نتائج الانتخابات التايوانية والمحاذير الصينية تجاه مسارات الصراع في شرق آسيا

https://rasanah-iiis.org/?p=33898

في تطوُّرٍ لافت يحمل دلالاتٍ جيوسياسية، حيث ألقى بحجرٍ جديد في المياه الجيوسياسية المشتعِلة بالأساس في الجزء الشرقي من خريطة العالم، وسط توتُّراتٍ واضطراباتٍ أمنية تشهدها مناطق عالمية عديدة، كشفت نتائج الانتخابات الرئاسية التايوانية، عن استمرارية الحزب الديمقراطي التقدُّمي الحاكم ذي الأجندة الانفصالية، في حُكم الجزيرة للمرة الثالثة على التوالي، على الرغم من التحذيرات والجهود الصينية للحيلولة دون انتخابه رئيسًا لتايوان، ووصفها إيّاه بـ«الخطر الجسيم» و«الانفصالي العنيد».

حيث فاز مرشَّح الحزب الديمقراطي التقدُّمي الحاكم لاي تشينغ-تي؛ نائب الرئيسة التايوانية المنتهية ولايتها تساي إنغ-ون، التي تنتمي للحزب ذاته، بينما لا يخوِّلها الدستور التايواني لولاية ثالثة متتالية.

يُشير فوز لاي تشينغ-تي، الذي سيتولَّى مهام منصبه كرئيس لتايوان في العشرين من مايو 2024م، إلى استمرارية الهواجس الإقليمية والدولية من إمكانية زيادة التوتُّر القائم بين الصين وتايوان، والوصول إلى حالة تصعيد غير محسوب ومحفوف بالمخاطر، يُفضي إلى السيناريو الكارثي بين الصين وتايوان؛ الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ «الإندو-باسفيك»، حيث تخشى الصين قيامَ الرئيس الجديد بتجاوز أهمَّ الخطوط الحمراء الصينية، والمتمثِّلة في اتّخاذه خطواتٍ عملية للاستقلال عن البر الصيني (الدولة الصينية المركزية أو الدولة الصينية الأُم).

يؤمن الرئيس الجديد بالأجندة الانفصالية للحزب، التي تقوم على تأييد هوية تايوان المنفصلة عن الهوية الصينية، بحُكم الاختلاف ما بين هويةٍ تايوانيةٍ تنتمي مضمونًا وسلوكًا إلى الأيديولوجية الليبرالية أو الديمقراطية الغربية، وأُخرى صينية ذات منظومة فكرية شيوعية مُغايرة ومنافسة للغربية، وكذلك ترتكز على رفْض مزاعم بكين السيادية على تايوان، مقابل التمسُّك بقرار الشعب التايواني في تقرير مصيره ومستقبله. ولذلك، تعهَّد الرئيس الجديد في أولى تصريحاته بالدفاع عن الجزيرة، التي تتمتَّع بالحُكم الذاتي ضدّ ما وصفه بتحرُّكات الصين الترهيبية لتايوان، مشيرًا إلى أنَّ نتائج الانتخابات أظهرت للعالم رغبةَ المواطنين في تايوان، في الوقوف إلى جانب الديمقراطية، بل ولنصر كبير للديمقراطيات في كافَّة أنحاء العالم.

ارتباطًا بما سبق، تشكِّل فترة حُكم لاي تشينغ-تي بداية مرحلة أو فصْل إضافي من التصعيد حول تايوان، حيث تشكِّل فترة حُكمه امتدادًا لفترة حُكم الرئيسة المنتهية ولايتها تساي إنغ-ون، في استمرارية إستراتيجية وأجندة الحزب الحاكم الانفصالية، والتي تسبَّب انتخابها رئيسةً لتايوان قبل نحو 8 سنوات في قطْع بكين جميع اتصالاتها رفيعة المستوى مع تايبيه، حيث شهدت فترة حُكمها تصعيدًا في التوتُّر مع بكين، كاد أن يُشعِل حربًا عالميةً ثالثة خلال العامين الماضيين. وكذلك يعكس فوز الرئيس الجديد لاي تشينغ-تي إخفاق التهديدات الصينية في ثني التايوانيين عن التصويت له في الانتخابات، وتنامي مخاوف الصين من اتّساع مساحة تحرُّك واشنطن في تعزيز تصعيد الأزمة، بما يعرقل مسيرة بكين لتطبيق مبدأ الصين الواحدة.

جاء الموقف الصيني على خلاف ما توقَّعه الكثيرون، بتحذيرها الشديد للأطراف الخارجية من التدخُّل في مجريات الانتخابات التايوانية، واستخدامها لغة التهديد والوعيد والتصعيد، أثناء الحملة الانتخابية لمرشَّح الحزب الديمقراطي التقدُّمي، والتأكيد صراحةً على سحْق أيّ تحرُّكات مستقبلية نحو استقلال تايوان، ومسألة التوحيد الحتمي بين الصين والجزيرة، ورفْض دعوات لاي تشينغ-تي لإجراء محادثات مع بكين. وأثناء عمليات التصويت، جابَ الطيران الصيني الأجواءَ التايوانية، وعبرت المناطيد الصينية الخطَ الفاصل بين البر الصيني والجزيرة؛ لتقديراتها بأنَّ وصول لاي تشينغ-تي للحُكم سيؤدِّي إلى تصعيد غير محسوب. أمّا بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، تغيَّر الموقف الصيني بشكلٍ كبير، واستخدمت بكين لغةً هادئةً متّزِنة تعكس ارتياحًا صينيًا للمشهد السياسي الجديد في تايوان.

رُبّما يعود الموقف الصيني الهادئ غير المتوقَّع تجاه فوز مترشِّح الحزب الحاكم، إلى إدراك بكين لطبيعة المشهد السياسي الجديد في تايوان، والذي يتّسِم بملمحين هامّين؛ يتعلَّق أوّلهما بفقدان الحزب الحاكم للأغلبية البرلمانية، بحصوله على 51 من إجمالي 113 مقعدًا، على خلاف فترة حُكم الرئيسة السابقة، التي حظِيَ فيها الحزب بالأغلبية؛ ما يعيقُ عملَ الحكومة الجديدة، بل ومهمَّة الرئيس الجديد في إقرار التشريعات وتمرير السياسات والميزانيات الدفاعية الجديدة، حال اتّخاذ قرار بفرض أجندة الحزب الانفصالية. وهذه مفارقة أخرى في المشهد الانتخابي التايواني، حيث منَحَ المواطنون الحزبَ الحاكم منصبَ الرئاسة، بينما حرموهُ من الأغلبية البرلمانية، كورقة ضاغطة لمعالجة القضايا التي تشهدها تايوان حول السياسات الاقتصادية، والإصلاحات الاجتماعية، والدفاعات الوطنية، والعلاقات عبر المضيق.

أمّا ثانيهما، فيتعلَّق بقوّة شوكة الحزب القومي «الكومنتانغ» المعارض للحزب الحاكم، بحصوله على المرتبة الأولى في نتائج الانتخابات البرلمانية، بحصده العدد الأكبر من المقاعد (52 مقعدًا)؛ ما جعل بكين تصرِّح بأنَّ فوز الحزب الحاكم بمنصب الرئاسة لا يعني تمثيلَ عموم آراء المجتمع التايواني، لا سيّما أنَّ «الكومينتانغ» يدعو صراحةً إلى إجراء محادثات وتوثيق العلاقات مع الصين، ويدعم السردية المقبولة صينيًا؛ «الصين وتايوان تنتميان إلى صين واحدة»، لكن من حق كل طرف وضْع التفسير الخاص به. ولرُبّما أدرك الرئيس الجديد مبكِّرًا ملامح المشهد الجديد وتداعياته على الحُكم خلال المرحلة المقبلة؛ ولذلك حمَلَ خطابُ فوزه في الانتخابات رغبةً في التعاون مع أحزاب المعارضة الممثَّلة في حزب «الكومينتاغ»، وحزب «الشراكة عبر المحيط الهادي» المؤيِّد أيضًا لخلق علاقات وثيقة مع الصين، وحزب «شعب تايوان» الوَسَطي؛ من أجل تسهيل عمل حكومته الجديدة. كما أنَّه أعلن رغبته في الحفاظ على السلام في مضيق تايوان، واستمرارية المبادلات والتعاون مع بكين، حيث أنَّ حسابات المرشَّح الانتخابي وهو خارج السُلطة عادةً ما تختلف بعدما يصِل لسُدَّة الحُكم، إذ يجِد نفسه في موقع المسؤولية ومسؤولًا عن كل قرار، ولذلك غالبًا ما يعود للواقعية السياسية، حسب محدَّدات اللعبة السياسية، وحسابات القوّة والمصلحة.

تُدرِك بكين أيضًا صعوبةَ قفْز لاي تشينغ-تي على المعادلة القائمة بين الصين والجزيرة، في ظل الانشغال الأمريكي بعدَّة جبهات مشتعِلة، بدايةً من الحرب الروسية-الأوكرانية، ثمَّ انفجار الصراع في قطاع غزة على خلفية عملية طوفان الأقصى وشنّ إسرائيل حربًا شعواء ضدّ المدنيين الفلسطينيين العُزَّل بالقطاع، والتصعيد العسكري من قِبَل الميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن ضدّ الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، والاضطرابات العسكرية في البحر الأحمر وتداعياتها على الملاحة الدولية؛ ما يفسِّر تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد ظهور النتائج الانتخابية التايوانية بعدم تأييد واشنطن لاستقلال تايوان، وذلك في رسالة طمأنة للصين للتهدئة من مخاوفها بصدد انتخاب لاي رئيسًا لتايوان.

الصين، التي تمثِّل الاقتصاد الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة، والأول عالميًا حسب أحد المؤشِّرات الاقتصادية العالمية، بحدِّ ذاتها تتبنَّى سياسةً برجماتية تجعلها تُجيدُ حسابات القوّة والمصلحة والفُرَص البديلة بقدرٍ كبير، على نحوٍ يجعلها أميَل إلى تجنُّب الصدامات الصِفرية مع الولايات المتحدة، وإدراك حجم التكلفة، وتداعيات الدخول في السيناريو الكارثي على تجارتها الدولية، وعلى مستقبل مشروعها الدولي «الحزام والطريق»، بل وعلى العالم. كما أنَّ كافة الأطراف تُدرِك الخطوط الحمراء لبعضها، ولا تبدو على استعداد حقيقي لاختبار السيناريو الكارثي المُتداوَل إعلاميًا بـ«حرب يوم القيامة»، حال انتقال الصراع حول تايوان إلى حربٍ شاملة؛ لحجم خطورة تداعياته على العالم أجمع، بما في ذلك الولايات المتحدة، والقُوى الآسيوية الحليفة لواشنطن في «الإندو-باسفيك».

وختامًا، تُشير المعطيات السابقة والتفاعلات الإقليمية والدولية بصدد الأزمة التايوانية والأهمِّية الجيوسياسية للجزيرة، التي تسيطر على النسبة العالمية الأكبر دون منازع من سوق الرقائق الإلكترونية، إلى أنَّ تايوان ستكون حاضرةً بشكلٍ كبير، حال مُضِي القُوى الدولية نحو إعادة ترتيب رقعة الشطرنج العالمية، ضمن المعركة الكُبرى على طبيعة النظام الدولي والقيادة الدولية. بينما يظلّ تصوُّر ترجيح خيار التصعيد عطفًا على نتائج الانتخابات التايوانية محل شك، دون أن يعني ذلك استبعاده في المُطلَق، لكن يرتبط وقوعه أيضًا بتجاوز تايوان للخطوط الحمراء الصينية. ومن ثمَّ يُتوقَّع مُضِي الرئيس الجديد في نفس خط الرئيسة تساي؛ وبالتالي استمرارية سياسة عدم القبول بالأمر الواقع، مثل التأكيد المستمِرّ على هويّة تايوان الديمقراطية وسيادتها، ومزيد من جهود جلْب الاعتراف الدبلوماسي الدولي بتايوان، إلخ، لا سيّما في ظل تنامي مشاعر الهوية التايوانية لدى التايوانيين، دون إعلان الاستقلال والوصول لحافة الهاوية. كما تخشى تايبيه أيضًا مزيدًا من الاستفزازات للصين، التي لن تقِف صامتة، خاصَّةً أنَّ لديها القُدرة على توقيع مزيد من الإجراءات العقابية ضدّ تايوان، مثل فرْض العقوبات الاقتصادية، وإحكام الحصار، وصولًا رُبّما إلى احتلال بعض الجُزُر القريبة من البر الصيني.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د. عبدالرؤوف مصطفى الغنيمي
د. عبدالرؤوف مصطفى الغنيمي
باحث سياسي بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية