئيسة، الأمر الذي من شأنه تهديد النظام الذي يعتمد بشكلٍ كبير على قاعدة «المؤيدين المتشددين له». والأهم من ذلك، ظهور مخاوف من أن يُشجع انتصار الجماعات السُنية في سوريا الجماعات السُنية في المناطق الجنوبية الإيرانية التي تسودها اضطرابات، وعلى رأسها تلك المناطق التي يسكُنها العرب والبلوش، على خلق مزيدٍ من الاضطرابات في وقت تُعاني فيه الحكومة من ضعف شديد، كذلك ربما تتعزز رؤية «الإصلاحيين» الذين يرون ضرورة المُضي في مقاربة الانفتاح على العالم الخارجي خشية انفجار الأوضاع في إيران.

2. التحديات الإقليمية

يأتي في مُقدمتها توجهات الإدارة السورية الجديدة، التي تختلف عن توجهات النظام السابق الذي اعتمد بشكل أساسي على التحالف مع إيران وروسيا، لتأمين بقائه في السلطة وإقصاء فصائل المعارضة التي تمكنت من إسقاطه، وهو ما أتاح لإيران مد نطاق نفوذها الجيوسياسي في سوريا. أما توجهات الإدارة السورية الجديدة تتمحور حول الانفتاح على دول العالم وفي مقدمتها الدول العربية والخليجية، حيث تحولت سوريا إلى قبلة للزيارات الرسمية العربية، كما كانت أول زيارة لوزير الخارجية السوري للمملكة العربية السعودية، ولذلك تأخُذ الإدارة الجديدة موقفًا ربما عدائيًا من إيران، لدعمها نظام الأسد السابق ضدها وحصارها في إدلب، كذلك ستسعى الإدارة الجديدة إلى تحقيق تطلُعات السوريين في التخلّص من الجيوش الموازية والقوات الرديفة والتنظيمات المُسلحة والسلاح المُنفلت ودمجهم بالجيش الوطني، واحتكار الدولة للسلاح[36]، وهنا يُمكن الإشارة إلى الخطابات السياسية واللقاءات الدبلوماسية للقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع منذ سقوط نظام الأسد، حيث تكشف عن تحميل إيران المسؤولية الكاملة عن الأوضاع التي شهدتها سوريا قبل سقوط نظام الأسد، والتمسُك بالتوجه نحو الدول العربية.

كذلك هناك تحدي صعود الدور الإسرائيلي الإقليمي، ومساعي تل أبيب لرسم مُعادلة ردع إقليمي جديدة، تهدف إلى الحيلولة دون رجوع إيران للساحات التي خسرتها أو التي أُضعفت فيها، ولذلك من المتوقع أن تصعّد إسرائيل ضد إيران في حال سعت لإعادة بناء شبكاتها العسكرية في سوريا، ومساعي العديد من الدول العربية والخليجية لملء الفراغ في سوريا، وربما لبنان وفلسطين، وعدم تكرار السياسات العربية الانطوائية، التي ترتب عليها تمدُد الدول ذات النزعات التوسعية في المنطقة العربية، والرعاية التركية للمعادلة السورية الجديدة، ومساعي أنقرة لاقتناص اللحظة الحساسة لتعزيز مكاسبها في سوريا، وفي التأثير على مصالحها خارج حدود سوريا، بحيث تمتد إلى لبنان والعراق، وخاصة مع الهزائم الإقليمية التي مُنيت بها إيران، وحال حدوث ذلك السيناريو، فإنه سيغير من واقع توازن القوى الإقليمي، ويزِيد من حِدَّة التنافُس التركي الإيراني، الذي لم يهدأ بالأساس منذ تأسيس الدولة الصفوية ثم القاجارية، وتنافسها مع الدولة العثمانية في نقاط التماس الجيوسياسي المتعددة بينهما.

3. التحديات الدولية

يُشكّل فوز ترامب بالرئاسة لولايةٍ ثانيةٍ، أبرز التحديات أمام المساعي الإيرانية للعودة لترميم «محور المقاومة»، لاتخاذه موقفًا شديد العدائية من التوجهات الجيوسياسية والنووية الإيرانية، شكَّلت ما يُعرف بـ «عقدة ترامب» لدى النظام الإيراني، نتيجة اتّباعه سياسات «تطويقية قاسية» ضد إيران خلال ولايته الأولى أنهكتها بشكل كبير للغاية، وأسهمت في انفجار الشارع الإيراني في عِدة جولات احتجاجية، أعادت لإيران أجواء ما قبل الثورة الإيرانية، حيث تبنى ترامب إستراتيجية الضغوط القصوى ضد إيران لتصفير صادرات النفط، حيث وصلت إلى درجات متدنية للغاية من 2.5 مليون برميل إلى أقل من 300 برميل يوميًا، كما يرى العديد من المُنظرين أن توجيهات الرئيس ترامب بتصفية سليماني 2020م، تُعد البداية الحقيقية للهزائم الإيرانية ولاضمحلال المشروع الإيراني، وإن ما فعله نتنياهو يُشكّل المرحلة الثانية في مسيرة إضعاف «المشروع» الإيراني.

لعب سليماني الدور الأكبر في تماسُك المشروع، وتحقيق الانسجام بين أذرعه العسكرية، حيث كان سليماني عمليًا ثاني أقوى رجل بعد خامنئي-ليس من حيث هيكل النظام وإنما من حيث النفوذ والتأثير- الأمر الذي ساعده في تأمين الدعم اللازم لإدارة المعارك في ساحات النفوذ، وهذه ميزة لا تتوفر في خليفته إسماعيل قاآني، ولذلك كان لسليماني الدور الأكبر في «عسكرة» المجموعات السكانية خارج الحدود الإيرانية، وفي سيطرة الميدان على الدبلوماسية كما كشف التسجيل المسرب لوزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف في مارس 2021م[37]، كما أن سليماني كان يمتلك شبكة علاقات واسعة مع الفاعلين المحليين من قادة ومقاتلي الميليشيات، ويُسيطر بنفسه على العديد من الميليشيات، لكونه رمز المشروع الإيراني العابر للحدود وعقله المُدبر، وتأسيسه الجزء الأكبر منها، وقدرته الكبيرة على شَحن المقاتلين مذهبيًا في الميدان، وإتقانه اللغة العربية التي ساعدته كثيرًا في كسب ثقة القادة المحليين، وبناء شبكات دعم لإيران في مناطق النفوذ، كما حظى بشخصية «كاريزماتية» عالية، وخبرات ميدانية كبيرة فيما يتعلق بالتخطيط العسكري وإدارة المعارك ميدانيًا.

يَعِد الجانب الأمريكي بتخفيف بعض القيود على سوريا في التاسع من يناير 2025م[38]، مما يسمح بتقديم مساعدات وخدمات أساسية، دون إزالة العقوبات الرئيسة أو القيود على واردات النفط السوري، كإشارة مهمة في مسار قبول أمريكي مشروط بالإدارة السورية الجديدة، واعترافًا بأهمية تخفيف الضغوط الاقتصادية والإنسانية عليها، وتقليل اعتمادها السابق على إيران.

يُضاف للتحدي الأمريكي السخط والعداء الأوروبي المُتصاعِد ضد إيران، نتيجة تقديمها الدعم العسكري لروسيا في الحرب الروسية الأوكرانية، ولذلك يقف الأوروبيون إلى جانب الولايات المتحدة في سياساتها المُحتملة ضد إيران بمجيء الرئيس ترامب، لدعمها روسيا ضد الأمن والاستقرار الأوروبي، حيث إن زيادة النفوذ الروسي من شأنها تهديد الأمن في الجانب الشرقي لأوروبا، ولذلك يعد الموقف الأوروبي من إيران تحديًا إضافيًا.

الخاتمة

تقف إيران في ضوء التطوُّرات الجيوسياسية على ساحات نفوذها وقدرات وكلائها عند عدد من النتائج والتصوُّرات المهمة، ومن بينها، ذلك الحجم الكبير من الخسائر والهزائم الجيوسياسية بفقدانها جزءًا كبيرًا من نفوذها الإقليمي في عدة ساحات، حيث تراجعت قوة «حزب الله» في لبنان، وفقدت سوريا كمنطقة ربط جيوسياسي لمشروعها وكحليف إستراتيجي، وأُضعفت فصائل المقاومة الفلسطينية، وتغيرت المعادلة اللبنانية، واهتزت الثقة لقادة ومقاتلي الميليشيات في ساحات النفوذ؛ نتيجة الخسائر التي مُني بها «محور المقاومة»، وتردد إيران في الدعم والمساندة. وجميعها خسائر كاشفة عن تراجُع حضور إيران في العديد من الملفّات والساحات، لاسيّما بعد تغيّر الأوضاع في سوريا لغير صالح إيران، وبعد تراجع قوّة «حزب الله» السياسية والعسكرية في لبنان، وتفكّك ما عُرف سابقًا بـ «وحدة ساحات المقاومة».

كما باتت إيران اليوم أمام واقع جديد كاشف لضعف إستراتيجيتها وخطأ حساباتها الإقليمية، بإعلائها الأولوية للأيديولوجيا والمذهب على حساب الأمن والاستقرار الاجتماعي في دول الجوار الإقليمي، وإعطاء الأبعاد العسكرية و «الميليشياوية» أهميةً تفوق السياسية التنموية؛ مما ساهم في تعزيز السخط الداخلي في دول التمدد الجيوسياسي. إضافة إلى ذلك، إصرار إيران على تشكيل حكومات من اللون الواحد، وتفضيل الفاعلين من غير الدول على الدول والحكومات الوطنية، مما أضاف المزيد من التعقيد لإستراتيجية إيران الإقليمية، بل ووضع مُستقبل النظام الإيراني برمته في خطر، فضلًا عن أن المُعطيات تكشف سوء تقدير إيراني للعلاقة بين القدرات والطموحات الجيوسياسية، ولمواقف ومقدرات الدول الرافضة للتمدد الجيوسياسي الإيراني في المحيط الإقليمي. يفرض هذا المشهد الإستراتيجي المتغير من إيران تبديلًا وتغييرًا في أدواتها، من أجل تمكينها في استعادة وترميم ما خسرته في عدد من ساحات نفوذها، أو من أجل الحِفاظ على نفوذها في الساحات الأُخرى. ولكن من ناحية أُخرى، لا يمكن إغفال التحديات الداخلية وكذلك الإقليمية والدولية التي قد تُؤثر بشكلٍ كبيرٍ على استقرار النظام الإيراني وقدرته على إعادة ترميم نفوذه الإقليمي والدولي، وربما قد تدفعُه نحو التراجُع عن سياسات الهيمنة الطائفية، وإعادة بناء العلاقات مع دول الجوار بما يخدم الاستقرار الإقليمي والمصالح الوطنية، وقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة لإيران لإعادة تقييم سياساتها، والاستفادة من هذه المُراجعات؛ لتجنب المزيد من خسائرها على المستوى الداخلي أو الإقليمي والدولي.

إيران لم تستطع خلال 45 عامًا إخراج نفسها من التفكير بمنطق الثورة إلى التفكير بمنطق الدولة الطبيعية، التي تُقيم علاقات سوية مع دول جوارها، ولذلك فالمؤشرات السلبية في إيران أصبحت مسارًا لمقارنة من الشعب الإيراني مع إنجازات الدول التي تبنت مقاربات منطقية وخطط تشارُكية بنّاءة مع دول جوارها، وبالتالي الكثير من الدروس والمُراجعات مطلوبة من صانع القرار الإيراني، لإقناع الشباب الإيراني بأن مُستقبلهم سيتجه نحو المسار الصحيح، وإلا فإن النظام ذاته سوف ينهار بنفس سُرعة إنهيار النظام السوري السابق، فماذا يستطيع النظام الإيراني فعله لتفادي وإيقاف الخسائر؟


[1]– محمد خواجویی، محاسبات اشتباه به حزب‏‌الله آسیب زد، سایت هم میهن، (16مهر 1403ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 04 يناير 2024م. https://bit.ly/424yvMC

[2] – حساب عبدي ميديا على منصة إكس، فایل بدون سانسور / افشاگری وسخنان فوق جنجالی سردار اثباتی از فرماندهان أرشد سپاه در سوریه در خصوص چگونگی فروپاشی حکومت بشار اسد، (07 يناير 2025م)، تاريخ الاطلاع: 8 يناير 2025م، https://x.com/abdolah_abdi/status/1876373616444535217

[3] – جسور، خريطة المواقع العسكرية للقوى الخارجية في سورية منتصف 2024، (02 يوليو 2024م)، تاريخ الاطلاع: 24 ديسمبر 2024م، https://bit.ly/3DKa2lu

[4] – عصر إيران، رئیس قرارگاه عمار: سوریه استان سی وپنجم است/ اگر دشمن بخواهد سوریه یا خوزستان را بگیرد اولویت حفظ سوریه است / تحریم ها مثل قبل نیست، (24 بهمن 1391ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 07 ديسمبر 2024م. https://bit.ly/3W6EVXD  

[5] – عباس الكعبي، إيران والمستنقع السوري.. سوريا المحافظة الإيرانية رقم 35، صحيفة العرب، (06 نوفمبر 2011م)، تاريخ الاطلاع: 06 يناير 2025م. https://bit.ly/428SaLn 

[6]  د. عبد الرحمن الحاج، أثر التدخُّل الإيراني في سوريا على الخريطة المذهبية، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، مجلة الدراسات الإيرانية، العدد 6، مارس 2028م)، https://linksshortcut.com/aOUdn

[7] – خبرگزاری دانشجو، تحفه لاذقیه را دریابید / پای ایران در سواحل مدیترانه، (25 آذر 1399ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 06 يناير 2024م. https://bit.ly/3PoqkTt

[8]–  تعود نظرية قلب الأرض للجغرافي الإنجليزي ماكيندر بتقسيمه العالم لثلاث مناطق: القلب والأطراف والارتطام Crash Zone الواقعة بين القلب والأطراف.

[9] – جلال سلمي، خط الأنابيب «الإسلامي» والصراع في سوريا، نون بوست، (19 مايو 2017م)، تاريخ الاطلاع: 06 ديسمبر 2024م، https://bit.ly/4gKuDoc    

[10] – اطلاعات، ۳۰ میلیارد دلار پول ایران با سقوط بشار اسد بر باد رفت؟، (20 آذر 1403ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 06 ديسمبر 2024م، https://bit.ly/40pr3dH

[11] – همشهري اونلاين، اظهارنظر تازه پزشکیان در نیویورک: حزب الله نمی‌تواند به تنهایی در برابر اسرائیل بایستد + ویدئو، (03 مهر 1403ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 06 يناير 2024م. https://bit.ly/3Wc9Wt9

[12] – د. على الدين هلال، الأزمة في إيران بين الدولة الأيديولوجية والمناعة السلطوية، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، مجلة الدراسات الإيرانية، العدد 08، سبتمبر 2018م)، https://linksshortcut.com/mCUQq

[13] – دستور إيران 1979 (المعدل 1989)، ترجمة المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات؛ تحديث مشروع الدساتير المقارنة، تاريخ الاطلاع: 08 يناير 2025م، https://linksshortcut.com/mGJGF

[14]Rahim Hamid. Iran’s Ethnic Minorities Are Finding Their Own Voices—America Can Help, washingtoninstitute, Assesses on: Dec 12, 2024. https://bit.ly/2UrnIaP

[15]راديو فردا، فایل صوتي ظریف؛ قاسم سليماني مانع دیپلماسی بود، (۰۵ اردیبهشت۱۴۰۰ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 25 ديسمبر 2024م، https://bit.ly/3pJsC40.

[16] – موقع مكتب المرشد علي خامنئي، السياسات العامة للخطة الخمسية الخامسة، تاريخ الاطلاع: 08 يناير 2025م، https://linksshortcut.com/FQMYY

[17]– دستور إيران 1979 (المعدل 1989)، المادة 154.

[18] – الشرق الأوسط، خامنئي: ليس لدينا «وكلاء» في المنطقة، (22 ديسمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 07 يناير 2025م، https://bit.ly/41XNYOl

[19] – Mathew Levitt، Hezbollah’s Regional Activities in Support of Iran’s Proxy Networks، the Middle East Institute، July 2121. (Accessed: Dec 22, 2024). P: 13-14

[20] – مراد ويسي، بين أزمات داخلية وهزيمة إقليمية.. سقوط النظام الإيراني يلوح في الأفق، إيران إنترناشيونال، (28 ديسمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 01 يناير 2025م، https://linksshortcut.com/sFEyl

[21] – فريد ماهوشي، الكونغرس الأمريكي يناقش مستقبل النظام الإيراني، (26 ديسمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 01 يناير 2025م، https://linksshortcut.com/lCYtb

[22] – فراس فحام، قوات سوريا الديمقراطية وخياراتها الصعبة بعد سقوط الأسد، الجزيرة، (13 ديسمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 06 يناير 2024م، https://bit.ly/422Egdm  

[23] – تليفزيون سوريا، «قسد» تعزز التنسيق مع إيران لمواجهة الضغوط التركية، (29 يونيو 2024م)، تاريخ الاطلاع: 08 يناير 2025م، https://linksshortcut.com/JMRys

[24] – دنیای اقتصاد، عراقچی نسبت به بازگشت تهدید تروریسم به سوریه هشدار داد، (30 آذر1403هـ.ش)، تاريخ الاطلاع: 12 ینایر 2025م https://bit.ly/3ZZPeOi

[25]– Asfandyar Mir & Colin P. Clarke، Making Sense of Iran and al-Qaeda’s Relationship، Law Fare, )21 Mar 2021(. Accessed: Dec 30, 2024, https://bit.ly/3BTKpy5

[26] – سكاي نيوز، إيران والقاعدة.. جنرال في الحرس الثوري يفضح العلاقة الخفية، (18 أبريل 2019م) تاريخ الاطلاع: 30 ديسمبر 2024م، https://bit.ly/3BMUlJP

[27]–  Ahmad Sharawi Profiles of the new Syrian military leadership، part 2، Long War Journal, 06 Jan 2025, (Accessed: Dec 30, 2024)، https://bit.ly/3W9hugj

[28] – تلفزيون سوريا، اتفاق إيراني مع النظام لإيفاد 50 ألف زائر سنويًا للأضرحة المقدسة في سوريا، (06 أبريل 2023م) تاريخ الاطلاع: 06 يناير 2025م، https://bit.ly/3PmeklE

[29] – فضل عبد الغني، العلويون في سوريا «قلقون»… هكذا تحاول إيران التمدد في “ساحلهم”، (19 أغسطس 2022م)، تاريخ الاطلاع: 06 يناير 2025م،  https://bit.ly/4h23AEP

[30]– Jones، War by Proxy: Iran’s Growing Footprint in the Middle East، CSIS، Accessed: June, 10,2020، https://bit.ly/2zljOK3

[31]חדשות מדיני ביטחוני، הצמרת הביטחונית דוחפת לקו התקפי מול איראן בסוריה، הארץ،9(09 أبريل 2018م)، تاريخ الاطلاع: 01 يناير 2024م، goo.gl/VaUZj3

[32]– شبكة شام، منظمة إيرانية تكشف وجود 70 ألف مقاتل من الميليشيات الإيرانية في سوريا، تاريخ الاطلاع: 10 فبراير2019م، https://bit.ly/2XR3Lv1

[33] -روسيا اليوم، بوتين: روسيا أجلت 4 آلاف مقاتل إيراني إلى طهران عبر قاعدة حميميم، (19 ديسمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 8 يناير 2025م، https://linksshortcut.com/cKLAd

[34] – تبلغ مساحة المنطقة العازلة التي سيطرت عليها إسرائيل نحو 235 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل حوالي 60% من مساحة قطاع غزة.

[35]  اقتصاد انلاين، سه گام احیای بازدارندگی ایران / محور مقاومت توان بازیابی قدرت پیشین را دارد؟،(09 دى 14.3ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 07 ديسمبر 2025م، https://bit.ly/4fuEope

[36] – العربية، الشرع: هيكلة جديدة للجيش السوري خلال أيام. ولا سلاح خارج سلطة الدولة، (21 ديسمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 04 ديسمبر 2024م،  https://bit.ly/3BFvdob

[37]راديو فردا، فایل صوتی ظریف؛ قاسم سلیماني مانع دیپلماسی بود، (۰۵ اردیبهشت۱۴۰۰ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 08 ديسمبر 2025م، https://bit.ly/3pJsC40.

[38]– US Department of the Treasury، U.S. Treasury Issues Additional Sanctions Relief for Syrian People ,06 Jan 2025, (Accesses on: 09 Jan 2025(. https://bit.ly/422soIz

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير